الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَزْرِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ. وَالْإِبْهَامُ: فِي زُيِّنَ لِلنَّاسِ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: فِي وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ. وَالْحَذْفُ: فِي مَوَاضِعَ، وَهِيَ كُلُّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَعْنَى بتقدير محذوف.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
الرِّضْوَانُ: مَصْدَرُ رَضِيَ، وَكَسْرُ رَائِهِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَضَمُّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَكْرٍ، وَقَيْسٍ، وَغَيْلَانَ. وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلِاسْمِ، وَمِنْهُ: رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ، وَالضَّمُّ لِلْمَصْدَرِ.
السَّحَرُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا، قَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: الْوَقْتُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: تَسَحَّرَ أَكْلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاسْتَحَرَ: سَارَ فِيهِ. قَالَ:
بَكَّرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرَتْ بِسَحْرَةٍ
…
فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وَاسْتَحَرَ الطَّائِرُ صَاحَ وَتَحَرَّكَ فِيهِ قَالَ:
يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أَنْيَابِهَا
…
إِذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَحِرْ
وَأَسْحَرَ الرَّجُلُ وَاسْتَحَرَ، دَخَلَ فِي السَّحَرِ. قَالَ:
وَأَدْلَجَ مِنْ طِيبَةَ مُسْرِعًا
…
فَجَاءَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَسْحَرَا
وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ السِّحْرُ: مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَشْعَارِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ السَّحَرَ يَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ فِيمَا بَعْدُ الْفَجْرِ. وَقِيلَ: السَّحَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ يَكُونُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ يَسْتَمِرُّ إِلَى الْإِسْفَارِ. وَأَصْلُ السَّحَرِ الْخَفَاءُ لِلِطْفَةٍ، وَمِنْهُ السحر والسحر.
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ نَزَلَتْ حين قال عمر عند ما نَزَلَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ «1» يَا رَبِّ الْآنَ حِينَ زَيَّنْتَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ «2» ذَكَرَ الْمَآبَ وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ خَيْرٌ خَالٍ مِنْ شَوْبِ الْمَضَارِّ، وَبَاقٍ لَا يَنْقَطِعُ. وَالْهَمْزَةُ فِي: أَؤُنَبِّئُكُمْ، الْأُولَى هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى هَمْزَةِ المضارعة. وقرىء فِي السَّبْعَةِ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَبِتَحْقِيقِهِمَا، وَإدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَبِتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا. وَنَقَلَ وَرْشٌ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ. وَبِتَسْهِيلِهَا وَإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ عَنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا، وَتَقْوِيَةٌ لِنُفُوسِ تَارِكِهَا وَتَشْرِيفٌ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَلَمَّا قَالَ: ذَلِكَ مَتَاعُ، فَأَفْرَدَ، جَاءَ: بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ، فَأَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ. فَهَذَا مُشَارٌ بِهِ إِلَى مَا أُشِيرَ بِذَلِكَ، و: خير، هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، وَيَكُونُ: مِنْ ذَلِكُمْ، صِفَةً لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا رَغِبُوا فِيهِ بَعْضًا مِمَّا زَهِدُوا فِيهِ.
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: بخير من ذلكم، و: جنات، خبر مبتدأ محذوف أي: هُوَ جَنَّاتٌ، فَتَكُونُ ذَلِكَ تَبْيِينًا لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: جَنَّاتٍ، بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنْ:
بِخَيْرٍ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرِجْلٍ زيد، بالرفع و: زيد بِالْجَرِّ، وَجَوَّزَ فِي قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ أَنْ يَكُونَ: جَنَّاتٌ، مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ: أَعْنِي، وَمَنْصُوبًا عَلَى الْبَدَلِ عَلَى مَوْضِعِ بِخَيْرٍ، لِأَنَّهُ نُصِبَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: لِلَّذِينَ، خَبَرًا لِجَنَّاتٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مُرْتَفِعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ، ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ الْخَيْرَ لِمَنْ هُوَ، فَعَلَى هَذَا الْعَامِلِ فِي: عِنْدَ رَبِّهِمْ، الْعَامِلُ فِي: لِلَّذِينَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْعَامِلِ فِيهِ قَوْلُهُ: بِخَيْرٍ.
خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَمَا قَبْلُهُ.
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْمَقِرِّ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ الَّتِي قَالَ فِيهَا وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «3»
«فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٌ»
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِهَا إِلَى ذِكْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأُنْسُ التَّامُّ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ اللذة
(2- 1) سورة آل عمران: 3/ 14.
(3)
سورة الزخرف: 43/ 71.
الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْفَرَحِ الرَّوْحَانِيِّ، حَيْثُ عَلِمَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْهُ،
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى:
«يَسْأَلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتِنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيَكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا.
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الِانْتِقَالُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، قَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْجَنَّاتَ وَالْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَةَ فَقَالَ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1» يُعْنَى أَكْبَرُ مِمَّا ذَكَرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَهْلُ الْجَنَّةِ مُطَهَّرُونَ لِأَنَّ الْعُيُوبَ فِي الْأَشْيَاءِ عِلْمُ الْفَنَاءِ، وَهُمْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِالطُّهْرِ لِمَا فِيهِنَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ فَضْلِ الْمَعَايِبِ وَالْأَذَى.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرِضْوَانٌ، بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي ثَانِي الْعُقُودِ، فَعَنْهُ خِلَافٌ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا، فَيُجَازِي كُلًا بِعَمَلِهِ، فَتَضَمَّنَتِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ أَفْهَمُ مُقَابِلَهُمْ فَخَتَمَ الْآيَةَ بِهَذَا.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ التَّقْوَى، وَذَكَرَ دُعَاءَهُمْ رَبَّهُمْ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ ب: إن، مُبَالَغَةً فِي الْإِخْبَارِ، ثُمَّ سَأَلُوا الْغُفْرَانَ وَوِقَايَتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مُرَتِّبًا ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ مَنْ تَابَ وَأَطَاعَ اللَّهَ لَا يُدْخِلُهُ النَّارَ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، فَكَانَ يَكُونُ السُّؤَالُ فِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَنَظِيرُهَا، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً «2» الْآيَةَ، فَالصِّفَاتُ الْآتِيَةُ بَعْدَ هَذَا لَيْسَتْ شَرَائِطَ بَلْ هِيَ صِفَاتٌ تَقْتَضِي كَمَالَ الدَّرَجَاتِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَدَحَهُمْ تَعَالَى بِهَذَا الْقَوْلِ، وَفِيهِ تَزْكِيَةُ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِالطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «3» فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ اسْمًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمُ التَّزْكِيَةَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا لَمْ يَرْضَهَا بِسَائِرِ الطاعات، فالآية حجة على مَنْ جَعَلَ الطَّاعَاتِ مِنَ الإيمان،
(1) سورة براءة (التوبة) : 9/ 72.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 193.
(3)
سورة النجم: 53/ 32.
وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِدْخَالَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ رَضِيَهُ مِنْهُمْ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ.
انْتَهَى.
قِيلَ: وَلَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَلَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، هُوَ اعْتِرَافٌ بِمَا أُمِرُوا بِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَزْكِيَةً مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ، لَا فِيمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ، وَلَا قَائِلٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ الْعَبْدُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا.
وَأُعْرِبَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، صِفَةً وَبَدَلًا وَمَقْطُوعًا لِرَفْعٍ أَوْ لِنَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ: الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» أَوْ مِنْ تَوَابِعِ: الْعِبَادِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ لَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ بِالْقَوْلِ، أَخْبَرَ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى مَا هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهَا مِنَ التَّكَالِيفِ، فَصَبَرُوا عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَةِ، وَعَنِ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى مُطَابَقَةِ الِاعْتِقَادِ فِي الْقَلْبِ لِلَّفْظِ النَّاطِقِ بِهِ اللِّسَانُ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ:
رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا وَفِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ.
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ بِوَصْفِ الْقُنُوتِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ «2» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، ثُمَّ بِوَصْفِ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي نَفْعُهَا مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا لَا يَتَعَدَّى، فَأَتَى فِي هَذَا بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ، وَحُذِفَتْ مُتَعَلِّقَاتُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِلْعِلْمِ بِهَا، فَالْمَعْنَى: الصَّابِرِينَ عَلَى تَكَالِيفِ رَبِّهِمْ، وَالصَّادِقِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَالْقَانِتِينَ لِرَبِّهِمْ، وَالْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ اللَّهَ لِذُنُوبِهِمْ فِي الْأَسْحَارِ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ رَتَّبُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى، أَخْبَرَ أَيْضًا عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ عِنْدَ اتِّصَافِهِمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ، هُمْ مُسْتَغْفِرُونَ بِالْأَسْحَارِ، فَلَيْسُوا يَرَوْنَ اتِّصَافَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ مِمَّا يُسْقِطُ عَنْهُمْ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ، وَخَصَّ السَّحَرَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَغْفِرِينَ دَائِمًا، لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ الإجابة، كما صح
(1) سورة البقرة: 2/ 212. وآل عمران: 3/ 198، والأعراف: 7/ 201 والرعد: 13/ 35 والنحل:
16/ 628 ومريم: 19/ 72 والزمر: 39/ 20 و 61 و 73.
(2)
سورة البقرة: 2/ 116 والروم: 30/ 26.
وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ يَتَحَرَّوْنَ الْأَسْحَارَ لِيَسْتَغْفِرُوا فِيهَا، وَكَانَ السَّحَرُ مُسْتَحَبًّا فِيهِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَقُّ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِغْفَاءَةَ الْفَجْرِ مِنْ أَلَذِّ النَّوْمِ؟! وَلِأَنَّ النَّفْسَ تَكُونُ إِذْ ذَاكَ أَصْفَى، وَالْبَدَنَ أَقَلُّ تَعَبًا، وَالذِّهْنَ أَرَقُّ وَأَحَدُّ، إِذْ قَدْ أَجَمَّ عَنِ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ بِسُكُونِ بَدَنِهِ، وَتَرَكَ فِكْرَهُ بِانْغِمَارِهِ فِي وَارِدِ النَّوْمِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَيَحْسُنُ طَلَبُ الْحَاجَةِ فِيهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1» انْتَهَى. وَمَعْنَاهُ، عَنِ الْحَسَنِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الْخَمْسَةُ هِيَ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وَهُمُ: الْمُؤْمِنُونَ، وَعُطِفَتْ بِالْوَاوِ وَلَمْ تُتْبَعْ دُونَ عَطْفٍ لِتَبَايُنِ كُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَةٍ، إِذْ لَيْسَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَنْزِلُ تَغَايُرُ الصِّفَاتِ وَتَبَايُنُهَا مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ فَعُطِفَتْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاوُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الصِّفَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِهِمْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ الْعَطْفَ فِي الصِّفَةِ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الصَّابِرِينَ: صَبَرُوا عَنِ المعاصي. وقيل: عن المصائب. وَقِيلَ: ثَبَتُوا عَلَى الْعَهْدِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: هُمُ الصَّائِمُونَ.
وَقَالُوا فِي الصَّادِقِينَ: فِي الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ: فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالنِّيَّةِ. وَقِيلَ: فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.
وَقَالُوا فِي الْقَانِتِينَ: الْحَافِظِينَ لِلْغَيْبِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَائِمِينَ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَقِيلَ:
الْقَائِمِينَ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: الدَّاعِينَ الْمُتَضَرِّعِينَ. وَقِيلَ: الْخَاشِعِينَ. وَقِيلَ: الْمُصَلِّينَ.
وَقَالُوا فِي الْمُنْفِقِينَ: الْمُخْرِجِينَ الْمَالَ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. وَقِيلَ: فِي الْجِهَادِ. وَقِيلَ:
فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ. وَقَالَ ابْنُ قتيبة: في الصدقات.
وقالوا في المستغفرين: السائلين الْمَغْفِرَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَقَتَادَةُ: السَّائِلِينَ الْمَغْفِرَةَ وَقْتَ فَرَاغِ الْبَالِ وَخِفَّةِ الْأَشْغَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا:
الْمُصَلِّينَ بِالْأَسْحَارِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُصَلِّينَ الصبح في جماعة.
(1) سورة فاطر: 35/ 10.
وَهَذَا الَّذِي فَسَّرُوهُ كُلُّهُ مُتَقَارِبٌ.
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ سَبَبُ نُزُولِهَا
أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنَ الشَّامِ قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ الْخَارِجِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، ثُمَّ عَرَفَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّعْتِ، فَقَالَا: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَقَالَا: أَنْتَ أَحْمَدُ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» . فَقَالَا: نَسْأَلُكَ عَنْ شَهَادَةٍ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا آمَنَّا. فَقَالَ: «سَلَانِي» فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ، وَأَسْلَمَا.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَرَّتْ سُجَّدًا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا فِي أَمْرِ عِيسَى.
وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا تَرَكُوا اسْمَ الْإِسْلَامِ وَتُسَمَّوْا بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: دِينُنَا أَفْضَلُ مِنْ دِينِكَ، فَنَزَلَتْ.
وَأَصْلُ: شَهِدَ، حَضَرَ، ثُمَّ صُرِفَتِ الْكَلِمَةُ فِي أَدَاءِ مَا تَقَرَّرَ عِلْمُهُ فِي النَّفْسِ، فَأَيُّ وَجْهٍ تَقَرَّرَ مِنْ حُضُورٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَقِيلَ: مَعْنَى: شَهِدَ، هُنَا: أَعْلَمَ. قَالَهُ الْمُفَضَّلُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: قَضَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَكَمَ، وَقِيلَ: بَيَّنَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شَهِدَ بِإِظْهَارِ صُنْعِهِ.
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
…
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شُبِّهَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَبِمَا أَوْحَى مِنْ آيَاتِهِ النَّاطِقَةِ بِالتَّوْحِيدِ كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ فِي الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَاحْتِجَاجُهُمْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: ذِكْرُ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِشَهَادَةِ مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ «1» انْتَهَى.
وَمُشَارَكَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ عطفا عليه لصحة
(1) سورة الأنفال: 8/ 1.
نِسْبَةِ الْإِعْلَامِ، أَوْ صِحَّةِ نِسْبَةِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّةُ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِظْهَارَهُ تَعَالَى بِخَلْقِ الدَّلَائِلِ، وَإِظْهَارَ الْمَلَائِكَةِ بِتَقْرِيرِهَا لِلرُّسُلِ، وَالرُّسُلِ لِأُولِي الْعِلْمِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: شَهَادَةُ اللَّهِ بَيَانُهُ وَإِظْهَارُهُ، وَالشَّاهِدُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي بَيَّنَ مَا عَلِمَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ دَلَالَاتِ التَّوْحِيدِ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِ:
لُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
«1» أَيْ: أَقْرَرْنَا. فَنَسَّقَ شَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَهَادَةِ اللَّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَعْنًى، لِتَمَاثُلِهِمَا لَفْظًا. كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» لِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالدُّعَاءُ. وَشَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَيَحْتَمِلُ التَّبْيِينَ، لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا وَبَيَّنُوا. انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: شهد الله، بمعنى: قال اللَّهُ، بِلُغَةِ قَيْسِ بْنِ غيلان.
وأُولُوا الْعِلْمِ قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَقِيلَ: مُؤْمِنُوَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَقِيلَ: عُلَمَاءُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْعِلْمِ: مَنْ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ عَالِمًا، لِأَنَّهُمْ يَنْقَسِمُونَ إِلَى: عَالِمٍ وَجَاهِلٍ، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ. فَإِنَّهُمْ فِي الْعِلْمِ سَوَاءٌ.
وأَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ: مَفْعُولُ: شَهِدَ، وَفَصَلَ بِهِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ، لِيَدُلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَةِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يُنَسَّقَانِ مُتَجَاوِرَيْنِ. وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَعِلْمُهُمْ كُلُّهُ ضَرُورِيٌّ، بِخِلَافِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ ضَرُورِيٌّ وَاكْتِسَابِيٌّ.
وَقَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: شُهِدَ، بِضَمِّ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ: أَنَّهُ، فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ أَيْ: شَهِدَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَأُلُوهِيَّتَهُ. وَارْتِفَاعُ: الْمَلَائِكَةُ، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوَ الْعِلْمِ يشهدون. وحذف الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ شَهِدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ فَإِنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَشَهِدَ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ.
وَقَرَأَ أَبُو الْمُهَلَّبِ، عَمُّ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ: شُهَدَاءَ اللَّهِ، عَلَى وَزْنِ: فُعَلَاءَ، جَمْعًا منصوبا.
(1) سورة الأنعام: 6/ 130.
(2)
سورة الأحزاب: 33/ 56. [.....]
قَالَ ابْنُ جِنِّي: عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْمُسْتَغْفِرِينَ. وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُوَ جَمْعُ شُهَدَاءَ، وَجَمْعُ شَاهِدٍ: كَظُرَفَاءَ وَعُلَمَاءَ. وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي نَهِيكٍ: شُهَدَاءُ اللَّهِ، بِالرَّفْعِ أَيْ: هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ. وَفِي الْقِرَاءَتَيْنِ: شُهَدَاءُ، مُضَافٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ: شُهُدٌ بِضَمِّ الشِّينِ وَالْهَاءِ، جَمْعُ: شَهِيدٍ، كَنَذِيرٍ وَنُذُرٍ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَاسْمُ اللَّهِ مَنْصُوبٌ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ: أنه قرىء كَذَلِكَ بِضَمِّ الدَّالِ وَبِفَتْحِهَا مُضَافًا لِاسْمِ اللَّهِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَنَّهُ قرىء: شُهَدَاءُ لِلَّهِ، بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَنَصْبِهَا، وَبِلَامِ الْجَرِّ دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، فَوَجْهُ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِهِمْ، وَوَجْهُ رَفْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي شُهَدَاءَ، وجاز ذلك لوقوع الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ رَفْعِ الْمَلَائِكَةِ إِمَّا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ بِإِدْغَامِ: وَاوٍ، وَهُوَ فِي: وَاوِ، وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي: إِنَّهُ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَى: شَهِدَ، مَجْرَى:
قَالَ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ كَسَرَ إِنَّ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَعْمُولَ: شَهِدَ، هُوَ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1» وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ، إِذْ فِيهَا تَسْدِيدٌ لِمَعْنَى الْكَلَامِ وَتَقْوِيَةٌ، هَكَذَا خَرَّجُوهُ. وَالضَّمِيرُ فِي: أَنَّهُ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى: اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضمير الشَّأْنِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ إِذَا خَفَّفْتَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، لِأَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ لَمْ تَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ إِلَّا ضَرُورَةً، وَإِذَا عَمِلَتْ فِيهِ لَزِمَ حَذْفُهُ.
قَالُوا: وَانْتُصِبَ: قائِماً بِالْقِسْطِ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ: هُوَ، أَوْ مِنَ الْجَمِيعِ، عَلَى اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ صِفَةٌ لِلْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ. أَوْ: عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ: الْقَائِمُ، وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «2» أَيِ الْوَاصِبُ.
وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَيِّمًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَذَكَرَ السَّجَاوَنْدِيُّ: أَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ:
(1) سورة آل عمران: 3/ 19.
(2)
سورة النحل: 16/ 52.
قَائِمٌ، فَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ فَعَامِلُهَا شَهِدَ، إِذْ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَجْهِ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» . انْتَهَى. وَلَيْسَ مِنَ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
«2» وَلَا مِنْ بَابِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا. فَلَيْسَ قائِماً بِالْقِسْطِ بِمَعْنَى: شَهِدَ، وَلَيْسَ مؤكدا مضمون الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ فِي نَحْوِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، وَهُوَ زَيْدٌ شُجَاعًا. لَكِنْ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ قَلَقٌ فِي التَّرْكِيبِ، إِذْ يَصِيرُ كَقَوْلِكَ: أَكَلَ زَيْدٌ طَعَامًا وَعَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ جَائِعًا.
فَيَفْصِلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَفْعُولِ، وَبَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِالْمَفْعُولِ وَالْمَعْطُوفِ، لَكِنْ بِمَشِيئَةِ كَوْنِهَا كُلِّهَا مَعُمُولَةً لِعَامِلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ: هُوَ، فَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلْتُهُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ: شَهِدَ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ حَالًا مِنْ: هُوَ، فِي: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ! لِأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ لَا تَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ زِيَادَةٌ فِي فَائِدَتِهَا عَامِلٌ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا. انْتَهَى. وَيَعْنِي. أَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ لَا يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا النَّصْبَ شَيْئًا مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَقُّ، أَوْ نَحْوُهُ مُضْمَرًا بَعْدَ الْجُمْلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى مُلَازِمٍ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، أَوْ شَبِيهٍ بِالْمُلَازِمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْجُمْلَةِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ، فَيُقَدَّرُ الْفِعْلُ: أُحَقُّ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، نَحْوَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، أَيْ: أُحَقُّ شُجَاعًا. وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنْ غَيْرِهِ نَحْوَ: هُوَ زَيْدٌ شُجَاعًا، فَتَقْدِيرُهُ: أُحَقُّهُ شُجَاعًا.
وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ الْخَبَرُ بِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى الْمُسَمَّى، وَذَهَبَ ابْنُ خَرُوفٍ إِلَى أَنَّهُ الْمُبْتَدَأُ بِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى التَّنْبِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْجَمِيعِ، عَلَى مَا ذُكِرَ، فَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ: جَاءَ الْقَوْمُ رَاكِبًا، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَهَذَا لَا تقوله العرب.
(1) سورة البقرة: 2/ 91.
(2)
سورة مريم: 19/ 15.
وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ أَلَيْسَ مِنْ حَقِّ الْمُنْتَصِبِ عَلَى الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ،
«إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» .
إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نُدْعَى لِأَبٍ؟
قُلْتُ: قَدْ جَاءَ نَكِرَةً فِي قَوْلِ الْهُذَلِيِّ:
وَيَأْوِي إِلَى نِسْوَةٍ عُطْلٍ
…
وشعثا مَرَاضِيعَ مِثْلِ السَّعَالِي
انْتَهَى سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ. وَفِي ذَلِكَ تَخْلِيطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ، وَبَيْنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا، وَأَوْرَدَ مِثَالًا مِنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ: الْحَمْدُ لله الحميد، ومثالين من الْمَنْصُوبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَهُمَا:
«إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» .
إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نُدْعَى لِأَبٍ وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَةً، وَقَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهَا، وَقَدْ لَا يَصْلُحُ، وَقَدْ يَكُونُ نَكِرَةً كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وَقَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لَهَا نَحْوَ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غيرها
…
وجوه قرود يبتغي من يخادع
فَانْتَصَبَ: وُجُوهَ قُرُودٍ، عَلَى الذَّمِّ. وَقَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَقَارِعُ عَوْفٍ.
وَأَمَّا المنصوب على الاختصاص فنصبوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَكِرَةً وَلَا مُبْهَمًا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ، أَوْ بِالْعَلَمِيَّةِ، أَوْ بِأَيٍّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ، أَوْ مُشَارِكٍ فِيهِ، وَرُبَّمَا أَتَى بَعْدَ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ. وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَنْفِيِّ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَنْفِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ؟
قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ، فَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَتَّسِعُونَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، ثُمَّ قَالَ:
وَهُوَ أَوْجَهُ مِنِ انْتِصَابِهِ عَنْ فَاعِلِ: شَهِدَ، وَكَذَلِكَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ. انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ مَثَّلَ فِي الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: لَا رَجُلَ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا. وَيَعْنِي أَنَّ انْتِصَابَ:
قَائِمًا، عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: إِلَهَ، أَوْ لِكَوْنِهِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَدْحِ أَوْجَهُ مِنِ انْتِصَابِهِ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ: شَهِدَ، وَهُوَ اللَّهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ
بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ الْمَعْطُوفَانِ اللَّذَانِ هُمَا: الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، وَلَيْسَا مَعْمُولَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بل هما معمولان: لشهد، وَهُوَ نَظِيرُ: عَرَفَ زَيْدٌ أَنَّ هِنْدًا خَارِجَةٌ وَعَمْرٌو وَجَعْفَرٌ التَّمِيمِيَّةَ. فَيَفْصِلُ بَيْنَ هِنْدًا وَالتَّمِيمِيَّةَ بِأَجْنَبِيٍّ لَيْسَ دَاخِلًا فِيمَا عَمِلَ فِيهَا، وَفِي خَبَرِهَا بِأَجْنَبِيٍّ وَهُمَا: عَمْرٌو وَجَعْفَرٌ، الْمَرْفُوعَانِ بِعَرَفَ، الْمَعْطُوفَانِ عَلَى زَيْدٍ.
وَأَمَّا الْمِثَالُ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ وَهُوَ: لَا رَجُلَ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، فَلَيْسَ نَظِيرَ تَخْرِيجِهِ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ: لَا رَجُلَ، فَهُوَ تَابِعٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، فَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ.
عَلَى أَنَّ فِي جَوَازِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرًا، لأنه بدل، و: شجاعا، وَصْفٌ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ: إِذَا اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْوَصْفُ قُدِّمَ الْوَصْفُ عَلَى الْبَدَلِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا انْتِصَابُهُ عَلَى الْقَطْعِ فَلَا يَجِيءُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْبَصْرِيُّونَ.
وَالْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: شَهِدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ، فَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: هُوَ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: هُوَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِأَجْنَبِيٍّ. وَهُوَ الْمَعْطُوفَانِ، لِأَنَّهُمَا مَعْمُولَانِ لِغَيْرِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْمَعْطُوفِ هُوَ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعَطْفُ وَالْبَدَلُ قُدِّمَ الْبَدَلُ عَلَى الْعَطْفِ، لَوْ قُلْتَ جَاءَ زَيْدٌ وَعَائِشَةُ أَخُوكَ، لَمْ يَجُزْ. إِنَّمَا الْكَلَامُ: جَاءَ زَيْدٌ أَخُوكَ وَعَائِشَةُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جَازَ إِفْرَادُهُ بِنَصْبِ الْحَالِ دُونَ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعُمَرُ وَرَاكِبًا لَمْ يَجُزْ؟
قُلْتُ: إِنَّمَا جَازَ هَذَا لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ، كَمَا جَازَ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً «1» إِنِ انْتَصَبَ: نَافِلَةً، حَالًا عَنْ: يَعْقُوبَ، وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَهِنْدٌ رَاكِبًا، جَازَ لِتَمَيُّزِهِ بِالذُّكُورَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ فِي: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو رَاكِبًا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّ الْحَالَ قُيِّدَ فِيمَنْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ بِهِ الْفِعْلُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ قيدا فإنه يحمل
(1) سورة الأنبياء: 21/ 72.
عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَيَكُونُ رَاكِبًا حَالًا مِمَّا يَلِيهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَالِ وَالصِّفَةِ، لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو الطَّوِيلُ. لَكَانَ: الطَّوِيلُ، صِفَةً: لِعَمْرٍو، وَلَا تَقُولُ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّهُ يَلْبَسُ بَلْ لَا لَبْسَ فِي هَذَا، وَهُوَ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الْحَالُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي: نَافِلَةً، إِنَّهُ انْتَصَبَ حَالًا عَنْ: يَعْقُوبَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَنْ:
يَعْقُوبَ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: نَافِلَةً، مَصْدَرًا كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ. وَمَعْنَاهُ: زِيَادَةً، فَيَكُونُ ذَلِكَ شَامِلًا لِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا زِيدَا لِإِبْرَاهِيمَ بَعْدَ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ، إِذْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لَهُ إِسْحَاقُ عَلَى الْكِبَرِ، وَبَعْدَ أَنْ عَجَزَتْ سَارَّةُ وَأَيِسَتْ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَأَوْلَادُ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ مَدْيَانُ، وَيُقَالُ: مَدْيَنُ، وَيُشْنَاقُ، وَشُواحُ، وَهُوَ خَاضِعُ، وَرَمْرَانُ وَهُوَ مَحْدَانُ، وَمَدْنُ، وَيَقْشَانُ وَهُوَ مُصْعَبُ، فَهَؤُلَاءِ وَلَدُ إِبْرَاهِيمَ لِصُلْبِهِ. وَالْعَقِبُ الْبَاقِي مِنْهُمْ لِإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ لَا غَيْرُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُرَادُ، بِأُولِي الْعِلْمِ، الَّذِينَ عَظَّمَهُمْ هَذَا التَّعْظِيمَ حَيْثُ جَمَعَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَدْلِهِ؟
قُلْتُ: هُمُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَعَدْلَهُ بِالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. انْتَهَى.
وَيَعْنِي بِعُلَمَاءِ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ: الْمُعْتَزِلَةَ، وَهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا أَنْشَدَنَا شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ رحمه الله بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنْشَدَنَا الصَّاحِبُ أَبُو حَامِدٍ عَبْدُ الْحُمَيْدِ بْنُ هِبَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الْمُعْتَزِلِيُّ بِبَغْدَادَ لِنَفْسِهِ:
لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمْ أُخْفِ صُرْعَتِي
…
لَيْسَتْ كَمَا قَالَ فَتَى الْعَبْدِ
أَنْ أَنْصُرَ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ فِي
…
كُلِّ مَقَامٍ بَاذِلًا جُهْدِي
وَأَنْ أُنَاجِيَ اللَّهَ مُسْتَمْتِعًا
…
بِخَلْوَةٍ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ
وَإِنَّ أَتْيَهُ الدَّهْرَ كِبْرًا عَلَى
…
كُلِّ لَئِيمٍ أَصْعَرِ الْخَدِّ
لِذَاكَ أَهْوَى لَا فَتَاةَ وَلَا
…
خَمْرَ وَلَا ذِي مَيْعَةٍ نَهْدِ
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كُرِّرَ التَّهْلِيلُ تَوْكِيدًا وَقِيلَ: الْأَوَّلُ شَهَادَةُ اللَّهِ، وَالثَّانِي شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الْمَلَائِكَةِ عَنِ الْعَطْفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ رَافِعٍ، أَوْ عَلَى جَعْلِهِمْ مُبْتَدَأً، وَعَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَبَيْنَ التَّهْلِيلِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قائِماً بِالْقِسْطِ.
وَقِيلَ: الْأَوَّلُ جَارٍ مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَالثَّانِي جَارٍ مَجْرَى الْحُكْمِ وَقِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يَنْطَوِي عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ نَتِيجَتُهُمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَمَا شَهِدُوا بِهِ حَقٌّ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حَقٌّ، فَحَذَفَ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ كُلُّهُ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّمَا كَرَّرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ أَشْرَفُ مِنْ صِفَاتِ التَّمْجِيدِ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا مُشَارِكٌ فِي أَلْفَاظِهَا الْعَبِيدُ، فَيَصِحُّ وَصْفُهُمْ بِهَا، وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ أَلْفَاظُ التَّنْزِيهِ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ، وَأَبْلَغُ مَا وُصِفَ بِهِ مِنَ التَّنْزِيهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتَكْرِيرُهُ هُنَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِكَوْنِ الثَّانِي قَطْعًا لِلْحُكْمِ، كَقَوْلِكَ: أَشْهَدُ أَنْ زَيْدًا خَارِجٌ، وَهُوَ خَارِجٌ. وَالثَّانِي:
لِئَلَّا يَسْبِقَ بِذِكْرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِلَى قَلْبِ السَّامِعِ تَشْبِيهٌ، إِذْ قَدْ يُوصَفُ بِهِمَا الْمَخْلُوقُ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِمَا وَصَفَ بِهِ ذَاتَهُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعَدْلِ، يَعْنِي أَنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالِبُهُ إِلَهٌ آخَرُ، الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَعْدِلُ عَنِ الْعَدْلِ فِي أَفْعَالِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَحْوِيمٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَارْتَفَعَ: الْعَزِيزُ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف أي: والعزيز، عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قِيلَ:
وَلَيْسَ بِوَصْفٍ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْجَمْعِ عَلَيْهِ، بَلْ ذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْغَائِبِ كَهَذَا يُوصَفُ.
وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ: الْعَزِيزُ، أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ: هُوَ.
وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَامَ يَتَهَجَّدُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ قَالَهَا مِرَارًا، فَسُئِلَ، فَقَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَى، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ» .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ: الْعَزِيزُ، إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، و: الحكيم، إِشَارَةٌ، إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَهُمَا الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا مَعَهُمَا، لِأَنَّ كَوْنَهُ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الْحَاجَاتِ، فَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْمُهِمَّاتِ، وَقُدِّمَ الْعَزِيزُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَهَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُسْتَدِلِّ. انْتَهَى كلامه.