الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَسْلِيمًا. وَالتَّقْسِيمُ الْبَلِيغُ فِي قَوْلِهِ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْهُ حَقِيقَةً فِي: أصابتكم مصيبة، وأصابكم فَضْلٌ. وَجَعْلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَلَيْسَ مِنْهُ لِمُنَاسَبَةٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئُنَّ. وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. وَالْحَذْفُ فِي مواضع.
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
إِدْرَاكُ الشَّيْءِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ وَنَيْلُهُ. الْبُرْجُ: الْحَصِنُ. وَقِيلَ: الْقَصْرُ. وَالْبُرُوجُ: مَنَازِلُ الْقَمَرِ، وَكُلُّهَا مِنْ بَرَجَ إِذَا ظَهَرَ، وَمِنْهُ التَّبَرُّجُ وَهُوَ إِظْهَارُ الْمَرْأَةِ مَحَاسِنَهَا، وَالْبَرَجُ فِي الْعَيْنِ اتِّسَاعُهَا. الْمُشَيَّدُ: الْمَصْنُوعُ بِالشِّيدِ وَهُوَ الْجِصُّ. يُقَالُ: شَادَ وَشَيَّدَ كَرَّرَ الْعَيْنَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَكَسَرْتُ الْعُودَ مَرَّةً وَكَسَّرْتُهُ فِي مَوَاضِعَ، وَخَرَقْتُ الثَّوْبَ وَخَرَّقْتُهُ إِذَا كَانَ الْخَرِقُ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ. فَعَلَى هَذَا يُقَالُ: شاد الجدار. ومنه قال والشاعر:
شاده مرمرا وجلله كلسا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
وَالْمُشَيَّدُ: الْمُطَوَّلُ الْمَرْفُوعُ يُقَالُ: شَيَّدَ وَأَشَادَ الْبِنَاءَ رَفَعَهُ وَطَوَّلَهُ، وَمِنْهُ أَشَادَ الرَّجُلُ ذِكْرَ الرَّجُلِ إِذَا رَفَعَهُ. الْفِقْهُ: الْفَهْمُ. يُقَالُ: فَقِهْتُ الْحَدِيثَ إِذَا فَهِمْتُهُ، وَفَقُهَ الرَّجُلُ صَارَ فَقِيهًا.
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ أُحُدٍ. وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يَشْتَرُونَ. وَالْمَعْنَى: أَخْلَصُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يبيعون وَيُؤْثِرُونَ الْآجِلَةَ عَلَى الْعَاجِلَةِ، وَيَسْتَبْدِلُونَهَا بِهَا أَمْرَ اللَّهِ تعالى بِالْجِهَادِ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ثُمَّ وَعَدَ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، سَوَاءٌ اسْتُشْهِدَ، أَوْ غُلِبَ. وَاكْتَفَى فِي الْحَالَتَيْنِ بِالْغَايَةِ، لِأَنَّ غَايَةَ الْمَغْلُوبِ فِي الْقِتَالِ أَنْ يُقْتَلَ، وَغَايَةُ الَّذِي يَقْتُلُ أَنْ يَغْلِبَ وَيَغْنَمَ، فأشرف الحالتين ما بدء بِهِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَلِيهَا أَنْ يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَدُونَ ذَلِكَ الظَّفَرُ بِالْغَنِيمَةِ، وَدُونَ ذَلِكَ أَنْ يَغْزُوَ فَلَا يُصِيبَ وَلَا يُصَابَ. وَلَفْظُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَشْمَلُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ فُسِّرَ بِالْجَنَّةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَزِيدُ ثَوَابٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَوْعُودٌ دُخُولُهَا بِالْإِيمَانِ. وَكَأَنَّ الَّذِي فَسَّرَهُ بِالْجَنَّةِ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «1» الْآيَةَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلْيُقَاتِلْ بِسُكُونِ لَامِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِكَسْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيُقْتَلْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: فَيَقْتُلْ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ.
وَأَدْغَمَ باء يَغْلِبْ فِي الْفَاءِ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ وَخَلَّادٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُؤْتِيهِ بِالنُّونِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ.
وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ حَثٌّ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى تَخْلِيصِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُقَاتِلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ:
وَمَا لَكَمْ فِي أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، وَحُذِفَ أَنْ، ارْتَفَعَ الْفِعْلُ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَيْ: وَفِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وقال المبرد
(1) سورة التوبة: 9/ 111.
وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي خَلَاصِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ: في سبيل الْمُسْتَضْعَفِينَ بِغَيْرِ وَاوِ عَطْفٍ. فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَإِمَّا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِأَنَّهُ سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ يَعْنِي:
وَاخْتَصَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ خَلَاصَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ عَامٌّ فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَخَلَاصُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ وَأَخَصِّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ نَصْبِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، إِذْ هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَيَعْنِي بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ إِذْلَالِ قُرَيْشٍ وَأَذَاهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ خُرُوجًا، وَلَا تَطِيبُ لَهُمْ عَلَى الْأَذَى إِقَامَةٌ. وَمِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُمُّهُ، وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجَاةِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَمَّى مِنْهُمْ:
الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ تَبْيِينٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوِلْدَانَ الْمُرَادُ بِهِ الصِّبْيَانُ، وَهُوَ جَمْعُ وَلِيدٍ. قِيلَ: وَقَدْ يَكُونُ جَمْعَ وَلَدٍ، كَوَرَلٍ وَوِرْلَانٍ. وَنَبَّهَ عَلَى الْوِلْدَانِ تَسْجِيلًا بِإِفْرَاطِ ظُلْمِ مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ لِيَتَأَذَّى بِذَلِكَ آبَاؤُهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ آبَاءَهُمْ فِي الدُّعَاءِ طَلَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ. وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذُنُوبٌ كَمَا فَعَلَ قَوْمُ يُونُسَ، وَكَمَا هِيَ السُّنَّةُ فِي خُرُوجِ الصِّبْيَانِ في الِاسْتِسْقَاءَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارُ، وَبِالْوِلْدَانِ الْعَبِيدُ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ وَلِيدٌ، وَعَلَى الْأَمَةِ وَلِيدَةٌ وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ إِذْ دَرَجَ المؤنث في جمع المذكر والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ مِنَ الظُّلْمِ إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَرْيَةُ هُنَا مَكَّةُ بِإِجْمَاعٍ.
وَتَكَلَّمُوا فِي جَرَيَانِ الظَّالِمِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ عَلَى الْقَرْيَةِ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَهَذَا مِنْ وَاضِحِ النَّحْوِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ أُنِّثَ فَقِيلَ: الظَّالِمَةِ، أَوْ جُمِعَ فَقِيلَ: الظَّالِمِينَ، وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَمْ يُقْرَأْ بِهِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ. وَلَوْ تَعَرَّضْنَا لِمَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي تَرَاكِيبِ الْقُرْآنِ لَطَالَ ذَلِكَ وَخَرَجْنَا بِهِ عَنْ طَرِيقَةِ التَّفْسِيرِ. وَوَصَفَ أَهْلَهَا بِالظُّلْمِ إِمَّا لِإِشْرَاكِهِمْ، وَإِمَّا لِمَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْوَطْأَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْلَالِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَسْرَى، وَحَوَاضِرَ الشِّرْكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
انْتَهَى. وَلَمَّا دَعَوْا رَبَّهُمْ أَجَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي الْخُرُوجِ، فَهَاجَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْفَتْحِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْهُ خَيْرَ وَلِيٍّ وَنَاصِرٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَلَّاهُمْ أَحْسَنَ التَّوَلِّي، وَنَصَرَهُمْ أَقْوَى النَّصْرِ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَّى عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ وَعُمْرُهُ أحد وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَرَأَوْا مِنْهُ الْوِلَايَةَ وَالنَّصْرَ كَمَا سَأَلُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يُنْصِفُ الضَّعِيفَ مِنَ الْقَوِيِّ، حتى كانوا أعزبها مِنَ الظَّلَمَةِ.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِالنَّفْرِ إِلَى الْجِهَادِ «1» ، ثُمَّ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» ثُمَّ ثَالِثًا عَلَى طَرِيقِ الْحَثِّ وَالْحَضِّ بِقَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ «3» أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، لِيُبَيِّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَيُقَوِّيَهُمْ بِذَلِكَ وَيُشَجِّعَهُمْ وَيُحَرِّضَهُمْ. وَإِنَّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ. وَمَنْ قَاتَلَ في سبيل الطاغوت فهو المخذوف الْمَغْلُوبُ.
وَالطَّاغُوتُ هُنَا الشَّيْطَانُ لِقَوْلِهِ: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ. وَهُنَا مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَقَاتِلُوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لِقُوَّتِكُمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا الْمَحْذُوفَ وَهُوَ غَلَبَتُكُمْ إِيَّاهُمْ بِأَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُقَاوِمُ نَصْرَ اللَّهِ وَتَأْيِيدَهُ، وَشَتَّانَ بَيْنِ عَزْمٍ يَرْجِعُ إِلَى إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَبِمَا وَعَدَ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَزْمٍ يَرْجِعُ إِلَى غرور وأماني كَاذِبَةٍ. وَدَخَلَتْ كَانَ فِي قَوْلِهِ: كَانَ ضَعِيفًا إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ سَابِقٌ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ضَعِيفًا. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى صَارَ أَيْ: صَارَ ضَعِيفًا بِالْإِسْلَامِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانَ ضَعِيفًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
خَرَّجَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَقَالُوا:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً. فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
(1) سورة النساء: 4/ 71.
(2)
سورة النساء: 4/ 74.
(3)
سورة النساء: 4/ 75.
وَنَحْوُ هَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ وَاصِفَةً أَحْوَالَ قَوْمٍ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: كأنه يومىء إِلَى قِصَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: «ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا» «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ، أَيْ: مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَالْخَشْيَةُ هِيَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْمَخَافَةِ، لَا عَلَى الْمُخَالَفَةِ. وَنَحْوُ مَا قَالَ الْحَسَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ كَعَّ فَرِيقٌ مِنْهُمْ لَا شَكًّا فِي الدِّينِ وَلَا رَغْبَةً عَنْهُ، وَلَكِنْ نُفُورًا عَنِ الْأَخْطَارِ بِالْأَرْوَاحِ، وَخَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ اسْتَحْسَنُوا الدُّخُولَ فِي الدِّينِ عَلَى فَرَائِضِهِ الَّتِي قَبْلَ الْقِتَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُوَادَعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقِتَالُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَجَزِعُوا لَهُ، فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ حِينَ طَلَبُوهُ وَجَبَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَعَّ عَنْهُ بَعْضُهُمْ قَالَ تَعَالَى: أَلَا تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ نَاسٍ طَلَبُوا الْقِتَالَ فَأُمِرُوا بِالْمُوَادَعَةِ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ فَرِقَ فَرِيقٌ وَجَزِعَ. وَمَعْنَى كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ: أَيْ عَنِ الْقِتَالِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يُقَالُ كُفُّوا إِلَّا لِلرَّاغِبِينَ فِيهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: يُرِيدُ الْمُنَافِقِينَ. وَإِنَّمَا قَالَ: كُفُّوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الرَّغْبَةَ فِيهِ انْتَهَى.
وَقَالَ أَيْضًا: وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى إِيجَابِ الْجِهَادِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالزَّكَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مُتَقَدِّمَانِ عَلَى الْجِهَادِ. وَالْفَرِيقُ إِمَّا مُنَافِقُونَ، وَإِمَّا مُؤْمِنُونَ، أَوْ نَاسٌ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، أَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ فَرْضِ الْقِتَالِ حَسَبَ اخْتِلَافِ سَبَبِ النُّزُولِ. وَالنَّاسُ هُنَا أَهْلُ مَكَّةَ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ كُفَّارُ أَهْلِ الكتاب ومشركو العرب.
ولمّا حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ. وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا وَهُوَ الصَّحِيحُ فَجَوَابُهُ إِذَا الْفُجَائِيَّةُ، وَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا فَيَحْتَاجُ إِلَى عَامِلٍ فِيهَا فَيَعْسُرُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِي لَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا، لِأَنَّ لَمَّا هِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَامِلُ فِي لَمَّا مَعْنَى يَخْشَوْنَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَزِعُوا. قَالَ: وَجَزِعُوا هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا
(1) سورة البقرة: 2/ 246.
بِتَقْدِيرِ الِاسْتِقْبَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ لِأَنَّ فِيهَا ظَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِمَا مَضَى، وَالْآخَرُ: لِمَا يُسْتَقْبَلُ انْتَهَى. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي لَمَّا، وَأَنَّهَا حَرْفٌ. وَنَخْتَارُ أَنَّ إِذَا الْفُجَائِيَّةَ ظَرْفُ مَكَانٍ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا لِلِاسْمِ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ مَعْمُولًا لِلْخَبَرِ. فَإِذَا قُلْتَ: لَمَّا جَاءَ زَيْدٌ إِذَا عَمْرٌو قَائِمٌ، يَجُوزُ نَصْبُ قَائِمٌ عَلَى الْحَالِ. وَإِذَا حَرْفٌ يَصِحُّ رَفْعُهُ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ عَامِلٌ فِي إِذَا. وَهُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا مَعْمُولًا لِيَخْشَوْنَ، وَيَخْشَوْنَ خَبَرُ فَرِيقٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، ويخشون حال من فريق، ومنهم عَلَى الْوَجْهَيْنِ صِفَةٌ لِفَرِيقٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِذَا هُنَا ظَرْفُ زَمَانٍ لِمَا يُسْتَقْبَلُ فَقَوْلُهُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا اسْتَحَالَ، لِأَنَّ كتب ماض، وإذا لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَإِنْ تُسُومِحَ فَجُعِلَتْ إِذَا بِمَعْنَى إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي وَقْتِ خَشْيَةِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَفْتَقِرُ إِلَى جَوَابِ لَمَّا، وَلَا جَوَابَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا بَعْدَهَا، احْتَاجَتْ إِلَى جَوَابٍ هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا، وَلَا جَوَابَ لَهَا. وَالْقَوْلُ فِي إِذَا الْفُجَائِيَّةِ: أَهِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ؟ أَمْ ظَرْفُ مَكَانٍ؟ أَمْ حَرْفٌ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ؟ وَالْكَافُ فِي كَخَشْيَةِ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قِيلَ: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: خَشْيَةً كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخَشْيَةِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: يَخْشَوْنَهَا النَّاسَ أَيْ: يَخْشَوْنَ الْخَشْيَةَ النَّاسَ مُشْبِهَةً خَشْيَةَ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلٌّ كَخَشْيَةِ اللَّهِ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ (قُلْتُ) : مَحَلُّهَا النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَخْشَوْنَ، أَيْ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ مِثْلَ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ:
مُشْبِهِينَ لِأَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، يَعْنِي: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أهل خشية الله. وأشد مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَالِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ عَدَلْتَ عَنِ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَوْنُهُ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ وَلَمْ تُقَدِّرْهُ: يَخْشَوْنَ خَشْيَةَ اللَّهِ، بِمَعْنَى مِثْلَ مَا يُخْشَى اللَّهُ؟ (قُلْتُ) : أَبَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، لِأَنَّهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ قُلْتَ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ أَشَدَّ خَشْيَةً لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَالًا عَنْ ضَمِيرِ الْفَرِيقِ، وَلَمْ يَنْتَصِبِ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: خَشِيَ فُلَانٌ أَشَدَّ خَشْيَةً، فَتَنْصِبَ خَشْيَةً وَأَنْتِ تُرِيدُ الْمَصْدَرَ، إِنَّمَا تَقُولُ: أَشَدَّ خَشْيَةٍ فَتَجُرُّهَا، وَإِذَا نَصَبْتَهَا لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ خَشْيَةً إِلَّا عِبَارَةً عَنِ الْفَاعِلِ حَالًا مِنْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْخَشْيَةَ خَاشِيَةً عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: جِدُّ جِدِّهِ، فَتَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَخْشَوْنَ النَّاسَ خَشْيَةً مِثْلَ خَشْيَةٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ أَشَدَّ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، يُرِيدُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ كَخَشْيَةٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْهَا انْتَهَى كلامه. وقد يصح نصب خَشْيَةً، وَلَا يَكُونُ تَمْيِيزًا فَيَلْزَمُ مِنْ
ذَلِكَ مَا الْتَزَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلْ يَكُونُ خَشْيَةً مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ، وَأَشَدَّ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ كَانَ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ مِثْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ خَشْيَةً أَشَدَّ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا التَّخْرِيجَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً «1» وَأَوْضَحْنَاهُ هُنَاكَ. وَخَشْيَةُ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيْ: كَخَشْيَتِهِمُ اللَّهَ. وَأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ الشَّكِّ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ، وَقِيلَ: لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ: لِلتَّخْيِيرِ.
وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى بَلْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2» وَلَوْ قِيلَ إِنَّهَا لِلتَّنْوِيهِ، لَكَانَ قَوْلًا يَعْنِي: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَخْشَى النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْشَاهُمْ خَشْيَةً تَزِيدُ عَلَى خَشْيَتِهِمُ اللَّهَ.
وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلِينَ هَذَا: هُمْ مُنَافِقُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلَّتِهِ مَنْ هُوَ خَالِصُ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا جَاءَ السِّيَاقُ بَعْدَهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «3» وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ. ولولا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى هَلَّا وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَجَلُ الْقَرِيبُ هُنَا هُوَ مَوْتُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ كَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَذُكِرَ فِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَنَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِنَا وَلَا نُقْتَلَ، فَتُسَرُّ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءُ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُونَ قَدْ طَلَبُوا التَّأْخِيرَ فِي كُتُبِ الْقِتَالِ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَتِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. لِأَنَّ لَفْظَ لَمْ رُدَّ فِي صَدْرِ أَمْرِ اللَّهِ، وَعَدَمِ اسْتِسْلَامِهِمْ لَهُ مَعَ قَوْلِهِمْ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ اسْتِزَادَةٌ فِي مُدَّةِ الْكَفِّ، وَاسْتِمْهَالٌ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ «4» . وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَقَالُوا ربنا لم كتبت علينا الْقِتَالَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفَوَّهُوا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتَقَدُوهُ وَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَحَكَى تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَصْعَبُوا ذَلِكَ دَلَّ اسْتِصْعَابُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ وَاثِقِينَ بِأَحْوَالِهِمْ.
قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَوْنِ مَتَاعِ الدُّنْيَا قَلِيلًا فِي قَوْلِهِ: مَتاعٌ قَلِيلٌ «5» وَإِنَّمَا قَلَّ: لِأَنَّهُ فَانٍ، وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ مُؤَبَّدٌ، فهو خير لمن
(1) سورة البقرة: 2/ 200.
(2)
سورة البقرة: 2/ 74.
(3)
سورة النساء: 4/ 78.
(4)
سورة المنافقون: 63/ 10.
(5)
سورة النساء: 4/ 77. [.....]
اتَّقَى اللَّهَ وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي مَا أَحَبَّ، وَفِي مَا كَانَ شَاقًّا مِنْ قِتَالٍ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَا يُظْلَمُونَ بِالْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ أَيْ:
لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِكُمْ وَمَشَاقِّ التَّكَالِيفِ أَدْنَى شَيْءٍ، فَلَا تَرْغَبُوا عَنِ الْأَجْرِ.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ: هَذَا التَّأَخُّرُ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا مُنْجِيَ مِنَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِقَتْلٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي خَوَرِ الطَّبْعِ وَحُبِّ الْحَيَاةِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْتَ مَعْمُولِ قُلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفًا بِأَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ أَحَدٌ. وَالْبُرُوجُ هُنَا الْقُصُورُ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْجُمْهُورُ. أَوِ الْقُصُورُ مِنْ حَدِيدٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ قُصُورٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوِ الْحُصُونُ وَالْآكَامُ وَالْقِلَاعُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْبُيُوتُ الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ الْحُصُونِ قَالَهُ: بَعْضُهُمْ. أَوْ بُرُوجُ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ قَالَهُ: الربيع أنس، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ «1» وَجَعَلَ فِيهَا بُرُوجًا وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً «2» وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنِيَةِ يَلْقَهَا
…
وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
مُشَيَّدَةٌ مُطَوَّلَةٌ قَالَهُ: أَبُو مَالِكٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوِ مَطْلِيَّةٌ بِالشِّيدِ قَالَهُ:
أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. أَوْ حَصِينَةٌ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا بُرُوجٌ فِي السَّمَاءِ فَلِأَنَّهَا بِيضٌ شَبَّهَهَا بِالْمِبْيَضِ بِالشِّيدِ، وَلِهَذَا قَالَ الَّذِي هِيَ قُصُورٌ بِيضٌ فِي السَّمَاءِ مَبْنِيَّةٌ.
وَالْجَزْمُ فِي يُدْرِكْكُمْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَأَيْنَمَا تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي أَيِّ مَكَانٍ تَكُونُونَ فِيهِ أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ. وَلَوْ هُنَا بِمَعْنَى إِنْ، وَجَاءَتْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ بِتَقْدِيرِ: إِنْ لَوْ كَانُوا فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَلِإِظْهَارِ اسْتِقْصَاءِ الْعُمُومِ فِي أَيْنَمَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: يُدْرِكُكُمْ بِرَفْعِ الْكَافَيْنِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْفَتْحِ: عَلَى حَذْفِ فَاءِ الْجَوَابِ أَيْ:
فَيُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حُمِلَ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعَ أَيْنَمَا تَكُونُوا، وَهُوَ: أَيْنَمَا كُنْتُمْ كَمَا حُمِلَ وَلَا نَاعِبَ عَلَى مَا يَقَعُ مَوْقِعَ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ، وَهُوَ لَيْسُوا بِمُصْلِحِينَ. فَرُفِعَ كَمَا رَفَعَ زُهَيْرٌ يَقُولُ: لَا غَائِبَ مَا لِي وَلَا حَرَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ نَحْوِيٍّ سِيبَوَيْهِيٍّ انْتَهَى. وَيَعْنِي: أَنَّهُ جَعَلَ يُدْرِكُكُمُ ارْتَفَعَ لِكَوْنِ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَعْنَى أَيْنَمَا كنتم،
(1) سورة البروج: 85/ 1.
(2)
سورة الحجر: 95/ 16.
بِتَوَهُّمِ أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمُضَارِعِ بَعْدَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَزْمُ عَلَى الْجَوَابِ. وَالثَّانِي: الرَّفْعُ. وَفِي تَوْجِيهِ الرَّفْعِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْجَوَابَ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ. وَإِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ، فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا يَأْبَاهُ كَوْنُ فِعْلِ الشَّرْطِ مُضَارِعًا. وَحَمْلُهُ عَلَى وَلَا نَاعِبَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ وَلَا نَاعِبَ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ، وَالْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا يَنْقَاسُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ:
وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا «1» أَيْ: لَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِمَّا كُتِبَ مِنْ آجَالِكُمْ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَلَاحِمِ حُرُوبٍ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْنَمَا تَكُونُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا تَخْرِيجٌ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا، لِأَنَّ ظَاهِرَ انْتِفَاءِ الظُّلْمِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى «2» وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ فَإِنَّهُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَيْنَمَا تَكُونُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا تُظْلَمُونَ، مَا فَسَّرَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَيْ: لَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِمَّا كُتِبَ مِنْ آجَالِكُمْ أَيْنَمَا تَكُونُوا فِي مَلَاحِمِ الْحَرْبِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ أَيْنَمَا اسْمُ شَرْطٍ، فَالْعَامِلُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ. وَلِأَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ عَامِلُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، وَلَا تُظْلَمُونَ. بَلْ إِذَا جَاءَ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا مَتَى جَاءَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاصِبُ لِمَتَى اضْرِبْ. فَإِنْ قَالَ: يُقَدَّرُ لَهُ جَوَابٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ: ولا تظلمون، كما يقدر فِي اضْرِبْ زَيْدًا: مَتَى جَاءَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيْنَمَا تَكُونُوا فَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: فَلَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْ آجَالِكُمْ وَحَذَفَهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يُحْذَفُ الْجَوَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِعْلُ الشَّرْطِ هُنَا مُضَارِعٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَلَا تَقُلْ أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ تَفْعَلْ. وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: مَشِيدَةٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَصْفًا لَهَا بِفِعْلِ فَاعِلِهَا مَجَازًا، كَمَا قَالَ: قَصِيدَةٌ شَاعِرَةٌ، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ نَاظِمُهَا.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضَّمِيرُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ:
لِلْيَهُودِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصْدُرُ مِنْ مُؤْمِنٍ، وَالْيَهُودُ لَمْ يكونوا في طاعة
(1) سورة النساء: 2/ 77.
(2)
سورة النساء: 4/ 77.
الْإِسْلَامِ حَتَّى يُكْتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَسَنَةَ هُنَا هِيَ السَّلَامَةُ وَالْأَمْنُ، وَالسَّيِّئَةُ الْأَمْرَاضُ وَالْخَوْفُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْحَسَنَةُ الْخِصْبُ وَالرَّخَاءُ، وَالسَّيِّئَةُ الْجَدْبُ وَالْغَلَاءُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْحَسَنَةُ السَّرَّاءُ، وَالسَّيِّئَةُ الضَّرَّاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ:
الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ وَالْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَةُ الْبَلِيَّةُ وَالشِّدَّةُ وَالْقَتْلُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقِيلَ:
الْحَسَنَةُ الْغِنَى، وَالسَّيِّئَةُ الْفَقْرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ حَسَنَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَلَا الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أَضَافُوهَا إِلَى الرَّسُولِ وَقَالُوا: هِيَ بِسَبَبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْمِ مُوسَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «1» وَفِي قَوْمِ صَالِحٍ: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ «2» .
وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ: مَا زِلْنَا نَعْرِفُ النَّقْصَ فِي ثِمَارِنَا وَمَزَارِعِنَا مُذْ قَدِمَ عَلَيْنَا هَذَا الرَّجُلُ وَأَصْحَابُهُ.
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا خَالِقَ وَلَا مُخْتَرِعَ سِوَاهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ، وَعَنْ إِرَادَتِهِ تَصْدُرُ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ.
فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَكَيْفَ يُنْسَبُ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ؟ أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَفَهَّمُ الْأَشْيَاءَ، وَيَتَوَقَّفُونَ عَمَّا يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا حَتَّى يَعْرِضُوهُ عَلَى عُقُولِهِمْ. وَبَالَغَ تَعَالَى فِي قِلَّةِ فهمهم وتعقلهم، حَتَّى نَفَى مُقَارَبَةَ الْفِقْهِ، وَنَفْيُ الْمُقَارَبَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَ مَا اسْتُفْهِمَ عَنْ عِلَّتِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ مُقَابِلُهُ.
فَإِذَا قِيلَ: مَا لَكَ قَائِمًا، فَهُوَ إِنْكَارٌ لِلْقِيَامِ، وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ يُوجَدَ مُقَابِلُهُ. وَإِذَا قِيلَ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ، فَهُوَ إِنْكَارٌ لِتَرْكِ الْقِيَامِ، وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ يُوجَدَ مُقَابِلُهُ. قِيلَ فِي قَوْلِهِ: حَدِيثًا، أَيِ الْقُرْآنُ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَبَصَّرَهُمْ فِي الدِّينِ، وَأَوْرَثَهُمُ الْيَقِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَامَهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّفَقُّهِ فِيمَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَأَدَّبَهُمْ فِي كِتَابِهِ. وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَا، وَوَقَفَ الْبَاقُونَ عَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَمَالِ، اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ. وَلَا يَنْبَغِي تَعَمُّدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى فَمَا فِيهِ قَطْعٌ عَنِ الْخَبَرِ، وَعَلَى اللَّامِ فِيهِ قَطْعٌ عَنِ الْمَجْرُورِ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ انْقِطَاعِ النَّفَسِ.
(1) سورة الأعراف: 7/ 131.
(2)
سورة النمل: 27/ 47.