المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة ال عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]

- ‌سورة النّساء

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 39]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 79]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

إِلَى الذِّمَّةِ لِمَا قَبِلُوهُ مِنَ الْجِزْيَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَشَبَّهَ الْعَهْدَ بِالْحَبْلِ لِأَنَّهُ يَصِلُ قَوْمًا بِقَوْمٍ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَبْلُ فِي الْأَجْرَامِ. وَالظَّاهِرُ فِي تَكْرَارِ الْحَبْلِ أَنَّهُ أُرِيدَ حَبْلَانِ، وَفُسِّرَ حَبْلُ اللَّهِ بِالْإِسْلَامِ، وَحَبْلُ النَّاسِ بِالْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ. وَقِيلَ: حَبْلُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الَّذِي فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيَزِيدُ فِيهِ وَيُنْقِصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَبْلٌ وَاحِدٌ، إِذْ حَبْلُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ الْعَهْدُ.

وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظَائِرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هنا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

ص: 306

الْآنَاءُ: السَّاعَاتُ. وَفِي مُفْرَدِهَا لُغَاتٌ أَنْيٌ كَمَعْيٌ، وَأَنَى كَفَتَى، وَأَنَّى كَنَحَّى، وَأَنْيٌ كَظَبْيٍ، وَأَنْوٌ كَجَرْوٍ. الصَّرُّ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُحْرِقُ. وَقِيلَ: الْبَارِدُ بِمَعْنَى الصَّرْصَرُ كَمَا قال:

لا تعدلن إناء بين تضربهم

نَكْبَاءَ صَرٍّ بِأَصْحَابِ الْمَحَلَّاتِ

وَقَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةُ:

وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الْأَلَدَّ وَيَمْلَأَ الجفان سديفا يوم منكباء صَرْصَرِ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ صَوْتُ لَهَبِ النَّارِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ مِنَ الصَّرِيرِ. وَهُوَ الصَّوْتُ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَرَّ الشَّيْءُ، وَمِنْهُ الرِّيحُ الصَّرْصَرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالصَّرُّ صَوْتُ النَّارِ الَّتِي فِي الرِّيحِ.

الْبِطَانَةُ فِي الثَّوْبِ بِإِزَاءِ الظِّهَارَةِ، وَيُسْتَعَارُ لِمَنْ يَخْتَصُّهُ الْإِنْسَانُ كَالشِّعَارِ وَالدِّثَارِ.

يُقَالُ: بَطَنَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ بُطُونًا وَبِطَانَةٍ إِذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ، دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أُولَئِكَ خُلْصَانِي نَعَمْ وَبِطَانَتِي

وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ

أَلَوْتُ فِي الْأَمْرِ: قَصَّرْتُ فِيهِ. قَالَ زُهَيْرٌ:

سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ

فَلَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَلِيمُوا لَمْ يَأْلُوا

أَيْ لَمْ يُقَصِّرُوا. الْخَبَالُ وَالْخَبَلُ: الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ. يُقَالُ: فِي قَوَائِمِ الْفَرَسِ خَبَلٌ وَخَبَالٌ أَيْ فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الِاضْطِرَابِ. وَالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ. وَيُقَالُ: خَبَلُهُ الْحُبُّ أَيْ أَفْسَدَهُ.

الْبَغْضَاءُ: مَصْدَرٌ كَالسَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ يُقَالُ: بُغِضَ الرَّجُلُ فَهُوَ بَغِيضٌ، وَأَبْغَضْتُهُ أَنَا اشْتَدَّتْ كَرَاهَتِي لَهُ.

الْأَفْوَاهُ مَعْرُوفَةٌ، وَالْوَاحِدُ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ فُوهٌ. وَلَمْ تَنْطِقْ بِهِ الْعَرَبُ بَلْ قَالَتْ: فَمٌ.

وَفِي الْفَمِ لُغَاتٌ تِسْعٌ ذُكِرَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّحْوِ.

الْعَضُّ: وَضْعُ الْأَسْنَانِ عَلَى الشَّيْءِ بِقُوَّةِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ بِالضَّادِ. فَأَمَّا عَظُّ الزَّمَانَ وَعَظُّ الْحَرْبِ فَهُوَ بِالظَّاءِ أُخْتِ الطَّاءِ قَالَ:

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرَوَانَ لَمْ يَدَعْ

مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ

وَالْعُضُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَفُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِثْلُ: الْكَسْبِ وَالنَّوَى الْمَرْضُوضِ: يُقَالُ مِنْهُ:

ص: 307

أَعَضَّ الْقَوْمُ إِذَا أَكَلَ إِبِلُهُمُ الْعَضَّ. وَبَعِيرٌ عُضَاضِيٌّ أَيْ سَمِينٌ، كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ. وَالْعِضُّ بِالْكَسْرِ الدَّاهِيَةُ مِنَ الرِّجَالِ.

الْأَنَامِلُ جَمْعُ أُنْمُلَةٍ، وَيُقَالُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا، وَهِيَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ. قَالَ ابْنُ عِيسَى: أَصْلُهَا النَّمْلُ الْمَعْرُوفُ، وَهِيَ مُشَبَّهَةٌ بِهِ فِي الدِّقَّةِ وَالتَّصَرُّفِ بِالْحَرَكَةِ. وَمِنْهُ رَجُلٌ نَمِلٌ: أَيْ نَمَّامٌ.

الْغَيْضُ: مَصْدَرُ غاضة، وَغَيْضُ اسْمُ عَلَمٍ.

الْفَرَحُ: مَعْرُوفٌ يُقَالُ مِنْهُ: فَرِحٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ.

الْكَيْدُ: الْمَكْرُ كَادَهُ يَكِيدُهُ مَكَرَ بِهِ. وَهُوَ الِاحْتِيَالُ بِالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَصْلُهُ الْمَشَقَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ، أَيْ يُعَالِجُ مَشَقَّاتِ النَّزْعِ وَسَكَرَاتِ الْمَوْتِ.

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ سببت النُّزُولِ إِسْلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وغيره من الْيَهُودِ، وَقَوْلُ الْكُفَّارِ مِنْ أَحْبَارِهِمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَارًا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَالْوَاوُ فِي لَيْسُوا هِيَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ السَّابِقِ ذِكْرِهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ «1» وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْوَاوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَسَوَاءً خَبَرُ لَيْسَ.

وَالْمَعْنَى: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُسْتَوِينَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَبِالْقُرْآنِ مِمَّنْ أَدْرَكَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ فَمَاتَ قَبْلَ أن يدركها.

ومن أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أُمَّةٌ مُرْتَفِعَةٌ بِسَوَاءٍ، أَيْ لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُسْتَوِيًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِمَا ذُكِرَ وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُعَادِلَةُ، وَدَلَّ عَلَيْهَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ:

عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ

سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا

التَّقْدِيرُ: أَمْ غَيٌّ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أَرُشْدٌ وَقَالَ:

أَرَاكَ فَمَا أَدْرِي أَهَمٌّ ضَمَمْتُهُ

وَذُو الْهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ

التَّقْدِيرُ: أَمْ غَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ. وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْفَرَّاءِ مِنْ حَيْثُ الحذف. ومن حذف وضع

(1) سورة آل عمران: 3/ 110.

ص: 308

الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُسْتَوِيًا مِنْهُمْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ كَذَا، وَأُمَّةٌ كَافِرَةٌ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي لَيْسُوا عَلَامَةُ جَمْعٍ لَا ضَمِيرٌ مِثْلُهَا، فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

يَلُومُونَنِي فِي شِرَاءِ النَّخِي

لِ قَوْمِي وَكُلُّهُمُ أَلْوَمُ

وَاسْمُ لَيْسَ: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، أَيْ لَيْسَ سَوَاءٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مَوْصُوفَةٌ بما ذكروا أمة كَافِرَةً.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ خَطَأٌ مَرْدُودٌ انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الْخَطَأِ، وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ اسْمَ لَيْسَ هُوَ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ فَقَطْ، وَأَنَّهُ لَا مَحْذُوفَ. ثُمَّ إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ تَفَاوُتُ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ التَّالِيَةِ، فَإِذَا قُدِّرَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ خَطَأً مَرْدُودًا. قِيلَ: وَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ وَالْعَرَبُ عَلَى خِلَافِهَا، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ انْتَهَى. وَقَدْ نَازَعَ السُّهَيْلِيُّ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ. وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ مُسْتَأْنَفَ بَيَانٍ لِانْتِفَاءِ التَّسْوِيَةِ كَمَا جَاءَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ «1» بَيَانًا لِقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «2» وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

وَأُمَّةٌ قَائِمَةٌ أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ مِنْ أَقَمْتُ الْعُودَ فَقَامَ، أَيِ اسْتَقَامَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: عَادِلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ مُهْتَدِيَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَانِتَةٌ مُطِيعَةٌ، وَكُلُّهَا رَاجِعٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ فِي لَيْسُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ. وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَهُودِ وَذِكْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» . وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِالْمَعْهُودِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَقَطْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ «3» لِتَوَالِي الضَّمَائِرِ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ ضَمِيرُ لَيْسُوا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ الْآيَةَ يُرِيدُ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنَ الحبشة، وثمانية من الروم، كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى وَصَدَّقُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ نَاسٌ من

(1) سورة آل عمران: 3/ 110.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 110.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 110.

ص: 309

الْأَنْصَارِ مُوَحِّدِينَ وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَقُومُونَ بِمَا عَرَفُوا مِنْ شَرَائِعِ الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى جَاءَهُمْ مِنْهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَقَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ بْنِ أَنَسٍ.

يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ وَصَفَ الْأُمَّةَ الْقَائِمَةَ بِأَنَّهَا تَالِيَةُ آيَاتِ اللَّهِ، وَعَبَّرَ بِالتِّلَاوَةِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ عَنِ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَتْلُونَ، وَصَفَهُمْ بِالتِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ وَبِالسُّجُودِ. فَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِي الْقِيَامِ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَلَمْ تُشْرَعْ فِيهِ التِّلَاوَةُ. وَجَاءَتِ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةٌ لِتَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ بِتَكَرُّرِ الضَّمِيرِ وَهُوَ هُمْ، وَالْوَاوُ فِي يَسْجُدُونَ إِذْ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمُضَارِعِ، وَجَاءَتِ الصِّفَةُ الْأَوْلَى بِالْمُضَارِعِ أَيْضًا لِتَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَعُطِفَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأَوْلَى بِالْوَاوِ لِتُشْعِرَ بِأَنَّ تِلْكَ التِّلَاوَةَ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ، فَلَمْ تَكُنِ التِّلَاوَةُ وَحْدَهَا وَلَا السُّجُودُ وَحْدَهُ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: آنَاءَ اللَّيْلِ أَنَّهَا جَمِيعُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ. فَيَبْعُدُ صُدُورُ ذَلِكَ- أَعْنِي التِّلَاوَةَ وَالسُّجُودَ- مِنْ كُلِّ شَخْصٍ شَخَصَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جَمَاعَةٍ إِذْ بَعْضُ النَّاسِ يَقُومُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ آخِرَهُ، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَ هَجْعَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى نَوْمِهِ، فَيَأْتِي مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ فِي الْمُدُنِ وَالْجَمَاعَاتِ اسْتِيعَابُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ بِالْقِيَامِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَرَفُ النَّاسُ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، وَالْقَائِمُ طُولَ اللَّيْلِ قَلِيلٌ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّالِحِينَ مَنْ يَلْتَزِمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الْقَصْدَ فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُزَّمِّلِ «1» . وَآنَاءُ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ قَالَهُ الرَّبِيعُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَوْفُهُ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، إِذِ الْجَوْفُ فَرْدٌ مِنَ الْجَمْعِ. وَعَنْ مَنْصُورٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُصَلِّينِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتْمَةِ.

وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا هُوَ احْتِبَاكُ النبي صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَلَمْ يَأْتِ حَتَّى مَضَى الليل، فجاءوا منّ الْمُصَلِّي وَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ فَقَالَ:

«أَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ»

وَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسُوا سَوَاءً عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنِ الصَّلَاةِ تَسْمِيَةً للشيء

(1) سورة المزمل: 73/ 1- 2. [.....]

ص: 310

بِجُزْءٍ شَرِيفٍ مِنْهُ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَالزُّجَاجُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَكُونُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا فِي السُّجُودِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ مُتَلَبِّسِينَ بِالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالسُّجُودِ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ أَهْلُ سُجُودٍ، وَيُحَسِّنُهُ أَنْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ نَعْتًا عُدِّدَ بِوَاوِ الْعَطْفِ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ الْكَرِيمُ وَالْعَاقِلُ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَائِمَةٌ، وَحَالًا مِنْ أُمَّةٌ، لِأَنَّهَا قَدْ وصفت بقائمة. فَتَلَخَّصَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ رَفْعًا بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتْلُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَائِمَةٍ، أَوْ مِنْ أُمَّةٍ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «2» . يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ «3» .

وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَهُ وقبه، نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ»

وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ كَانَ يَدْرُسُ الْكُتُبَ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ كَلَامًا مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ عز وجل: أَيَحْسَبُ رَاعِي إِبِلٍ وَغَنَمٍ إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ انْجَدَلَ كَمَنْ هُوَ قَائِمٌ وَسَاجِدُ اللَّيْلِ.

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ.

وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرِ نَاشِئَةٌ عَنْ فَرْطِ الرَّغْبَةِ فِيهِ، لِأَنَّ مَنْ رَغِبَ فِي أَمْرٍ بَادَرَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَآثَرَ الْفَوْرَ عَلَى التَّرَاخِي.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» .

وَصَفَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا إِلَى خَيْرٍ مِنْ نَصْرِ مَظْلُومٍ، وَإِغَاثَةِ مَكْرُوبٍ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ، بَادَرُوا إِلَى فِعْلِهِ. وَالظَّاهِرُ فِي يُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أَيْ تَالِيَةٌ مُؤْمِنَةٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ تكون

(1) سورة الإسراء: 17/ 79.

(2)

سورة الزمر: 39/ 9.

(3)

سورة المزمل: 73/ 1- 2.

ص: 311

الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَسْجُدُونَ، وَأَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ السُّجُودِ. قِيلَ: لِأَنَّ السُّجُودَ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَفَهُمْ بِخَصَائِصَ مَا كَانَتْ فِي الْيَهُودِ مِنْ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ بِاللَّيْلِ سَاجِدِينَ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِهِ كَلَا إِيمَانٍ، لِإِشْرَاكِهِمْ بِهِ عُزَيْرًا وَكُفْرِهِمْ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُدَاهِنِينَ، وَمِنَ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَبَاطِئِينَ عَنْهَا غَيْرَ رَاغِبِينَ فِيهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ وَصَفَهَا بِصِفَاتٍ سِتٍّ:

إِحْدَاهَا: أَنَّهَا قَائِمَةٌ، أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى النَّهْجِ الْقَوِيمِ. وَلَمَّا كَانَتِ الِاسْتِقَامَةُ وَصْفًا ثَابِتًا لَهَا لَا يَتَغَيَّرُ جَاءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ.

الثَّانِيَةُ: الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتِّلَاوَةِ وَالسُّجُودِ، وَهِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْخُلُوُّ لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ بِاللَّيْلِ.

الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ الْحَامِلُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَذَكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ لِأَنَّ فِيهِ ظُهُورَ آثَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْجَزِيلِ. وَتَضَمَّنَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ أَخْبَرُوا بِكَيْنُونَةِ هَذَا الْجَائِزِ فِي الْعَقْلِ وَوُقُوعِهِ، فَصَارَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا.

الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ.

الْخَامِسَةُ: النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمَّا كَمِلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ سَعَوْا فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.

السَّادِسَةُ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ. وَهِيَ صِفَةٌ تَشْمَلُ أَفْعَالَهُمُ الْمُخْتَصَّةَ بِهِمْ، وَالْأَفْعَالَ الْمُتَعَدِّيَةَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ نَاشِئَةٌ أَيْضًا عَنِ الْإِيمَانِ، فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ سِيَاقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَيْثُ تَوَسَّطَ الْإِيمَانُ، وَتَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ الصِّفَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ، وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصِّفَتَانِ الْمُتَعَدِّيَتَانِ وَالصِّفَةُ الْمُشْتَرِكَةُ، وَكُلُّهَا نَتَائِجُ عَنِ الْإِيمَانِ.

وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ السِّتَّ، أَيْ وَأُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ مِنَ الَّذِينَ صَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالصَّالِحِينَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى. وَيُشْبِهُ قَوْلُهُ قول ابن عباس من أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَفِيمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدُ بَلْ: الظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْوَصْفِ بِالصَّلَاحِ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَصْفِ

ص: 312

بِالْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ هَذِهِ الرُّتْبَةَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «1» وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ «3» وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ: وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ «4» . وَقَالَ: وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ «5» ومن لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ فِيهِ إِبْهَامٌ فَيَبِينَ جِنْسُهُ.

وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ. فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مَرْدُودٌ إِلَى قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «6» فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ وَمَعْدُولِهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: التَّاءُ فِيهَا عُمُومٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا الْتِفَاتٌ إِلَى قَوْلِهِ: أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، لَمَّا وَصَفَهُمْ بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ تَأْنِيسًا لَهُمْ وَاسْتِعْطَافًا عَلَيْهِمْ، فَخَاطَبَهُمْ بِأَنَّ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ فَلَا تُمْنَعُونَ ثَوَابَهُ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ عَطْفٍ عَلَيْهِمْ وَتَرَحُّمٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الشَّرِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يُفْعَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَوْعُودُهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِالْتِفَاتَ وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ قِرَاءَةُ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَحَفْصٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَبَاقِي رُوَاةِ أَبِي عَمْرٍو، خَيَّرَ بَيْنَ التَّاءِ وَالْيَاءِ، وَمَعْلُومٌ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَنْ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، كَمَا عَادَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتْلُونَ وَمَا بَعْدَهُ. وَكَفَرَ: يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، يُقَالُ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَهُنَا ضَمَّنَ مَعْنَى حَرَمَ، أَيْ: فَلَنْ تُحْرَمُوا ثَوَابَهُ، وَلَمَّا جَاءَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَكُورٌ فِي مَعْنَى تَوْفِيَةِ الثَّوَابِ، نَفَى عَنْهُ تَعَالَى نَقِيضَ الشُّكْرِ وَهُوَ كُفْرُ الثَّوَابِ، أَيْ حِرْمَانُهُ.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ لَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ وَارِدَةً فِيمَنِ اتُّصِفَ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُثِيبُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ نَاسَبَ خَتْمَ الْآيَةِ بِذِكْرِ عِلْمِهِ بِالْمُتَّقِينَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمُتَّقِينَ وَبِضِدِّهِمْ. وَمَعْنَى عَلِيمٌ بِهِمْ: أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَلَى تَقْوَاهُمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعْدٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَوَعِيدٌ للمفرطين.

(1) سورة النمل: 27/ 19.

(2)

سورة البقرة: 2/ 130.

(3)

سورة الأنبياء: 21/ 72.

(4)

سورة الأنبياء: 21/ 85- 86.

(5)

سورة النساء: 4/ 69.

(6)

سورة آل عمران: 3/ 110.

ص: 313

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ لِيَتَّضِحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ.

َلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْرَمُونَ ثَوَابَهُ، بَلْ يَجْنُونَ فِي الْآخِرَةِ ثَمَرَةَ مَا غَرَسُوهُ فِي الدُّنْيَا، أَخَذَ فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ، فَضَرَبَ لَهَا مَثَلًا اقْتَضَى بُطْلَانَهَا وَذَهَابَهَا مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ وَصَدَقَاتِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَفَقَاتِ سَفَلَةِ الْيَهُودِ عَلَى عُلَمَائِهِمْ. وَقِيلَ: فِي نَفَقَةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: فِي نَفَقَةِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا خَرَجُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِحَرْبِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ مَا كَانُوا يُنْفِقُونَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَكَسْبِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بِالزَّرْعِ الَّذِي حَسَّهُ الْبَرْدُ فَصَارَ حُطَامًا. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مَعَ كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: مَا أَنْفَقُوا فِي. عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِإِنْفَاقِهِ مَا أَنْفَقُوهُ لِأَجْلِهِ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ الْمِثَالُ القائم في النفس من إِنْفَاقِهِمُ الَّذِي يَعُدُّونَهُ قُرْبَةً وَحِسْبَةً وَتَحَنُّثًا، وَمِنْ حَبْطِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَوْنِهِ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَذَهَابِهِ كَالْمِثَالِ الْقَائِمِ فِي النَّفْسِ. مِنْ زَرْعِ قَوْمٍ نَبَتَ وَاخْضَرَّ وَقَوِيَ الْأَمَلُ فِيهِ فَهَبَّتْ عَلَيْهِ رِيحٌ صِرٌّ مُحْرِقٌ فَأَهْلَكَتْهُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُنْفِقُونَهُ. وَالظَّاهِرُ تَشْبِيهُ مَا يُنْفِقُونَهُ بِالرِّيحِ، وَالْمَعْنَى: تَشْبِيهُهُ بِالْحَرْثِ. فَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ لَمْ يُقَابَلْ فِيهِ الْإِفْرَادُ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «1» وَلِذَلِكَ قَالَ ثَعْلَبٌ: بَدَأَ بِالرِّيحِ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْحَرْثِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقِيلَ: وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَشَيْئَيْنِ، وَذَكَرَ أَحَدَ الْمُشَبَّهَيْنِ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْآخَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا وَلَيْسَ الَّذِي يُوَازِنُ الْمَذْكُورَ الْأَوَّلَ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْآخَرِ، وَدَلَّ الْمَذْكُورَانِ عَلَى الْمَتْرُوكَيْنَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَهَذِهِ غَايَةُ الْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ

(1) سورة البقرة: 2/ 17.

ص: 314

كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «1» انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ:

مَثَلُ مَهْلِكِ مَا يُنْفِقُونَ. أَوْ مِنَ الثَّانِي تَقْدِيرُهُ: كَمَثَلِ مَهْلِكِ رِيحٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مَثَلُ إِنْفَاقِهِمْ، فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الْمَعْقُولَ بِالْمَحْسُوسِ، إِذْ شَبَّهَ الْإِنْفَاقَ بِالرِّيحِ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُنْفِقُونَ أَنَّهُ مِنْ نَفَقَةِ الْمَالِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ يُنْفِقُونَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يُبْطِنُونَ ضِدَّهَا. وَيُضَعِّفُ هَذَا أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ لَا فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ.

وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْإِنْفَاقِ هُوَ أَعْمَالُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ، هِيَ كَالرِّيحِ الَّتِي فِيهَا صِرٌّ أَبْطَلَتْ أَعْمَالَهُمْ كُلَّ مَا لَهُمْ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَتَحَنُّثٍ بِعِتْقٍ، كَمَا يُبْطِلُ الرِّيحُ الزَّرْعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لَوْلَا بُعْدُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْإِنْفَاقِ انْتَهَى. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا يُنْفِقُونَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، لَكِنَّهُ خَصَّ الْإِنْفَاقَ لكونه أظهروا أَكْثَرَ انْتَهَى.

وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ وَالْأَعْرَجُ: تُنْفِقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى قُلْ لَهُمْ، وَأَفْرَدَ رِيحًا لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْعَذَابِ، كَمَا أُفْرِدَتْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ «2» وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صرصرا كالريح الْعَقِيمَ. كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ مُخْتَصٌّ بِالرَّحْمَةِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «3» وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «4» يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً «5» وَلِذَلِكَ

رُوِيَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا»

وَارْتِفَاعُ صِرٌّ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، إِذْ قَدِ اعْتَمَدَ بِكَوْنِهِ وَقْعَ صِفَةٍ لِلرِّيحِ. فَإِنْ كَانَ الصِّرُّ الْبَرْدَ وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن، وقتادة، وَالسُّدِّيِّ، أَوْ صَوْتَ لَهِيبِ النَّارِ أَوْ صَوْتَ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ. فَظَاهِرُ كَوْنِ ذَلِكَ فِي الرِّيحِ. وَإِنْ كَانَ الصِّرُّ صِفَةً لِلرِّيحِ كَالصَّرْصَرِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا قِرَّةٌ صِرٌّ كَمَا تَقُولُ: بَرْدٌ بَارِدٌ، وَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ. أَوْ تَكُونُ الظَّرْفِيَّةُ مَجَازًا جَعَلَ الْمَوْصُوفَ ظَرْفًا لِلصِّفَةِ.

كَمَا قَالَ: وَفِي الرَّحْمَنِ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنْ ضَيَّعَنِي فُلَانٌ فَفِي اللَّهِ كَافٍ. الْمَعْنَى الرَّحْمَنُ كَافٍ، وَاللَّهُ كَافٍ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ.

وَقَوْلُهُ: أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرِيحٍ. بَدَأَ أَوَّلًا بِالْوَصْفِ بِالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ. وَقَوْلُهُ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْمٍ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعَاصِيهِمْ، فَكَانَ الْإِهْلَاكُ أَشَدَّ إِذْ كَانَ عُقُوبَةً لهم.

(1) سورة البقرة: 2/ 171.

(2)

سورة الأحقاف: 26/ 24.

(3)

سورة الروم: 30/ 46.

(4)

سورة الحجر: 15/ 22. [.....]

(5)

سورة الأعراف: 7/ 57.

ص: 315

وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا إِنَّمَا هِيَ بِمَعَاصِي الْعَبْدِ.

وَيُسْتَنْبَطُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَيَسْتَقِيمُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَرْثٍ تَحْرِقُهُ الرِّيحُ فَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَعْنَاهُ زَرَعُوا فِي غَيْرِ أَوَانِ الزِّرَاعَةِ، أَيْ وَضَعُوا أَفْعَالَ الْفِلَاحَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا مِنْ وَقْتٍ أَوْ هَيْئَةِ عَمَلٍ. وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْحَرْثَ فِيمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى أَوْعَبُ وَأَشَدُّ تَمَكُّنًا، وَنَحَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ المهدوي.

ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ

جَوَّزُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمُنْفِقِينَ، أَيْ: مَا ظَلَمَهُمْ بِأَنْ لَمْ تُقْبَلْ نَفَقَاتُهُمْ. وَأَنْ يَعُودَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ أَيْ: مَا ظَلَمَهُمْ بِإِهْلَاكِ حَرْثِهِمْ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي ظَلَمَهُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ضَمِيرَهُمْ فِي يُنْفِقُونَ، وَلَيْسَ هُوَ لِلْقَوْمِ ذَوِي الْحَرْثِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُذْكَرُوا لِيَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِتَبَيُّنِ ظُلْمِهِمْ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ:

وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ فِي حَاضِرِينَ انْتَهَى. وَهُوَ تَرْجِيحٌ حسن. وقرىء شَاذًا: وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، وَاسْمُهَا أَنْفُسُهُمْ، وَالْخَبَرُ يَظْلِمُونَ. وَالْمَعْنَى: يَظْلِمُونَهَا هُمْ. وَحَسَّنَ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْحَذْفُ فِي مِثْلِهِ قَلِيلًا كَوْنُ ذَلِكَ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ، فَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَزَالَ هَذَا الْمَعْنَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ اسْمَ لَكِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لِأَنَّ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودٍ لِلْجِوَارِ وَالْحِلْفِ وَالرَّضَاعِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ شَبَّهَ الصِّدِّيقُ الصِّدْقَ بِمَا يُبَاشِرُ بَطْنَ الْإِنْسَانِ مِنْ ثَوْبِهِ. يُقَالُ: لَهُ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِبِطَانَةٍ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ دُونِ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ مِنْ بِقَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ بِطَانَةِ دُونِكُمْ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نُهُوا أَنْ يَتَّخِذُوا أَصْفِيَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَدَلَّ هَذَا النَّهْيُ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِكْتَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَصْرِيفِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ والاستبانة إِلَيْهِمْ. وَقَدْ عَتَبَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى عَلَى اسْتِكْتَابِهِ ذِمِّيًّا، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ لِعُمَرَ فِي كَاتِبٍ مُجِيدٍ مِنْ نَصَارَى الْحِيرَةِ: أَلَا يَكْتُبُ عَنْكَ؟ فَقَالَ: إِذَنْ أَتَّخِذُ بِطَانَةً.

وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، إِذْ جَاءَتْ بَيَانًا لِحَالِ

ص: 316

الْبِطَانَةِ الْكَافِرَةِ، هِيَ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَهَا لِتَنْفِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْبِطَانَةِ أَوْ حَالٌ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ، فَبَعِيدٌ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ. لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ كَافِرَةٍ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَشْيَاءَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ ابْتِغَاءِ الْغَوَائِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَوِدَادَةِ مَشَقَّتِهِمْ، وَظُهُورِ بُغْضِهِمْ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِالْحَالِ يُؤْذِنُ بِجَوَازِ الِاتِّخَاذِ عند انتفائهما.

وألا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ بِحَرْفِ الْجَرِّ، يُقَالُ: مَا أَلَوْتُ فِي الْأَمْرِ أَيْ مَا قَصَّرْتُ فِيهِ. وَقِيلَ:

انْتَصَبَ خَبَالًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1» التَّقْدِيرُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالَكُمْ، أَيْ فِي خَبَالِكِمْ. فَكَانَ أَصْلُ هَذَا الْمَفْعُولِ حَرْفُ الْجَرِّ.

وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفٍ، التَّقْدِيرُ: لَا يَأْلُونَكُمْ فِي تَخْبِيلِكُمْ. وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ لَا يُقَصِّرُونَ لَكُمْ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ عَلَيْكُمْ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ تَعَدَّى لِلضَّمِيرِ عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ، وَلِلْخَبَالِ عَلَى إِسْقَاطِ فِي.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ: أَلَا فِي الْأَمْرِ يَأْلُو إِذَا قَصَّرَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا آلُوكَ نُصْحًا، وَلَا آلُوكَ جُهْدًا، عَلَى التَّضْمِينِ. وَالْمَعْنَى: لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا وَلَا أَنْقُصُكَهُ انْتَهَى.

وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَدُّوا إِضْلَالَكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَشَقَّتَكُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمُعَانَدَةُ وَالْمُعَانَتَةُ يَتَقَارَبَانِ، لَكِنَّ الْمُعَانَدَةَ هِيَ الْمُمَانَعَةُ، وَالْمُعَانَتَةُ أَنْ تَتَحَرَّى مَعَ الْمُمَانَعَةِ الْمَشَقَّةَ انْتَهَى. وَيُقَالُ: عَنِتَ بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَصْلُهُ انْهِيَاضُ الْعَظْمِ بعد جبره. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا عَنِتُّمْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِبِطَانَةٍ، وَحَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْلُونَكُمْ، وقد مَعَهُ مُرَادَةٌ.

قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ بَدَا، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُؤَنَّثٌ مَجَازًا أَوْ عَلَى مَعْنَى الْبُغْضِ، أَيْ لَا يَكْتَفُونَ بِبُغْضِكُمْ بِقُلُوبِهِمْ حَتَّى يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَذَكَرَ الْأَفْوَاهَ دُونَ الْأَلْسِنَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا تَلَفَّظُوا بِهِ يَمْلَأُ أَفْوَاهَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: كَلِمَةٌ تَمْلَأُ الفم إذا تشدّق به. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَتَمَالَكُونَ مَعَ ضَبْطِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَتَحَامُلَهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ بُغْضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ انْتَهَى.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا انْطَوَوْا عَلَيْهِ مِنْ وِدَادِهِمْ عَنَتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ قَلْبِيٍّ، ذَكَرَ مَا أَنْتَجَهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ مِنَ الْفِعْلِ الْبَدَنِيِّ، وَهُوَ: ظُهُورُ الْبُغْضِ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ في

(1) سورة القمر: 54/ 12.

ص: 317

أَقْوَالِهِمْ، فَجَمَعُوا بَيْنَ كَرَاهَةِ الْقُلُوبِ وَبَذَاذَةِ الْأَلْسُنِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَا أَبَطَنُوهُ مِنَ الشَّرِّ وَالْإِيذَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْبُغْضِ لَهُمْ أَعْظَمُ مِمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ فَقَالَ:

وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أَيْ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بُدُوَّ الْبَغْضَاءِ مِنْهُمْ هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَظْهَرُوا لِلْمُؤْمِنِينَ الْبُغْضَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ لِاطِّلَاعِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَدَتْ بِإِقْرَارِهِمْ بَعْدَ الْجُحُودِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُجَاهِرِ. وَأَسْنَدَ الْإِخْفَاءَ إِلَى الصُّدُورِ مَجَازًا، إِذْ هِيَ مَحَالُّ الْقُلُوبِ الَّتِي تُخْفَى كَمَا قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1» .

قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أَيِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الدِّينِ، وَمُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ مَا بَيَّنَ لَكُمْ فَعَمِلْتُمْ بِهِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ عُقَلَاءَ وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، لَكِنْ عَلَّقَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ الْهَزِّ لِلنُّفُوسِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَلَا تُصَافُوهُمْ، بَلْ عَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَى إِنْ مَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ كُنْتُمْ عُقَلَاءَ.

هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا، أَنْتُمْ أُولَاءِ فِي قَوْلِهِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ «2» قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا. وَتَلْخِيصُهُ هُنَا أَنْ يَكُونَ أُولَاءِ خَبَرًا عَنْ أَنْتُمْ، وَتُحِبُّونَهُمْ مُسْتَأْنَفٌ أَوْ حَالٌ أَوْ صِلَةٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أُولَاءِ موصولا أو خبرا لأنتم، وأولاء منادا، أَوْ يَكُونَ أُولَاءِ مُبْتَدَأً ثانيا، وتحبونهم خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ. أَوْ يَكُونَ أُولَاءِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَحْوَ: أَنَا زَيْدًا ضَرَبْتُهُ، فَيَكُونُ مِنَ الِاشْتِغَالِ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَاقِعٌ عَلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ، لِأَنَّ أَنْتُمْ خطاب للمؤمنين، وأولاء إِشَارَةٌ إِلَى الْكَافِرِينَ. وَفِي الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ مَدْلُولُهُ وَمَدْلُولُ أَنْتُمْ وَاحِدٌ.

وَهُوَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ فِي تُحِبُّونَهُمْ، لَا يَنْعَقِدُ مِمَّا قَبْلَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ إِلَّا بِإِضْمَارِ وَصْفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ أُولَاءِ الْخَاطِئُونَ فِي مُوَالَاةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ. بَيَانٌ لِخَطَئِهِمْ فِي مُوَالَاتِهِمْ حَيْثُ يَبْذُلُونَ الْمَحَبَّةَ لِمَنْ يَبْغَضُهُمْ، وَضَمِيرُ المفعول

(1) سورة الحج: 22/ 46.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 66.

ص: 318

فِي تُحِبُّونَهُمْ قَالُوا لِمُنَافِقِي الْيَهُودِ. وَفِي الزَّمَخْشَرِيِّ: لِمُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ كُلُّ مُنَافِقٍ حَتَّى مُنَافِقِ الْمُشْرِكِينَ.

وَالْمَحَبَّةُ هُنَا: الْمَيْلُ بِالطَّبْعِ لِمَوْضِعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ وَالْحِلْفِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ لِأَجْلِ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ: أَبُو الْعَالِيَةِ: أَوِ الرَّحْمَةُ لَهُمْ لِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَالَهُ: قَتَادَةُ. أَوْ إِرَادَةُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ قَالَهُ: الْمُفَضَّلُ وَالزَّجَّاجِ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ تَوْبِيخٌ عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ إِسْلَامِ الْكَافِرِ، أَوِ الْمُصَافَاةِ، لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَةِ الْمَحَبَّةِ.

وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، الْكِتَابُ: اسْمُ جِنْسٍ، أَيْ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ أَوِ التَّوْرَاةُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَقْدِيرُهَا: وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ كُلِّهِ بَلْ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ. يَدُلُّ عَلَيْهَا إِثْبَاتُ الْمُقَابِلِ فِي تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ.

وَالْوَاوُ فِي وَتُؤْمِنُونَ لِلْعَطْفِ عَلَى تُحِبُّونَهُمْ، فَلَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ مَا لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَالْوَاوُ فِي وَتُؤْمِنُونَ لِلْحَالِ، وَانْتِصَابُهَا مِنْ لَا يُحِبُّونَكُمْ أَيْ لَا يُحِبُّونَكُمْ. وَالْحَالُ: إِنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ كُلِّهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَبْغَضُونَكُمْ، فَمَا بَالُكُمْ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِكُمْ؟ وَفِيهِ تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ بِأَنَّهُمْ فِي باطلهم أصل مِنْكُمْ فِي حَقِّكُمْ وَنَحْوِهُ. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ. إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ مِنَ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ مَا يَخْدِشُهُ، وَهُوَ: أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَ فِي وَتُؤْمِنُونَ لِلْحَالِ، وَأَنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ مِنْ لَا يُحِبُّونَكُمْ. وَالْمُضَارِعُ الْمُثْبَتُ إِذَا وَقَعَ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ، وَلَا يَجُوزُ وَيَضْحَكُ. فَأَمَّا قَوْلِهِمْ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ فَفِي غَايَةِ الشُّذُوذِ. وَقَدْ أُوِّلَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ قُمْتُ وَأَنَا أَصُكُّ عَيْنَهُ، فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً. وَيُحْتَمَلُ هَذَا التَّأْوِيلُ هُنَا، أَيْ: وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَأَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهَا لِلْعَطْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ، لَا مُنَافِقِي الْعَرَبِ. وَيَعْتَرِضُهَا: أَنَّ مُنَافِقِي الْيَهُودِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ فِي الظَّاهِرِ إِيمَانًا مُطْلَقًا وَيَكْفُرُونَ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْعَرَبِ، إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِ زَيْدِ بْنِ الصَّيْفِ الْقَيْنُقَاعِيِّ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، مَعْنَاهُ صَدَّقْنَا أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَيْكُمْ. أَيْ فَكُونُوا عَلَى دِينِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ لَا نُضْمِرُ لَكُمْ إِلَّا الْمَوَدَّةَ، وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَّخِذُهُمْ بِطَانَةً. وَهَذَا مَنْزَعٌ قَدْ حَفِظَ أَنْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُعَادِلَ لِقَوْلِهِمْ: آمنا غض الْأَنَامِلِ مِنَ الْغَيْظِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا

ص: 319

يَقْتَضِي الِارْتِدَادَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «1» بَلْ هُوَ مَا يَقْتَضِي الْبُغْضَ وَعَدَمَ الْمَوَدَّةِ. وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هُمُ الْأَبَاضِيَّةُ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ قَدْ تَتَرَتَّبُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ مُنَافِقِي الْيَهُودِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ فِي الظَّاهِرِ إِيمَانًا مُطْلَقًا وَيَكْفُرُونَ فِي الْبَاطِنِ إِلَّا مَا روي من أمر زيد فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ لَمْ يَرْوِ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ زَيْدٍ الْقَيْنُقَاعِيِّ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مَذَمَّةٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي جِنْسِهِمْ. وَكَثِيرًا مَا تَمْدَحُ الْعَرَبُ أَوْ تَذُمُّ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَيُؤَيِّدُ صُدُورَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ «2» .

وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا هَذَا الْإِخْبَارُ جَرَى عَلَى مُنَازَعَتِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالسِّتْرِ وَالْخُبْثِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرُوا مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ.

وَإِذا خَلَوْا أَيْ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَانْفَرَدُوا دُونَكُمْ. وَالْمَعْنَى: خَلَتْ مَجَالِسُهُمْ، مِنْكُمْ، فَأَسْنَدَ الْخُلُوَّ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.

عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَظَاهِرُهُ فِعْلُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُمْ عَضُّ الْأَنَامِلِ لِشِدَّةِ الْغَيْظِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِ مَا يُرِيدُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:

وَقَدْ صَالَحُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَشِحَّةً

يَعَضُّونَ عَضًّا خَلْفَنَا بِالْأَبَاهِمِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ اللَّهُ غَيْظَهُمُ

عَضُّوا مِنَ الْغَيْظِ أَطْرَافَ الْأَبَاهِيمِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فما كان نصرها

قتيببة إِلَّا عَضَّهَا بِالْأَبَاهِمِ

وَقَالَ الْحَرْثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ:

وَأَقْبَلَ أَقْوَامًا لِئَامًا أَذِلَّةً

يعضون من غيظ رؤوس الْأَبَاهِمِ

وَيُوصَفُ الْمُغْتَاظُ وَالنَّادِمُ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ وَالْإِبْهَامِ. وَهَذَا الْعَضُّ هُوَ بِالْأَسْنَانِ،

(1) سورة البقرة: 2/ 14.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 72.

ص: 320

وَهِيَ هَيْئَةٌ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ الْغَاضِبَةِ. كَمَا أَنَّ ضَرْبَ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ يَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ الْمُتَلَهِّفَةِ عَلَى فَائِتٍ قَرِيبِ الْفَوْتِ. وَكَمَا أَنَّ قَرْعَ السِّنِّ هَيْئَةٌ تَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ النَّادِمَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ عَدِّ الْحَصَى وَالْخَطِّ فِي الْأَرْضِ لِلْمَهْمُومِ وَنَحْوِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ عَضُّ أَنَامِلٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ عُبِّرَ بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ إِذَايَتِكُمْ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ: بُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ، وَالرِّيَاءِ بِإِظْهَارِ مَا لَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ بَاطِنُهُ، جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتَّخَذَ صَدِيقًا.

قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ظاهره: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهِيَ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ: أَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَمَّا يَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ مُوَاجَهَةً. وَقِيلَ: أُمِرَ هُوَ وَأُمَّتُهُ أَنْ يُوَاجِهُوهُمْ بِهَذَا.

فَعَلَى هَذَا زَالَ مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَبَقِيَ مَعْنَى التَّقْرِيعِ، قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: صُورَتُهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ تَمُوتُونَ وَمَعَكُمُ الْغَيْظُ وَهُوَ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ عَلَى قَبِيحِ مَا عَمِلُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَزْدَادَ غَيْظُهُمْ حَتَّى يُهْلَكُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْغَيْظِ مَا يَغِيظُهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّةِ أَهْلِهِ، وَمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ وَالتَّبَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ مَا فَسَّرَ بِهِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، وَيَكُونُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُشْبِهُ قَوْلَهُمْ: مِتْ بِدَائِكَ، أَيْ أَبْقَى اللَّهُ دَاءَكَ حَتَّى تَمُوتَ بِهِ. لَكِنْ فِي لَفْظِ الزَّمَخْشَرِيِّ زِيَادَةُ الْغَيْظِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: هَذَا لَيْسَ بِأَمْرٍ جَازِمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لَمَاتُوا مِنْ فَوْرِهِمْ كَمَا جَاءَ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا. وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لَمَاتُوا جَمِيعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ لَا تُرَدُّ. وَقَدْ آمَنَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ بِخَبَرٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَقْعِ عَلَى حُكْمٍ مَا أَخْبَرَ بِهِ يَعْنِي وَلَمْ يُؤْمِنْ أَحَدٌ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. قِيلَ:

وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ قَوْلٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِطِيبِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِوَعْدِ اللَّهِ أَنْ يُهْلَكُوا غَيْظًا بِإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِهِمْ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَدِّثْ نَفْسَكَ بِذَلِكَ.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَالْمَعْنَى:

أَخْبِرْهُمْ بِمَا يُسِرُّونَهُ مِنْ عَضِّهِمُ الْأَنَامِلَ غَيْظًا إِذَا خَلَوْا وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِمَّا تُسِرُّونَهُ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مُضْمَرَاتُ الصُّدُورِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَسْرَارِكُمْ يَخْفَى عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَدْخُلَ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ: قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا تَتَعَجَّبْ مِنِ اطْلَاعِي إِيَّاكَ عَلَى

ص: 321

مَا يُسِرُّونَ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُضْمَرَاتُ صُدُورِهِمْ لَمْ يُظْهِرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ.

وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَعِيدٌ مُوَاجَهُونَ بِهِ.

وَالذَّاتُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ وَمَعْنَاهُ هُنَا أَنَّهُ تَأْنِيثُ ذِي بِمَعْنَى صَاحِبٍ. فَأَصْلُهُ هُنَا عَلِيمٌ بِالْمُضْمَرَاتِ ذَوَاتِ الصُّدُورِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَغَلَبَتْ إِقَامَةُ الصِّفَةِ مَقَامَهُ. وَمَعْنَى صَاحِبَةِ الصُّدُورِ: الْمُلَازِمَةُ لَهُ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ صَاحِبُ فُلَانٍ، وَمِنْهُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ النَّارِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْفِ عَلَى ذَاتٍ. فَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ: بِالتَّاءِ مُرَاعَاةً لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْجِرْمِيُّ: بِالْهَاءِ لِأَنَّهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ.

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها الْحَسَنَةُ هُنَا مَا يَسُرُّ مِنْ رَخَاءٍ وَخَصْبٍ وَنُصْرَةٍ وَغَنِيمَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَالسَّيِّئَةُ ضِدُّ ذَلِكَ. بَيَّنَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَرْطَ عداوتهم حيث يسوءهم مَا نَالَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَسُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ «1» الْآيَةَ مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «2» إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً «3» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسَّ فِي الْحَسَنَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ بِأَدْنَى طُرُوءِ الْحَسَنَةِ تَقَعُ الْمَسَاءَةُ بِنُفُوسِ هَؤُلَاءِ الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ عَادَلَ ذَلِكَ فِي السَّيِّئَةِ بِلَفْظِ الْإِصَابَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ.

لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُصِيبَ لِشَيْءٍ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، أَوْ فِيهِ. فَدَلَّ هَذَا النَّوْعُ الْبَلِيغُ عَلَى شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، إِذْ هُوَ حِقْدٌ لَا يَذْهَبُ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ، بَلْ يَفْرَحُونَ بِنُزُولِ الشَّدَائِدِ بِالْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالنَّكِرَةُ هُنَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ بِأَنْ تَعُمَّ عُمُومَ الْبَدَلِ، وَلَمْ يَأْتِ مُعَرَّفًا لِإِيهَامِ التَّعْيِينِ بِالْعَهْدِ، وَلِإِيهَامِ الْعُمُومِ الشُّمُولِيِّ. وَقَابَلَ الْحَسَنَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَالْمُسَاءَةَ بِالْفَرَحِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ بَدِيعَةٌ.

قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْحَسَنَةُ بِظُهُورِكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ، وَالتَّتَابُعِ بِالدُّخُولِ فِي دِينِكُمْ، وَخَصْبِ مَعَاشِكُمْ. وَالسَّيِّئَةُ بِإِخْفَاقِ سَرِيَّةٍ مِنْكُمْ، أَوْ إِصَابَةِ عَدُوٍّ مِنْكُمْ، أَوِ اخْتِلَافٍ بَيْنَكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَسَنَةُ الْأُلْفَةُ، وَاجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ. وَالسَّيِّئَةُ إِصَابَةُ الْعَدُوِّ، وَاخْتِلَافُ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ. وَالسَّيِّئَةُ الْمُصِيبَةُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَلَيْسَتْ عَلَى سبيل التعيين.

(1) سورة التوبة: 9/ 50.

(2)

سورة النساء: 4/ 79.

(3)

سورة المعارج: 70/ 20- 21.

ص: 322

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَتَّقُوا اللَّهَ، وَلَا تَقْنَطُوا، وَلَا تَسْأَمُوا أذاهم وإن تكرر. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَتَتَّقُوا مُبَاطَنَتَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَتَتَّقُوا الشِّرْكَ.

وَقِيلَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى حَرْبِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ، وَلَا مُتَعَلِّقَ التَّقْوَى. لَكِنَّ الصَّبْرَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالتَّقْوَى اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. فَيَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَحْذُوفُ مِنْ جِنْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الصَّبْرِ وَلَفْظُ التَّقْوَى. وَفِي هَذَا تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَثْبِيتٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى كَيْدِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْيَاءِ مُعْجَمَةٌ مِنْ أَسْفَلَ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْحَسَنَةِ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا يَضُرُّكُمْ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ.

وَيُقَالُ: ضَارَ يَضُورُ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى ضَرَّ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الضَّادِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ. وَاخْتُلِفَ، أَحَرَكَةُ الرَّاءِ إِعْرَابٌ فَهُوَ مَرْفُوعٌ؟ أَمْ حَرَكَةُ إِتْبَاعٍ لِضَمَّةِ الضَّادِ وَهُوَ مَجْزُومٌ كَقَوْلِكَ: مَدَّ؟ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى سِيبَوَيْهِ، فَخَرَجَ الْإِعْرَابُ عَلَى التَّقْدِيمِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا، وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى سِيبَوَيْهِ. وَخَرَجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ، مَعَ إِضْمَارِ الْفَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ، وَقَالَهُ: الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ.

وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِيمَا رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْهُ: بِضَمِّ الضَّادِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ قِرَاءَةِ ضَمِّ الرَّاءِ نَحْوَ لَمْ يَرُدَّ زَيْدٌ، وَالْفَتْحُ هُوَ الْكَثِيرُ الْمُسْتَعْمَلُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ:

بِضَمِّ الضَّادِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَمَّا الْكَسْرُ فَلَا أَعْرِفُهُ قِرَاءَةً، وَعِبَارَةُ الزَّجَّاجِ فِي ذَلِكَ مُتَجَوَّزٌ فِيهَا، إِذْ يَظْهَرُ مِنْ دَرَجِ كَلَامِهِ أَنَّهَا قِرَاءَةٌ انْتَهَى. وَهِيَ قِرَاءَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: لَا يَضْرُرْكُمْ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعَلَيْهَا في الآية إن يمسسكم. وَلُغَةُ سَائِرِ الْعَرَبِ الْإِدْغَامُ فِي هَذَا كُلِّهِ.

إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَهُوَ وَعِيدٌ، وَالْمَعْنَى: مُحِيطٌ جَزَاؤُهُ. وَعَبَّرَ بِالْإِحَاطَةِ عَنْ الِاطِّلَاعِ التَّامِّ وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ وَهُوَ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ فَعَلَى الِالْتِفَاتِ لِلْكُفَّارِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ قُلْ: لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ تَضَمَّنَ تَوَعُّدَهُمْ فِي اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ.

قَالُوا: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ضُرُوبًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ. مِنْهَا: الْوَصْلُ وَالْقَطْعُ فِي لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وَالتَّكْرَارُ: فِي أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ

ص: 323