الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَحْبَارِ إِلَى الْإِيمَانِ حَسَبَ مَا فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا، فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: هُوَ الصَّرْفُ عَنِ الْحَقِّ، وَفِي: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، أُطْلِقَ اسْمُ الذَّوْقِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِحَاسَّةِ اللِّسَانِ وَسَقْفِ الْحَلْقِ عَلَى وُصُولِ الْأَلَمِ لِلْقَلْبِ. وَالطِّبَاقُ فِي: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، وَالْوَجْهُ ضِدُّ الْقَفَا، وَفِي: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَفِي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَفِي: مَنْ آمَنَ وَمَنْ صَدَّ، وَهَذَا طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ.
وَالِاسْتِطْرَادُ فِي: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: يَغْفِرُ، وَفِي: لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي: لَفْظِ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وَفِي: فَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، وَفِي: جلودهم وجلودا، وفي: سندخلهم وندخلهم. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا وَفِي:
لَا يَغْفِرُ وَيَغْفِرُ، وَفِي: لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ، وفي: لا يؤتون ما آتَاهُمُ آتَيْنَا وَآتَيْنَاهُمْ وَفِي: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَآمَنُوا أَهْدَى. وَالتَّعَجُّبُ: بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ.
وَتَلْوِينُ الْخِطَابِ فِي: يَفْتَرُونَ أَقَامَ الْمُضَارِعَ مَقَامَ الْمَاضِي إِعْلَامًا أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ فِي: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ وَفِي: أَمْ يَحْسُدُونَ.
وَالْإِشَارَةُ فِي: أُولَئِكَ الَّذِينَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ.
وَالتَّعْرِيضُ في: فإذن لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا عَرَّضَ بِشِدَّةِ بُخْلِهِمْ. وَإِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ إِذًا فُسِّرَ بِالرَّسُولِ، وَإِقَامَةُ الْمُنَكَّرِ مَقَامَ الْمُعَرَّفِ لِمُلَاحَظَةِ الشُّيُوعِ. وَالْكَثْرَةُ فِي: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: عَزِيزًا حَكِيمًا. وَالْحَذْفُ فِي: مَوَاضِعَ.
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَاّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
الزَّعْمُ: قَوْلٌ يَقْتَرِنُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الظَّنِّيُّ. وَهُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلَ فِيكُمْ
…
فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحُلْمَ بَعْدَكَ بِالْجَهْلِ
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الْبَاطِلِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» .
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ
…
كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ
فَقَالَ الْمَمْدُوحُ وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّعْمُ وَحَرَمَهُ. وَإِذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ، فَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا انْفَرَدَ الْخَلِيلُ بِهِ، وَكَانَ أَقْوَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي زَعْمِ أَنْ تُوقَعَ عَلَى أَنْ قَالَ، قَالَ. وَقَدْ تُوقَعُ فِي الشِّعْرِ عَلَى الِاسْمِ. وَأَنْشَدَ بَيْتَ أَبِي ذُؤَيْبٍ هَذَا وَقَوْلَ الْآخَرِ:
زَعَمَتْنِي شَيْخًا وَلَسْتُ بِشَيْخِ
…
إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبًا
وَيُقَالُ: زَعَمَ بِمَعْنَى كَفَلَ، وَبِمَعْنَى رَأَسَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ مَرَّةً، وَبِحَرْفِ جَرٍّ أُخْرَى. وَيُقَالُ: زَعَمَتِ الشَّاةُ أَيْ سَمِنَتْ، وَبِمَعْنَى هَزَلَتْ، وَلَا يَتَعَدَّى. التَّوْفِيقُ: مَصْدَرُ وَفَقَ، وَالْوِفَاقُ وَالْوَفْقُ ضِدَّ الْمُخَالَفَةِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا
رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ مَا ذَكَرُوا فِي قِصَّةٍ مُطَوَّلَةٍ مَضْمُونُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ مِنْ سَادِنِيهَا عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بَعْدَ تَأَبٍّ مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ، فَسَأَلَ الْعَبَّاسُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ السِّقَايَةِ وَالسِّدَانَةِ، فَنَزَلَتْ. فَرَدَّ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِمَا وَأَسْلَمَ عُثْمَانُ. وَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم:«خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَأْخُذُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ» .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ: زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَكْحُولٌ، وَاخْتَارَهُ أَبُو
سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ فِيمَا ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ رَعِيَّتِهِ. وَقِيلَ:
نَزَلَتْ عَامِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ: أُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ، نَبَّهَ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِمَا كَانَ أَحْرَى أَنْ يَتَّصِفَ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَحَدُهُمَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْحُكْمِ الْعَدْلِ الْخَالِي عَنِ الْهَوَى، وَهُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ أَنْ يَبْدَأَ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِحَالِ غَيْرِهِ، أُمِرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ بِالْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ. وَالظَّاهِرُ فِي: يَأْمُرُكُمْ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ أَسْلَمَ، وَشَهْرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: خِطَابٌ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَهُوَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَرَائِهِ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْوُلَاةِ أَنْ يَعِظُوا النِّسَاءَ فِي النُّشُوزِ وَنَحْوَهُ، وَيَرُدُّوهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاجِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ أُمِرُوا بِرَدِّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمَانَةِ، مِنْ نَعْتِ الرَّسُولِ أَنْ يُظْهِرُوهُ لِأَهْلِهِ، إِذِ الْخِطَابُ مَعَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَقَلَ التَّبْرِيزِيُّ: أَنَّهَا خِطَابٌ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا بِحِفْظِ الْغَنَائِمِ وَوَضْعِهَا فِي أَهْلِهَا. وَقِيلَ: ذَلِكَ عَامٌّ فِيمَا كَلَّفَهُ الْعَبْدُ مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ فِيمَا إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَرَدِّ الظُّلَامَاتِ، وَعَدْلِ الْحُكُومَاتِ. وَمِنْهُ دُونَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي الْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِي، وَالشَّهَادَاتِ، وَالرَّجُلُ يَحْكُمُ فِي نَازِلَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُرَخِّصِ اللَّهُ لِمُوسِرٍ وَلَا مُعْسِرٍ أن يمسك الأمانة.
وقرىء: أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنْ تَحْكُمُوا، ظَاهِرُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا، وَفَصَلَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِإِذَا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «1» وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا «2» سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «3» فَفَصَلَ فِي هَذِهِ الآية بين
(1) سورة البقرة: 2/ 201.
(2)
سورة يس: 36/ 9.
(3)
سورة الطلاق: 65/ 2.
الْوَاوِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَجْرُورِ. وَأَبُو عَلِيٍّ يَخُصُّ هَذَا بِالشِّعْرِ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مَجْرُورًا أُعِيدَ الْجَارُّ نَحْوَ: امْرُرْ بِزَيْدٍ وَغَدًا بِعَمْرٍو. وَلَكِنْ قَوْلُهُ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا، لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ يَتَعَلَّقُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ، وَالظَّرْفُ هُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ تَحْكُمُوا، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي صلة، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَصِبَ بالناصب لأن تَحْكُمُوا لِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ وَاقِعًا وَقْتَ الْحُكْمِ. وَقَدْ خَرَّجَهُ عَلَى هَذَا بَعْضُهُمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِذَا معمولة لأن تَحْكُمُوا مُقَدَّرَةٍ، وَأَنْ تَحْكُمُوا الْمَذْكُورَةُ مُفَسِّرَةٌ لِتِلْكَ الْمُقَدَّرَةِ، هذا إذا فرغنا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْفَرَّاءِ فإذا منصوبة بأن تَحْكُمُوا هَذِهِ الْمَلْفُوظُ بِهَا، لِأَنَّهُ يُجِيزُ: يُعْجِبُنِي الْعَسَلُ أَنْ يُشْرَبَ، فَتَقَدَّمَ مَعْمُولُ صِلَةِ أَنْ عَلَيْهَا.
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أصله: نعم ما، وما مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ. كَأَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الشَّيْءُ يَعِظُكُمْ بِهِ، أَيْ شَيْءٌ يَعِظُكُمْ بِهِ. وَيَعِظُكُمْ صِفَةٌ لِشَيْءٍ، وَشَيْءٌ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَمَوْصُولَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالْمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ تَأْدِيَةُ الْأَمَانَةِ وَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ. وَنَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَعِظُكُمْ صِفَةٌ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْمَخْصُوصُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَتَقْدِيرِ مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ تَأَوَّلْتُ مَا هُنَا عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا الْمُرْدَفَةُ عَلَى نِعْمَ إِنَّمَا هِيَ مُهَيَّئَةٌ لِاتِّصَالِ الْفِعْلِ بِهَا كَمَا هِيَ فِي رُبَّمَا، ومما فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً
…
عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ
وَنَحْوِهِ. وَفِي هَذَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ رُبَّمَا، وَهِيَ لَهَا مُخَالِفَةٌ فِي الْمَعْنَى: لِأَنَّ رُبَّمَا مَعْنَاهَا التَّقْلِيلُ، وَمِمَّا مَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ. وَمَعَ أَنَّ مَا مُوَطِّئَةٌ، فَهِيَ بمعنى الذي. وما وَطَّأَتْ إِلَّا وَهِيَ اسْمٌ، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَلِيهَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْفِعْلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَعْلُهَا مُوَطِّئَةً مُهَيِّئَةً لَا تَكُونُ اسْمًا، وَمِنْ حَيْثُ جَعْلُهَا بِمَعْنَى الَّذِي لَا تَكُونُ مُهَيِّئَةً مُوَطِّئَةً فَتَدَافَعَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نِعِمَّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: نَعِمَّا بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ نَعِمَ عَلَى وَزْنِ شَهِدَ. وَنُسِبَ إِلَى أَبِي عَمْرٍو سُكُونُ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً أَيْ لِأَقْوَالِكُمُ الصَّادِرَةِ مِنْكُمْ فِي الْأَحْكَامِ.
بَصِيراً بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أُمَرَاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرُوا قِصَّةً طَوِيلَةً مَضْمُونُهَا: أَنَّ عَمَّارًا أَجَارَ رَجُلًا قَدْ أَسْلَمَ، وَفَرَّ أَصْحَابُهُ حِينَ أُنْذِرُوا بِالسَّرِيَّةِ فَهَرَبُوا، وَأَقَامَ الرَّجُلُ وَإِنَّ أَمِيرَهَا خَالِدًا أَخَذَ الرَّجُلَ وَمَالَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَمَّارٌ بِإِسْلَامِهِ وَإِجَارَتِهِ إِيَّاهُ فَقَالَ خالد: وأنت تجيز؟ فَاسْتَبَّا وَارْتَفَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ، وَنَهَاهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَى أَمِيرٍ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْوُلَاةَ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِطَاعَتِهِمْ، قَالَ عَطَاءٌ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِي فَرِيضَتِهِ، والرسول فِي سُنَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَالرَّسُولَ مَا دَامَ حَيًّا، وَسُنَّتَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَقِيلَ: فيما شرع، والرسول فِيمَا شَرَحَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالسُّدِّيُّ، وابن زيد: أولوا الْأَمْرِ هُمُ الْأُمَرَاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصْحَابُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ. وَقِيلَ:
الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَالَ جَابِرٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْعُلَمَاءُ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ مَيْمُونٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، أُمَرَاءُ السَّرَايَا، أَوِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ قَالَهُ: الشِّيعَةُ. أَوْ عَلِيٌّ وَحْدَهُ قَالُوهُ أَيْضًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ شَيْءٍ وِلَايَةً صَحِيحَةً. قَالُوا: حَتَّى الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا طَاعَةُ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ مَعَ سَيِّدِهِ، وَالْوَلَدُ مَعَ وَالِدَيْهِ، وَالْيَتِيمُ مَعَ وَصِيِّهِ فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَهُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمراد، بأولي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، أُمَرَاءُ الْحَقِّ، لِأَنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُمْ، فَلَا يُعْطَفُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَانَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءُ يَقُولُ: أَطِيعُونِي مَا عَدَلْتُ فِيكُمْ، فَإِنْ خَالَفْتُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ: أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَلَسْتُمْ أُمِرْتُمْ بِطَاعَتِنَا فِي قَوْلِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نُزِعَتْ مِنْكُمْ إِذْ خَالَفْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «1» . وَقِيلَ: هُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا.
وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «من أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعْ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»
وَقِيلَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ الدَّيِّنُونَ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الدِّينَ، يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ انْتَهَى. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: أَطِيعُوا السُّلْطَانَ فِي سَبْعَةٍ: ضَرْبِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَالْمَكَايِيلِ، وَالْأَوْزَانِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجُمْعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْجِهَادِ. وَإِذَا نَهَى السُّلْطَانُ الْعَالِمَ أَنْ يُفْتِيَ
(1) سورة النساء: 4/ 59.
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ، فَإِنْ أَفْتَى فَهُوَ عَاصٍ وَإِنْ كَانَ أَمِيرًا جَائِرًا. قِيلَ: وَيُحْمَلُ قَوْلُ سَهْلٍ عَلَى أَنَّهُ يَتْرُكُ الْفُتْيَا إِذَا خَافَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَأَمَّا طَاعَةُ السُّلْطَانِ فَتَجِبُ فِيمَا كَانَ فِيهِ طَاعَةٌ، وَلَا تَجِبُ فِيمَا كَانَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. قَالَ: وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ أُمَرَاءَ زَمَانِنَا لَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ، وَلَا مُعَاوَنَتُهُمْ، وَلَا تَعْظِيمُهُمْ، وَيَجِبُ الْغَزْوُ مَعَهُمْ مَتَى غَزَوْا، وَالْحُكْمُ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْإِمَامَةِ وَالْحِسْبَةِ، وَإِقَامَةُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الشَّرِيعَةِ. فَإِنْ صَلَّوْا بِنَا وَكَانُوا فَسَقَةً مِنْ جِهَةِ الْمَعَاصِي جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا فَتُصَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةً، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ فِيمَا بَعْدُ. انْتَهَى.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: بِإِمَامٍ مَعْصُومٍ بِقَوْلِهِ: وأولي الأمر منكم. فإن الْأُمَرَاءَ وَالْفُقَهَاءَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِمْ. وَمِنْ شَرْطِ الْإِمَامِ الْعِصْمَةُ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِمَامَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إِمَامٌ مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ لَكَانَ الرَّدُّ إِلَيْهِ وَاجِبًا، وَكَانَ هُوَ يَقْطَعُ التَّنَازُعَ، فَلَمَّا أَمَرَ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْإِمَامِ، دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ الْإِمَامَةِ. وَتَأْوِيلُهُمْ: أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَاسِدٌ، لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعَلِيٌّ وَاحِدٌ. وَكَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي حَيَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَرَاءَ، وَعَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ. فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ طَاعَتَهُمْ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، وَإِلَّا لَكَانَ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْخَطَأِ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِهِ، وَالْخَطَأُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا بَعْدَ الرَّسُولِ إِلَّا جَمْعُ الْأُمَّةِ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، وَمُوجِبُ ذَلِكَ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: فَرُدُّوهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُؤَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ، وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ قُولُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَأُولُوا الْأَمْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَرُدُّوهُ ارْجِعُوا فِيهِ إِلَى
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْتَهَى. وَقَدِ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتُوهُ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَهُوَ شَرْطٌ يُرَادُ بِهِ الْحَضُّ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ نَادَاهُمْ أولا بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فَصَارَ نَظِيرَ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِوَعِيدِ مَنْ لَمْ يَرُدَّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ذَلِكَ الرَّدُّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ إِلَى أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَحْسَنُ عَاقِبَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَحْسَنُ جَزَاءً. وَقِيلَ: أَحْسَنُ تَأْوِيلًا مِنْ تَأْوِيلِكُمْ أَنْتُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحْسَنُ نَظَرًا وَتَأْوِيلًا مِنْكُمْ إِذَا انْفَرَدْتُمْ بِتَأْوِيلِكُمْ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَصَصٌ طَوِيلٌ مُلَخَّصُهُ:
أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ كَانَ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّ قَيْسًا الْأَنْصَارِيَّ أَحَدَ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ تَدَاعَيَا إِلَى الْكَاهِنِ وَتَرَكَا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بعد ما دَعَا الْيَهُودِيُّ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْأَنْصَارِيُّ يَأْبَى إِلَّا الْكَاهِنَ. أَوْ أَنَّ مُنَافِقًا وَيَهُودِيًّا اخْتَصَمَا، فَاخْتَارَ الْيَهُودِيُّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتَارَ الْمُنَافِقُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فَأَبَى الْيَهُودِيُّ، وَتَحَاكَمَا إِلَى الرَّسُولِ، فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ، فَخَرَجَا وَلَزِمَهُ الْمُنَافِقُ، وَقَالَ: نَنْطَلِقُ إِلَى عُمَرَ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: قَدْ تَحَاكَمْنَا إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ، فَأَقَرَّ الْمُنَافِقُ بِذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَتَلَهُ عُمَرُ وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي فِيمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ، ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْجَبُ بَعْدَ وُرُودِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ حَالِ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ وَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَيَتْرُكَ الرَّسُولَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُ قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أنزل مِنْ قَبْلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ فِي يَهُودٍ أَوْ فِي مُؤْمِنٍ وَيَهُودِيٍّ كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَيَجْعَلُ بِمَا أَنْزِلُ إِلَيْكَ فِي مُنَافِقٍ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فِي يَهُودِيٍّ، وَشُمِلُوا فِي ضَمِيرِ يَزْعُمُونَ فَيُمْكِنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، تَفَاخَرُوا بِسَبَبِ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ، إِذْ كَانَتِ
النَّضِيرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَدِي مَنْ قَتَلَتْ وَتَسْتَقِيهِ إِذَا قَتَلَتْ قُرَيْظَةُ مِنْهُمْ، فَأَبَتْ قُرَيْظَةُ لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَطَلَبُوا الْمُنَافَرَةَ، فَدَعَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا الْمُنَافِقُونَ إِلَى بُرْدَةَ الْكَاهِنِ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: احْتَكَمَ الْمُنَافِقُونَ بِالْقِدَاحِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا عِنْدَ الْأَوْثَانِ فَنَزَلَتْ. أَوْ لِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ اخْتَلَفُوا فِي الطَّاغُوتِ. فَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقِيلَ: الْأَوْثَانُ. وَقِيلَ: مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْكُهَّانُ.
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يريدون، ويريدون حال، فهي حال متداخل. وَأَعَادَ الضَّمِيرُ هُنَا مُذَكَّرًا، وَأَعَادَهُ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ: اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا. وَقَرَأَ بِهَا هَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ كَضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ «1» .
وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ضَلَالًا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى يُضِلَّهُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُعِلَ مَكَانَ إِضْلَالٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ الْمُطَاوِعِ يُضِلَّهُمْ، أَيْ: فَيَضِلُّونَ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا أُنْزِلَ إليك وما أنزل مبنيا للمفعول فيهما. وقرىء: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فِيهِمَا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً قَرَأَ الْحَسَنُ: تَعَالُوا بِضَمِّ اللَّامِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَجْهُهَا أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْ تَعَالَيْتُ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَضُمَّتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ لِوُقُوعِ وَاوِ الْجَمْعِ بَعْدَهَا. ولظهر الزَّمَخْشَرِيُّ حَذْفَ لَامِ الْكَلِمَةِ هُنَا بِحَذْفِهَا فِي قَوْلِهِمْ: مَا بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، وَأَصْلُهُ: بَالِيَةٌ كَعَافِيَةٍ. وَكَمَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ فِي آيَةٍ، أَنَّ أَصْلَهَا أَيْلَةٌ فَحُذِفَتِ اللَّامُ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ أَهْلِ مَكَّةَ: تَعَالِي بِكَسْرِ اللَّامِ لِلْمَرْأَةِ. وَفِي شِعْرِ الْحَمَدَانِيِّ:
تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي وَالْوَجْهُ: فَتْحُ اللَّامِ انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: قَوْلُ أَهْلِ مَكَّةَ تَعَالِي يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً قَدِيمَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا غَيَّرَتْهُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ عَرَبِيًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي شِعْرِ الْحَمَدَانِيِّ فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ أَبُو فِرَاسٍ، وَطَالَعْتُ دِيوَانَهُ جَمْعَ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالَوَيْهِ فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِيهِ. وَبَنُو حَمْدَانَ كَثِيرُونَ، وَفِيهِمْ عِدَّةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي شِعْرِهِمْ لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِ الْمُوَلَّدِينَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: رأيت
(1) سورة البقرة: 2/ 257. [.....]
الْمُنَافِقِينَ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، صَدُّوا مُجَاهَرَةً وَتَصْرِيحًا، ويحتمل أن يكون من رُؤْيَةِ الْقَلْبِ أَيْ: عُلِمَتْ. وَيَكُونُ صَدُّهُمْ مَكْرًا وَتَخَابُثًا وَمُسَارَقَةً حَتَّى لَا يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ عليه. وصدودا: مصدر لصد، وَهُوَ هُنَا مُتَعَدٍّ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ نَحْوَ:
«فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» «1» وَقِيَاسُ صَدَّ فِي الْمَصْدَرِ فَعَلَ نَحْوَ: صَدَّهُ صَدًّا. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ صُدُودًا هُنَا لَيْسَ مَصْدَرًا، وَالْمَصْدَرُ عِنْدَهُ صَدٌّ.
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً قَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ تَرَاهُمْ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ: فَكَيْفَ صَنِيعُهُمْ وَالْمُصِيبَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قُتِلَ عُمَرُ الَّذِي رَدَّ حُكْمَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى مَا سَبَقَ يُخْبِرُ عَنْ فعلهم فقال: ثم جاؤك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ هَدْمُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، حَلَفُوا دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ إِلَّا طَاعَةً وَمُوَافَقَةَ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، وَالَّذِي قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ رَدُّهُمْ حُكْمَ الرَّسُولِ أَوْ مَعَاصِيهِمُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَوْ نِفَاقُهُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أَيْ: مَا أَرَدْنَا بِطَلَبِ دَمِ صَاحِبِنَا الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ إِلَّا إِحْسَانًا إِلَيْنَا، وَمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ فِي أَمْرِنَا. وَقِيلَ: مَا أَرَدْنَا بِالرَّفْعِ إِلَى عُمَرَ إِلَّا إِحْسَانًا إِلَى صَاحِبِنَا بِحُكُومَةِ الْعَدْلِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُ وبين خصمه. وقيل: جاؤوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم من مُحَاكَمَتِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ مَا أَرَدْنَا فِي عُدُولِنَا عَنْكَ إِلَّا إِحْسَانًا بِالتَّقْرِيبِ فِي الْحُكْمِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الْخُصُومِ، دُونَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِّ. وَفِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ، وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمُ الِاعْتِذَارُ.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أَيْ: يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ. وَالْمَعْنَى: يَعْلَمُهُ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ، أَوْ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَظْهَرُوهُ مِنَ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ. وَعَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْمُجَازَاةِ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ: أَيْ عَنْ مُعَاتَبَتِهِمْ وَشَغْلِ الْبَالِ بِهِمْ، وَقَبُولِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْذَارِهِمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِالْإِعْرَاضِ مُعَامَلَتُهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ، فَفِي ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لَهُمْ، وَهُوَ عِتَابُهُمْ. وَلَا
(1) سورة النمل: 27/ 24.
يُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ الْهَجْرُ وَالْقَطِيعَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَعِظْهُمْ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَعِظْهُمْ: أَيْ خَوِّفْهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ وَازْجُرْهُمْ، وَأَنْكَرُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِ مَا فَعَلُوا.
وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ هُوَ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ التَّوَعُّدُ بِالْقَتْلِ إِنِ اسْتَدَامُوا حَالَةَ النِّفَاقِ. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ خَالِيًا بِهِمْ لَا يَكُونُ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ مُسَارًّا لِأَنَّ النُّصْحَ إِذَا كَانَ فِي السِّرِّ كَانَ أَنْجَحَ، وَكَانَ بِصَدَدِ أَنْ يُقْبَلَ سَرِيعًا. وَمَعْنَى بَلِيغًا: أَيْ مُؤَثِّرًا فِيهِمْ. أَوْ قُلْ لَهُمْ فِي مَعْنَى أَنْفُسِهِمُ النَّجِسَةِ الْمُنْطَوِيَةِ عَلَى النِّفَاقِ قَوْلًا يَبْلُغُ مِنْهُمْ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مَا فَعَلُوا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ؟ (قُلْتُ) : بِقَوْلِهِ: بَلِيغًا أَيْ: قُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ، مُؤَثِّرًا فِي قُلُوبِهِمْ يَغْتَمُّونَ بِهِ اغْتِمَامًا، وَيَسْتَشْعِرُونَ مِنْهُ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارًا، وَهُوَ التَّوَعُّدُ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِئْصَالِ إِنْ نَجَمَ مِنْهُمُ النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهن أَنَّ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الدَّغَلِ وَالنِّفَاقِ مَعْلُومٌ عند الله، وأنه لا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَمَا هَذِهِ الْمُكَافَّةُ إِلَّا لِإِظْهَارِكُمُ الْإِيمَانَ، وَإِسْرَارِكُمُ الْكُفْرَ وَإِضْمَارِهِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ مَا تَكْشِفُونَ بِهِ غِطَاءَكُمْ لَمْ يبق إلا السيت انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَعْلِيقُهُ فِي أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلِيغًا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْمُولَ الصِّفَةِ لَا يَتَقَدَّمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَوْصُوفِ. لَوْ قُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ ضَارِبٌ زَيْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ: هَذَا زَيْدًا رَجُلٌ ضَارِبٌ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَعْمُولِ أَلَّا يَحِلَّ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَحِلُّ فِيهِ الْعَامِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّعْتَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَنْعُوتِ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ، وَالتَّابِعُ فِي ذَلِكَ بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُسْهَبِ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخَطَابَةِ، وَتَحْمِيلِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَتَقْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَتِلْكَ عَادَتُهُ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ تَكْثِيرُ الْأَلْفَاظِ. وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقُلْهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا دَلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَالتَّفْسِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ شَرْحُ اللَّفْظِ الْمُسْتَغْلَقِ عِنْدَ السَّامِعِ مِمَّا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَهُ مِمَّا يُرَادِفُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، أَوْ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِإِحْدَى طُرُقِ الدَّلَالَاتِ. وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُصِيبَةٌ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ، وَهَذَا يُنَزَّهُ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَهُ، فَإِنَّهُ فِي غاية الفساد.