الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقَ الرِّضْوَانِ، وَفَرِيقَ السُّخْطِ، وَأَنَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَصَلَ أَحْوَالَهُمْ وَبَدَأَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ مَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ بَعْثِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ تَالِيًا لِآيَاتِ اللَّهِ، وَمُبَيِّنًا لَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى، وَمُطَهِّرًا لَهُمْ مِنْ أَرْجَاسِ الشِّرْكِ، وَمُنْقِذًا لَهُمْ مِنْ غَمْرَةِ الضَّلَالَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِيهَا. وَسَلَّاهُمْ عَمَّا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، لِمَا أَنَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ. ثُمَّ فَصَّلَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ السُّخْطِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى مَنَّ تَطَوَّلَ وَتَفَضَّلُ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِبَعْثِهِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهُمْ، كَمَا قَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» وَالْمَعْنَى: مِنْ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، وَالِامْتِنَانُ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْأُنْسِ بكونه من
(1) سورة التوبة: 9/ 128.
الْإِنْسِ، فَيَسْهُلُ الْمُتَلَقَّى مِنْهُ، وَتَزُولُ الْوَحْشَةُ وَالنَّفْرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَلِمَعْرِفَةِ قُوَى جِنْسِهِمْ. فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ أَدْرَكُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي قُوَى بَنِي آدَمَ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَى الْإِجَابَةِ. وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَتُخُيِّلَ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ هِيَ فِي طِبَاعِهِ، أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَاتُرِيدِيُّ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ، مِنْ قَبْلِ أُمَّهَاتِهِ، إِلَّا بَنِي تَغْلِبَ لِنَصْرَانِيَّتِهِمْ قَالَهُ: النَّقَّاشُ، فَصَارَ بَعْثُهُ فِيهِمْ شَرَفًا لَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ.
وَيَكُونُ مَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ: أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ عَرَبِيًّا مِثْلَهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، كَمَا أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: قَالَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفَ النِّسَبِ فِيهِمْ، مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمُ التَّعْلِيمُ مِنْهُ، لِمُوَافَقَةِ اللِّسَانِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ شَرَفَهُمْ يَتِمُّ بِظُهُورِ نَبِيٍّ مِنْهُمْ انْتَهَى.
وَالْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، إِذْ كَانَ اللِّسَانُ وَاحِدًا، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ أَخْذُ مَا يَجِبُ أَخْذُهُ عَنْهُ. وَكَانُوا وَاقِفِينَ عَلَى أَحْوَالِهِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى تَصْدِيقِهِ وَالْوُثُوقِ به. وقرىء شَاذًّا: لِمِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمِنِ الْجَارَّةِ ومن مَجْرُورٌ بِهَا بَدَلَ قَدْ مَنَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يُرَادَ لِمِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أَوْ بَعَثَهُ فِيهِمْ، فَحُذِفَ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ. أَوْ يَكُونُ إِذْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ كَإِذَا فِي قَوْلِكَ: أَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ، إذا كَانَ قَائِمًا بِمَعْنَى لِمِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقْتَ بَعْثِهِ انْتَهَى.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ سَائِغٌ، وَقَدْ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ مَعَ مِنْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ «1» وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ «2» وما دُونَ ذلِكَ عَلَى قَوْلٍ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ جَعَلَ إِذْ مُبْتَدَأَةً وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا الْعَرَبُ مُتَصَرِّفَةً أَلْبَتَّةَ، إِنَّمَا تَكُونُ ظَرْفًا أَوْ مُضَافًا إِلَيْهَا اسْمُ زَمَانٍ، وَمُفَعْوِلَةً بِاذْكُرْ عَلَى قَوْلٍ. أَمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ مُبْتَدَأَةً فَلَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ نَحْوُ: إِذْ قَامَ زَيْدٌ طَوِيلٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ وَقْتَ قِيَامِ زَيْدٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمْ تَرِدْ إِذْ وَإِذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا ظَرْفَيْنِ، وَلَا يَكُونَانِ فَاعِلَيْنِ وَلَا مَفْعُولَيْنِ، وَلَا مُبْتَدَأَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ كَإِذَا، فَهَذَا التشبيه فاسد،
(1) سورة النساء: 4/ 159.
(2)
سورة الصافات: 37/ 164.
لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمُشَبَّهَ بِهِ لَيْسَ مُبْتَدَأً. إِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَلَى زَعْمِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، بَلْ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْعَامِلِ الْمَحْذُوفِ، وَذَلِكَ الْعَامِلُ هُوَ مَرْفُوعٌ. فَإِذَا قَالَ النُّحَاةُ: هَذَا الظَّرْفُ الْوَاقِعُ خَبَرًا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَيَعْنُونَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَرْفُوعِ صَارَ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي قَوْلِكَ: أَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ إِذَا كَانَ قَائِمًا، فَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. لِأَنَّ هَذَا الظَّرْفَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَخْطَبُ، لَا يُجِيزُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ. وَنَصَّ أَرْبَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِإِعْرَابِ أَخْطَبَ مُبْتَدَأً، أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ سَدَّتْ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ حَذْفُ الْخَبَرِ فِيهِ لِسَدِّ هَذِهِ الْحَالِ مَسَدَّهُ. وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْخَبَرِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ، ذُكِرَتْ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِضَمِّ الْفَاءِ، جَمْعُ نَفْسٍ.
وَقَرَأَتْ فَاطِمَةُ، وَعَائِشَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: مِنْ أَنْفَسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَالشَّيْءِ النَّفِيسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا كَذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَى عَلِيٌّ عَنْهُ عليه السلام: «أَنَا مِنْ أَنْفَسِكُمْ نَسَبًا وَحَسَبًا وَصِهْرًا، وَلَا فِي آبَائِي مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ وُلِدْتُ سِفَاحٌ كُلُّهَا نِكَاحٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ» .
قِيلَ: وَالْمَعْنَى مِنْ أَشْرَفِهِمْ، لِأَنَّ عَدْنَانَ ذُرْوَةُ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمُضَرَ ذُرْوَةُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَخِنْدِفَ ذُرْوَةُ مُضَرَ، وَمُدْرِكَةَ ذُرْوَةُ خندف، وقريش ذُرْوَةُ مُدْرِكَةَ، وَذُرْوَةَ قُرَيْشٍ محمد صلى الله عليه وسلم. وَفِيمَا خَطَبَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ فِي تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها وَقَدْ حَضَرَ مَعَهُ بَنُو هَاشِمٍ وَرُؤَسَاءُ مُضَرٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ، وضئضىء معه، وَعُنْصُرِ مُضَرَ، وَجَعَلَنَا حَضَنَةَ بَيْتِهِ وَسُوَّاسَ حَرَمَهُ، وَجَعَلَ لَنَا بَيْتًا مَحْجُوجًا، وَحَرَمًا آمِنًا، وَجَعَلَنَا الْحُكَّامَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أَخِي هَذَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ لَا يُوَازَنُ بِهِ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رَجَحَ بِهِ، وَهُوَ وَاللَّهِ بَعْدَ هَذَا لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ جَلِيلٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا خَلَقَ اللَّهُ نَفْسًا هِيَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ فقال: لعمرك.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ.
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ.
لَفِي ضَلالٍ أَيْ حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ فَهَدَاهُمْ بِهِ. وَإِنْ هُنَا هِيَ الْخَفِيفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَتَقَدَّمَ
الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَعَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «1» وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. انْتَهَى. وَقَالَ مَكِّيٌّ:
وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَبْلَ إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْلُ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ حِينَ خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْحَدِيثِ. وَمِنْ كَلَامِ مَكِّيٍّ أَنَّهَا حِينَ خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلَا هَذَيْنِ الوجهين لا نعرف. نحو: يا ذَهَبَ إِلَيْهِ. إِنَّمَا تَقَرَّرَ عِنْدَنَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَمِنَ الشُّيُوخِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ثُمَّ خَفَّفْتَ، فَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِيهَا إِذْ ذَاكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الْإِعْمَالِ، وَيَكُونُ حَالُهَا وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ كَحَالِهَا وَهِيَ مُشَدَّدَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ فِي مُضْمَرٍ. وَمَنَعَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالسَّمَاعِ الثَّابِتِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَكْثَرُ عِنْدَهُمْ أَنْ تُهْمَلَ فَلَا تَعْمَلُ، لَا فِي ظَاهِرٍ، وَلَا فِي مُضْمَرٍ لَا مَلْفُوظٍ بِهِ وَلَا مُقَدَّرٍ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ وَلِيَهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ ارْتَفَعَتْ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَلَزِمَتِ اللَّامُ فِي ثَانِي مَضْمُونَيْهَا إِنْ لَمْ يُنْفَ، وَفِي أَوَّلِهِمَا إِنْ تَأَخَّرَ فَنَقُولُ:
إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ وَمَدْلُولُهُ مَدْلُولُ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ. وَإِنْ وَلِيَهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَلَا بُدَّ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَكُونَ مِنْ فَوَاتِحِ الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ جَاءَ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِهَا فَهُوَ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانُوا، حَالِيَّةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا هُوَ: وَيَعْلَمُهُمْ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ.
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ، عَلَى مَعْنَى إِلْزَامِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولمّا نُصِبَ بِقُلْتُمْ وَأَصَابَتْكُمْ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِإِضَافَةِ لَمَّا إِلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَقَلْتُمْ حِينَ أَصَابَتْكُمْ، وَأَنَّى هَذَا نَصْبٌ لِأَنَّهُ مَقُولٌ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ والتقريع. (فإن قلت) : على م عَطَفَتِ الْوَاوُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ؟ (قُلْتُ) : عَلَى مَا مَضَى مِنَ قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» «2» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَحْذُوفٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَعَلْتُمْ كَذَا وَقُلْتُمْ حينئذ كذا؟ انتهى.
(1) سورة البقرة: 2/ 143.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 152.
أَمَّا الْعَطْفُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. فَفِيهِ بُعْدٌ، وَبِعِيدٌ أَنْ يَقَعَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ قَالُوا:
وَأَصْلُهَا التَّقْدِيمُ، وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمَّا نُصِبَ إِلَى آخِرِهِ وَتَقْدِيرُهُ: وَقُلْتُمْ حِينَئِذٍ كَذَا، فَجَعَلَ لَمَّا بِمَعْنَى حِينَ فَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. زَعَمَ أَنَّ لَمَّا ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِهَا، فَجَعَلَهَا مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي تَجِبُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْجُمَلِ، وَجَعَلَهَا مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابًا لَهَا فِي نَحْوِ: لَمَّا جاء زيد عَمْرٌو، فَلَمَّا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِجَاءَ مِنْ قَوْلِكَ: جَاءَ عَمْرٌو. وَأَمَّا مَذْهَبُ سيبويه فأما حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، وَهُوَ حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى:
بِالتَّكْمِيلِ.
وَالْمُصِيبَةُ: هِيَ مَا نَزَلَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ قَتْلِ سَبْعِينَ مِنْهُمْ، وَكَفِّهِمْ عَنِ الثَّبَاتِ لِلْقِتَالِ. وَإِسْنَادُ الْإِصَابَةِ إِلَى الْمُصِيبَةِ هُوَ مَجَازٌ، كَإِسْنَادِ الْإِرَادَةِ إِلَى الْجِدَارِ، وَالْمِثْلَانِ اللَّذَانِ أَصَابُوهُمَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وقتادة، وَالرَّبِيعُ، وَجَمَاعَةٌ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، وَأَسْرُهُمْ سَبْعِينَ، فَالْمِثْلِيَّةُ وَقَعَتْ فِي الْعَدَدِ مِنْ إِصَابَةِ الرِّجَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَقَتْلُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، فَهُوَ قَتْلٌ بِقَتْلٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْأَسْرَى فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ فُدُوا فَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ حَالِهِمْ وَبَيْنَ قَتْلِ سَبْعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: الْمِثْلِيَّةُ فِي الِانْهِزَامِ. هَزَمَ الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَزَمُوهُمْ أَوَّلًا يَوْمَ أُحُدٍ، وَهَزَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي آخِرِ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: هَلِ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ، أَوْ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ مِنْ هَزِيمَةٍ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّفَضُّلِ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِدَالَتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالتَّسْلِيَةِ لَهُمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْأَبْلَغِ فِي التَّسْلِيَةِ. وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ أَبْلَغُ فِي الْمِنَّةِ وَفِي التَّسْلِيَةِ.
وَأَدْعَى إِلَى أَنْ يَذْكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ السَّابِقَةَ، وَأَنْ يَتَنَاسَوْا مَا جَرَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَأَنَّى هَذَا: جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ:
قُلْتُمْ. قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ لِمَا أَصَابَهُمْ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ أَصَابَنَا هَذَا وَنَحْنُ نُقَاتِلُ أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَقَدْ وُعِدْنَا بِالنَّصْرِ وَإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ؟! فَاسْتَفْهَمُوا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ عَنْ ذَلِكَ. وَأَنَّى سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ هُنَا، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَا بِمَعْنَى أَيْنَ أَوْ مَتَى،
لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمَكَانِ وَلَا عَنِ الزَّمَانِ هُنَا، إِنَّمَا الِاسْتِفْهَامُ وَقَعَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، سَأَلُوا عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّى هَذَا مِنْ أَيْنَ هَذَا، كَقَوْلِهِ:«أَنَّى لَكِ هَذَا» «1» لِقَوْلِهِ: «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» «2» وَقَوْلِهِ: «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» «3» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالظَّرْفُ إِذَا وَقَعَ خبر للمبتدأ ألا يُقَدَّرُ دَاخِلًا عَلَيْهِ حَرْفُ جَرٍّ غَيْرُ فِي، أَمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخِلًا عَلَيْهِ مِنْ فَلَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ فِي. ولك إِذَا أُضْمِرَ الظَّرْفُ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا أَنْ يُتَّسَعَ فِي الفعل فينصبه نَصْبَ التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، فَتَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّى هَذَا، مِنْ أَيْنَ هَذَا تَقْدِيرٌ غَيْرُ سَائِغٍ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، وَقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وُقُوفٌ مَعَ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ فِي اللَّفْظِ، وَذُهُولٌ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ الْجَوَابَ جَاءَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، لَا عَلَى مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ فِي اللَّفْظِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْجَوَابَ يَأْتِي عَلَى حَسَبِ السُّؤَالِ مُطَابِقًا لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَمُرَاعًى فِيهِ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظُ. وَالسُّؤَالُ بِأَنَّى سُؤَالٌ عَنْ تَعْيِينِ كَيْفِيَّةِ حُصُولِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يَتَضَمَّنُ تَعْيِينَ الْكَيْفِيَّةِ، لِأَنَّهُ بِتَعْيِينِ السَّبَبِ تَتَعَيَّنُ الْكَيْفِيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. لَوْ قِيلَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ: كَيْفَ لَا يَحُجُّ زَيْدٌ الصَّالِحُ، وَأُجِيبَ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: بِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ حَصَلَ الْجَوَابُ وَانْتَظَمَ مِنَ الْمَعْنَى، أَنَّهُ لَا يَحُجُّ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ.
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ الْإِضْمَارُ فِي هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُصِيبَةِ عَلَى الْمَعْنَى، لَا عَلَى اللَّفْظِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُصِيبَةِ فِي تَفْسِيرِ مُقَابِلِ الْمِثْلَيْنِ: أَهْوَ الْقَتْلُ الْمُقَابِلُ لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، أَوِ الْمُقَابِلُ لِلْقَتْلِ فَقَطْ؟ أَوِ الِانْهِزَامُ الْمُقَابِلُ لِلِانْهِزَامَيْنِ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ صَدَرَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. فَقِيلَ: هُوَ الْفِدَاءُ الَّذِي آثَرُوهُ عَلَى الْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ مَعْنَاهُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ،
وَرَوَى عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا فَرُغَتْ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمْ فَدَاءَ الْأَسْرَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَسْرَى فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، أَوْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ عِدَّةُ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا، وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عُدَّتُهُمْ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ما نكره» .
فقتل
(1) سورة آل عمران: 3/ 37.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 165.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 37. [.....]
مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ فِي الرَّأْيِ حِينَ رَأَى أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ وَيَتْرُكَ الْكُفَّارَ بِشَرِّ مَجْلِسٍ، فَخَالَفُوا وَخَرَجُوا حَتَّى جَرَتِ الْقِصَّةُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: هُوَ عِصْيَانُ الرُّمَاةِ وَتَسْبِيبِهِمُ الْهَزِيمَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ لَخَّصَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ. فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنْتُمُ السَّبَبُ فِيمَا أَصَابَكُمْ لِاخْتِيَارِكُمُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَوْ لِتَخْلِيَتِكُمُ الْمَرْكَزَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: لِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
انْتَهَى. وَلَمْ يُعَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى السَّبَبَ مَا هُوَ لُطْفًا بِالْمُؤْمِنِينَ فِي خِطَابِهِ تَعَالَى لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: «أَنَّى هَذَا» «1» هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ طَعْنَهُمْ فِي الرَّسُولِ بِأَنْ نَسَبُوهُ إِلَى الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ، حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمَا انْهَزَمَ عَسْكَرُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّى هَذَا. فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ هَذَا الِانْهِزَامُ إِنَّمَا حَصَلَ بِشُؤْمِ عِصْيَانِكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:
أَنَّى هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ أَيْضًا: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ. وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ «2» لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ، لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَلَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ، إِلَّا أَنْ تَجُوزَ فِي قَوْلِهِ: أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ بِمَعْنَى أَصَابَتْ أَقْرِبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ، فَهُوَ يُمْكِنُ عَلَى بُعْدٍ.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ قَادِرٌ عَلَى النَّصْرِ، وَعَلَى مَنْعِهِ، وَعَلَى أَنْ يُصِيبَ بِكُمْ تَارَةً، وَيُصِيبَ مِنْكُمْ أُخْرَى. وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ كَانَ لِوَهَنٍ فِي دِينِهِمْ، لَا لِضَعْفٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى دِفَاعِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ هُوَ يَوْمُ أُحُدٍ. وَالْجَمْعَانِ، جَمْعُ النبي صلى الله عليه وسلم وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَالْخِطَابُ للمؤمنين. وما مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارٍ أَيْ: فَهُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ هُنَا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: لَمَّا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِطِلْبَتِهِ لِلْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ رَابِطَةً مُسَدِّدَةً. وَذَلِكَ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا فَأَشْبَهَ الْكَلَامُ الشَّرْطَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: الَّذِي قَامَ فَلَهُ دِرْهَمَانِ، فَيَحْسُنُ دُخُولَ الْفَاءِ إِذَا كَانَ الْقِيَامُ سَبَبَ الْإِعْطَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامِ الْحَوْفِيِّ، لأن
(1) سورة آل عمران: 3/ 165.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 165.
الْحَوْفِيَّ زَعَمَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَشْبَهَ الْكَلَامُ الشَّرْطَ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَقَرَّرُوهُ قَلَقٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَرَّرُوا فِي جَوَازِ دُخُولِ الْفَاءِ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ أَنَّ الصِّلَةَ تَكُونُ مُسْتَقِلَّةً، فَلَا يُجِيزُونَ الَّذِي قَامَ أَمْسِ فَلَهُ دِرْهَمٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ لِشُبْهَةٍ بِالشَّرْطِ. فَكَمَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَاضِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ الصِّلَةُ.
وَالَّذِي أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ هُوَ مَاضٍ حَقِيقَةً، فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَعَلَى مَا قَرَّرُوهُ يُشْكِلُ دُخُولُ الْفَاءِ هُنَا. وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ واصلة مَاضِيَةً مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ «1» وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَاضٍ مَعْنًى مَقْطُوعٌ بوقوعه صلة وخبر، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ: وَمَا يَتَبَيَّنُ إِصَابَتُهُ إِيَّاكُمْ. كَمَا تَأَوَّلُوا: «إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ» «2» أَيْ إِنْ تَبَيَّنَ كَوْنُ قَمِيصِهِ قُدَّ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «3» وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «4» فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ كُلِّهَا إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّبَيُّنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَفُسِّرَ الْإِذْنَ هُنَا بِالْعِلْمِ. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. أَوْ بِتَمْكِينِ اللَّهِ وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ قَالَهُ: الْقَفَّالُ. أَوْ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، أَوْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ كَائِنٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، اسْتَعَارَ الْإِذْنَ لِتَخْلِيَةِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ، لِأَنَّ الْآذِنَ مُخِلٌّ بَيْنَ الْمَأْذُونِ لَهُ وَمُرَادِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، لِأَنَّ قَتْلَ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبِيحٌ عِنْدَهُ، فَلَا إِذَنْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْسُنُ دُخُولُ الْفَاءِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْإِعْطَاءِ، وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا هُوَ وَمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ، لَكِنْ قَدَّمَ الْأَهَمَّ فِي نُفُوسِهِمْ وَالْأَقْرَبَ إِلَى حِسِّهِمْ. وَالْإِذْنُ: التَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. لَمَّا كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِصَابَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى تَمْكِينِ اللَّهِ، مِنْ ذَلِكَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَادَّعَى تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَلَا تَحْتَاجُ الْآيَةُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا وَجَزَاءً فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ مَاضٍ، وَالْإِخْبَارُ صحيح. أخبر
(1) سورة الحشر: 59/ 6.
(2)
سورة يوسف: 12/ 26.
(3)
سورة النساء: 4/ 79.
(4)
سورة الشورى: 42/ 30.
تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ لَا مَحَالَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَهَذَا إِخْبَارٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنًى صَحِيحٌ، فَلَا نَتَكَلَّفُ تَقْدِيمًا وَلَا تَأْخِيرًا، وَنَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَلِيَعْلَمَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْلَمَ نِفَاقَ الَّذِينَ نَافَقُوا. أَوِ الْمَعْنَى: وَلِيُمَيِّزَ أَعْيَانَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: لِيَكُونَ الْعِلْمُ مَعَ وُجُودِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مُسَاوِقًا لِلْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ وَنِفَاقَ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ:
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ «1» وَقَالُوا: تَتَعَلَّقُ الْآيَةُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَلِكَذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، عَطَفَ السَّبَبِ عَلَى السَّبَبِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَاءِ وَاللَّامِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ كَائِنٌ. وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي وأصحابه.
وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا الْقَائِلُ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا انْخَذَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةٍ تَبِعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيَّكُمْ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: مَا أَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، وَلَوْ عَلِمْنَاهُ لَكُنَّا مَعَكُمْ. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: اذْهَبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْفَرَّاءُ:
مَعْنَاهُ: كَثِّرُوا السَّوَادَ وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا فَتَدْفَعُونَ الْقَوْمَ بِالتَّكْثِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ مَعْنَاهُ:
رَابِطُوا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمُرَابِطَ فِي الثغور دافع للعبد، إِذْ لَوْلَاهُ لَطَرَقَهَا. قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَوْمَ القادسية وعليه درع بجر أَطْرَافَهَا، وَبِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أنزل الله عذرا؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُكَثِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِي. وَقِيلَ: الْقِتَالُ بِالْأَنْفُسِ، وَالدَّفْعُ بِالْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوِ ادْفَعُوا حَمِيَّةً، لِأَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُمْ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَدَ عَزَائِمَهُمْ مُنْحَلَّةً عَنْ ذَلِكَ، إِذْ لَا بَاعِثَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِنِفَاقِهِمْ، فَاسْتَدْعَى مِنْهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا عَنِ الْحَوْزَةِ، فَنَبَّهَ عَلَى مَا يُقَاتِلُ لِأَجْلِهِ: إِمَّا لِإِعْلَاءِ الدِّينِ، أَوْ لِحِمَى الذِّمَارِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ قُزْمَانَ: وَاللَّهِ مَا قَاتَلْتُ إِلَّا عَلَى أَحْسَابِ قَوْمِي. وَقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَأَى قُرَيْشًا تريع زَرْعَ قَنَاهُ: أَتَرْعَى زُرُوعَ بَنِي قِيلَةَ وَلَمَّا تَضَارَبُ، مع أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ لَا يُقَاتِلَ أحد حتى يأمره.
(1) سورة البقرة: 2/ 143.
وَأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ أَنَّهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَطَلَبَ مِنْهُمُ الشَّيْئَيْنِ: الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالدَّفْعَ عَنِ الْحَرِيمِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ. فَكُفَّارُ قُرَيْشٍ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقِيلَ لَهُمْ، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. قَسَّمَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُقَاتِلُوا لِلْآخِرَةِ، أَوْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى نَافَقُوا، فَيَكُونُ مِنَ الصِّلَةِ.
قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ إِنَّمَا لَمْ تَرِدْ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ اقْتَضَاهُ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْقِتَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا؟ فَقِيلَ: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ، وَنَعْلَمُ هُنَا فِي مَعْنَى عَلِمْنَا، لِأَنَّ لَوْ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِمَعْنَى الْمَاضِي إِذَا كَانَتْ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَمَضْمُونُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ عَلَّقُوا الِاتِّبَاعَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ عِلْمِ الْقِتَالِ، وَعِلْمُهُمْ لِلْقِتَالِ مُنْتَفٍ، فَانْتَفَى الِاتِّبَاعُ وَإِخْبَارُهُمْ بِانْتِفَاءِ عِلْمِ الْقِتَالِ مِنْهُمْ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ والمكايدة، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ عَسْكَرَانِ وَتَلَاقَيَا وَقَدْ قَصَدَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَعُدَدٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْعَسْكَرُ الْآخَرُ مِنْ بَلَدِهِمْ لِلِقَائِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بَلَدَهُمْ وَاثِقِينَ بِنَصْرِ اللَّهِ مُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أُولَئِكَ، أَنَّهُ سَيَنْشُبُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لَا مَحَالَةَ، فَأَنْكَرُوا عِلْمَ ذَلِكَ رَأْسًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ النِّفَاقِ وَالدَّغَلِ وَالْفَرَحِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْطِئَةِ لَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ رَمْيُ النُّفُوسِ فِي التَّهْلُكَةِ، إِذْ لَا مُقَاوَمَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ الْكُفَّارِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَ فِي الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ وَجَعْلِهَا ظَهْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ يَسْتَصْوِبُ الْخُرُوجَ كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ.
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ وَجْهُ الْأَقْرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْقُرْبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَلَمْ تَكُنْ تَظْهَرُ لَهُمْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا انْخَذَلُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا مَا قَالُوا زَادُوا قُرْبًا لِلْكُفْرِ، وَتَبَاعَدُوا عَنِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: هُمْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ أَقْرَبُ نُصْرَةً مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ تَقْلِيلَهُمْ سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ بِالِانْخِذَالِ تَقْوِيَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَأَقْرَبُ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهِيَ مِنَ الْقُرْبِ الْمُقَابِلِ لِلْبُعْدِ. وَيُعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ
وَبِمِنْ، فَيُقَالُ: زَيْدٌ أَقْرَبُ لِكَذَا، وَإِلَى كَذَا، وَمِنْ كَذَا مِنْ عَمْرٍو. فَمِنِ الْأُولَى لَيْسَتِ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا فِي نَحْوِ: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو. وَحَرْفَا الْجَرِّ هُنَا يَتَعَلَّقَانِ بِأَقْرَبَ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ. وَلَا بَدَلًا مِنْهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعَوَامِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. فَتَقُولُ: زَيْدٌ بِالنَّحْوِ أَبْصَرُ مِنْهُ بِالْفِقْهِ.
وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ. ومنهم مُتَعَلِّقٌ بِأَقْرَبَ أَيْضًا، وَالْجُمْلَةُ الْمُعَوَّضُ مِنْهَا التَّنْوِينُ هِيَ السَّابِقَةُ، أَيْ: هُمْ قَوْمٌ إِذْ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا حَكَى النَّقَّاشُ: إِلَى أَنَّ أَقْرَبَ لَيْسَ هُوَ هُنَا الْمُقَابِلُ لِلْأَبْعَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْقَرَبِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَهُوَ الْمَطْلَبُ، وَالْقَارِبُ طَالِبُ الْمَاءِ، وَلَيْلَةُ الْقَرَبِ لَيْلَةُ الْوِدَادِ، فَاللَّفْظَةُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ التَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّى بِإِلَى وَلَا بِمِنِ الَّتِي لَا تَصْحَبُ كُلَّ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَصَارَ نَظِيرَ زَيْدٌ أَقْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ بَكْرٍ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَضَمَّنَتِ النَّصَّ عَلَى كُفْرِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ اللَّهُ: أَقْرَبُ، فَهُوَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. كَقَوْلِهِ:«مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» «1» فَالزِّيَادَةُ لَا شَكَّ فِيهَا، وَالْمُكَلَّفُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِيمَانِ. فَلَمَّا دَلَّتْ عَلَى الْأَقْرَبِيَّةِ مِنَ الْكُفْرِ لَزِمَ حُصُولُ الْكُفْرِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْوَسِيطِ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَكْفُرْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُطْلِقِ الْقَوْلَ عَلَيْهِمْ بِتَكْفِيرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ مَعَ إِظْهَارِهِمْ لِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَقْرَبُ أَيْ أَلْزَمُ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَقْبَلَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، لَا عَلَى الْقُرْبِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «2» أَيْ هِيَ لَهُمْ لَا عَلَى الْقُرْبِ قَبْلَ الْوُجُودِ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَهْلَ نِفَاقٍ وَالْكُفْرُ لَمْ يُفَارِقْ قُلُوبَهُمْ وَمَا كَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، كَانَ بِظَاهِرِ اللِّسَانِ قَدْ يُفَارِقُهَا فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ، وُصِفُوا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا شَاكِّينَ فِي الْأَمْرِ، وَالشَّاكُّ فِي أَمْرِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَارِكٌ لِلْإِيمَانِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الكفر. أو من حيث قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ:«أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» «3» وَلِلْكَافِرِينَ: «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «4» أَوْ مِنْ حَيْثُ مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ كَذِبٌ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَذِبٌ. فَمَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ فَهُوَ
(1) سورة الصافات: 37/ 147.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 56.
(3)
سورة النساء: 4/ 141.
(4)
سورة النساء: 4/ 141.
كَذِبٌ إِلَى الْكَذِبِ الَّذِي هُمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الكفر، أو من حيث إِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ أَنْ يَعْرِفُوا. كَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ أَعْلَامًا يُعْرَفُونَ بِهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، بَلْ هُمْ عِبَادُ الْأَصْنَامِ لِاتِّخَاذِهِمْ لَهَا أَرْبَابًا، أَوْ لِتَقَرُّبِهِمْ بِهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ فَزِعُوا إِلَى اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ.
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا يَحْقِنُونَ بِهِ دِمَاءَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ أَهْلِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ، وَأَمْوَالَهُمْ مِنَ النَّهْبِ. وَلَيْسَ مَا يُظْهِرُونَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ، بَلْ هُوَ لَا يَتَجَاوَزُ أَفْوَاهَهُمْ وَمَخَارِجَ الْحُرُوفِ مِنْهَا، وَلَمْ تَعِ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. وَذِكْرُ الْأَفْوَاهِ مَعَ الْقُلُوبِ تَصْوِيرٌ لِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ مَوْجُودٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ مَعْدُومٌ فِي قُلُوبِهِمْ، بِخِلَافِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُوَاطَأَةِ عَقْدِ قُلُوبِهِمْ لِلَفْظِ أَلْسِنَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
بِأَفْوَاهِهِمْ تَوْكِيدٌ مِثْلُ: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ تَوْكِيدٌ، إِذِ الْقَوْلُ يَنْطَلِقُ عَلَى اللِّسَانِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ، فَهُوَ مُخَصَّصٌ لِأَحَدِ الِانْطِلَاقَيْنِ إِلَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى النَّفْسَانِيِّ مَجَازٌ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ تَوْكِيدًا لِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أَيْ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الدِّينِ. وَقَالَ: أَعْلَمُ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى بِهِمْ عِلْمُ إِحَاطَةٍ بِتَفَاصِيلِ مَا يَكْتُمُونَهُ وَكَيْفِيَّاتِهِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بَعْضَ ذَلِكَ عِلْمًا مُجْمَلًا.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ التَّوَعُّدَ الشَّدِيدَ لَهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى: تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَكْتُمُونَ.
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا هذه الآية نظير قوله: «وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» «1» الْآيَةَ وَفُسِّرَ الْإِخْوَانُ هُنَا بِمَا فُسِّرَ بِهِ هُنَاكَ. وَتَحْتَمِلُ لَامُ الْجَرِّ مَا احْتَمَلَتْهُ فِي تِلْكَ، وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ وُجُوهًا: الرَّفْعُ عَلَى النَّعْتِ لِلَّذِينِ نَافَقُوا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي يَكْتُمُونَ، وَالنَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ أَيْ: أَذُمُّ الَّذِينَ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِأَفْوَاهِهِمْ أَوْ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَعَدُوا حَالِيَّةٌ أَيْ: وَقَدْ قَعَدُوا. وَوُقُوعُ الْمَاضِي حَالًا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَصْحُوبًا بِقَدْ، أَوْ بِالْوَاوِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ دُونِهِمَا، ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ بِالسَّمَاعِ.
وَمُتَعَلِّقُ الطَّاعَةِ هُوَ تَرْكُ الْخُرُوجِ. وَالْقُعُودُ كَمَا قَعَدُوا هُمْ، وَهَذَا مِنْهُمْ قَوْلٌ بِالْأَجَلَيْنِ أَيْ: لَوْ وَافَقُونَا فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ مَا قُتِلُوا، كَمَا لَمْ نُقْتَلْ نَحْنُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: ما قتلوا بالتشديد.
(1) سورة آل عمران: 3/ 156.
قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْقَتْلُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ سَبِيلٌ إِلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ فَادْفَعُوا عَنْهَا الْمَوْتَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ فِي دعواكم.
والدرة: الدَّفْعُ، وَتَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ فِي قَوْلِهِ:«فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا» «1» وَقَالَ دَغْفَلٌ النَّسَّابَةُ:
صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ دَرْأً يَدْفَعُهُ
…
وَالْعِبْءُ لَا تَعْرِفُهُ أَوْ تَرْفَعُهُ
وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ التَّحَيُّلَ وَالتَّحَرُّزَ يُنْجِي مِنَ الْمَوْتِ، فَجِدُّوا أَنْتُمْ فِي دَفْعِهِ، وَلَنْ تَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُمْ بَعْضُ أَسْبَابِ الْمَنُونِ.
وَهَبْ أَنَّكُمْ عَلَى زَعْمِكُمْ دَفَعْتُمْ بِالْقُعُودِ هَذَا السَّبَبَ الْخَاصَّ، فَادْفَعُوا سَائِرَ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَهَذَا لا يمن لَكُمْ أَلْبَتَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : فَقَدْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ دَفَعُوا الْقَتْلَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْقُعُودِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟ (قُلْتَ) : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْقَتْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا الْقُعُودَ عَنِ الْقِتَالِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ. لِأَنَّ أَسْبَابَ النَّجَاةِ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ يَكُونُ قِتَالُ الرَّجُلِ نَجَاتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لَقُتِلَ، فَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّ سَبَبَ نَجَاتِكُمُ الْقُعُودُ وَأَنَّكُمْ صَادِقُونَ فِي مُقَاتَلَتِكُمْ وَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ غَيْرَهُ؟ وَوَجْهٌ آخَرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ: لَوْ أَطَاعُونَا وَقَعَدُوا مَا قُتِلُوا، يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَوْ أَطَاعُوكُمْ وَقَعَدُوا لَقُتِلُوا قَاعِدِينَ، كَمَا قُتِلُوا مقاتلين. وقوله: فادرؤا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ، اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ رِجَالًا دَفَّاعِينَ لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ فادرؤا جَمِيعَ أَسْبَابِهِ حَتَّى لَا تَمُوتُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ عَلَى طُولِهِ.
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قِيلَ: هُمْ قَتْلَى أُحُدٍ، وَقِيلَ: شُهَدَاءُ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ بَدْرٍ. وَهَلْ سَبَبُ ذَلِكَ قَوْلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ وَقَدْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَأَكَلَ مِنْ ثِمَارِهَا: مَنْ يُبَلِّغُ عَنَّا إِخْوَانَنَا أَنَّا فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ، لَا تَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ اللَّهُ: أَنَّا أُبَلِّغُ عَنْكُمْ، فَنَزَلَتْ. أَوْ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَسْتَشْهِدْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشُّهَدَاءِ:
إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ نَحْنُ فِي النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ، وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِي الْقُبُورِ، فَنَزَلَتْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ، أَيْ وَلَا تَحْسَبَنَّ أَيُّهَا السَّامِعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَهِشَامٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ، أَيْ:
(1) سورة البقرة: 2/ 72.
وَلَا يَحْسَبَنَّ هُوَ، أَيْ: حَاسِبٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَرَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِضَمِّ الْيَاءِ، فَالْمَعْنَى: وَلَا يُحْسَبَنَّ النَّاسُ انْتَهَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون الَّذِينَ قُتِلُوا فَاعِلًا، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا أَمْوَاتًا، أَيْ: لَا تَحْسَبَّنَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ فِي الْأَصْلِ مُبْتَدَأٌ فَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ فِي قَوْلِهِ:
أَحْيَاءٌ. وَالْمَعْنَى: هُمْ أَحْيَاءٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ:
وَلَا تَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا أَمْوَاتًا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ عَلَى مُفَسِّرِهِ، وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي أَمَاكِنَ لَا تَتَعَدَّى وَهِيَ بَابُ: رُبَّ بِلَا خِلَافٍ، نَحْوَ: رُبَّهُ رَجُلًا أَكْرَمْتُهُ، وَبَابُ نِعْمَ وَبِئْسَ فِي نَحْوِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَبَابُ التَّنَازُعِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ: ضَرَبَانِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ، وَضَمِيرِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ: هُوَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَبَابُ الْبَدَلِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ فِي نَحْوِ: مَرَرْتُ بِهِ زَيْدٌ، وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ الْمُفَسَّرُ خَبَرًا لِلضَّمِيرِ، وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «1» التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَمَشَّى عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ: يَجُوزُ حَذْفُ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتِصَارًا، وَحَذْفُ الِاخْتِصَارِ هُوَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ عِنْدَهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَذْفُهُ عَزِيزٌ جِدًّا، كَمَا أَنَّ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الْقُبْحِ انْتَهَى. قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ. وَقَدْ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَلْكُونَ الْحَضْرَمِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ اقْتِصَارًا، وَالْحُجَّةُ لَهُ وَعَلَيْهِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَمْنُوعًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَزِيزًا حَذْفُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. فَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْفَاعِلَ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ هُوَ أَيْ أَحَدٌ، أَوْ حَاسِبٌ أَوْلَى. وَتَتَّفِقُ الْقِرَاءَتَانِ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ ضَمِيرًا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِالْخِطَابِ والغيبة.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مَوْتِ الشُّهَدَاءِ وَحَيَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ «2» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ قُتِّلُوا بِالتَّشْدِيدِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: قَاتَلُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُتِلُوا مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الجمهور: بل
(1) سورة الأنعام: 6/ 29. [.....]
(2)
سورة البقرة: 2/ 154.
أَحْيَاءٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَحْيَاءً بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى مَعْنَى بَلْ احْسَبْهُمْ أَحْيَاءً انْتَهَى. وَتَبِعَ فِي إِضْمَارِ هَذَا الْفِعْلِ الزَّجَّاجَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى: بَلْ احْسَبْهُمْ أَحْيَاءً. وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِغْفَالِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقِينٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ فِيهِ بِمَحْسَبَةٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ لَهُ إِلَّا فِعْلُ الْمَحْسَبَةِ. فَوَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ أَنْ يُضْمِرَ فِعْلًا غَيْرَ الْمَحْسَبَةِ اعْتَقِدْهُمْ أَوِ اجْعَلْهُمْ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يُضْمَرُ انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ. وَقَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقِينٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ فِيهِ بِمَحْسَبَةٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَحْسَبَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْيَقِينِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَقَعُ حَسِبَ لِلْيَقِينِ كَمَا تَقَعُ ظَنَّ، لَكِنَّهُ فِي ظَنَّ كَثِيرٌ، وَفِي حَسِبَ قَلِيلٌ. وَمِنْ ذَلِكَ فِي حَسِبَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَسِبْتُ التُّقَى وَالْحَمْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ
…
رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
شَهِدْتُ وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتِنِي
…
فَقِيرًا إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا وَتَغِيبِي
فَلَوْ قُدِّرَ بَعْدَ: بَلْ احْسَبْهُمْ بِمَعْنَى اعْلَمْهُمْ، لَصَحَّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، لَا لِدَلَالَةِ لَفْظِ وَلَا تَحْسَبَنَّ، لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَدْلُولُ فَلَا يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ لَهُ إِلَّا فِعْلُ الْمَحْسَبَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِضْمَارُهُ أَضْمَرَ غَيْرَهُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ لَا اللَّفْظِ. وَقَوْلُهُ: أَوِ اجْعَلْهُمْ، هَذَا لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ اجْعَلْهُمْ بِمَعْنَى اخْلَقْهُمْ، أَوْ صَيِّرْهُمْ، أَوْ سَمِّهِمْ، أَوْ أَلْقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ ضَعِيفٌ أَيِ النَّصْبُ، وَقَوْلُهُ: إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يُضْمَرُ إِنْ عَنَى مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، بَلِ الْمَعْنَى يُسَوِّغُ النَّصْبَ عَلَى مَعْنَى أَعْتَقِدُهُمْ، وَهَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ حَسِبَ لَا يُذْهَبُ بِهَا مَذْهَبَ الْعِلْمِ.
وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ: بِالْمَكَانَةِ وَالزُّلْفَى، لَا بِالْمَكَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ، لِأَنَّ عِنْدَ تَقْتَضِي غَايَةَ الْقُرْبِ، وَلِذَلِكَ يَصْغُرُ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَصِفَةً، وَحَالًا. وَكَذَلِكَ يُرْزَقُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَالِثًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً ثَانِيَةً. وَقَدَّمَ صِفَةَ الظَّرْفِ عَلَى صِفَةِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْأَفْصَحَ هَذَا وَهُوَ: أَنْ يُقَدِّمَ الظَّرْفَ أَوِ الْمَجْرُورَ عَلَى الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَا وَصْفَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْوَصْفِ
بِالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ أَشْرَفُ مِنَ الْوَصْفِ بِالرِّزْقِ. وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الظَّرْفِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، هَذَا مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ.
وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ فِي التُّرَابِ، وَأَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ، حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ. فَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْيَاءٌ مُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ، إِذْ لَا يُرْزَقُ إِلَّا حَيٌّ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ لِمَنْ ذَمَّ رَجُلًا. بَلْ هُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ، فَتَجِيءُ بِاسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي تَرَكَّبَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِالْفَضْلِ انْتَهَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لَفْظَةَ أَحْيَاءٍ جِيءَ بِهَا مُجْتَلَبَةً لِذِكْرِ الرِّزْقِ، لِكَوْنِ الْحَيَاةِ مُشْتَرِكًا فِيهَا الشَّهِيدُ وَالْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِخْبَارُ بِحَيَاةِ الشُّهَدَاءِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْعُمُومِ حَيَّةٌ فاستفيد، أو لا حَيَاةُ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِحَيَاةِ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَيْضًا فَفِي ذِكْرِهِ النَّصُّ عَلَى نَقِيضِ مَا حَسِبُوهُ وَهُوَ: كَوْنُ الشُّهَدَاءِ أَمْوَاتًا. وَالْبُعْدُ عَنْ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ، مَا يَحْتَمِلُهُ الْمُضَارِعُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ. فَإِذَا سَبَقَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِبَاسِ بِالْوَصْفِ حَالَةَ الْإِخْبَارِ كَانَ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ حُكْمُهُ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِخْبَارِ أَنْ يَكُونَ مَنْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ فِي الْحَالِ، إِلَّا إِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى مُضِيٍّ أَوِ اسْتِقْبَالٍ مِنْ لَفْظٍ أَوْ مَعْنًى، فَيُصَارُ إِلَيْهِ.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مَسْرُورِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَدُخُولِ جَنَّتِهِ، وَرَزَقَهُمْ فِيهَا، إِلَى سَائِرِ مَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ: فَرِحِينَ، وَبَيْنَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» فِي قِصَّةِ قَارُونَ. لِأَنَّ ذَاكَ بِالْمَلَاذِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذَا بِالْمَلَاذُ الْأُخْرَوِيَّةُ.
ولذك جَاءَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وَجَاءَ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «2» .
وَمَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِ، أَيْ: مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مُتَسَبَّبٌ عَنْ فَضْلِهِ، فَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِآتَاهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، أَيْ: بِمَا آتَاهُمُوهُ اللَّهُ كَائِنًا مِنْ فَضْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِآتَاهُمْ. وَجَوَّزُوا فِي فَرِحِينَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُرْزَقُونَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْيَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَحْيَاءٍ إِذَا نصب.
(1) سورة القصص: 28/ 176.
(2)
سورة المطففين: 83/ 26.
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَهُمْ: جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ:
يَحْصُلُ لَهُمُ الْبُشْرَى بِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ، فَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ، مُسْتَبْشِرُونَ بِمَا يَحْصُلُ لِإِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ:
الزَّجَّاجُ وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: هُمُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَأْتُونَهُمْ بَعْدُ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ يُجَاهِدُونَ فَيَسْتَشْهِدُونَ، فَرِحُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، إِذْ يَصِيرُونَ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى طَلَبِ الْبِشَارَةِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى اسْتَغْنَى اللَّهُ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَيْسَتْ بِمَعْنَى طَلَبِ الْبِشَارَةِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ هِيَ بِمَعْنَى اسْتَغْنَى اللَّهُ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، فَيَعْنِي أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ كَاسْتَغْنَى بِمَعْنَى غَنِيَ، وَاسْتَمْجَدَ بِمَعْنَى مَجَّدَ، وَنُقِلَ أَنَّهُ يُقَالُ: بُشِّرَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الشِّينِ، فَيَكُونُ اسْتَبْشَرْ بِمَعْنَاهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطَاوِعًا لِأَفْعَلَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: أَبْشَرَهُ اللَّهُ فَاسْتَبْشَرَ، كَقَوْلِهِمْ: أَكَانَهُ فَاسْتَكَانَ، وَأَشْلَاهُ فَاسْتَشْلَى، وَأَرَاحَهُ فَاسْتَرَاحَ، وَأَحْكَمَهُ فَاسْتَحْكَمَ، وَأَكَنَّهُ فَاسْتَكَنَّ، وَأَمَرَهُ فَاسْتَمَرَّ، وَهُوَ كَثِيرٌ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْأَظْهَرُ هُنَا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمُطَاوَعَةِ يَكُونُ مُنْفَعِلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَحَصَلَتْ لَهُ الْبُشْرَى بِإِبْشَارِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ. وَمَعْنَى: مِنْ خَلْفِهِمْ، قَدْ بَقُوا بَعْدَهُمْ، وَهُمْ قَدْ تَقَدَّمُوهُمْ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى بِالَّذِينِ لَمْ يَلْحَقُوا الشُّهَدَاءَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ: لَمْ يُدْرِكُوا فضلهم ومنزلتهم.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ وَيَسْتَبْشِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فَرِحِينَ وَمُسْتَبْشِرِينَ كَقَوْلِهِ: «صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ» «1» أَيْ قَابِضَاتٍ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِهِمْ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ حَالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَرِحِينَ، أو من ضمير المفعولين فِي آتَاهُمْ، أَوْ لِلْعَطْفِ. وَيَكُونُ مُسْتَأْنَفًا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى نَظِيرِهَا.
وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِلَا. وَإِنَّ مَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من الَّذِينَ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُسْتَبْشَرُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَيَكُونُ عِلَّةً للاستبشار،
(1) سورة الملك: 67/ 19.