الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَسِيرُوا، عَلَى أَنَّهُ مِنْ سَيْرِ الْفِكْرِ لَا الْقَدَمِ، وَفِي: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ عُلُوِّ الْمَكَانِ، وَفِي: تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا، وَفِي: وَلِيُمَحِّصَ وَيَمْحَقَ، وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا بَيَانٌ.
وَفِي: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ. وَإِدْخَالُ حَرْفِ الشَّرْطِ فِي الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ فِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِذَا عُلِّقَ عَلَيْهِ النَّهْيَ وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
كائن: كَلِمَةٌ يُكَثَّرُ بِهَا بِمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ. وَقَلَّ الِاسْتِفْهَامُ بِهَا. وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، دَخَلَتْ عَلَى أَيْ وَزَالَ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَزَعَمَ أَبُو الْفَتْحِ: أَنَّ أَيًّا وَزْنُهُ فِعْلٌ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَوَى يَأْوِي إِذَا انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ، أَصْلُهُ:
أَوَى عُمِلَ فِيهِ مَا عُمِلَ فِي طَيٍّ مَصْدَرِ طَوَيَ. وَهَذَا كُلُّهُ دَعْوَى لَا يَقُومُ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
وَالَّذِي يَظْهُرُ أَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ بَسِيطٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ، يَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ مِثْلَ كَمْ، وَفِيهِ لُغَاتٌ: الْأُولَى وَهِيَ التي تقدمت. وكائن وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَانَ فقوله بعيد. وكئن عَلَى وَزْنِ كَعَنَ، وَكَأَيِّنْ وَكَيَيِّنْ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالنُّونِ. وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ تَمْيِيزُهَا مَصْحُوبًا بِمِنْ.
وَوَهَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ، وَإِذَا حُذِفَتِ انتصب التمييز سواء أولها أَمْ لَمْ يَلِيهَا، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَطْرُدُ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ فَكَأَيِّنْ
…
أَلَمًا عَمَّ يَسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَقَوْلِ الآخر:
وكائن لَنَا فَضْلًا عَلَيْكُمْ وَنِعْمَةً
…
قَدِيمًا وَلَا تَدْرُونَ مَا مِنْ مُنْعِمِ
الرُّعْبُ: الْخَوْفُ، رَعَبْتُهُ فَهُوَ مَرْعُوبٌ. وَأَصْلُهُ من الملي. يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ يَمْلَأُ الْوَادِي، وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ مَلَأْتُهُ.
السُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَالِي: سُلْطَانٌ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُ السُّلْطَانِ مِنَ السَّلِيطِ، وَهُوَ مَا يُضِيءُ بِهِ السِّرَاجُ مِنْ دُهْنِ السِّمْسِمِ. وَقِيلَ: السَّلِيطُ الْحَدِيدُ، وَالسَّلَاطَةُ الْحِدَّةُ، وَالسَّلَاطَةُ مِنَ التَّسْلِيطِ وَهُوَ الْقَهْرُ. وَالسُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. وَالسَّلِيطَةُ:
الْمَرْأَةُ الصَّخَّابَةُ. وَالسَّلِيطُ: الرَّجُلُ الْفَصِيحُ اللِّسَانِ.
الْمَثْوَى: مَفْعَلْ مِنْ ثَوَى يَثْوِي أَقَامَ. يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالثَّوَاءُ:
الْإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ.
الْحَسُّ: الْقَتْلُ الذَّرِيعُ، يُقَالُ: حَسَّهُ يُحُسُّهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ
…
بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وَجَرَادٌ مَحْسُوسٌ قَتَلَهُ الْبَرْدُ، وَسَنَةٌ حَسُوسٌ أَتَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
التَّنَازُعُ: الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ مِنَ النَّزْعِ وَهُوَ الْجَذْبُ. وَنَزَعَ يَنْزِعُ جَذَبَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. وَنَازَعَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ، وَتَنَازَعَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. قَالَ:
فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وَأَسْمَحَتْ
…
هَصَرْتُ بِغُصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا عَتْبٌ شَدِيدٌ لِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُمُ الْهَفَوَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَاسْتَفْهَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ مُخِلٌّ بِمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ انْتِفَاءُ مُتَعَلِّقِهِ، لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ «1» الْمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَيْرٌ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَوْجُودًا لَا يَكُونُ مَوَجُودًا أبدا.
وأم هُنَا مُنْقَطِعَةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ تَتَقَدَّرُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَقِيلَ:
هِيَ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ. وَقِيلَ: أَمْ مُتَّصِلَةٌ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هِيَ عَدِيلَةُ هَمْزَةٍ تَتَقَدَّرُ مِنْ مَعْنَى مَا تَتَقَدَّمُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها «2» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ التَّكْلِيفَ يُوجِبُ ذَلِكَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ اخْتِبَارٍ وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ وَأَنْ تُجَاهِدُوا فَيَعْلَمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْكُمْ وَاقِعًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا إِبْطَالُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالْإِضْرَابُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ أَيْضًا هُوَ تَرْكٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ وَأَخْذٍ فِيمَا بَعْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: أَمْ حَسِبْتُمْ نَهْيٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ.
وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ. لَمَّا قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «3» كَانَ فِي مَعْنَى: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَدَةٍ وَصَبْرٍ. وَإِنَّمَا اسْتُبْعِدَ هَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْجِهَادَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَوْجَبَ الصَّبْرَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَاقِّهَا، وَبَيَّنَ وُجُوهَ مَصَالِحِهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْبُعْدِ أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى السَّعَادَةِ وَالْجَنَّةِ مَعَ إِهْمَالِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَظَاهِرُهُ: أَنَّ أَمْ مُتَّصِلَةٌ، وَحَسِبْتُمْ هُنَا بِمَعْنَى ظَنَنْتُمُ التَّرْجِيحِيَّةِ، وَسَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهَا أن وما
(1) سورة الأنفال: 8/ 23.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 140.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 139.
بَعْدَهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَسَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ.
وَلَمَّا يَعْلَمِ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهِيَ نَفْيٌ مُؤَكَّدٌ لِمُعَادَلَتِهِ لِلْمُثْبَتِ الْمُؤَكَّدِ بِقَدْ. فَإِذَا قُلْتَ:
قَدْ قَامَ زَيْدٌ فَفِيهِ مِنَ التَّثْبِيتِ وَالتَّأْكِيدِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكَ: قَامَ زَيْدٌ. فَإِذَا نَفَيْتَهُ قُلْتَ: لَمَّا يَقُمْ زَيْدٌ. وَإِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ كَانَ نَفْيُهُ لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَادِ فِيمَا مَضَى، وَعَلَى وقعه فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. وَتَقُولُ: وَعَدَنِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَمَّا تُرِيدْ، وَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَنَا أَتَوَقَّعُ فِعْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي لَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَهُ. بَلْ ذَكَرُوا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَمَّا يَخْرُجْ زَيْدٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُرُوجِ فِيمَا مَضَى مُتَّصِلًا نَفْيُهُ إِلَى وَقْتِ الْإِخْبَارِ. أَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا، لَكِنَّنِي وَجَدْتُ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ شَيْئًا يُقَارِبُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: لَمَّا لِتَعْرِيضِ الْوُجُودِ بِخِلَافِ لَمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ بِفَتْحِهَا، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ إِتْبَاعٌ لِفَتْحَةِ اللَّامِ وَعَلَى إِرَادَةِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ وَحَذْفِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ
…
تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَيَعْلَمُ» بِرَفْعِ الْمِيمِ فَقِيلَ: هُوَ مَجْزُومٌ، وَأَتْبَعَ الْمِيمَ اللَّامَ فِي الْفَتْحِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَلَمَّا يَعْلَمِ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ. فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ وَاوٍ مَعَ نَحْوِ، لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ بِوَاوِ الصَّرْفِ، وَتَقْرِيرُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَطْفًا عَلَى وَلَمَّا يَعْلَمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْلَمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَمَّا تُجَاهِدُوا وَأَنْتُمْ صابرون انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَ، لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ لَا تدخل على المضارع، لَا يَجُوزُ:
جَاءَ زَيْدٌ وَيَضْحَكُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ.
فَكَمَا لَا يَجُوزُ جَاءَ زَيْدٌ وَضَاحِكًا، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَاءَ زَيْدٌ وَيَضْحَكُ. فَإِنْ أُوِّلَ عَلَى أَنَّ الْمُضَارِعَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ، التَّقْدِيرُ: وَهُوَ يَعْلَمُ الصَّابِرِينَ كَمَا أَوَّلُوا قَوْلَهُ:
نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكًا، أَيْ وَأَنَا أَرْهَنُهُمْ. وَخَرَّجَ غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْإِخْبَارِ، أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ الصَّابِرِينَ.
وَفِي إِنْكَارِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ ظَنَّ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ يَكُونُ مَعَ انْتِفَاءِ الْجِهَادِ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ إِذْ ذَاكَ، وَالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ وَقَدْ ذُكِرَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ التَّوَلِّيَ عِنْدَ الزَّحْفِ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ» .
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَذَلِكَ
أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا غَزْوَةَ بَدْرٍ، إِذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا خَرَجَ مُبَادِرًا يُرِيدُ عير القريش، فَلَمْ يَظُنُّوا حَرْبًا، وَفَازَ أَهْلُ بَدْرٍ بِمَا فَازُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ لِيَكُونَ لَهُمْ يَوْمٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ حَرَّضُوا عَلَى الْخُرُوجِ لِأُحُدٍ. فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَمِيئَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ الذَّابَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَانًّا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا وَصَرَخَ بذلك صارخ، وفشاد ذَلِكَ فِي النَّاسِ انْكَفُّوا فَارِّينَ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم «إلي عِبَادَ اللَّهِ» حَتَّى انْحَازَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ وَاسْتَعْذَرُوا عَنِ انْكِفَافِهِمْ قَائِلِينَ: أَتَانَا خَبَرُ قَتْلِكَ، فَرُعِبَتْ قُلُوبُنَا، فَوَلَّيْنَا مُدْبِرِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَلُومُهُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَعَ مَا كَانُوا قَرَّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ.
وَعَبَّرَ عَنْ مُلَاقَاةِ الرِّجَالِ وَمُجَالَدَتِهِمْ بِالْحَدِيدِ بِالْمَوْتِ، إِذْ هِيَ حَالَةٌ تَتَضَمَّنُ فِي الْأَغْلَبِ الْمَوْتَ، فَلَا يَتَمَنَّاهَا إِلَّا مَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْمَوْتِ. وَمُتَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الْجِهَادِ لَيْسَ مُتَمَنِّيًا لِغَلَبَةِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمِ، إِنَّمَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الضِّمْنِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ، إِنَّمَا مَقْصِدُهُ نَيْلُ رُتْبَةِ الشهادة لما فيه مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَدْ نَهَضَ إِلَى مَوْتِهِ وَقَالَ لَهُمْ: رَدَّكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً
…
وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا على جدثي
…
يا رشد اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشَاهِدُوا شَدَائِدَهُ وَمَضَائِقَهُ. وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي تَلْقَوْهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَدُوِّ، وَأُضْمِرَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَذْكُورٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: تُلَاقُوهُ وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى تَلْقَوْهُ سَوَاءٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى لَقِيَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ مِنْ قَبْلُ بِضَمِّ اللَّامِ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ مَوْضِعُ أَنْ تَلْقَوْهُ نَصْبًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْتِ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيْ عَايَنْتُمْ أَسْبَابَهُ وَهِيَ الْحَرْبُ الْمُسْتَعِرَةُ كَمَا قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ وَقَالَ:
وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ
…
فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ
وَقِيلَ: مَعْنَى الرُّؤْيَةِ هُنَا الْعِلْمُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيْ: فَقَدْ عَلِمْتُمُ الْمَوْتَ حَاضِرًا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَحَذْفُ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا عَزِيزٌ جِدًّا، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. فَلَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ بِاللَّامِ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَرُفِعَ مَا يَحْتَمِلُهُ رَأَيْتُمُوهُ مِنَ الْمَجَازِ أَوْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي بَيْنَ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ وَرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، أَيْ مُعَايِنِينَ مُشَاهِدِينَ لَهُ حِينَ قُتِلَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ وَشَارَفْتُمْ أَنْ تُقْتَلُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُتَعَلِّقُ النَّظَرِ مُتَعَلِّقَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ بُصَرَاءُ أَيْ لَيْسَ بِأَعْيُنِكُمْ عِلَّةٌ. وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْأَخْفَشُ أَيْضًا. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا فَعَلَ بِهِ.
وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ نَظَرَ تَأَمَّلَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالْفِرَارِ، وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ قُتِلَ أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْتِ. وَقِيلَ:
تَنْظُرُونَ فِي فِعْلِكُمُ الْآنَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، هَلْ وَفَّيْتُمْ أَوْ خَالَفْتُمْ؟ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً، بَلْ هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةُ الْإِخْبَارِ أَتَى بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْتُمْ حُسَبَاءُ أَنْفُسَكُمْ فتملوا قُبْحَ فِعْلِكُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهَا صِيغَةُ الْخَبَرِ فَمَعْنَاهَا الْعَتْبُ وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِيهَا مَحْذُوفٌ أَخِيرًا بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، أَيْ تَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ رُؤْيَةِ أَسْبَابِهِ وَكَشْفِ الْغَيْبِ، أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَمَنِّيكُمْ نَكَصْتُمْ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى رَأَيْتُمُوهُ قَابَلْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ بِعُيُونِكُمْ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ ذُكِرَ النَّظَرُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ حِينَ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ انْتَهَى. وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ لَا الْمُؤَكِّدَةِ إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ هِيَ الْإِبْصَارُ، لَا الْمُقَابَلَةُ وَالْمُوَاجَهَةُ.
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ هَذَا اسْتِمْرَارٌ فِي عَتْبِهِمْ آخَرُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ كَمَنْ مَضَى مِنَ الرُّسُلِ، بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ كَمَا بَلَّغُوا. وَلَيْسَ بَقَاءُ الرُّسُلِ شَرْطًا فِي
بَقَاءِ شَرَائِعِهِمْ، بَلْ هُمْ يَمُوتُونَ وَتَبْقَى شَرَائِعُهُمْ يَلْتَزِمُهَا أَتْبَاعُهُمْ. فَكَمَا مَضَتِ الرُّسُلُ وَانْقَضَوْا، فَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ هُوَ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرُّسُلُ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لِلرُّسُلِ، وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِمْ مِنَ اللَّهِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ رُسُلٌ بِالتَّنْكِيرِ، وَبِهَا قَرَأَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَحْطَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَوَجْهُهَا أَنَّهُ مَوْضِعُ تَبْشِيرٍ لَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ، وَمَكَانُ تَسْوِيَةٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ. وَهَكَذَا يَتَّصِلُ فِي أَمَاكِنِ الِاقْتِضَاءِ بِهِ بِالشَّيْءِ وَمِنْهُ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ «2» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ذَكَرَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ فِي نَحْوِ هَذَا الْمَسَاقِ أَبُو الْفَتْحِ، وَقِرَاءَةُ التَّعْرِيفِ أَوْجَهُ، إِذْ تَدُلُّ عَلَى تَسَاوِي كُلٍّ فِي الْخَلْقِ وَالْمَوْتِ، فَهَذَا الرَّسُولُ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ.
أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ لَمَّا صُرِخَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، تَزَلْزَلَتْ أَقْدَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَرُعِبَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَمْعَنُوا فِي الْفِرَارِ، وَكَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: مَا نَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ، فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا، مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ. وَفِرْقَةٌ قَالُوا: نُلْقِي إِلَيْهِمْ بِأَيْدِينَا فَإِنَّهُمْ قَوْمُنَا وَبَنُو عَمِّنَا. وَفِرْقَةٌ أَظْهَرَتِ النِّفَاقَ وَقَالُوا:
ارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا قُتِلَ.
وَظَاهِرُ الِانْقِلَابِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ هُوَ الِارْتِدَادُ. وَقِيلَ: هُوَ بِالْفِرَارِ لَا الِارْتِدَادُ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الِارْتِدَادِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ «3» وَهَذِهِ الْهَمْزَةُ هِيَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ، وَأَصْلُهَا التَّقْدِيمُ. إذ التقدير: فأ إن مَاتَ. لَكِنَّهُمْ يَعْتَنُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُ هَذَا وَخِلَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِيهِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيِّ: الْأَوْجُهُ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ الْفَاءُ، تَكُونُ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَيْهِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَقِيلَ: أَتُؤْمِنُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، فَإِنْ مَاتَ ارْتَدَدْتُمْ، فَتُخَالِفُوا سُنَنَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى مِلَلِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ زَمَخْشَرِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ إِنَّمَا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَبْلَهَا، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ. وَجَزَاؤُهُ، هُوَ انْقَلَبْتُمْ، فَلَا تُغَيِّرُ هَمْزَةُ الاستفهام شيئا من
(1) سورة سبأ: 34/ 13.
(2)
سورة هود: 11/ 40.
(3)
سورة البقرة: 2/ 143. [.....]
أَحْكَامِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ. فَإِذَا كَانَا مُضَارِعَيْنِ كَانَا مَجْزُومَيْنِ نَحْوَ: أَإِنْ تَأْتِنِي آتِكَ. وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يُبْنَى عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَيُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ، وَلَا بُدَّ إِذْ ذَاكَ مِنْ جَعْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ مَاضِيًا لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَلَا يُحْذَفُ الْجَوَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ عَمَلٌ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُ عِنْدَهُ أَنْ تَقُولَ: أَإِنْ أَكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ. التَّقْدِيرُ فِيهِ:
أُكْرِمْكَ إِنْ أَكْرَمْتَنِي، ولا يجوز عنده إن تُكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ بِجَزْمِهِمَا أَصْلًا، وَلَا إِنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمُكَ بِجَزْمِ الْأَوَّلِ وَرَفْعِ الثَّانِي إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلَى مَذْهَبِ يُونُسَ: تَكُونُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى انْقَلَبْتُمْ، وَهُوَ مَاضٍ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْقَتْلِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ عِنْدَ يُونُسَ مَحْذُوفٌ، وَبِقَوْلِ يُونُسَ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ قَالُوا: أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا هُوَ أَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ. وَدَخَلَتْ إِنْ هُنَا عَلَى الْمُحَقَّقِ وَلَيْسَ مِنْ مَظَانِّهَا، لِأَنَّهُ أُورِدَ مَوْرِدَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، وَتَجْوِيزِ قَتْلِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ. أَلَا تَرَى إِلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا أَنَّهُ قُتِلَ اضْطَرَبُوا وَفَرُّوا، وَانْقَسَمُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، وَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ أَكْثَرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنْ يُقْتَلَ. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَوِي الْبَصِيرَةِ مِنْهُمْ، وَمَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعَرَفَ سَبَبَ نُزُولِهَا.
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أَيْ مَنْ رَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ أَوِ ارْتَدَّ فَارًّا عَنِ الْقِتَالِ وَعَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ هِيَ عَامَّةٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَنِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَلْحَقُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَضَارُّ الْعَبْدِ. وَلَمْ تَقَعْ رِدَّةٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى عَقِبَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى عَقِبِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ. أَيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَالِانْقِلَابُ عَلَى الأعقاب أو
(1) سورة المائدة: 5/ 67.
عَلَى الْعَقِبَيْنِ أَوِ الْعَقِبِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ مِثْلَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ بِمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ.
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَعْدٌ عَظِيمٌ بِالْجَزَاءِ. وَجَاءَ بِالسِّينِ الَّتِي هِيَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَرِينَةُ التَّفْسِيرِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ: لَا يَتَأَخَّرُ جَزَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُمْ. وَالشَّاكِرِينَ هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى دِينِهِ، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِيمَا وَعَدُوهُ، وَثَبَتُوا. شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكْفُرُوهَا، كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَالْأَنْصَارِيِّ الَّذِي كان يتشخط فِي دَمِهِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ثَبَتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَالشَّاكِرُونَ لَفْظٌ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ شَاكِرٍ فِعْلًا وَقَوْلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الشُّكْرِ.
وَظَاهِرُ هَذَا الْجَزَاءِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ.
وَفَسَّرُوا الشَّاكِرِينَ هُنَا بِالثَّابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ قَالَهُ: عَلِيٌّ.
وَقَالَ هُوَ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَبُو بَكْرٍ، أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ يُشِيرَانِ إِلَى ثَبَاتِهِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاضْطِرَابِ النَّاسِ إِذْ ذَاكَ، وَثَبَاتِهِ فِي أَمْرِ الرِّدَّةِ وَمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ الْإِسْلَامِ. وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالطَّائِعِينَ.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ مَوْتَ الْأَنْفُسِ مُحَالٌ أَنْ تَكُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ فِعْلٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ تَمْثِيلًا. وَلِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَفْسًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ. وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ وَإِنْ خَاضَ الْمَهَالِكَ وَاقْتَحَمَ الْمَعَارِكَ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ مَا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ لَهُ نُهْزَةً لِلْمُخْتَلِسِينَ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِلَاءِ وَتَأَخُّرِ الْأَجَلِ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَهُوَ بَسْطُ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ إِلَّا بِأَجَلٍ مَحْتُومٍ. فَالْجُبْنُ لَا يَزِيدُ فِي الْحَيَاةِ وَالشَّجَاعَةُ لَا تُنْقِصُ مِنْهَا. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقْوِيَةٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْجِهَادِ، وَفِيهَا تَسْلِيَةٌ فِي مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَوْلُ الْعَرَبِ: مَا كَانَ لِزَيْدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَعْنَاهُ انْتِفَاءُ الْفِعْلِ عَنْ زَيْدٍ وَامْتِنَاعُهُ. فَتَارَةً يَكُونُ الِامْتِنَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «1» وَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «2» وَتَارَةً لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا عَادَةً نَحْوَ: ما كان
(1) سورة مريم: 16/ 35.
(2)
سورة النمل: 27/ 60.
لِزَيْدٍ أَنْ يَطِيرَ. وَتَارَةً لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا شَرْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً «1» وَتَارَةً لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا أَدَبًا، كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الصِّيغَةُ نَهْيًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لِنَفْسٍ، الْمُرَادُ الْجِنْسُ لَا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ. وَمَعْنَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيغِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْإِذْنِ، وَالْأَحْسَنُ فِيهِ أَنَّهُ تَمْكِينٌ مِنَ الشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلٌ فَيَكُونُ أَمْرًا. وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ. وأن تَمُوتَ فِي مَوْضِعِ اسْمِ كان، ولنفس هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ كان رائدة. فَيَكُونُ أَنْ تَمُوتَ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، وَلِنَفْسٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِهِ. وَقَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى الْمَعْنَى فَقَالَ: وَمَا كَانَتْ نَفْسٌ لِتَمُوتَ، فَجَعَلَ مَا كَانَ اسْمًا خَبَرًا، وَمَا كَانَ خَبَرًا اسْمًا، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِعْرَابَ، إِنَّمَا فَسَّرَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللَّامُ فِي: لِنَفْسٍ، لِلتَّبْيِينِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَانَ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ كانت تَامَّةً. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا كَانَ الْمَوْتُ لِنَفْسٍ وأن تَمُوتَ، تَبْيِينٌ لِلْمَحْذُوفِ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لِأَنَّ اسْمَ كَانَ إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَوِ الْفَاعِلَ إِنْ كَانَتْ تَامَّةً لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَلِمَا فِي حَذْفِهِ أَنْ لَوْ جَازَ مِنْ حَذْفِ الْمَصْدَرِ وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ.
كِتاباً مُؤَجَّلًا أَيْ لَهُ أَجَلٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْأَجَلَيْنِ. وَالْكِتَابَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُبَيَّنًا فِيهِ.
وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا. وَانْتِصَابُ كِتَابًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَنَظِيرُهُ:
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ صُنْعَ اللَّهِ ووَعْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ الزمور وَآمِنُوا بِالْقَدَرِ وَهَذَا بِعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كِتَابًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهَذَا لَا يَظْهَرُ فَإِنَّ التَّمْيِيزَ كَمَا قَسَّمَهُ النُّحَاةُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْقُولٍ وَغَيْرِ مَنْقُولٍ، وَأَقْسَامُهُ فِي النَّوْعَيْنِ مَحْصُورَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا وَاحِدًا مِنْهَا.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ رَغِبُوا فِي الْغَنَائِمِ يَوْمَ أُحُدٍ وَاشْتَغَلُوا بِهَا، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْقِتَالِ فِيهِ وَلَمْ يشغلهم
(1) سورة النساء: 4/ 92.
شَيْءٌ عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَهَذَا الْجَزَاءُ مِنْ إِيتَاءِ اللَّهِ مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الدُّنْيَا مَشْرُوطٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «1» .
وَقَوْلُهُ: «نُؤْتِهِ بِالنُّونِ فِيهِمَا» وَفِي: سَنَجْزِي قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى تَكَلُّمٍ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يُؤْتِهِ بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَفِي سَيَجْزِي، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْغَيْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ الْفَاعِلِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ وَهْمٌ، وَصَوَابُهُ: عَلَى إِضْمَارِ الْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ. وَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا أَرَادَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ دُنْيَاهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، لَكِنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ قَدْ يُؤْتَى نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيَا.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقْوَالٌ: نُؤْتِهِ نَصِيبًا مِنَ الْغَنِيمَةِ لِجِهَادِهِ الْكُفَّارَ، أَوْ لَمْ نَحْرِمْهُ مَا قَسَمْنَاهُ لَهُ إِذْ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ نَصِيبٍ. أَوْ هِيَ خَاصَّةٌ فِي أَصْحَابِ أُحُدٍ أَوْ مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالتَّعَرُّضِ لَهَا بِعَمَلِ النَّوَافِلِ مَعَ مُوَاقَعَةِ الْكَبَائِرِ جُوزِيَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَعْدٌ لِمَنْ شَكَرَ نِعَمَ اللَّهِ فَقَصَرَ هَمَّهُ وَنِيَّتَهُ عَلَى طَلَبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُنَعِّمُهُمُ اللَّهُ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا، وَلَا يُقْصِرُهُمْ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَأَظْهَرَ الْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي بَعْضِ طُرُقٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَابْنِ ذَكْوَانَ دَالَ يُرِدْ عِنْدَ ثَوَابَ، وَأَدْغَمَ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ قَالُونُ وَالْحَلْوَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ من طريق:
باختلاص الْحَرَكَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِشْبَاعِ. وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَبِالسُّكُونِ لِلْجَمِيعِ. وَوَجْهُ الْإِسْكَانِ أَنَّ الْهَاءَ لَمَّا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي كَانَ حَقُّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَرْفَ عِلَّةٍ أَنْ يَسْكُنَ، فَأُعْطِيَتِ الْهَاءُ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ السُّكُونِ. وُوَجْهُ الِاخْتِلَاسِ بِأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ مَا كَانَ لِلْهَاءِ قَبْلَ أَنْ تُحْذَفَ الْيَاءُ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْحَذْفِ كَانَ أَصْلُهُ يُؤْتِيهِ وَالْحَذْفُ عَارِضٌ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ.
وَوَجْهُ الإشباع بأنّه جاز نظر إِلَى اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتِ الْهَاءُ مُتَّصِلَةً بِحَرَكَةٍ وَالْأَوْلَى تَرْكُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ. فَإِنَّ اخْتِلَاسَ الضَّمَّةِ وَالْكَسْرَةِ بَعْدَ مُتَحَرِّكٍ لُغَةٌ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ عَنْ بَنِي عَقِيلٍ وَبَنِي كِلَابٍ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابَ كِلَابٍ وَعَقِيلٍ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2» وَلِرَبِّهِ لَكَنُودٌ بِغَيْرٍ تَمَامٍ وَلَهُ مَالٌ، وَلَهُ مَالٌ. وَغَيْرُ بَنِي كِلَابٍ وَبَنِي عَقِيلٍ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمُ اخْتِلَاسٌ، وَلَا سُكُونٌ فِي لَهُ وَشَبَهِهِ إِلَّا فِي صورة نحو قول الشاعر:
(1) سورة الإسراء: 17/ 18.
(2)
سورة العاديات: 100/ 6.
لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتٌ حَادٍ
…
إِذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أَوْ زَمِيرُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَأَشْرَبِ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ
…
إِلَّا لِأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعَتَبَ عَلَيْهِمُ اللَّهُ مَا حَذَّرَ مِنْهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ قَتَلَتْ أَنْبِيَاءً لَهُمْ كَثِيرُونَ أَوْ قُتِلَ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْحَقْهُمْ مَا لَحِقَكُمْ مِنَ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ، وَلَا ثَنَاهُمْ عَنِ الْقِتَالِ فَجْعُهُمْ بِقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ، أَوْ قَتْلِ ربيبهم، بَلْ مَضَوْا قُدُمًا فِي نُصْرَةِ دِينِهِمْ صَابِرِينَ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمْ. وَقَتْلُ نَبِيٍّ أَوْ أَتْبَاعِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَابِ، فَكَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي لَكُمُ التَّأَسِّي بِمَنْ مَضَى مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، هَذَا وَأَنْتُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَنَبِيُّكُمْ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعَتْبِ لِمَنْ فَرَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَأَيِّنْ قَالُوا: وَهِيَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ، إِذْ هِيَ أَيٌّ دَخَلَ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَكُتِبَتْ بِنُونٍ فِي الْمُصْحَفِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَبُو عَمْرٍو. وَسَوْرَةُ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْكِسَائِيِّ بِيَاءٍ دُونَ نُونٍ، وَوَقَفَ الْجُمْهُورُ عَلَى النُّونِ اتْبَاعًا لِلرَّسْمِ. وَاعْتَلَّ لِذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْمُعَلِّلِينَ، وَمِمَّا جَاءَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قول الشاعر:
وكائن فِي الْمَعَاسِرِ مِنْ أُنَاسٍ
…
أخوهم فرقهم وَهُمُ كِرَامُ
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَائِنْ وَهِيَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. قَالَ:
وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِينٍ وَالْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ: وَكَأَيِّنْ عَلَى مِثَالِ كَعَيِّنْ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنَ الشَّوَاذِّ كَيْئِنْ، وَهُوَ مَقْلُوبُ قِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِينٍ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ الدَّانِي كَانَ عَلَى مِثَالِ كَعِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَانَ صَدِيقٌ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخا
…
أبان اختياري أَنَّهُ لِي مُدَاهِنُ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ كَيٍّ بِكَافٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ. وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ابْنُ عَطِيَّةَ
وَغَيْرُهُ بِتَعْلِيلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي كَأَيِّنْ، وَبِمَا عُمِلَ فِي كَأَيِّنْ، وَبِمَا عُمِلَ فِي كَأَيِّنْ، فَلِذَلِكَ أَضْرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو قُتِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَتَادَةُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ التَّاءَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ قَاتَلَ بِأَلِفٍ فِعْلًا مَاضِيًا. وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ يَصْلُحُ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الضَّمِيرِ هُوَ الَّذِي قُتِلَ أَوْ قُتِّلَ عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْأَشْخَاصِ، لَا بِالنِّسْبَةِ لِفَرْدٍ فَرْدٍ. إِذِ الْقَتْلُ لَا يَتَكَثَّرُ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. أَوْ هُوَ قَاتِلٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَعَهُ رِبِّيُّونَ مُحْتَمِلًا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَرْتَفِعُ رِبِّيُّونَ بِالِابْتِدَاءِ، وَالظَّرْفُ قَبْلَهُ خَبَرُهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ لِأَجْلِ الضَّمِيرِ فِي مَعَهُ الْعَائِدِ عَلَى ذِي الْحَالِ، وَمُحْتَمِلًا أَنْ يَرْتَفِعَ رِبِّيُّونَ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالظَّرْفِ، وَيَكُونَ الظَّرْفُ هُوَ الْوَاقِعُ حَالًا التَّقْدِيرُ:
كَائِنًا مَعَهُ رِبِّيُّونَ، وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ. لِأَنَّ وُقُوعَ الْحَالِ مُفْرَدًا أَحْسَنُ مِنْ وُقُوعِهِ جُمْلَةً. وَقَدِ اعْتُمِدَ الظَّرْفُ لِكَوْنِهِ وَقَعَ حَالًا فَيَعْمَلُ وَهِيَ حَالٌ مَحْكِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ رِبِّيُّونَ بِالظَّرْفِ. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ مَاضِيًا لِأَنَّهُ حَكَى الْحَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ «1» وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا إِعْمَالُ اسْمِ الفاعل الماضي غير المعروف بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، بِكَوْنِهِ حِكَايَةَ حَالٍ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى رِبِّيُّونَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ ضَمِيرٌ، وَيَكُونُ الرِّبِّيُّونَ هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا أَوْ قُتِّلُوا أَوْ قَاتَلُوا، وَمَوْضِعُ كَأَيِّنْ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَهُ بِالْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُتِلَ أَوْ قُتِّلَ أَوْ قَاتَلَ، سَوَاءٌ أَرَفَعَ الْفِعْلُ الضَّمِيرَ، أَمِ الرِّبِّيِّينَ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قُتِلَ إِذَا رُفِعَ الضَّمِيرُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ كَمَا تَقُولُ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ مَعَهُ مَالٌ. أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ قَدْ وُصِفَ بِكَوْنِهِ مَقْتُولًا، أَوْ مُقَتَّلًا، أَوْ مُقَاتِلًا، وَبِكَوْنِهِ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وَيَكُونُ خَبَرُ كَأَيِّنْ قَدْ حُذِفَ تَقْدِيرُهُ: فِي الدُّنْيَا أَوْ مَضَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ إِضْمَارٍ. وَأَمَّا إِذَا رَفَعَ الظَّاهِرَ فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ مِنْ قُتِلَ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِنَبِيٍّ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا ضَعِيفٌ. وَلَمَّا ذَكَرُوا أَنَّ أَصْلَ كَأَيِّنْ هُوَ أَيٍّ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَجَرَّتْهَا، فَهِيَ عَامِلَةٌ فِيهَا، كَمَا دَخَلَتْ عَلَى ذَا فِي قَوْلِهِمْ: لَهُ عِنْدِي كَذَا. وَكَمَا دَخَلَتْ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: كَأَنَّ ادَّعَى أَكْثَرُهُمْ أَنَّ كَأَنَّ، بَقِيَتْ فِيهَا الْكَافُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ. وَأَنَّ كَذَا، وَكَأَنَّ، زَالَ عَنْهُمَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ. فعلى هذا
(1) سورة الكهف: 18/ 18.
لَا تَتَعَلَّقُ الْكَافُ بِشَيْءٍ، وَصَارَ مَعْنَى كَأَيِّنْ مَعْنَى كَمْ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى التَّشْبِيهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَمَّا الْعَامِلُ فِي الْكَافِ فَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى: إِصَابَتْكُمْ كَإِصَابَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَصْحَابِهِمْ. وَإِنْ حَمَلْنَا الْحُكْمَ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى مَعْنَى كَمْ، كَانَ الْعَامِلُ بِتَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ، وَكَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وقتل الْخَبَرُ.
وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ أَوْضَحُ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى بِمَا يَجِبُ مِنَ الْخَفْضِ فِي أَيٍّ. وَإِذَا كَانَتْ أَيٍّ عَلَى بَابِهَا مِنْ مُعَامَلَةِ اللَّفْظِ، فمن مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَافُ مِنَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ غَرَابَةٌ. وَجَرَّهُمْ إِلَى التَّخْلِيطِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ ادِّعَاؤُهُمْ بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ: كَافِ التَّشْبِيهِ، وَأَنَّ أَصْلَهَا أَيٌّ: فَجُرَّتْ بِكَافِ التَّشْبِيهِ. وَهِيَ دَعْوَى لَا يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهَا دَلِيلٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رَأْيَنَا فِيهَا أَنَّهَا بَسِيطَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَالنُّونُ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ وَلَيْسَ بِتَنْوِينٍ، وَحُمِلَتْ فِي الْبِنَاءِ عَلَى نَظِيرَتِهَا كَمْ.
وَإِلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الضَّمِيرِ.
ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَّةَ هِيَ سَبَبُ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَتَخَاذُلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَضُرِبَ الْمَثَلُ بِنَبِيٍّ قُتِلَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّرْجِيحَ قَوْلُهُ: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «1» النَّبِيُّ يُقْتَلُ، فَكَيْفَ لَا يُخَانُ؟ وَإِذَا أُسْنِدَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ كَانَ الْمَعْنَى تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ لِفَقْدِ مَنْ فُقِدَ مِنْهُمْ فَقَطْ. وَإِلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّبِّيِّينَ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ. قَالَ هُوَ وَابْنُ جُبَيْرَ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ قَطُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ قَاتَلَ أَعَمُّ فِي الْمَدْحِ، لِأَنَّهُ يُدْخِلُ فِيهَا مَنْ قُتِلَ وَمَنْ بَقِيَ. وَيَحْسُنُ عِنْدِي عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الرِّبِّيِّينَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ قُتِلَ إِسْنَادُهُ إِلَى نَبِيٍّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَقُولُ: قُتِلَ: يَظْهَرُ أَنَّهَا مَدْحٌ، وَهِيَ أَبْلَغُ فِي مَقْصُودِ الْخِطَابِ، لِأَنَّهَا نَصٌّ فِي وُقُوعِ الْقَتْلِ، وَيَسْتَلْزِمُ الْمُقَاتَلَةَ. وَقَاتَلَ: لَا تَدُّلُ عَلَى الْقَتْلِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وُجُودُ الْقَتْلِ. قَدْ تَكُونُ مُقَاتَلَةً وَلَا يَقَعُ قَتْلٌ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَهُ مَا ذُكِرَ لَا يَظْهَرُ حُسْنُهُ، بَلِ الْقِرَاءَتَانِ تَحْتَمِلَانِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: فِي قِرَاءَةِ قَتَادَةَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الرِّبِّيِّينَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي قَتْلِ شَخْصٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: يَسْتَنِدُ إِلَى نَبِيٍّ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى كَأَيِّنْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ مَشَى عَلَى جِهَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبِيٍّ، وَدَلَّ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ التَّمْثِيلُ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَأَيِّنْ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي
(1) سورة آل عمران: 3/ 16.
قَوْلَ مَنْ قَالَ لِمَنْ قُتِلَ وَقَاتَلَ: إِنَّمَا يَسْتَنِدُ إِلَى الرِّبِّيِّينَ. انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. لِأَنَّ كَأَيِّنْ مِثْلَ كَمْ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ إِذَا قُلْتَ: كَمْ مِنْ عَانٍ فَكَكْتُهُ، فَأَفْرَدْتَ. رَاعَيْتَ لَفْظَ كَمْ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ: وَإِذَا قُلْتَ: كَمْ مِنْ عَانٍ فَكَكْتُهُمْ، رَاعَيْتَ مَعْنَى كَمْ لَا لَفْظَهَا. وَلَيْسَ مَعْنَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّكَ أَفْرَدْتَ الضَّمِيرَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ. فَلَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْن فَكَكْتُهُ وَفَكَكْتُهُمْ، كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ قُتِلُوا مَعَهُمْ رِبِّيُّونَ وَقُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ، وَإِنَّمَا جَازَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ تَارَةً، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى تَارَةً، لِأَنَّ مَدْلُولَ كَمْ وَكَأَيِّنْ كَثِيرٌ، وَالْمَعْنَى جَمْعٌ كَثِيرٌ. وَإِذَا أُخْبِرْتَ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ فَتَارَةً تُفْرِدُ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَتَارَةً تَجْمَعُ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» فَقَالَ: مُنْتَصِرٌ، وَقَالَ: وَيُوَلُّونَ.
فَأَفْرَدَ مُنْتَصِرٌ، وَجَمَعَ فِي يُوَلُّونَ. وَقَوْلُ أَبِي الْفَتْحِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الَّذِي فَرَضَهُ: إِنَّ اللَّفْظَ قَدْ جَرَى عَلَى جِهَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبِيٍّ، أَيْ رُوعِيَ لَفْظُ كَأَيِّنْ لِكَوْنِ تَمْيِيزِهَا جَاءَ مُفْرَدًا، فَنَاسَبَ لَمَّا مُيِّزَتْ بِمُفْرَدٍ أَنْ يُرَاعَى لَفْظُهَا، وَالْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ: وَدَلَّ الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ التَّمْثِيلُ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ، هَذَا الْمُرَادُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَنْ يُفْرَدَ الضَّمِيرُ، أَوْ يُجْمَعَ. لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُفْرَدَ لَيْسَ مَعْنَاهُ هُنَا إِفْرَادُ مَدْلُولِهِ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ مُفْرَدًا وَمَجْمُوعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَإِذْ لَا فَرْقَ فَدَلَالَتُهُ عَامَّةٌ، وَهِيَ دَلَالَتُهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.
وَقَوْلُهُ: فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنْ مَعْنَى كَأَيِّنْ، لَمْ يَخْرُجِ الْكَلَامُ عَنْ مَعْنَى كَأَيِّنْ، إِنَّمَا خَرَجَ عَنْ جَمْعِ الضَّمِيرِ عَلَى مَعْنَى كَأَيِّنْ دُونَ لَفْظِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ لَفْظًا لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ مُفْرَدًا، إِنَّمَا يَكُونُ جَمْعًا كَمَا قَالُوا: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلُهُ، مَعْنَاهُ: وَأَجْمَلُهُمْ. وَمَنْ أَسْنَدَ قُتِلَ أَوْ قُتِّلَ إِلَى رِبِّيُّونَ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: قُتِلَ بَعْضُهُمْ. كَمَا تَقُولُ: قُتِلَ بَنُو فُلَانٍ فِي وَقْعَةِ كَذَا، أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ.
وَالرِّبِّيُّ عَابِدُ الرَّبِّ. وَكُسِرَ الرَّاءُ مِنْ تَغْيِيرِ النِّسَبِ، كَمَا قَالُوا: أَمْسِيٌّ في النسب إِلَى أَمْسِ، قَالَهُ: الْأَخْفَشُ. أَوِ الْجَمَاعَةُ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ. أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى الرِّبَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، ثُمَّ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. أَوِ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ قَالَهُ: يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ. وَرِبِّيُّونَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا. قَالَ قُطْرُبٌ: جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْأُلُوفُ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. عَدَّدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ:
هُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعكرمة، والضحاك، وقتادة،
(1) سورة القمر: 54/ 44- 45.
وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ: هُمُ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: هُمُ الْعُلَمَاءُ الْأَتْقِيَاءُ الصُّبَّرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْيَزِيدِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَتْبَاعُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ الْوُلَاةُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الصَّالِحُونَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: وُزَرَاءُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ أَلْفٌ، وَالرِّبِّيُونَ جَمْعُهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هُمُ الْمُكْثِرُونَ الْعِلْمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا كَثُرَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، لِأَنَّ رِبَا أُصُولُهُ رَاءٌ وَبَاءٌ وَوَاوٌ، وَأُصُولُ هذا راء وباء وياء. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُوَ مِنْ تغيير النسب. كما قالوا: دُهْرِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّهْرِ الطَّوِيلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْهُ: بِفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَالضَّمِيرُ فِي وَهَنُوا عَائِدٌ عَلَى الرِّبِّيِّينَ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قُتِلَ عائدا على النبي. وَإِنْ كَانَ رِبِّيُّونَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَكَذَلِكَ أَوْ لِلْمَفْعُولِ، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ. إِذْ لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى رِبِّيُّونَ لِأَجْلِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ رِبِّيِّيهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَهَنُوا بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو السَّمَّالِ بِكَسْرِهَا.
وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهَنَ يَهِنُ كَوَعَدَ يَعِدُ، وَوَهَنَ يَوْهَنُ كَوَجَلَ يَوْجَلُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ أَيْضًا: وَهْنُوا بِإِسْكَانِ الْهَاءِ. كَمَا قَالُوا نَعْمٌ فِي نَعَمْ، وَشَهْدَ فِي شَهَدَ. وَتَمِيمُ تُسَكِّنُ عَيْنَ فَعْلَ.
وَمَا ضَعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ: مَا ضَعُفَ يَقِينُهُمْ، وَلَا انْحَلَّتْ عَزِيمَتُهُمْ. وَأَصْلُ الضَّعْفَ نُقْصَانُ الْقُوَّةِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ والعقل. وقرىء ضَعَفُوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحَكَاهَا الْكِسَائِيُّ لُغَةً.
وَمَا اسْتَكَانُوا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَا قَعَدُوا عَنِ الْجِهَادِ فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا ذَلُّوا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا تَضَرَّعُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَا اسْتَسْلَمُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ: مَا جَبُنُوا. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَا خَشَعُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: مَا ارْتَدُّوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ دِينَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَاتَلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّهُمْ حَتَّى لَحِقُوا بِرَبِّهِمْ. وَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْوَهْنِ وَالِانْكِسَارِ عِنْدَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَبِضَعْفِهِمْ عِنْدَ ذلك عن
مُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتِكَانَتِهِمْ لَهُمْ، حِينَ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَعْتَضِدَ بِالْمُنَافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ.
وَاسْتَكَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْكَوْنِ، فَتَكُونُ أَصْلُ أَلِفِهِ وَاوًا أَوْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ:
مَاتَ فُلَانٌ بِكِينَةِ سُوءٍ، أَيْ بِحَالَةِ سُوءٍ. وَكَانَهُ يَكِينُهُ إِذَا خَضَّعَهُ قَالَ هَذَا: الْأَزْهَرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ. فَعَلَى قَوْلِهِمَا أَصْلُ الْأَلِفِ يَاءٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: أَنَّهُ افْتَعَلَ مِنَ السُّكُونِ، وَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا أَلِفٌ. كَمَا قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ، يُرِيدُ مِنَ الْعَقْرَبِ. وَهَذَا الْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهَا بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ تَقُولُ: اسْتَكَانَ يَسْتَكِينُ فَهُوَ مُسْتَكِينٌ وَمُسْتَكَانٌ لَهُ، وَالْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ أَيْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ. أَوْ عَلَى دِينِهِمْ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ بَلَاءٍ، أَوْ أَذًى يَنَالُهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ، أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ.
وَكَثِيرًا مَا تَمَدَّحَتِ الْعَرَبُ بِالصَّبْرِ وَحَرَصَتْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ:
وَتَشَكِّي النَّفْسُ مَا أَصَابَ بِهَا
…
فَاصْبِرِي إِنَّكِ مِنْ قَوْمٍ صُبُرُ
إِنْ تُلَاقِي سفسيالا بَلَغْنَا
…
فُرُحَ الْخَيْرِ وَلَا تكبو الضبر
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْجَلَدِ وَالصَّبْرِ وَعَدَمِ الْوَهْنِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِلْعَدُوِّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ، ذَكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ، وَحَصَرَ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ وَلَا مَفْزَعٌ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا قَوْلٌ إِلَّا هَذَا الْقَوْلٌ. لَا مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. فَمِنْ قَائِلٍ: نَأْخُذُ أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَمِنْ قَائِلٍ: نَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا، وَمِنْ قَائِلٍ مَا قَالَ حِينَ فَرَّ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ فُجِعُوا بِمَوْتِ نَبِيِّهِمْ أَوْ رِبِّيِّيهِمْ لَمْ يَهِنُوا، بَلْ صَبَرُوا وَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَهُمْ رِبِّيُّونَ أَحْبَارٌ هَضْمًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِشْعَارًا أَنَّ مَا نَزَلْ من بلاد الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ بِعِصْيَانِ مَنْ عَصَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وإن قَالُوا فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ، جَعَلُوا مَا كَانَ أَعْرَفَ الِاسْمَ، لِأَنَّ إِنْ وَصِلَتَهَا تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للمضير، يَتَنَزَّلُ
مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الَمَهَدَوِيُّ بِرَفْعِ قَوْلِهِمْ، جعلوه اسم كان، والخبران قَالُوا. وَالْوَجْهَانِ فَصِيحَانِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَدْ قرىء: ثم لم تكن فتنتهم بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، وَقَدَّمَ طَلَبَ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَلَبِ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ وَالنُّصْرَةِ، لِيَكُونَ طَلَبُهُمْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَنْ زَكَاةٍ وَطَهَارَةٍ. فَيَكُونُ طَلَبُهُمُ التَّثْبِيتَ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِغْفَارِ حَرِيًّا بِالْإِجَابَةِ، وَذُنُوبُنَا وَإِسْرَافُنَا مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.
وَقِيلَ: الذُّنُوبُ مَا دُونُ الْكَبَائِرِ، وَالْإِسْرَافُ الْكَبَائِرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذُّنُوبُ هِيَ الْخَطَايَا، وَإِسْرَافُنَا أَيْ تَفْرِيطُنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الذُّنُوبُ عَامٌّ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَمْرِ الْكَبَائِرُ خَاصَّةً.
وَالْأَقْدَامُ هُنَا قِيلَ: حَقِيقَةٌ، دَعَوْا بِتَثْبِيتِ الأقدام في مواطىء الْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ كَيْ لَا تَزُلْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى شَجِّعْ قُلُوبَنَا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَقِيلَ: ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ.
وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مِنْ مَظَانِّهَا. وَثُبُوتُ الْقَدَمِ فِي الْحَرْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ثُبُوتِ صَاحِبِهَا فِي الدِّينِ. وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ دَائِرَةً فِي الْحَرْبِ وَمَعَ النُّصْرَةِ كَقَوْلِهِ:
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا «1» إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «2» وَقِيلَ: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فِي الْمُخَالَفَةِ، وَإِسْرَافَنَا فِي الْهَزِيمَةِ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا بِالْمُصَابَرَةِ، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ.
قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فِي هَذَا الدُّعَاءِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لم يسع أَنْ يُدْعَى فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمُعَيَّنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَدْعِيَةٌ أَعْقَبَ اللَّهُ بِالْإِجَابَةِ فِيهَا فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: فَأَثَابَهُمُ مِنَ الْإِثَابَةِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فِي دُعَائِهِمْ مَا يَتَضَمَّنُ الْإِجَابَةَ فِيهِ الثَّوَابَيْنَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا، فَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابَ الدُّنْيَا، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَحَهُمُ الثَّوَابَيْنِ. وَهُنَاكَ بَدَأُوا فِي الطَّلَبِ بِالْأَهَمِّ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَهُنَا أَخْبَرَ بِمَا أَعْطَاهُمْ مُقَدَّمًا. ذَكَرَ ثَوَابَ الدُّنْيَا لِيَكُونَ ذَلِكَ إِشْعَارًا لَهُمْ بِقَبُولِ دُعَائِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ قتادة
(1) سورة البقرة: 2/ 250.
(2)
سورة محمد: 47/ 7.
وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: ثَوَابُ الدُّنْيَا هُوَ الظُّهُورُ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ الظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثَوَابُ الدُّنْيَا مِنَ النُّصْرَةِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْعِزِّ وَطِيبِ الذِّكْرِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَيْسَ إِلَّا الظَّفَرُ وَالْغَلَبَةُ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَمْ تَحِلَّ إِلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا صَحِيحٌ ثَبَتَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي»
وَهِيَ إِحْدَى الْخَمْسِ الَّذِي أُوتِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُؤْتَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ. وَحُسْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: الْأَجْرُ وَالْمَغْفِرَةُ. وَخَصَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالْحُسْنِ دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَهُ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ «1» وَتَرْغِيبًا فِي طَلَبِ مَا يُحَصِّلُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمُنَاسِبَةً لِآخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَنْ عَمِلَ لِدُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
قَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْإِحْسَانَ حِينَ سُئِلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
وَفَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا بِأَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَهُوَ مَنْ أَحْسَنَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فِي لُزُومِ طَاعَتِهِ، أَوْ مَنْ ثَبَتَ فِي الْقِتَالِ مَعَ نَبِيِّهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَغْلِبَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ الْخِطَابُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَمَا زَالَ الْكُفَّارُ مُثَابِرِينَ عَلَى رُجُوعِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ، لَنْ تَنْفَعَكُمْ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً «2» . وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ «3» وَقِيلَ: الْخِطَابُ خَاصٌّ بِمَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ عَلَّقَ عَلَى مُطْلَقِ طَاعَتِهِمُ الرَّدَّ عَلَى الْعَقِبِ وَالِانْقِلَابِ بِالْخُسْرَانِ وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُمْ وَالْمُجَانَبَةِ لَهُمْ، فَلَا يُطَاعُونَ فِي شَيْءٍ وَلَا يُشَاوَرُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَجِرُّ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، وَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامًّا. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا خَاصًّا.
فَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا أَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فَارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالَهُ: الْحَسَنُ.
وَعَنْهُ: إِنْ تَسْتَنْصِحُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَغْوُونَهُمْ، وَيُوقِعُونَ لَهُمُ الشُّبَهَ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لَكُمْ نَبِيًّا حَقًّا لَمَا غُلِبَ وَلَمَا أَصَابَهُ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ حَالُهُ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، يَوْمًا لَهُ ويوما عليه.
(1) سورة الأنفال: 8/ 67.
(2)
سورة البقرة: 2/ 109.
(3)
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 69. [.....]
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ كَعْبٌ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، لَكِنْ أَجْمَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَنْ وَثِقْنَا بِنُصْحِهِ مِنْهُمْ، كَالْجَاسُوسِ وَالْخِرِّيتِ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَصَاحِبِ الرَّأْيِ ذِي الْمَصْلَحَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالزَّوْجَةِ تُشِيرُ بِصَوَابٍ.
وَالرِّدَّةُ هُنَا عَلَى الْعَقِبِ كِنَايَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ. وَخَاسِرِينَ: أَيْ مَغْبُونِينَ بِبَيْعِكُمُ الْآخِرَةَ.
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ بَلْ: لِتَرْكِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ وَأَخْذٍ فِي كَلَامٍ غَيْرِهِ.
وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْكُفَّارُ أَوْلِيَاءَ فَيُطَاعُوا فِي شَيْءٍ، بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ عَلَى مَعْنَى: بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُطِيعُوا الْكُفَّارَ فَتَكْفُرُوا، بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ مَوْلَاكُمْ.
وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَوْلَاهُمْ، أَيْ نَاصِرِهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَيْرُ نَاصِرٍ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى نُصْرَةِ أَحَدٍ، وَلَا وِلَايَتِهِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِنَصْرِ دِينِ اللَّهِ لَا يُخْذَلُ وَلَا يُغْلَبُ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «1» إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ «2» .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فَإِنَّا نَخْذُلُهُمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَتَى بِالسِّينِ الْقَرِيبَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَكَذَا وَقَعَ. أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يَوْمَ أُحُدٍ فَانْهَزَمُوا إِلَى مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ إِذْ ذَاكَ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ. وَقِيلَ: ذَهَبُوا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالُوا: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، قَتَلْنَا مِنْهُمْ ثُمَّ تَرَكْنَاهُمْ وَنَحْنُ قَاهِرُونَ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَمْسَكُوا. وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْرَامِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْجَعْلِ، وَنَظِيرُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ «3» وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ من فويهما
…
عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أَشَدَّ رِجَامِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنُلْقِي بِالنُّونِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِظَمِ مَا يُلْقَى، إِذْ أَسْنَدَهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: سَيُلْقِي بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى الْغَيْبَةِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وَقَدَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ: وَهُوَ مَجْرُورٌ عَلَى المفعول للاهتمام بالمحل
(1) سورة محمد: 47/ 7.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 16.
(3)
سورة النور: 24/ 4.
الْمُلْقَى فِيهِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمُلْقَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: الرُّعُبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا. فَقِيلَ: لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ السُّكُونُ، وَضُمَّ إِتْبَاعًا كَالصُّبْحِ وَالصُّبُحِ. وَقِيلَ:
الْأَصْلُ الضَّمُّ، وَسُكِّنَ تَخْفِيفًا، كَالرُّسْلِ وَالرُّسُلِ. وَذَكَرُوا فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ يَوْمَ أُحُدٍ قِصَّةً طَوِيلَةً أَرَدْنَا أَنْ لَا نُخَلِّيَ الْكِتَابَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَخَّصْنَا مِنْهَا
أَنْ عَلِيًّا أَخْبَرَ الرَّسُولَ بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ حِينَ ارْتَحَلُوا رَكِبُوا الْإِبِلَ وَجَنَبُوا الْخَيْلَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَجَهَزَ وَاتَّبَعَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ.
وَأَنَّ مَعْبَدَ الْخُزَاعِيَّ جَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَافِرٌ مُمْتَعِضٌ مِمَّا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ تَمِيلُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقِتَالِ فَخَذَلَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَعْبَدٌ. وَقَالَ مَعْبَدٌ: خَرَجُوا يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، وَلَمْ أَرَ إِلَّا نَوَاصِيَ خَيْلِهِمْ قَدْ جَاءَتْكُمْ. وَحَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ أَنِّي قُلْتُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا وَأَنْشَدَ:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي
…
إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بالحرد الْأَبَابِيلِ
تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ
…
عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٍ مَهَازِيلٍ
فَظَلْتُ أَعْدُو أَظُنُّ الْأَرْضَ مَائِلَةً
…
لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
إِلَى آخِرِ الشِّعْرِ، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَقَوْلُهُ: سَنُلْقِي، وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ بَعْدَ أُحُدٍ، وَالظَّفَرِ.
وَقَالَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»
وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ يُلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ.
بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ آلِهَةً لَمْ يُنَزِّلْ بِإِشْرَاكِهَا حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا، وَتَسْلِيطُ النَّفْيِ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَالْمَقْصُودُ: نَفْيُ السُّلْطَانِ، أَيْ آلِهَةٌ لَا سُلْطَانَ فِي إِشْرَاكِهَا، فَيَنْزِلُ نَحْوَ قَوْلِهِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ وَقَوْلُهُ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ أَيْ لَا يَنْجَحِرُ الضَّبُّ فَيُرَى بِهَا. وَالْمُرَادُ نَفْيُ السُّلْطَانِ وَالنُّزُولُ مَعًا. وَكَانَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ سَبَبًا لِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ، لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْمَوْتَ وَيُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ، إِذْ لَمْ تَتَعَلَّقْ آمَالُهُمْ بِالْآخِرَةِ وَلَا بِثَوَابٍ فِيهَا وَلَا عِقَابٍ، فَصَارَ اعْتِقَادُهُمْ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِي الرَّغْبَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا قَالُوا:
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، إِذْ لَا بُرْهَانَ مَعَ الْمُقَلِّدِ.
وَمَأْواهُمُ النَّارُ أُخْبِرَ تَعَالَى بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَرْجِعَهُمْ إِلَى النَّارِ فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَرْعُوبُونَ وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ، بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ. فَهُوَ جَالِبٌ لَهُمُ الشَّرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ بَالَغَ فِي ذَمِّ مَثْوَاهُمْ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ:
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ النَّارُ. وَجَعَلَ النَّارَ مَأْوَاهُمْ وَمَثْوَاهُمْ. وَبَدَأَ بِالْمَأْوَى وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الثَّوَاءُ، لِأَنَّ الثَّوَاءَ دَالٌّ عَلَى الْإِقَامَةِ، فَجَعَلَهَا مَأْوًى وَمَثْوًى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ «2» وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ النَّارَ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إِذْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ. كَمَا قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «3» .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ هَذَا جَوَابٌ لِمَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا:
وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ وَالْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ أُتِينَا فَنَزَلَتْ إِعْلَامًا أَنَّهُ تَعَالَى صَدَقَهُمُ الْوَعْدَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَوَّلًا، وَكَانَ الْإِمْدَادُ مَشْرُوطًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى. وَاتَّفَقَ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مَا نَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَجَاءَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِجَمْعِ ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصْدُرْ مَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَةِ مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِلْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، وَفِي ذَلِكَ إِبْقَاءٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ وَسَتَرَ، إِذْ لَمْ يُعَيِّنْ وَزَجْرٌ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ أَنْ يَفْعَلَ.
وَصِدْقُ الْوَعْدُ: هُوَ أَنَّهُمْ هَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا، وَكَانَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالزُّبَيْرِ وَأَبِي دُجَانَةَ وَعَاصِمِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحِ بَلَاءٌ عَظِيمٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي السِّيَرِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ. وَالْمُسْلِمُونَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ. وَتَعَدَّتْ صَدَقَ هُنَا إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، تَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، وَصَدَقْتُ زَيْدًا فِي الْحَدِيثِ، ذَكَرَهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي بَابِ مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَيَكُونُ من باب استغفر.
واختاروا العامل فِي إِذْ صَدَقَكُمُ.
وَمَعْنَى تَحَسُّونَهُمْ: تَقْتُلُونَهُمْ. وَكَانُوا قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ رجلا. وقرأ
(1) سورة المؤمنون: 23/ 37.
(2)
سورة فصلت: 41/ 24.
(3)
سورة لقمان: 31/ 13
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ تَحُسُّونَهُمْ رُبَاعِيًّا مِنَ الْإِحْسَاسِ، أَيْ تُذْهِبُونَ حِسَّهُمْ بِالْقَتْلِ. وَتَمَنِّي الْقَتْلَ بِوَقْتِ الْفَشَلِ وَهُوَ: الْجُبْنُ، وَالضَّعْفُ.
وَالتَّنَازُعُ وَهُوَ التَّجَاذُبُ فِي الْأَمْرِ. وَهَذَا التَّنَازُعُ صَدَرَ مِنَ الرُّمَاةِ. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَتَّبَ الرُّمَاةَ عَلَى فَمِ الْوَادِي
وَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنِ انْتَهَوْا إِلَى أَمْرِهِ. فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ بَعْضُ الرُّمَاةِ: قَدِ انْهَزَمُوا فَمَا مَوْقِفُنَا هُنَا؟ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، الْحَقُوا بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَثْبُتُ مَكَانَنَا كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: التَّنَازُعُ هُوَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاخْتِلَافِ حِينَ صِيحَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ.
وَالْعِصْيَانُ هُوَ ذَهَابُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الرُّمَاةِ مِنْ مَكَانِهِ طَلَبًا لِلنَّهْبِ وَالْغَنِيمَةِ، وَكَانَ خَالِدٌ حِينَ رَأَى قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ وَحَمَلَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الرُّمَاةِ فَقَتَلَهُمْ، وَحَمَلَ عَلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَاجَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ رَجُلًا.
مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ، وَهُوَ ظَفَرُ الْمُؤْمِنِينَ وَغَلَبَتُهُمْ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدٍ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلُّوا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ أَدْبَارِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلَا أن محمدا قد قتل، فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ الْقَوْمُ عَلَيْنَا.
وإذا فِي قَوْلِهِ: إِذَا فَشِلْتُمْ، قِيلَ: بِمَعْنَى إِذْ، وَحَتَّى حَرْفُ جَرٍّ وَلَا جَوَابَ لَهَا إِذْ ذَاكَ، وَيَتَعَلَّقُ بِتَحُسُّونَهُمْ أَيْ: تَقْتُلُونَهُمْ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَقِيلَ: حَتَّى حَرْفُ ابْتِدَاءٍ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى جُمَلِ الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابُ مَلْفُوظٌ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَتَنَازَعْتُمْ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، قَالَهُ: الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَثُمَّ صَرَفَكُمْ عَلَى زِيَادَةِ ثُمَّ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاللَّذَانِ قَبْلَهُمَا ضِعَافٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْهَزَمْتُمْ.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ: مَنَعَكُمْ نَصْرَهُ، وَغَيْرُهُمَا: امْتُحِنْتُمْ. وَالتَّقَادِيرُ مُتَقَارِبَةٌ. وَحَذْفُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ «1» تَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَحْذُوفَ غَيْرُ مَا قَدَّرُوهُ وَهُوَ:
انْقَسَمْتُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ «2» التَّقْدِيرُ: انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ لَا يُقَالُ: كَيْفَ، يقال: انقسموا فيمن
(1) سورة الأنعام: 6/ 35.
(2)
سورة لقمان: 31/ 32.
فَشِلَ وَتَنَازَعَ، وَعَصَى. لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمْ تَصْدُرْ مِنْ كُلِّهِمْ، بَلْ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَعْصُوا بِتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ هَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّبِيِّ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَا يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَلَا ينتهي علمنا إِلَيْنَا إِلَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ يُخْبِرُ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ:
الدُّنْيَا الْغَنِيمَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَالَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ هُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزِهِمْ مَعَ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جبير فِي نَفَرٍ دُونَ الْعَشْرَةِ قُتِلُوا جَمِيعًا، وَكَانَ الرُّمَاةُ خَمْسِينَ ذَهَبَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ عَلَى أَرْبَعِينَ لِلنَّهْبِ وَعَصَوُا الْأَمْرَ. وَمِمَّنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ مَنْ ثَبَتَ بَعْدَ تَخَلْخُلِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَضْطَرِبْ فِي قِتَالِهِ وَلَا فِي دِينِهِ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ.
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَيْ جَعَلَكُمْ تَنْصَرِفُونَ.
لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَكُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ وَثَبَاتَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عِنْدَهَا. وَقِيلَ:
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَيْ لَمْ تَتَمَادَ الْكَسْرَةُ عَلَيْكُمْ فَيَسْتَأْصِلُوكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يُكَلِّفْكُمْ طَلَبَهُمْ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ. وَتَأَوَّلَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَعْنَى: ثُمَّ انْصَرَفْتُمْ عَنْهُمْ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ابْتِلَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيُنْزِلَ بِكُمْ ذَلِكَ الْبَلَاءَ مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّمْحِيصِ.
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ قِيلَ: عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَى فِرَارِكُمْ، وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: بِرَدِّ الْعَدُوِّ عَنْكُمْ. وَقِيلَ: بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْعَوْدِ إِلَى قِتَالِهِمْ مِنْ فَوْرِكُمْ. وَقِيلَ: بِتَرْكِ الِاسْتِئْصَالِ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ. فَمَعْنَى عَفَا عَنْكُمْ أَبْقَى عَلَيْكُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ سَبْعُونَ، وَقُتِلَ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ. وَإِنَّمَا الْعَفْوُ إِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ هَؤُلَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ غِضَابٌ لِلَّهِ