الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْ قُدْرَةِ التَّصَرُّفِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهَا، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِ مَنْ أَرَادَ، فَاخْتِصَاصُهُ بِالْفَضْلِ مَنْ شَاءَ، إِنَّمَا سَبَبُهُ الْإِرَادَةُ فَقَطْ، وَفُسِّرَ: الْفَضْلُ، هُنَا بِالنُّبُوَّةِ أَشْرَفُ أَفْرَادِهِ.
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ: يُفْرِدُ بِنُبُوَّتِهِ مَنْ يَشَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ الذِّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا وَتَفْسِيرُ مَا قَبْلَهُ فِي آخِرِ آيَةِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ «1» وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْبَدِيعِ: التَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ، وَالتَّكْرَارَ فِي: آمَنُوا وَآمِنُوا، وَفِي الْهُدَى، هُدَى اللَّهِ وَفِي: يُؤْتَى وَأُوتِيتُمْ، وفي: ان أفضل، وَذُو الْفَضْلِ. وَالتَّكْرَارَ أَيْضًا فِي: اسْمِ اللَّهِ، فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. وَالطِّبَاقَ: فِي آمِنُوا وَاكْفُرُوا، وَفِي وَجْهَ النَّهَارِ وَفِي آخِرَهُ، وَالِاخْتِصَاصَ. فِي: وَجْهَ النَّهَارِ، لِأَنَّهُ وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم، وآخره لِأَنَّهُ وَقْتُ خَلْوَتِهِمْ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ.
[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
(1) سورة البقرة: 2/ 105.
الدِّينَارُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ: ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ وَسَطِ الشَّعِيرِ، فَمَجْمُوعُهُ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَفَاؤُهُ بَدَلٌ مِنْ نُونٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ، قَالُوا: دَنَانِيرُ، وَأَصْلُهُ: دِنَّارِ، أُبْدِلَ مِنْ أَوَّلِ الْمِثْلَيْنِ، كَمَا أَبْدَلُوا مِنَ النُّونِ فِي ثَالِثِ الْأَمْثَالِ يَاءً فِي: تَظَنَّيْتُ. أَصْلُهُ تَظَنَّنْتُ، لِأَنَّهُ مِنَ الظَّنِّ، وَهُوَ بَدَلٌ مَسْمُوعٌ، وَالدِّينَارُ:
لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ تصرّفت فيه العرب وألقته بِمُفْرَدَاتِ كَلَامِهَا.
دَامَ: ثَبَتَ، وَالْمُضَارِعُ: يَدُومُ، فَوَزْنُهُ، فَعَلَ نَحْوَ قَالَ: يَقُولُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَتَمِيمٍ تَقُولُ: دِمْتَ، بِكَسْرِ الدَّالِ. قَالَ: وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمُضَارِعِ، يَقُولُونَ:
يَدُومُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ يَقُولُ: دُمْتَ تَدَامُ، مِثْلَ: نِمْتَ تَنَامُ، وَهِيَ لُغَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَزْنُ دَامَ، فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، نَحْوَ: خَافَ يَخَافُ. وَالتَّدْوِيمُ الِاسْتِدَارَةُ حَوْلَ الشَّيْءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَهَا فِي الْجَوِّ تَدْوِيمُ وَقَالَ عَلْقَمَةُ فِي وَصْفِ خَمْرٍ:
تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ صَالِبُهَا
…
وَلَا يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ
وَالدَّوَامُ: الدَّوَّارُ، يَأْخُذُ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ فَيَرَى الْأَشْيَاءَ تَدُورُ بِهِ. وَتَدْوِيمُ الطَّائِرِ فِي السَّمَاءِ ثُبُوتُهُ إِذَا صَفَّ وَاسْتَدَارَ. وَمِنْهُ: الْمَاءُ الدَّائِمُ، كَأَنَّهُ يَسْتَدِيرُ حَوْلَ مَرْكَزِهِ.
لَوَى الْحَبْلَ وَالْتَوَى: فَتَلَهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِرَاغَةِ فِي الْحُجَجِ وَالْخُصُومَاتِ، وَمِنْهُ:
لِيَانُ الْغَرِيمِ: وَهُوَ دَفْعُهُ وَمَطْلُهُ، وَمِنْهُ: خَصْمٌ أَلْوَى: شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، شُبِّهَتِ الْمَعَانِي بِالْأَجْرَامِ.
اللِّسَانُ: الْجَارِحَةُ الْمَعْرُوفَةُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: اللِّسَانُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَمَنْ ذَكَّرَ جَمَعَهُ أَلْسِنَةً وَمَنْ أَنَّثَ جَمَعَهُ أَلْسُنًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اللِّسَانُ بِعَيْنِهِ لَمْ نَسْمَعْهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مُذَكَّرًا.
انْتَهَى. وَيُعَبَّرُ بِاللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَيْضًا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ.
الرَّبَّانِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ، وَزِيدَتِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ مُبَالَغَةً. كَمَا قَالُوا: لَحْيَانِيٌّ،
وَشَعْرَانِيٌّ، وَرَقْبَانِيٌّ. فَلَا يُفْرِدُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ يَاءِ النِّسْبَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى رَبَّانَ، وَهُوَ مُعَلِّمُ النَّاسِ وَسَائِسُهُمْ، وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ فِيهِ كَهِيَ فِي: غَضْبَانَ وَعَطْشَانَ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَيْهِ فَقَالُوا: رَبَّانِيٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ النَّسَبِ فِي الْوَصْفِ، كَمَا قَالُوا: أحمري في أحمر، و: دواري فِي دَوَّارِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
دَرَسَ الْكِتَابَ يَدْرُسُهُ: أَدْمَنَ قِرَاءَتَهُ وَتَكْرِيرَهُ، وَدَرَسَ الْمَنْزِلُ: عَفَا، وَطَلَلٌ دَارِسٌ:
عَافٍ.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَمِّ الْخَوَنَةِ مِنْهُمْ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَنْ يُؤْتَمَنُ فَيَفِي وَمَنْ يُؤْتَمَنُ فَيَخُونُ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ عَنَى بِهِ أَهْلَ الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ لَمْ يَقُلْهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ إِلَّا الْيَهُودُ.
وَقِيلَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ هُمُ النَّصَارَى لِغَلَبَةِ الْأَمَانَةِ عَلَيْهِمْ. وَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ هُمُ الْيَهُودُ لِغَلَبَةِ الْخِيَانَةِ عَلَيْهِمْ. وَعُيِّنَ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ:
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ هم مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ بَايَعَ بَعْضُ الْعَرَبِ بَعْضَ الْيَهُودِ وَأَوْدَعُوهُمْ فَخَانُوا مَنْ أَسْلَمَ، وَقَالُوا: قَدْ خَرَجْتُمْ عَنْ دِينِكُمُ الَّذِي عَلَيْهِ بَايَعْنَاكُمْ، وَفِي كِتَابِنَا: لَا حُرْمَةَ لِأَمْوَالِكُمْ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قِيلَ: وَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام، اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةً ذَهَبًا، فَأَدَّاهُ إِلَيْهِ. وَ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ دِينَارًا فَجَحَدَهُ وَخَانَهُ. انْتَهَى. وَلَا يَنْحَصِرُ الشَّرْطُ فِي ذَيْنِكَ الْمُعَيَّنَيْنِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرْدٌ مِمَّنْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ: مَنْ. أَلَا تَرَى كَيْفَ جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا قَالُوا وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: تَأْمَنْهُ، هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَا خِلَافٍ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَجَمَعَ الْأُمِّيِّينَ وَهُمْ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ.
وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: تِئْمَنْهُ، في الحرفين، و: تئمنا، فِي يُوسُفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مسعود، والأشهب العقيلي، وابن وَثَّابٍ: تِيمَنْهُ، بِتَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا، قَالَ الدَّانِيُّ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَأَمَّا إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً فِي: تِئْمَنْهُ، فَلِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا كَمَا أَبْدَلُوا فِي بِئْرٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ عَلَى حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ: فِعْلٍ، وَمِنْ: مَا أَوَّلَهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ نَسْتَعِينُ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَالَ: ابْنُ عَطِيَّةَ، حِينَ ذَكَرَ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ: وَمَا أَرَاهَا إِلَّا لُغَةً: قُرَشِيَّةً، وَهِيَ كَسْرُ نُونِ الْجَمَاعَةِ: كَنَسْتَعِينَ، وَأَلِفُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: لَا إِخَالَهُ، وَتَاءِ الْمُخَاطَبِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَكْسِرُونَ الْيَاءَ فِي الْغَائِبِ، وَبِهَا قَرَأَ أُبَيٌّ فِي: تِئْمَنْهُ. انْتَهَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يُكْسَرُ فِيهِ حُرُوفُ الْمُضَارَعَةِ بِقَانُونٍ كُلِّيٍّ، وَمَا ظَنَّهُ مِنْ أَنَّهَا لُغَةٌ قُرَشِيَّةٌ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي نَسْتَعِينُ «2» وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الْقِنْطَارِ، فِي قَوْلِهِ: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ «3» .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤَدِّهِ، بِكَسْرِ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ. وَقَرَأَ قَالُونَ بِاخْتِلَاسِ الْحَرَكَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ بِالسُّكُونِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا الْإِسْكَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ غَلَطٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّ الْهَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْزَمَ، وَإِذَا لَمْ تُجْزَمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ فِي الْوَصْلِ. وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَأَرَاهُ كَانَ يَخْتَلِسُ الْكَسْرَةَ، فَغَلَطٌ عَلَيْهِ كَمَا غَلِطَ عَلَيْهِ فِي:
بَارِئِكُمْ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ ضَابِطٌ لِمِثْلِ هَذَا، أَنَّهُ كَانَ يَكْسِرُ كَسْرًا خَفِيفًا. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ الْإِسْكَانَ غَلَطٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ هِيَ قِرَاءَةٌ فِي السَّبْعَةِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَكَفَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ إِمَامِ الْبَصْرِيِّينَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ صَرِيحٌ، وَسَامِعُ لُغَةٍ، وَإِمَامٌ فِي النَّحْوِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ عَنْهُ جَوَازُ مِثْلِ هَذَا.
وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ. وَحَكَى ذَلِكَ لُغَةً لِبَعْضِ الْعَرَبِ تَجْزِمُ فِي الْوَصْلِ وَالْقَطْعِ.
وَقَدْ رَوَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ لُغَةَ عَقِيلٍ وَكِلَابٍ: أَنَّهُمْ يَخْتَلِسُونَ الْحَرَكَةَ فِي هَذِهِ الْهَاءِ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ مُتَحَرِّكٍ، وَأَنَّهُمْ يُسَكِّنُونَ أَيْضًا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابَ عقيل وكلاب
(2- 1) سورة الفاتحة: 1/ 2.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 14.
يَقُولُونَ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «1» بِالْجَزْمِ، وَ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، بِغَيْرٍ تَمَامٍ وَلَهُ مَالٌ وَغَيْرُ عَقِيلٍ وَكِلَابٍ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمُ اخْتِلَاسٌ وَلَا سُكُونٌ فِي: لَهُ وَشَبَهِهِ، إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ.
لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتٌ حَادٌّ وَقَالَ:
إِلَّا لِأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا وَنَصَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ حَرَكَةَ هَذِهِ الْهَاءِ بَعْدَ الْفِعْلِ الذَّاهِبِ مِنْهُ حَرْفٌ لِوَقْفٍ أَوْ جَزْمٍ يَجُوزُ فِيهَا الْإِشْبَاعُ، وَيَجُوزُ الِاخْتِلَاسُ، وَيَجُوزُ السُّكُونُ. وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، يُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى ثَعْلَبٍ فِي كِتَابِهِ:(الْفَصِيحُ) مَوَاضِعَ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُهَا، وَرَدَّ النَّاسُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ فِي إِنْكَارِهِ، وَنَقَلُوهَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ.
وَمِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِ: أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ، وَكَانَ ثَعْلَبُ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَإِمَامًا فِي النَّحْوِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَنَقَلُوا أَيْضًا قِرَاءَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا ضَمُّ الهاء ووصلها بواو، وهي قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ، وَالْأُخْرَى: ضَمُّهَا دُونَ وَصْلٍ، وَبِهَا قَرَأَ سَلَّامٌ.
وَالْبَاءُ فِي: بِقِنْطَارٍ، وَفِي: بِدِينَارٍ قِيلَ: لِلْإِلْصَاقِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلَى، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ تَتَعَدَّى بِعَلَى، كَمَا قَالَ مَالِكٌ: لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ «2» وَقَالَ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ «3» وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي أَيْ: فِي حِفْظِ قِنْطَارٍ، وَفِي حِفْظِ دِينَارٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقِنْطَارَ وَالدِّينَارَ مِثَالَانِ لِلْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، فَيَدْخُلُ أَكْثَرُ مِنَ الْقِنْطَارِ وَأَقَلُّ. وَفِي الدِّينَارِ أَقَلُّ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أن يُرِيدَ طِبْقَهُ يَعْنِي فِي الدِّينَارِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي دِينَارٍ فَمَا زَادَ، وَلَمْ يَعْنِ بِذِكْرِ الْخَائِنِينَ فِي: أَقَلَّ، إِذْ هُمْ طُغَّامٌ حُثَالَةٌ. انْتَهَى.
وَمَعْنَى: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مُتَقَاضِيًا بِأَنْوَاعِ التَّقَاضِي مِنَ: الْخَفْرِ، وَالْمُرَافَعَةِ إِلَى الْحُكَّامِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هَيْئَةَ الْقِيَامِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِيَامِ الْمَرْءِ عَلَى أَشْغَالِهِ: أَيِ اجْتِهَادِهِ فِيهَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ وَهِيَ الْهَيْئَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَذَلِكَ نهاية الخفر، لأن
(1) سورة العاديات: 100/ 6.
(2)
سورة يوسف: 12/ 11.
(3)
سورة يوسف: 12/ 64.
مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي صَدَدِ شُغْلٍ آخَرَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَانْتَزَعُوا مِنَ الْآيَةِ جَوَازَ السِّجْنِ، لِأَنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ هُوَ يَمْنَعُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ فِي غَيْرِ الْقَضَاءِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَبَيْنَ السِّجْنِ. وَقِيلَ: قَائِمًا بوجهك فيهابك وَيَسْتَحِي مِنْكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى: دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، أَيْ: مُسْتَعْلِيًا، فَإِنِ اسْتَلَانَ جَانِبُكَ لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْكَ أَمَانَتَكَ.
وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ، وَطَلْحَةُ، وَغَيْرُهُمْ: دِمْتَ بِكَسْرِ الدَّالِّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مُضَارِعِهِ.
وَ: مَا، فِي: مَا دمت، مصدرية ظرفية. و: دمت، نَاقِصَةٌ فَخَبَرُهَا: قَائِمًا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ: مَا، مَصْدَرِيَّةً فَقَطْ لَا ظرفية، فتقدر بِمَصْدَرٍ، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ يَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَحْوَالِ لَا مِنَ الْأَزْمَانِ. قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا فِي حَالِ مُلَازَمَتِكَ لَهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: قَائِمًا، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، لا خبرا لدام، لِأَنَّ شَرْطَ نَقْصِ: دَامَ، أن يكون صلة لما الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
رُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحْلَالَ أَمْوَالِ. الْعَرَبِ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ أَوْثَانٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ، بَقِيَ الْيَهُودُ فِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَانِعَةً مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي، إلّا الأمانة فإنها مؤادّة إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» .
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْأَدَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَا يُؤَدِّهِ، أَيْ: كَوْنُهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ كَانَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي: بِأَنَّهُمْ، قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى لَفِيفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى: مَنْ، فِي قَوْلِهِ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ تَرَكَ الْأَدَاءَ فِي الدِّينَارِ فَمَا دُونَهُ وَفَمَا فَوْقَهُ كَائِنٌ بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَانِعِ لِلْأَدَاءِ الْخَائِنِ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْعَرَبُ. وَتَقَدَّمَ كَوْنُهُمْ سُمُّوا أُمِّيِّينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالسَّبِيلُ، قِيلَ: الْعِتَابُ وَالذَّمُّ. وَقِيلَ: الْحُجَّةُ عَلَى، نَحْوِ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
وَهَلْ أَنَا إِنْ عَلَلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ
…
مِنَ السَّرْحِ موجود عَلَيَّ طَرِيقُ
وَقَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقِيلَ: السَّبِيلُ هُنَا الْفِعْلُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِثْمِ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَرِيقٌ فِيمَا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْأُمِّيِّينَ.
قَالَ: وَسَبَبُ اسْتِبَاحَتِهِمْ لِأَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ أَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ بَاقُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِتَكْذِيبِ الْيَهُودِ لِلْقُرْآنِ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: لِأَنَّهُمُ انْتُقِضَ الْعَهْدُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ إِسْلَامِهِمْ، فَصَارُوا كَالْمُحَارِبِينَ، فَاسْتَحَلُّوا أَمْوَالَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي كِتَابِهِمْ أَخْذُ مَالِ مَنْ خَالَفَهُمْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ: الْأَمْوَالُ كُلُّهَا كَانَتْ لَنَا، فَمَا فِي أَيْدِي الْعَرَبِ مِنْهَا فَهُوَ لَنَا، وَأَنَّهُمْ ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِ أَمْوَالِنَا مِنْهُمْ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَجُلًا قال لابن عَبَّاسٍ: أَنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ: الشَّاةَ وَالدَّجَاجَةَ، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بَأْسٌ، فَقَالَ لَهُ:
هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَنَّهُمْ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ. وَذَكَرَ هَذَا الْأَثَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّاةِ أَوِ الدَّجَاجَةِ، قَالَ: فَيَقُولُونَ مَاذَا قَالَ؟ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بَأْسٌ.
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيِ الْقَوْلَ الْكَذِبَ يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ بِادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمَا: ادَّعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ إِحْلَالًا لَهُمْ أَمْوَالَ الْأُمِّيِّينَ كَذِبًا مِنْهَا وَهِيَ عَالِمَةٌ بِكَذِبِهَا، فَيَكُونُ الْكَذِبُ الْمَقُولُ هُنَا هُوَ هَذَا الْكَذِبَ الْمَخْصُوصَ فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، فَيَنْدَرِجُ هَذَا فِيهِ، أَيْ: هُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ وَهُمْ عُلَمَاءُ بِمَوْضِعِ الصِّدْقِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: عَلَيْنَا، خَبَرَ: لَيْسَ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ: فِي الْأُمِّيِّينَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى عَمَلِ: لَيْسَ، فِي الْجَارِّ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ: سَبِيلٌ، بعلينا، وَفِي: لَيْسَ، ضَمِيرُ الْأَمْرِ، ويتعلق: على الله، بيقولون بِمَعْنَى: يَفْتَرُونَ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حالا من الْكَذِبِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَذِبِ.
قِيلَ: لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَنْعِي عَلَيْهِمْ قَبِيحَ مَا يَرْتَكِبُونَ مِنَ الْكَذِبِ، أَيْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَبْعُدُ وَيَقْبُحُ أَنْ يُكْذَبَ فِيهِ، فَكِذْبُهُمْ لَيْسَ عَنْ غَفْلَةٍ وَلَا جَهْلٍ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ عِلْمٍ.
بَلى جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِدَعْوَاهِمْ، وَالْمَعْنَى: بَلَى عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: بَلَى، فِي قَوْلِهِ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِالْعَهْدِ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي نَقْضِهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّقَى هُنَا مَعْنَاهُ اتَّقَى الشِّرْكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ بعد بلى، وَ: مَنْ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، و: أوفى، لُغَةُ الْحِجَازِ. وَ: وَفَى، خَفِيفَةٌ لُغَةُ نَجْدٍ. وَ: وَفَّى، مُشَدَّدَةٌ لُغَةٌ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ اللُّغَاتِ.
وَالظَّاهِرُ فِي: بِعَهْدِهِ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى: مَنْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدْخُلُ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، الْعَهْدُ الْأَعْظَمُ مِنْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَوَاءٌ أُضِيفَ الْعَهْدُ إِلَى: مَنْ، أَوْ: إِلَى اللَّهِ، وَالشَّرَائِطُ لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ أَوِ الْجَزَائِيَّةِ بِمَنْ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمُتَّقِينَ، أَوْ مَا قَبْلَهُ، فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: يُحِبُّهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَأَتَى بِلَفْظِ: الْمُتَّقِينَ، عَامًّا تَشْرِيفًا للتقوى دحضا عَلَيْهَا.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ: أَبِي رَافِعٍ، وَكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. أَوْ:
فِيمَنْ حَرَّفَ نَعْتَهُ صلى الله عليه وسلم من الْيَهُودِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: فِي خُصُومَةِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَعَ يَهُودِيٍّ، أَوْ مَعَ بَعْضِ قَرَابَتِهِ. أَوْ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ مَسَاءً لَأُعْطِي بِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ كَذَا، يَمِينًا كَاذِبَةً، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ.
وَالْإِضَافَةُ فِي بِعَهْدِ اللَّهِ إِمَّا لِلْفَاعِلِ وَإِمَّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: بِعَهْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ من الإيمان
(1) سورة البقرة: 2/ 81. [.....]
بِالرَّسُولِ الَّذِي بُعِثَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَبِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي حَلَفُوهَا لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنَنْصُرَنَّهُ، أَوْ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا مِنَ الرُّشَى والتراؤس وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَا احْتَفَّ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْآيَاتِ الَّتِي بَعْدِهَا.
أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْ: لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، اعْتَاضُوا بِالْقَلِيلِ الْفَانِي عَنِ النَّعِيمِ الْبَاقِي، وَنَعْنِي: لَا نَصِيبَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ، نَفْيَ نَصِيبِ الْخَيْرِ عَنْهُ.
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُكَلِّمُهُمْ جُمْلَةً وَإِنَّمَا تُحَاسِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ، أَيْ: لَا يَحْفَلُ بِهِمْ، وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَقَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ شَرْحُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «1» .
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ وَالسُّخْطِ عَلَيْهِمْ، تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْظُرُ إِلَى فُلَانٍ، يُرِيدُ نَفْيَ اعْتِدَادِهِ بِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ وَفِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ.
قُلْتُ أَصْلُهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ الْكِنَايَةُ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَأَعَارَهُ نَظَرَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عِبَارَةً عَنِ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ، ثُمَّ جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مُجَرَّدًا لِمَعْنَى الْإِحْسَانِ مَجَازًا عَمَّا وَقَعَ كِنَايَةً عَنْهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا يَنْظُرُ. أَيْ: لَا يَرْحَمُ. قَالَ:
فَقُلْتُ انْظُرِي يَا أَحْسَنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ
…
لِذِي غَلَّةِ صَدْيَانَ قَدْ شَفَّهُ الْوَجْدُ
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ أَوْ لَا يُنَمِّي أَعْمَالَهُمْ، فَهِيَ تَنْمِيَةٌ لَهُمْ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَقَرَةِ.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ، قَالَهُ الْحَسَنُ: أَوْ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هم الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ.
وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عندهم.
(1) سورة البقرة: 2/ 174.
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أَيْ: يَفْتِلُونَهَا بِقِرَاءَتِهِ عَنِ الصَّحِيحِ إِلَى الْمُحَرَّفِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحَرِّفُونَ وَيَتَحَيَّلُونَ لِتَبْدِيلِ الْمَعَانِي مِنْ جِهَةِ اشْتِبَاهِ الْأَلْفَاظِ وَاشْتِرَاكِهَا وَتَشَعُّبِ التَّأْوِيلَاتِ فِيهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَاعِنَا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ التَّبْدِيلَ الْمَحْضَ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّيَّ وَقَعَ بِالْكِتَابِ أَيْ: بِأَلْفَاظِهِ لَا بِمَعَانِيهِ وَحْدَهَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلِ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ وَقَعَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَالْمَعَانِي تَبَعٌ لِلْأَلْفَاظِ، وَمَنْ طَالَعَ التَّوْرَاةَ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ التَّبْدِيلَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَشْيَاءَ يَجْزِمُ الْعَاقِلُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي كِتَابٍ إِلَهِيٍّ مِنْ كَثْرَةِ التَّنَاقُضِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَعْدَادِ وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَكْلِ وَالْمُصَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَذِبِ وَالسُّكْرِ مِنَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا بِبَنَاتِهِمْ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الَّتِي يُنَزِّهُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَتَّصِفَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَضْلًا عَنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ.
وَقَدْ صَنَّفَ الشيخ علاء الدين عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَطَّابٍ الْبَاجِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كِتَابًا فِي (السُّؤَالَاتِ عَلَى أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَمَعَانِيهِ) وَمَنْ طَالَعَ ذَلِكَ الْكِتَابَ رَأَى فِيهِ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ، وَجَزَمَ بِالتَّبْدِيلِ لِأَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَمَعَانِيهَا، هَذَا مَعَ خُلُوِّهَا مِنْ ذِكْرِ: الْآخِرَةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، وَالْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ الْأُخْرَوِيَّيْنِ، وَالتَّبْشِيرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرَ رَسُولَهُ وَصَحَابَتَهُ. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ «2» .
وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَقْتَضِي إِخْفَاءَهُمْ لِكَثِيرٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، قَالَ تَعَالَى:
قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً «3» وَقَالَ تَعَالَى يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «4» فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْفَوْهُ مِنَ الْكِتَابِ كَثِيرٌ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّ الَّذِي أَبْدَوْهُ من الكتاب قليل.
(1) سورة الأعراف: 7/ 157.
(2)
سورة الفتح: 48/ 29.
(3)
سورة الأنعام: 6/ 91.
(4)
سورة المائدة: 5/ 15.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَلْوُونَ، مُضَارِعُ: لَوَى وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَشَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ نَافِعٍ: يُلَوُّونَ بِالتَّشْدِيدِ، مُضَارِعُ: لَوَّى، مُشَدَّدًا. وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالتَّضْعِيفُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرُ فِي الْفِعْلِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: يَلُونَ، بِضَمِّ اللَّامِ، وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهَا رِوَايَةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَوُجِّهَتْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ:
يَلْوُونَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، وَحُذِفَتْ هِيَ.
وَالْكِتَابُ: هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالْمُخَاطَبُ في: لتحسبوه، المسلمون. وقرىء: لِيَحْسَبُوهُ، بِالْيَاءِ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ لَهُمْ، أَيْ: لِيَحْسَبَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ فِي: لِيَحْسَبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّفِ، أَيْ لِيَحْسَبُوا الْمُحَرَّفَ مِنَ الْكِتَابِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِالْكِتَابِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِشِبْهِ الْكِتَابِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «1» أَيْ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَأَعَادَ الْمَفْعُولَ فِي: يَغْشَاهُ، عَلَى: ذِي، الْمَحْذُوفِ.
وَما هُوَ: مِنَ الْكِتابِ أَيْ: وَمَا الْمُحَرَّفُ وَالْمُبَدَّلُ الَّذِي لَوُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَلَا تَظُنُّوا ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَأْكِيدٌ لِمَا قَصَدُوهُ مِنْ حُسْبَانِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَافْتِرَاءٍ عَظِيمٍ عَلَى اللَّهِ، إِذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ حَتَّى عَضَّدُوا ذَلِكَ بِالْقَوْلِ لِيُطَابِقَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِضُونَ، وَلَا يَوَدُّونَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ هَكَذَا، وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُوسَى كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لفرط جرأتهم عَلَى اللَّهِ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ.
وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي إِخْبَارِهِمْ بِالْكَذِبِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ نَفْيٌ أَوَّلًا أَخَصُّ، إِذِ التَّعْلِيلُ كَانَ لِأَخَصَّ، وَنَفْيٌ هُنَا أَعَمُّ، لِأَنَّ الدَّعْوَى مِنْهُمْ كَانَتْ الأعم، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولا
(1) سورة النور: 24/ 40.
مِنْ فِعْلِهِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ كَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى نَفْيًا عَامًّا لِكَوْنِ الْمَعَاصِي مِنْ عِنْدِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ الرَّازِيُّ يَجْنَحُ إِلَى مَذْهَبِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَفَى أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا كَمَا ادَّعَوْا، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالْإِيجَادِ، وَمِنْهُمْ بِالتَّكَسُّبِ. وَلَمْ تَعْنِ الْآيَةُ إِلَّا مَعْنَى التَّنْزِيلِ، فَبَطُلَ تَعَلُّقُ الْقَدَرِيَّةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا آنِفًا.
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
رُوِيَ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ الْقُرَظِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالْوَفْدُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ إِلَهًا كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى؟
فَقَالَ الرَّئِيسُ مِنْ نصارى نجران: أو ذاك تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَعَاذَ اللَّهِ مَا بِذَلِكَ أَمَرْتُ وَلَا إِلَيْهِ دَعَوْتُ» ، فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ:«لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ» .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى مَنْ هِيَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَجَمَاعَةٌ: الْإِشَارَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرُوا سَبَبَ النُّزُولِ الْمَذْكُورَ.
وَقَالَ النَّقَّاشُ، وَغَيْرُهُ: الْإِشَارَةُ إِلَى عِيسَى، وَالْآيَةُ رَادَّةٌ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا:
عِيسَى إِلَهٌ، وَادَّعَوْا أَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ شِرْعَةٌ مُسْتَنَدَةٌ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَمَعْنَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ وَمَا جَاءَ نَحْوَهُ أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ الْكَوْنَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّفْيِ التَّامِّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ:
مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «1» وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «2» .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِانْتِفَاءُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِفَاءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّفْيِ غَيْرِ التَّامِّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رضي الله عنه: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة النمل: 27/ 60.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 145.
وَمُدْرَكُ الْقِسْمَيْنِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ الَّذِي النَّفْيُ فِيهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي الْكَذَبَةَ وَالْمُدَّعِينَ النُّبُوَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.
وَالْكِتَابُ: هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَالْحُكْمُ: قِيلَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ،
وَمِنْهُ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحُكْمًا» .
وَقِيلَ: الْحُكْمُ هُنَا السَّنَةُ، يَعْنُونَ لِمُقَابَلَتِهِ الْكِتَابَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ هُنَا الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرَقِّي، بَدَأَ أَوَّلًا بِالْكِتَابِ وَهُوَ الْعِلْمُ، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى التَّمْكِينِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَهِيَ مَجْمَعُ الْخَيْرِ.
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: أَتَى بِلَفْظِ: ثُمَّ، الَّتِي هِيَ لِلْمُهْلَةِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْقَوْلِ، وَإِذَا انْتَفَى هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ الْمُهْلَةِ كَانَ انْتِفَاؤُهُ بِدُونِهَا أَوْلَى وَأَحْرَى، أَيْ: إِنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ الْعَظِيمَ لَا يُجَامِعُ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُهْلَةٍ مِنْ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ.
كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادًا جَمْعُ عَبْدٍ. قال ابن عطية: ومن جُمُوعِهِ: عَبِيدٌ وَعِبَدَّى. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: هَذِهِ الْجُمُوعُ كُلُّهَا بِمَعْنًى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعِبَادُ لِلَّهِ وَالْعَبِيدُ لِلْبَشَرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعِبَدَّى إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْعَبِيدِ بَنِي الْعَبِيدِ، كَأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْعُبُودِيَّةِ.
وَالَّذِي اسْتُقْرِئَتْ فِي لَفْظَةِ: الْعِبَادِ، أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ، مَتَى سِيقَتِ اللَّفْظَةُ فِي مِضْمَارِ التَّرْفِيعِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الطَّاعَةِ دُونَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعْنَى التَّحْقِيرِ وَتَصْغِيرِ الشَّأْنِ فَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «1» وعِبادٌ مُكْرَمُونَ «2» ويا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «3» وَقَوْلَ عِيسَى فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَالتَّعْرِيضِ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4» .
وَأَمَّا: الْعَبِيدُ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْقِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قُولَا لِدُودَانَ عَبِيدِ الْعَصَا
…
مَا غَرَّكُمْ بِالْأَسَدِ الْبَاسِلِ
وَمِنْهُ قَوْلُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، وَمِنْهُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «5» لِأَنَّهُ مَكَانُ تَشْقِيقٍ وَإِعْلَامٍ بِقِلَّةِ انْتِصَارِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ليس بظلام لهم
(1) سورة البقرة: 2/ 207 وآل عمران: 3/ 30.
(2)
سورة الأنبياء: 21/ 26.
(3)
سورة الزمر: 39/ 10.
(4)
سورة المائدة: 5/ 118.
(5)
سورة فصلت: 41/ 46.
مَعَ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ لَفْظَةُ الْعِبَادِ تَقْتَضِي الطَّاعَةَ، لَمْ يَقَعْ هُنَا، وَلِذَلِكَ أُنِسَ بِهَا فِي قَوْلِهِ:
قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّظَرِ يَسْلُكُ بِكَ سَبِيلَ الْعَجَائِبِ في حين فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ السَّلِيمَةِ، وَمَعْنَى قوله:
كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ اعْبُدُونِي وَاجْعَلُونِي إِلَهًا. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَفِيهِ بَعْضُ مُنَاقَشَةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ جُمُوعِهِ: عَبِيدٌ وَعِبَدَّى، أَمَّا عَبِيدٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَمْعٌ. وقيل: اسم جمع، و: أما عِبَدَّى فَاسْمُ جَمْعٍ، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ. وَأَمَّا مَا اسْتَقْرَأَهُ أَنَّ عِبَادًا يُسَاقُ فِي مِضْمَارِ التَّرْفِيعِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الطَّاعَةِ دُونَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعْنَى التَّحْقِيرِ وَالتَّصْغِيرِ، وَإِيرَادِهِ أَلْفَاظًا فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الْعِبَادِ، وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي تَحْقِيرٍ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَقَوْلَ حَمْزَةَ وَقَوْلَهُ تَعَالَى بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «2» فَلَيْسَ بِاسْتِقْرَاءٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ:
عِبَادٍ، دُونَ: عَبِيدٍ، لِأَنَّ فعالا في جمع فعل غَيْرِ الْيَائِيِّ الْعَيْنِ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى فَعِيلٍ لَا يَطَّرِدُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَرُبَّمَا جَاءَ فَعِيلًا وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوَ: الْكُلَيْبُ وَالْعَبِيدُ. انْتَهَى.
فَلَمَّا كَانَ فِعَالٌ هُوَ الْمَقِيسَ فِي جَمْعِ: عَبْدٍ، جَاءَ: عِبَادٌ، كَثِيرًا. وَأَمَّا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» فَحَسُنَ مَجِيئُهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقِيسًا أَنَّهُ جَاءَ لِتَوَاخِي الْفَوَاصِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «4» وَبَعْدَهُ قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ «5» فَحَسُنَ مَجِيئُهُ بِلَفْظِ الْعَبِيدِ مُوَاخَاةَ هَاتَيْنِ الْفَاصِلَتَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ ق: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «6» لِأَنَّ قَبْلَهُ قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ «7» وَبَعْدَهُ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ «8» وَأَمَّا مَدْلُولُهُ فَمَدْلُولُ: عِبَادٍ، سَوَاءً.
وَأَمَّا بَيْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ فَلَمْ يُفْهَمِ التَّحْقِيرُ مِنْ لَفْظِ: عَبِيدٍ، إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ إِضَافَتِهِمْ إِلَى الْعَصَا، وَمِنْ مَجْمُوعِ الْبَيْتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ حَمْزَةَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَى التَّحْقِيرِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَأَتَى فِي الْبَيْتِ، وَفِي وقل حَمْزَةَ عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ.
(1) سورة الزمر: 39/ 10. [.....]
(3- 2) سورة فصلت: 41/ 46.
(4)
سورة فصلت: 41/ 44.
(5)
سورة فصلت: 41/ 47.
(6)
سورة ق: 50/ 29.
(7)
سورة ق: 50/ 28.
(8)
سورة ق: 50/ 30.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثُمَّ يَقُولَ، بالنصب عطفا على: أن يُؤْتِيَهُ، وَقَرَأَ شِبْلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: ثُمَّ هُوَ يَقُولُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عِبَادًا لِي، بِتَسْكِينِ يَاءِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِفَتْحِهَا.
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ يَقُولُ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، وَالرَّبَّانِيُّ الْحَكِيمُ الْعَالِمُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَأَبُو رَزِينٍ. أَوِ: الْفَقِيهُ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ. أَوِ: الْعَالِمُ الْحَلِيمُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. أَوِ: الْحَكِيمُ الْفَقِيهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أو: الفقيه العلم، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. أَوْ: وَالِي الْأَمْرِ يُرَبِّيهِمْ وَيُصْلِحُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: الْحَكِيمُ التَّقِيُّ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أَوْ: الْمُعَلِّمُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوِ: الْعَالِمُ، قَالَهُ الْمِبْرَدُ. أَوِ: التَّائِبُ لِرَبِّهِ، قَالَه الْمُؤَرِّجُ. أَوِ: الشَّدِيدُ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوِ: الْعَالِمُ الْحَكِيمُ النَّاصِحُ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ، قَالَهُ عَطَاءٌ. أَوِ: الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِعِلْمِهِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أَوْ: الْعَالِمُ الْمُعَلِّمُ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
وَلِلصُّوفِيَّةِ فِي تفسيره أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّ فَوْقَ الْحَبْرِ، لِأَنَّ الْحَبْرَ هُوَ الْعَالِمُ، وَالرَّبَّانِيَّ الَّذِي جَمَعَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ النَّظَرَ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِ الرَّعِيَّةِ وَمَا يُصْلِحُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصَغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَجُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي الرَّبَّانِيِّ: إِنَّهُ الْعَالِمُ الْمُصِيبُ فِي التَّقْدِيرِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا فِي النَّاسِ انْتَهَى. وَلَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، وَ: مَا، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مصدرية، و: تعلمون، مُتَعَدٍ لِوَاحِدٍ عَلَى قِرَاءَةِ الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بِالتَّخْفِيفِ مُضَارِعُ عَلِمَ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتَحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، إِذْ هِيَ مَنْقُولَةٌ بِالتَّضْعِيفِ مِنَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى وَاحِدٍ، وَأَوَّلُ الْمَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْكِتَابَ. وَتَكَلَّمُوا فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنِّي لَا أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِيحِ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَنْقُولَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ قرآنا، فَلَا تَرْجِيحَ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.