المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة ال عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]

- ‌سورة النّساء

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 39]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 79]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

وَالطِّبَاقُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ الِانْقِيَادُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالتَّوَلِّي ضِدُّ الْإِقْبَالِ. وَالتَّقْدِيرُ:

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ ضَلُّوا، وَالضَّلَالَةُ ضِدُّ الْهِدَايَةِ.

وَالْحَشْوُ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ قَطُّ نَبِيٌّ بِحَقٍّ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الْحَشْوَةِ لِيَتَأَكَّدَ قُبْحُ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَعْظُمَ أَمْرُهُ فِي قَلْبِ الْعَازِمِ عَلَيْهِ.

وَالتَّكْرَارُ فِي وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.

وَالزِّيَادَةُ فِي فَبَشِّرْهُمْ زَادَ الْفَاءَ إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ.

وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِيمَا سبق.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

ص: 79

غَرَّ، يَغُرُّ، غُرُورًا: خَدَعَ وَالْغِرُّ: الصَّغِيرُ، وَالْغَرِيرَةُ: الصَّغِيرَةُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَنْخَدِعَانِ بِالْعَجَلَةِ، وَالْغِرَّةُ مِنْهُ يُقَالُ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ، أَيْ: تَغَفُّلٍ وَخِدَاعٍ، وَالْغُرَّةُ: بَيَاضٌ فِي الْوَجْهِ، يُقَالُ مِنْهُ: وَجْهٌ أَغَرُّ، وَرَجُلٌ أَغَرُّ، وَامْرَأَةٌ غَرَّاءُ. وَالْجَمْعُ عَلَى الْقِيَاسِ فِيهِمَا غُرٌّ.

قَالُوا: وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ: وَغُرَّانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طُهَارَى نَقِيَّةً

وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ

نَزَعَ يَنْزِعُ: جَذَبَ، وَتَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ تَجَاذَبْنَاهُ، وَمِنْهُ: نِزَاعُ الْمَيِّتِ، وَنَزَعَ إِلَى كَذَا:

مَالَ إِلَيْهِ وَانْجَذَبَ، ثُمَّ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الزَّوَالِ، يُقَالُ: نَزَعَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرَّ: أَزَالَهُ.

وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا وَلِجَّةً وَوَلْجًا، وَوَلَجَ تَوَلُّجًا وَاتَّلَجَ اتِّلَاجًا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَإِنَّ الْقَوَافِيَ يَتَّلِجْنَ مَوَالِجًا

تَضَايَقُ عَنْهَا أَنْ تَوَلَّجَهَا الْإِبَرْ

الْأَمَدُ: غَايَةُ الشَّيْءِ، وَمُنْتَهَاهُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ.

اللَّهُمَّ: هُوَ اللَّهُ إِلَّا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّدَاءِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْمِيمُ الَّتِي لَحِقَتْهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ عِوَضٌ مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَلِذَلِكَ لَا تَدَخُلَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ. وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ: هِيَ مِنْ قَوْلِهِ: يَا اللَّهُ أَمِّنَّا بِخَيْرٍ، وَقَدْ أَبْطَلُوا هَذَا النَّصْبَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَكَبُرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ حَتَّى حَذَفُوا مِنْهَا: أَلْ، فَقَالُوا: لَا هُمَّ، بِمَعْنَى: اللَّهُمَّ. قَالَ الزَّاجِرُ:

لَا هُمْ إِنِّي عَامِرُ بْنُ جَهْمِ

أَحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ

وَخُفِّفَتْ مِيمُهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ قَالَ:

كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رِيَاحٍ

يَسْمَعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ

الصَّدْرُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ: صُدُورٌ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ

قَالَ السُّدِّيُّ: دَعَا النبي صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى: هَلُمَّ نُخَاصِمُكَ إِلَى الْأَحْبَارِ. فَقَالَ: «بَلْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ» . فَقَالَ: بَلْ إِلَى الْأَحْبَارِ. فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَخَلَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدَارِسِ عَلَى الْيَهُودِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ

ص: 80

نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ» . قَالَا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يهوديا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ» . فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ فِي دِينِنَا الرَّجْمُ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَخْفِيفًا لِلزَّانِيَيْنِ لشرفهما، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا أَحْكُمُ بِكِتَابِكُمْ» . فَأَنْكَرُوا الرَّجْمَ، فَجِيءَ بِالتَّوْرَاةِ، فَوَضَعَ حَبْرُهُمْ، ابْنُ صُورِيَا، يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ:

جَاوَزَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَظْهَرَهَا فَرُجِمَا.

وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ، فَقَالَ لَهُمْ:«هَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ فَفِيهَا صِفَتِي» .

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: دَعَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْهُدَى مِنْكَ، وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا من بين إِسْرَائِيلَ، قَالَ:«فَأَخْرِجُوا التَّوْرَاةَ فَإِنِّي مَكْتُوبٌ فِيهَا أَنِّي نبي» فأبوا، فنزلت

الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هُمُ: الْيَهُودُ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ.

وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: مِنَ الْكِتابِ جِنْسٌ لِلْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَبَدَأَ به الزمخشري و: من، تَبْعِيضٌ.

وَفِي قَوْلِهِ: نَصِيبًا، أَيْ: طَرَفًا، وَظَاهِرُ بَعْضِ الْكِتَابِ، وَفِي ذَلِكَ إِذْ هُمْ لَمْ يَحْفَظُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوا جَمِيعَ مَا فِيهِ.

يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ هُوَ: التَّوْرَاةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وابن جريح: القرآن.

و: يدعون، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ، وَالْعَامِلُ: تَرَ، وَالْمَعْنَى: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَدْعُوِّينَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؟ أَيْ: فِي حَالِ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَيْ:

لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: لِيُحْكَمَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْمَحْكُومُ فِيهِ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ.

ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ هَذَا اسْتِبْعَادٌ لِتَوَلِّيهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَنَسَبَ التَّوَلِّي إِلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ لَا إِلَى جَمِيعِ الْمُبْعَدِينَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَوَلَّ كَابْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ.

وَهُمْ مُعْرِضُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ هُوَ الْإِعْرَاضُ، أَوْ مُبَيِّنَةٌ لِكَوْنِ التَّوَلِّي عَنِ الدَّاعِي، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمُتَعَلِّقُ مُخْتَلِفًا، أَوْ لِكَوْنِ التَّوَلِّي بِالْبَدَنِ

ص: 81

وَالْإِعْرَاضِ بِالْقَلْبِ، أَوْ لِكَوْنِ التَّوَلِّي مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَالْإِعْرَاضِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أخبر عنهم قَوْمٌ لَا يَزَالُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ شَأْنِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَاقِعًا لَا بَيْنُهُمْ وَبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَإِنْ صَحَّ سَبَبٌ مِنْهَا كَانَ الْمَعْنَى:

لِيَحْكُمَ بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ حُمِلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، فَدُعُوا إِلَى التَّوْرَاةِ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِي صِحَّتِهَا عِنْدَكُمْ، لِيَحْكُمَ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، فَتَوَلَّى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ.

قِيلَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُمْ لولا عِلْمُهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، لَمَا أَعْرَضُوا وَتَسَارَعُوا إِلَى مُوَافَقَةِ مَا فِي كتبهم، حتى ينبؤا عَنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُ. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَاهُ خَصْمُهُ إِلَى الْحُكْمِ الْحَقِّ لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَيُعَضِّدُهُ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ «1» .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِذَا دُعِيَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَخَالَفَ تَعَيَّنَ زَجْرُهُ بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالِفِ، وَالْمُخَالَفِ. وَهَذَا الْحُكْمُ جَارٍ عِنْدَنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَلَيْسَ بِالدِّيَارِ المصرية.

قال ابن خويز منداذ الْمَالِكِيُّ: وَاجِبٌ عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ يُجِيبَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى التَّوَلِّي، أَيْ: ذَلِكَ التَّوَلِّي بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ، وَتَسْهِيلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ، وَطَمَعِهِمْ فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا طَمِعَتِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْحَشْوِيَّةُ.

وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ أَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ يَشْفَعُونَ لَهُمْ، كَمَا غَرَّى أُولَئِكَ بِشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَبَائِرِهِمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ مِنَ اللَّهَجِ بِسَبِّ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَرَمْيِهِمْ بِالتَّشْبِيهِ، وَالْخُرُوجِ إِلَى الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ طريق أمكنه.

(1) سورة النور: 24/ 48.

ص: 82

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ: الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ هُنَاكَ: مَعْدُودَةٌ، وَهُنَا: مَعْدُودَاتٌ، وَهُمَا طَرِيقَانِ فَصِيحَانِ تَقُولُ: جِبَالٌ شَامِخَةٌ، وَجِبَالٌ شَامِخَاتٌ. فَتَجْعَلُ صِفَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ لِلْمُذَكَّرِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً لِصِفَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَتَارَةً لِصِفَةِ الْمُؤَنَّثَاتِ. فَكَمَا تَقُولُ: نِسَاءٌ قَائِمَاتٌ، كَذَلِكَ تَقُولُ: جِبَالٌ رَاسِيَاتٌ، وَذَلِكَ مَقِيسٌ مُطَّرِدٌ فِيهِ.

وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي افْتَرَوْهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقال قتادة: بقولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَقِيلَ: لَنْ، يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» وَقِيلَ: مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.

وَارْتَفَعَ: ذَلِكَ، بالابتداء، و: بأنهم، هُوَ الْخَبَرُ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي كَائِنٌ لَهُمْ وَحَاصِلٌ بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، يَحْصُرُهَا الْعَدَدُ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: شَأْنُهُمْ ذَلِكَ، أَيِ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ: بِأَنَّهُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مَصْحُوبًا بهذا القول، وَ: مَا فِي: مَا كَانُوا، مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ.

فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ، وَاسْتِعْظَامٌ لِعِظَمِ مَقَالَتِهِمْ حِينَ اخْتَلَفَتْ مَطَامِعُهُمْ، وَظَهَرَ كَذِبُ دَعْوَاهُمْ، إِذْ صَارُوا إِلَى عَذَابٍ مَا لَهُمْ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «2» هَذَا الْكَلَامُ يُقَالُ عِنْدَ التَّعْظِيمِ لِحَالِ الشَّيْءِ، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَكَيْفَ بِنَفْسٍ، كُلَّمَا قُلْتُ: أَشْرَفَتْ

عَلَى الْبُرْءِ مِنْ دَهْمَاءَ، هِيضَ انْدِمَالُهَا

وَقَالَ:

فَكَيْفَ؟ وَكُلٌّ لَيْسَ يَعْدُو حِمَامَهُ

وما لامرىء عَمَّا قَضَى اللَّهُ مُرْحَلُ

وَانْتِصَابُ: فَكَيْفَ، قِيلَ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ وَقَدَّرَهُ الْحُوفِيُّ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ؟ فَإِنْ أَرَادَ كَانَ التَّامَّةَ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّاقِصَةَ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى: التَّقْدِيرُ: كَيْفَ حَالُهُمْ؟ وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، ذَلِكَ الفعل الذي

(2- 1) سورة البقرة: 2/ 111.

ص: 83

قَدَّرَهُ، وَالْعَامِلُ فِي: كَيْفَ، إِذَا كَانَتْ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ إِنْ قُلْنَا إِنَّ انْتِصَابَهَا انْتِصَابُ الظُّرُوفِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، الْمُبْتَدَأَ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ، أَيْ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَكَذَا أَكْثَرُ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اسْتِفْهَامُهُ تَعَالَى تَقْرِيعٌ.

وَاللَّامُ، تَتَعَلَّقُ: بِجَمَعْنَاهُمْ، وَالْمَعْنَى: لِقَضَاءِ يَوْمٍ وَجَزَائِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ «1» قَالَ النَّقَّاشُ: الْيَوْمَ، هُنَا الْوَقْتُ، وَكَذَلِكَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «2» وفِي يَوْمَيْنِ «3» وفِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ «4» إِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَوْقَاتٍ، فَإِنَّمَا الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عِنْدَنَا فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أنه يوم، لأن قَبْلَهُ لَيْلَةٌ وَفِيهِ شَمْسٌ.

وَمَعْنَى: لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ، أَوْ عِنْدَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَوْ حِينَ يَجْمَعُهُمْ فِيهِ، أَوْ مَعْنَاهُ: الْأَمْرُ. خَمْسَةُ أَقْوَالٍ.

وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ، آخِرَ آيَاتِ الرِّبَا.

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ

قَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَهَرَتْ صَخْرَةٌ فِي الْخَنْدَقِ، فَضَرَبَهَا صلى الله عليه وسلم، فَبَرَقَ بَرْقٌ فَكَبَّرَ، وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«فِي الْأُولَى: قُصُورُ الْعَجَمِ، وفي الثاني: قُصُورُ الرُّومِ. وَفِي الثَّالِثَةِ: قُصُورُ الْيَمَنِ فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام: أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَى الْكُلِّ» .

فَعَيَّرَهُ الْمُنَافِقُونَ بِأَنَّهُ يَضْرِبُ الْمِعْوَلَ وَيَحْفُرُ الْخَنْدَقَ فَرْقًا، وَيَتَمَنَّى مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَنَزَلَتْ.

اخْتَصَرَهُ السَّجَاوَنْدِيُّ هَكَذَا، وَهُوَ سَبَبٌ مُطَوَّلٌ جِدًّا.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَخَافُوا فَتْحَ الْعَجَمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي: هُمْ أَعَزُّ وَأَمْنَعُ، فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ: لَمَّا فَتَحَ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: بَلَغَ ذَلِكَ اليهود فقالوا: هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! فَنَزَلَتْ، فَذُلُّوا وَطَلَبُوا الْمُوَاصَمَةَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ صلى الله عليه وسلم مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ لِأُمَّتِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَى لَفْظِ النَّهْيِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ.

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ: وَاللَّهُ لَا نُطِيعُ رَجُلًا جَاءَ بِنَقْلِ النُّبُوَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ.

(1) سورة آل عمران: 3/ 9. [.....]

(2)

سورة البقرة: 2/ 184 وآل عمران: 3/ 24.

(3)

سورة البقرة: 2/ 203 وفصلت: 41/ 9 و 12.

(4)

سورة فصلت: 41/ 10.

ص: 84

وَقِيلَ: نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ عِيسَى هُوَ اللَّهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ.

وَالْمُلْكُ هُنَا ظَاهِرُهُ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَاءَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُلْكُ النُّبُوَّةُ، وَهَذَا يَتَنَزَّلُ عَلَى نَقْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: الْمَالُ وَالْعَبِيدُ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ تَمَلُّكُ جِنْسِ الْمُلْكِ فَتَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِيمَا يَمْلِكُونَ. وَقَالَ: مَعْنَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي لَفْظَةِ: اللَّهُمَّ، مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مَضْمُومَةُ الْهَاءِ مُشَدَّدَةُ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، وَأَنَّهَا مُنَادَى.

انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَشْدِيدِ الْمِيمِ قَدْ نَقَلَ الْفَرَّاءُ تَخْفِيفَ مِيمِهَا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، قَالَ: وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:

كحلفة من أبي رياح

يَسْمَعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ

قَالَ الرَّادُّ عَلَيْهِ: تَخْفِيفُ الْمِيمِ خَطَأٌ فَاحِشٌ خُصُوصًا عِنْد الْفَرَّاءِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ هِيَ الَّتِي فِي أَمِّنَّا، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْفِيفُ أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ فِيهِ بَقِيَّةَ أَمِّنَّا. قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكُبَارُ. انْتَهَى. وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْبَيْتُ عَنِ الْعَرَبِ كَانَ فِيهِ شُذُوذٌ آخَرُ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَاعِلًا بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ؟ قَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ:

هَذِهِ الْمِيمُ تَجْمَعُ سَبْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُمَّ مَجْمَعُ الدُّعَاءِ. وَمَعْنَى قَوْلِ النَّضْرِ: إِنَّ اللَّهُمَّ هُوَ اللَّهُ زِيدَتْ فِيهِ الْمِيمُ، فَهُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ الْمُتَضَمِّنُ لِجَمِيعِ أَوْصَافِ الذَّاتِ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ، فَقَدْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْخَاصَّ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ الَّتِي هِيَ فِيهِ مِنْ شُهْلَةٍ أَوْ طُولٍ أَوْ جُودٍ أَوْ شَجَاعَةٍ، أَوِ أَضْدَادِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَانْتِصَابُ: مَالِكَ الْمُلْكِ، عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى ثَانٍ أَيْ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، وَلَا يُوصَفُ اللَّهُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَصْفَهُ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا صِفَةٌ لِلَاهُمْ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوُ.

تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُلْكَ هُوَ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْمُلْكِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ عَامًّا، وَهَذَانِ خَاصَّيْنِ. وَالْمَعْنَى:

إِنَّكَ تُعْطِي مَنْ شِئْتَ قِسْمًا مِنَ الْمُلْكِ، وَتَنْزِعُ مِمَّنْ شِئْتَ قِسْمًا مِنَ الْمُلْكِ وَقَدْ فَسَّرَ الْمُلْكَ

ص: 85

هُنَا بِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا، وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّفْسِيرُ فِي: تَنْزِعُ الْمُلْكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُؤْتِ النُّبُوَّةَ لِأَحَدٍ ثم مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَنْزِعُ مَجَازًا بِمَعْنَى: تَمْنَعُ النُّبُوَّةَ مِمَّنْ تَشَاءُ، فَيُمْكِنُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هُوَ مُلْكُ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ، وَقِيلَ:

الْقَنَاعَةُ. وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ بِالدِّينِ وَالطَّاعَةِ. وَقِيلَ: قِيَامُ اللَّيْلِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: هُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْمُكَوِّنِ عَنِ الْكَوْنَيْنِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: هُوَ قَهْرُ إِبْلِيسَ كَمَا كَانَ يَفِرُّ مِنْ ظِلِّ عُمَرَ، وَعَكْسُهُ مَنْ كَانَ يَجْرِي الشَّيْطَانُ مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ. وَقِيلَ: مُلْكُ الْمَعْرِفَةِ بِلَا عِلَّةِ، كَمَا أَتَى سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ، وَنَزَعَ مِنْ بَلْعَامَ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: هُوَ تَوْفِيقُ الْإِيمَانِ.

وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَظْهَرِ: وَهُوَ السَّلْطَنَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَكَوْنُ الْمُؤْتَى هُوَ الْآمِرَ الْمُتَّبَعَ، فَالَّذِي آتَاهُ الْمُلْكَ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقِيلَ: الْمَنْزُوعُ مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ وَصَنَادِيدُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: الْعَرَبُ وَخُلَفَاءُ الْإِسْلَامِ وَمُلُوكُهُ، وَالْمَنْزُوعُ فَارِسُ وَالرُّومُ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَنْبِيَاءُ أُمِرَ النَّاسُ بِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ الْجَبَّارُونَ أُمِرَ النَّاسُ بِخِلَافِهِمْ.

وَقِيلَ: آدَمُ وَوَلَدُهُ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ. وَقِيلَ: دَاوُدُ عليه السلام، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ طَالُوتُ. وَقِيلَ: صَخْرٌ، وَالْمَنْزُوعُ مِنْهُ سُلَيْمَانُ أَيَّامَ مِحْنَتِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تُؤْتِي الْمُلْكَ فِي الْجَنَّةِ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ تَشَاءُ. وَقِيلَ: الْمُلْكُ الْعُزْلَةُ وَالِانْقِطَاعُ، وَسَمَّوْهُ الْمُلْكَ الْمَجْهُولَ.

وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَتَخْصِيصَاتٌ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ فِي الْمُرَادِ.

وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ قِيلَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حِينَ دَخَلُوا مَكَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ظَاهِرِينَ عَلَيْهَا، وَأَذَلَّ أَبَا جَهْلٍ وَصَنَادِيدَ قُرَيْشٍ حَتَّى حُزَّتْ رؤوسهم وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ. وَقِيلَ: بالتوفيق والعرفان، وتدل بِالْخِذْلَانِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتُذِلُّ فَارِسَ وَالرُّومَ. وَقِيلَ: بِالطَّاعَةِ وَتُذِلُّ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: بِالظَّفْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَتُذِلُّ بِالْقَتْلِ وَالْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: بِالْإِخْلَاصِ وَتُذِلُّ بِالرِّيَاءِ. وَقِيلَ بِالْغِنَى وَتُذِلُّ بِالْفَقْرِ. وَقِيلَ: بِالْجَنَّةِ وَالرُّؤْيَةِ وَتُذِلُّ بِالْحِجَابِ وَالنَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ. وَقِيلَ: بِقَهْرِ النَّفْسِ وَتُذِلُّ بِاتِّبَاعِ الْخِزْيِ، قَالَهُ الْوَرَّاقُ. وَقِيلَ: بِقَهْرِ الشَّيْطَانِ وَتُذِلُّ بِقَهْرِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، قَالَهُ الْكَتَّانِيُّ. وَقِيلَ: بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا وتذل بالحرص والطمع.

وينبغي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ عَلَى التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَا مُخَصِّصَ فِي الْآيَةِ، بَلِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِزُّ وَالذُّلُّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَلِلْمُعْتَزِلَةِ هُنَا كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ الْكَعْبِيُّ: تُؤْتِي

ص: 86

الْمُلْكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَلَا تَنْزِعُهُ إِلَّا مِمَّنْ فَسَقَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1» إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ «2» جَعَلَ الِاصْطِفَاءَ سَبَبًا لِلْمُلْكِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْكُ الظَّالِمِينَ بِإِيتَائِهِ وَقَدْ يَكُونُ: وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوهُ، فَصَحَّ أَنَّ الْمُلُوكَ الْعَادِلِينَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِإِيتَاءِ اللَّهِ الْمُلْكَ، وَأَمَّا الظَّالِمُونَ فَلَا.

أَمَّا النَّزْعُ فَبِخِلَافِهِ، فَكَمَا يَنْزِعُهُ مِنَ الْعَادِلِ لِمَصْلَحَةٍ، فَقَدْ يَنْزِعُهُ مِنَ الظَّالِمِ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: الْإِعْزَازُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ تَعَالَى يَكُونُ فِي الدِّينِ بِالْإِمْدَادِ بِالْأَلْطَافِ وَمَدْحِهِمْ وَتَغَلُّبِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَيَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَإِعْطَاءِ الْهَيْبَةِ. وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعِزَّةِ فِي الدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأَذَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلذِّلَّةِ هُوَ الْكُفْرُ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مِنَ الْعَبْدِ لَكَانَ إِعْزَازُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِالْإِيمَانِ وَإِذْلَالُهُ نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ أَعْظَمَ مِنْ إِعْزَازِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِذْلَالِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ أَتَمَّ مِنْ حَظِّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا.

وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يُذِلُّ أَعْدَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُذِلُّ أَوْلِيَاءَهُ وَإِنْ أَفْقَرَهُمْ وَأَمْرَضَهُمْ وَأَخَافَهُمْ وَأَحْوَجَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِعِزِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ أَوِ الْعِوَضِ فَصَارَ كَالْفَصْدِ يُؤْلِمُ فِي الْحَالِ وَيُعْقِبُ نَفْعًا. قَالَ: وَوُصْفُ الْفَقْرِ بِكَوْنِهِ ذُلًّا مَجَازًا، كَقَوْلِهِ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «3» وَإِذْلَالُ اللَّهِ الْمُبْطِلُ بِوُجُوهٍ بِالذَّمِّ وَاللَّعْنِ، وَخِذْلَانِهِمْ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَبِجَعْلِهِمْ لِأَهْلِ دِينِهِ غَنِيمَةً، وَبِعُقُوبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.

بِيَدِكَ الْخَيْرُ أَيْ: بِقُدْرَتِكَ وَتَصْدِيقِكَ وَقَعَ الْخَيْرُ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ الْيَدِ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.

قِيلَ: الْمَعْنَى: وَالشَّرُّ، نَحْوَ: تَقِيكُمُ الْحُرَّ، أَيْ وَالْبَرْدَ. وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ جَائِزٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، إِذْ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ إِيتَاءَ الْمُلْكِ وَنَزْعَهُ، وَالْإِعْزَازَ وَالْإِذْلَالَ، وَذَلِكَ خَيْرٌ لِنَاسٍ وَشَرٌّ لِآخَرِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَجَاءَ بِهَذَا الْعَامِ الْمُنْدَرِجِ تَحْتَهُ الْأَوْصَافُ السَّابِقَةُ، وَجَمَعَ الْخُيُورَ وَالشُّرُورَ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ تَعْلِيمٌ لَنَا كَيْفَ نَمْدَحُ بِأَنْ نذكر أفضل الخصال.

(1) سورة البقرة: 2/ 124.

(2)

سورة البقرة: 2/ 247.

(3)

سُورَةِ الْمَائِدَةِ: 5/ 54.

ص: 87

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ بِيَدِكَ الْخَيْرُ فَذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ؟

قُلْتُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَتْهُ الْكَفَرَةُ، فَقَالَ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تُؤْتِيهِ أَوْلِيَاءَكَ عَلَى رَغْمِ أَعْدَائِكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَفْعَالِ اللَّهِ مِنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ صَادِرٌ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَهُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يُدَافِعُ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ لِمَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ؟

وَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الْأَوَّلِ: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِيَدِهِ تَعَالَى الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَإِنَّمَا كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْخَيْرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِيمَا يَسُوقُهُ تَعَالَى مِنَ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَنَاسَبَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ فَقَطْ.

وَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الثَّانِي: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَمِيعُ أَفْعَالِهِ خَيْرٌ لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَصَّ الْخَيْرَ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ تَعَالَى بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٌ، إِذِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى دُعَاءٍ وَرَغْبَةٍ، فَكَانَ الْمَعْنَى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ فَأَجْزِلْ حَظِي مِنْهُ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَمَّا كَانَتْ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ لَا لِلْحُكْمِ، ذَكَرَ الْخَيْرَ إِذْ هُوَ الْمَشْكُورُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْخَيْرُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَتَقْدِيمُ: بِيَدِكَ، يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا خَيْرَ إِلَّا بِيَدِهِ، وَأَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ الْإِيمَانُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ. وَلِأَنَّ فَاعِلَ الْأَشْرَفِ أَشْرَفُ، وَالْإِيمَانُ أَشْرَفُ.

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَا يَنْتَقِصُ مِنَ النَّهَارِ يَزِيدُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا يَنْتَقِصُ مِنَ اللَّيْلِ يَزِيدُ فِي النَّهَارِ، دَأْبًا كُلُّ فَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ، قِيلَ: حَتَّى يَصِيرَ النَّاقِصُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، وَالزَّائِدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً. وَذَكَرَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: أَجْمَعَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ اللَّيْلِ والنهار يأخذ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً، فَتَنْتَهِي زِيَادَةُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ.

وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْوُلُوجِ هُنَا تَغْطِيَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ إِذَا أَقْبَلَ، وَتَغْطِيَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، إِذَا أَقْبَلَ، فَصَيْرُورَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانِ الْآخَرِ كَالْوُلُوجِ فِيهِ، وَأَوْرَدَ هَذَا

ص: 88

الْقَوْلَ احْتِمَالًا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَيَحْتَمِلُ لَفْظُ الْآيَةِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَانَ زَوَالُ أَحَدِهِمَا وُلُوجَ الْآخَرِ.

وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ التَّكْوِينُ هُنَا، وَالْإِخْرَاجُ حَقِيقَةً هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الظَّرْفِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالَةَ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ.

تُخْرِجُ الْحَيَوَانَ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ إِذَا انْفَصَلَتِ النُّطْفَةُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَتُخْرِجُ النُّطْفَةَ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَهُوَ حَيٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْتُ مَجَازًا إِذِ النُّطْفَةُ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا حَيَاةٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ مَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَتُخْرِجُ مَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ مِنَ الْحَيِّ، وَالْإِخْرَاجُ عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الْحَالِ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْكَلْبِيُّ: أَيِ الْفَرْخَ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالْبَيْضَةَ مِنَ الطَّيْرِ، وَالْمَوْتُ أَيْضًا هُنَا مَجَازٌ وَالْإِخْرَاجُ حَقِيقَةٌ.

وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: النَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ، وَالسُّنْبُلَةَ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةَ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِي هَذَا مَجَازٌ.

وَقَالَ الْحَسَنُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: تُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَهُمَا أَيْضًا مَجَازٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» .

وَقَدْ رَأَى امْرَأَةً صَالِحَةً مَاتَ أَبُوهَا كَافِرًا وَهِيَ خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ الْحَبِّ، وَيُخْرِجُ الْحَبَّ الْيَابِسَ مِنَ النَّبَاتِ الْحَيِّ.

وَقِيلَ: الطَّيِّبَ مِنَ الْخَبِيثِ وَالْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ يُخْرِجُ الْجَلْدَ الْفَطِنَ مِنَ الْبَلِيدِ الْعَاجِزِ، وَالْعَكْسُ، لِأَنَّ الْفِطْنَةَ حَيَاةُ الْحِسِّ وَالْبَلَادَةَ مَوْتُهُ. وَقِيلَ:

يُخْرِجُ الْحِكْمَةَ مِنْ قَلْبِ الْفَاجِرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَالسَّقْطَةُ مِنْ لِسَانِ الْعَارِفِ وَهَذِهِ كُلُّهَا مَجَازَاتٌ بَعِيدَةٌ.

وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ تَصَوُّرُ اثْنَيْنِ وَقِيلَ: عَنَى بِذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحَالُ، فَيَكُونُ مَيِّتًا ثُمَّ يَحْيَا، وَحَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ. نَحْوَ قَوْلِكَ: جَاءَ مِنْ فُلَانٍ أَسَدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ جُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ هُنَا حَقِيقَتَانِ لَا اسْتِعَارَةَ فِيهِمَا، ثُمَّ

ص: 89

اخْتَلَفُوا فِي الْمَثَلِ الَّذِي فسروا به، وذكره قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلَ عِكْرِمَةَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ إِذْ ذَاكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ، وَشَدَّدَ حَفْصٌ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: الْمَيِّتُ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَالرُّومِ، وَفَاطِرٍ زَادَ نَافِعٌ تَشْدِيدَ الْيَاءِ فِي: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «1» وفي الأنعام والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «2» في يس ولَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «3» فِي الْحُجُرَاتِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفَ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا تَقُولُ: لَيِّنٌ وَلَيْنٌ وَهَيِّنٌ وَهَيْنٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُخَفَّفَ لِمَا قَدْ مَاتَ، وَالْمُشَدَّدَ لِمَا قَدْ مَاتَ وَلِمَا لَمْ يَمُتْ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً «4» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ قُدْرَتَهُ الْبَاهِرَةَ، فَذَكَرَ حَالَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْمُعَاقَبَةِ بَيْنَهُمَا، وَحَالَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِي إِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ الْمُحَيِّرَةِ لِلْأَفْهَامِ، ثُمَّ قَدَرَ أَنْ يَرْزُقَ بِغَيْرِ حِسَابٍ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْزِعَ الْمُلْكَ مِنَ الْعَجَمِ وَيُذِلَّهُمْ، وَيُؤْتِيَهُ الْعَرَبُ وَيُعِزَّهُمُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.

قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْوَاعًا مِنَ: الْفَصَاحَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، وَالْبَدِيعِ.

الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ فِي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ. وَالْإِشَارَةُ فِي نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فَإِدْخَالُ: مِنْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُحِيطُوا بِالتَّوْرَاةِ عِلْمًا وَلَا حِفْظًا، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِزْرَاءِ بِهِمْ، وَتَنْقِيصِ قَدْرِهِمْ وَذَمِّهِمْ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَخْيَارٌ وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمُ اللَّذَيْنِ سَبَبُهُمَا افْتِرَاؤُهُمْ، وَفِي وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَالتَّكْرَارُ فِي نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إِمَّا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ الْمَدْلُولُ وَاحِدًا، وَإِمَّا فِي اللَّفْظِ إِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا. وَفِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ إِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَفِي: مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ وَتَكْرَارُهُ فِي جُمَلٍ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ وَاحِدًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَانَ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ فَقَطْ، وَتَكْرَارُ مَنْ تَشاءُ وَفِي تُولِجُ وَفِي تُخْرِجُ وَفِي مُتَعَلِّقَيْهِمَا. وَالِاتِّسَاعُ في جعل: في،

(1) سورة الأنعام: 6/ 122.

(2)

سورة يس: 36/ 33.

(3)

سورة الحجرات: 49/ 12.

(4)

سورة البقرة: 2/ 212 و 213.

ص: 90

بِمَعْنَى: عَلَى، عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أَيْ عَلَى النَّهَارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ عَلَى اللَّيْلِ. وَعَبَّرَ بِالْإِيلَاجِ عَنِ الْعُلُوِّ وَالتَّغْشِيَةِ.

وَالنَّفْيُ الْمُتَضَمِّنُ الْأَمْرَ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي مالِكَ الْمُلْكِ وَالطِّبَاقُ: فِي: تُؤْتِي وَتَنْزِعُ، وَتُعِزُّ وَتُذِلُّ، وَفِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. وَرَدُّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي: تُولِجُ، وَمَا بَعْدَهُ، وَالْحَذْفُ وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيرِهَا. كَقَوْلِهِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ مَنْ تَشَاءُ أَنْ تُؤْتِيَهُ. وَالْإِسْنَادُ الْمَجَازِيُّ فِي لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَسْنَدَ الْحُكْمَ إِلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ فَهُوَ سَبَبُ الْحُكْمِ.

وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ دَيْنِهِ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ إِلَى بِغَيْرِ حِسَابٍ. ويقول رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعْطِي مِنْهُمَا مَنْ تَشَاءُ اقْضِ عَنِّي دَيْنِي. فَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَأَدَّاهُ اللَّهُ» .

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، كَانَ لَهُ حُلَفَاءُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ. وَقِيلَ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَوَالَوْنَ الْيَهُودَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمُ: الْحَجَّاجُ بْنُ عُمَرَ، وَكَهْمَسُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَقَيْسُ بْنُ يَزِيدَ، كَانُوا يُبَاطِنُونَ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَنَهَاهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، فَأَبَوْا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَغَيْرِهِ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَتْ.

وَمَعْنَى: اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ: اللُّطْفُ بِهِمْ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَذَلِكَ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ. قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَدٍ سَابِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا يَظْهَرُ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ، وَالْمَنْهِيُّونَ هُنَا قَدْ قَرَّرَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، فَالنَّهْيُ هُنَا إِنَّمَا مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ، وَاللُّطْفُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ. وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» الْآيَةَ، وَالْمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يَتَّخِذِ، عَلَى النَّهْيِ. وَقَرَأَ الضَّبِّيُّ بِرَفْعِ الذَّالِ عَلَى النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَقَدْ أَجَازَ الْكِسَائِيُّ فِيهِ الرَّفْعَ كَقِرَاءَةِ الضَّبِّيِّ.

(1) سورة المجادلة: 58/ 22.

ص: 91

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَمِنُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا، ذَكَرَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ، وَكَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ فِي الْكُفَّارِ فَنُهُوا عَنْ مُوَالَاتِهِمْ وَأُمِرُوا بِالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَوْلِيَائِهِ دُونَ أَعْدَائِهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ إِلَّا مَا فَسَحَ لَنَا فِيهِ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ عَبِيدًا، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمُ اسْتِعَانَةَ الْعَزِيزِ بِالذَّلِيلِ، وَالْأَرْفَعِ بِالْأَوْضَعِ، وَالنِّكَاحِ فِيهِمْ. فَهَذَا كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُوَالَاةِ أُذِنَ لَنَا فِيهِ، وَلَسْنَا مَمْنُوعِينَ مِنْهُ، فَالنَّهْيُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ.

مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: مِنْ دُونِ، فِي قَوْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

وَ: يَتَّخِذِ، هُنَا متعدية إلى اثنين، و: من دُونِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا يتخذ، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: أَيْ لَا تَجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْوِلَايَةِ مِنْ مَكَانٍ دُونَ مَكَانِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَرْكِ الْمُوَالَاةِ، إِذْ نَفَى عَنْ مُتَوَلِّيهِمْ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَلَيْسَ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ. وَقِيلَ: مِنْ دِينِهِ. وَقِيلَ: مِنْ عِبَادَتِهِ. وَقِيلَ:

مِنْ حِزْبِهِ. وَخَبَرُ: لَيْسَ، هُوَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْفَائِدَةُ، وَهِيَ: في شيء، و: مِنَ اللَّهِ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً لِشَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ. وَ: مِنْ، تَبْعِيضِيَّةٌ نَفَى وِلَايَةَ اللَّهِ عَنْ مَنِ اتَّخَذَ عَدُوَّهُ وَلِيًّا، لِأَنَّ الْوِلَايَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَانِ، قَالَ:

تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي

صَدِيقُكَ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ

وَتَشْبِيهُ مَنْ شَبَّهَ الْآيَةَ بِبَيْتِ النَّابِغَةِ:

إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا

فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي

لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ: مِنْكَ وَمِنِّي، خَبَرُ لَيْسَ، وَتَسْتَقِلُّ بِهِ الْفَائِدَةُ. وَفِي الْآيَةِ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ، فَلَيْسَ الْبَيْتُ كَالْآيَةِ.

(1) سورة الْبَقَرَةِ: 2/ 23.

ص: 92

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مَعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مَرْضِيٍّ عَلَى الْكَمَالِ وَالصَّوَابِ، وَهَذَا

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «من غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» .

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّزَلُّفِ. وَنَحْوُ هَذَا مَقُولُهُ: فِي شَيْءٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ مُضْطَرِبٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: فَلَيْسَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ اللَّهِ خَبَرًا لِلَيْسَ، إِذْ لَا يَسْتَقِلُّ. فَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونُ خَبَرًا، فَيَبْقَى: لَيْسَ، عَلَى قَوْلِهِ لَا يَكُونُ لَهَا خَبَرٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَتَشْبِيهُهُ

بِقَوْلِهِ عليه السلام: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»

لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ فِي بَيْتِ النَّابِغَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ.

إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّعٌ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَالْمَعْنَى لَا يَتَّخِذُوا كَافِرًا وَلِيًّا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِسَبَبِ التَّقِيَّةِ، فَيَجُوزُ إِظْهَارُ الْمُوَالَاةِ بِاللَّفْظِ وَالْفِعْلِ دُونَ مَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَالضَّمِيرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّقِيَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا مُدَارَاةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ:

يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَيَتَّقِيهِمْ بِلِسَانِهِ، وَلَا مَوَدَّةَ لَهُمْ فِي قَلْبِهِ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ غَالِبِينَ، أَوْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ فَيَخَافُونَهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُحَالِفُوهُمْ وَيُدَارُوهُمْ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَقَلْبُهُمْ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطُوا النَّاسَ وَزَايِلُوهُمْ وَعَامِلُوهُمْ بِمَا يَشْتَهُونَ، وَدِينُكُمْ فَلَا تُثْلِمُوهُ.

وَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: خَالِصِ الْمُؤْمِنَ وَخَالِقِ الْكَافِرِ، إِنَّ الْكَافِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ.

وَقَالَ الصَّادِقُ: التَّقِيَّةُ وَاجِبَةٌ، إِنِّي لَأَسْمَعُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ يَشْتُمُنِي فَأَسْتَتِرُ مِنْهُ بِالسَّارِيَةِ لِئَلَّا يَرَانِي.

وَقَالَ: الرِّيَاءُ مَعَ الْمُؤْمِنِ شِرْكٌ، وَمَعَ الْمُنَافِقِ عِبَادَةٌ.

وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي جَدَّةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدِّينِ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوهُمْ بِأَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقِيَّةَ فِي الْقَتْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا قَطِيعَةَ الرَّحِمِ فَخَالِطُوهُمْ فِي الدُّنْيَا.

وَفِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا الْتِفَاتٌ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى نَظْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: إِلَّا أَنْ يَتَّقُوا، بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَسْفَلَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ،

ص: 93

لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ نُهُوا عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، جَعَلَ ذَلِكَ فِي اسْمٍ غَائِبٍ، فَلَمْ يُوَاجَهُوا بِالنَّهْيِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ الْمُسَامَحَةُ وَالْإِذْنُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَوُجِّهُوا بِذَلِكَ إِيذَانًا بِلُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ، وَتَشْرِيفًا بِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَاةً، وَأَصْلُهُ: وُقِيَّةً، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً، كَمَا أَبْدَلُوهَا فِي: تُجَاهٍ وَتُكَاهٍ، وَانْقَلَبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى فِعْلَةٍ: كَالتُّؤْدَةِ وَالتُّخْمَةِ، وَالْمَصْدَرُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ فِعْلَةٍ جَاءَ قَلِيلًا. وَجَاءَ مصدرا على غير المصدر، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الْمَقِيسِ لَكَانَ: اتِّقَاءُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «1» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَلَاحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ

رُكَامٌ يَحْفُرُ الْأَرْضَ احْتِفَارًا

وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ خَوْفًا. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ: تُقَاةً، وَحَقَّ تُقَاتِهِ، وَوَافَقَهُ حَمْزَةُ هُنَا وَقَرَأَ وَرْشٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَفَتَحَ الْبَاقُونَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْ جِهَتِهِمْ أَمْرًا يَجِبُ اتقاؤه. وقرىء: تَقِيَّةً. وَقِيلَ:

لِلْمُتَّقِي تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ، كَقَوْلِهِمْ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ لِمَضْرُوبِهِ. انْتَهَى. فَجَعَلَ: تُقَاةً، مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ إِلَّا أَنْ تَخَافُوا أَمْرًا.

وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: تُقَاةً، مِثْلَ: رُمَاةً، حَالًا مِنْ: تَتَّقُوا، وَهُوَ جَمْعُ فَاعِلٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ فَاعِلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ تَقِيٍّ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَتَكُونُ الْحَالُ مُؤَكِّدَةً لِأَنَّهُ قَدْ فَهِمَ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ وَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ جَمْعًا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْ كَانَ جَمْعُ: تَقِيٍّ، لَكَانَ أَتْقِيَاءً، كَغَنِيٍّ وَأَغْنِيَاءَ، وَقَوْلُهُمْ: كَمِيٌّ وَكَمَاةٌ، شَاذٌّ فَلَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «2» الْمَعْنَى حَقَّ اتِّقَائِهِ، وَحَسُنَ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ هَكَذَا ثُلَاثِيًّا أَنَّهُمْ قَدْ حَذَفُوا:

اتَّقَى، حَتَّى صَارَ: تَقِيَ يَتَّقِي، تَقِ اللَّهَ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَصْدَرٌ لِثُلَاثِيٍّ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ، وَحُمَيْدُ بن قَيْسٍ، وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: تَقِيَّةً عَلَى وَزْنِ مَطِيَّةٍ وَجَنِيَّةٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ: فَعِيلَةٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ نَحْوَ: النَّمِيمَةِ. وَكَوْنُهُ مِنِ افتعل نادر.

(1) سورة المزمل: 73/ 8.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 102. [.....]

ص: 94

وظاهر الآية يقتضي جواز مُوَالَاتِهِمْ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي التَّقِيَّةِ، إِذْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْآيَةِ، فَقَالُوا: أَمَّا الْمُوَالَاةُ بِالْقَلْبِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَحْرِيمِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ تَقِيَّةٍ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّظَرُ فِي التَّقِيَّةِ يَكُونُ فِيمَنْ يُتَّقَى مِنْهُ؟ وَفِيمَا يُبِيحُهَا؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ تَكُونُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؟ فَأَمَّا مَنْ يُتَّقَى مِنْهُ فَكُلُّ قَادِرٍ غَالِبٍ يُكْرَهُ بِجَوْرٍ مِنْهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْكُفَّارُ، وَجَوَرَةُ الرُّؤَسَاءِ، وَالسَّلَّابَةُ، وَأَهْلُ الْجَاهِ فِي الْحَوَاضِرِ. قَالَ مَالِكٌ: وَزَوْجُ الْمَرْأَةِ قَدْ يُكْرَهُ وَأَمَّا ما يببحها: فَالْقَتْلُ، وَالْخَوْفُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، وَالْوَعِيدُ، وَعَدَاوَةُ أَهْلِ الْجَاهِ الْجَوْرَةِ. وَأَمَّا بِأَيِّ شَيْءٍ تَكُونُ مِنَ الْأَقْوَالِ؟ فَبِالْكُفْرِ فَمَا دُونَهُ مِنْ: بَيْعٍ، وَهِبَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مِنَ الْأَفْعَالِ: فَكُلُّ مُحَرَّمٍ.

وَقَالَ مَسْرُوقٌ: إِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ دَخْلَ النَّارَ، وَهَذَا شَاذٌّ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّقِيَّةُ تَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعِ، وَالضَّحَّاكِ.

وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: التَّقِيَّةُ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَظْهَرَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَمْرٍ فِيهِ إِعْزَازُ الدِّينِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إِنْ عُرِضْتَ عَلَى السَّيْفِ تُجِيبُ؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ: إِذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً، وَالْجَاهِلُ يَجْهَلُ، فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ؟ وَالَّذِي نَقَلَ إِلَيْنَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ، وَتَابِعِيَهُمْ، بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَلَا سَطْوَةَ جَبَّارٍ ظَالِمٍ.

وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّمَا تَجُوزُ التَّقِيَّةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرُورَةً إِلَى الْغَيْرِ: كَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ، وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَاطِّلَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَغَيْرُ جَائِزٍ الْبَتَّةَ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ، إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ جَازَتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنِ النَّفْسِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَالْمَالِ. انْتَهَى.

قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ فِي شَيْءٍ، فَإِذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ وَلَا تَزَوُّجٍ وَلَا غَيْرِهِ.

ص: 95

قِيلَ: وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ.

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَطْشَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَفْسَهُ أَيْ: إِيَّاهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:

يَوْمًا بِأَجْوَدَ نَائِلًا مِنْهُ إِذَا

نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمَتْ سُؤَالُهُا

أَرَادَ إِذَا الْبَخِيلُ تَجَهَّمَ سُؤَالُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ عَلَى مَعْهُودِ مَا يَفْهَمُهُ الْبَشَرُ، وَالنَّفْسُ فِي مِثْلِ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الذَّاتِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مُضَافٌ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِقَابٍ وَتَنْكِيلٍ وَنَحْوِهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقَابَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، حَذَّرَهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ بِمُوَالَاةِ أَعَدَائِهِ قَالَ:

وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَيْ: صَيْرُورَتُكُمْ وَرُجُوعُكُمْ، فَيُجَازِيكُمْ إِنِ ارْتَكَبْتُمْ مُوَالَاتِهُمْ بَعْدَ النَّهْيِ. وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ.

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ آيِ الْبَقَرَةِ، وَهُنَاكَ قُدِّمَ الْإِبْدَاءُ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَهُنَا قُدِّمَ الْإِخْفَاءُ عَلَى الْإِبْدَاءِ، وَجَعَلَ مَحَلَّهُمَا مَا فِي الصُّدُورِ، وَأَتَى جَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَالْمَفْهُومُ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، لَا يَتَفَاوَتُ عِلْمُهُ تَعَالَى بِخَفَايَاهَا، وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا فِيهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شرًا فَشَرٌّ. وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ، وَذِكْرِ عُمُومٍ بَعْدَ خُصُوصٍ، فَصَارَ عِلْمُهُ بِمَا فِي صُدُورِهِمْ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَحَدُهُمَا:

بِالْخُصُوصِ، وَالْآخَرُ: بِالْعُمُومِ، إِذْ هُمْ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ.

وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِهِمْ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى مَا أَكَنَّتْهُ صُدُورُهُمْ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ، وَهِيَ ذَاتُهُ الْمُتَمَيِّزَةُ مِنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ، مُتَّصِفَةٌ بِعِلْمٍ ذَاتِيٍّ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ، فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا وَبِقُدْرَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَا تَخْتَصُّ بِمَقْدُورٍ دُونَ مَقْدُورٍ، فَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ

ص: 96

كُلِّهَا، فَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُحْذَرَ وَتُتَّقَى، فَلَا يَجْسُرُ أَحَدٌ عَلَى قَبِيحٍ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ وَاجِبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُطَّلَعٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، فَلَاحِقٌ بِهِ الْعَذَابُ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَشْيَاخُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمُوَافَقَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ.

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ فِي: يَوْمَ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَامِلُ فِيهِ: وَيُحَذِّرُكُمْ، وَرَجَّحَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: الْعَامِلُ فِيهِ: الْمَصِيرُ. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْعَامِلُ فِيهِ: قَدِيرٌ، وَقَالَ أَيْضًا: فِيهِ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا، وَيَضْعُفُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ:

وَيُحَذِّرُكُمْ، لِطُولِ الْفَصْلِ. هَذَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ التَّحْذِيرَ مَوْجُودٌ، وَالْيَوْمَ مَوْعُودٌ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْعَمَلُ فِيهِ، وَيَضْعُفُ انْتِصَابُهُ: بِالْمَصِيرِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ، وَيَضْعُفُ نَصْبُهُ: بِقَدِيرٍ، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ دُونَ يَوْمٍ، بَلْ هُوَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْقُدْرَةِ دَائِمًا. وَأَمَّا نَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، فَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَوْمَ تَجِدُ منصوب: بتود، وَالضَّمِيرُ فِي: بَيْنَهُ، لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، حِينَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا حَاضِرَيْنِ تَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ لَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. انْتَهَى هَذَا التَّخْرِيجُ.

وَالظَّاهِرُ فِي بادىء النَّظَرِ حُسْنُهُ وَتَرْجِيحُهُ، إِذْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُضْعِفَاتِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ، لَكِنْ فِي جَوَازِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا خِلَافٌ بَيْنِ النَّحْوِيِّينَ، وَهِيَ: إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ اتَّصَلَ بِالْمَعْمُولِ لِلْفِعْلِ، نَحْوَ: غُلَامَ هِنْدٍ ضَرَبْتُ، وَثَوْبَيْ أَخَوَيْكَ يَلْبَسَانِ، وَمَالُ زَيْدٍ أُخِذَ، فَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ، وَهِشَامٌ، وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ: إِلَى جَوَازِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَمِنْهَا الْآيَةُ عَلَى تَخْرِيجِ الزمخشري، لأن الفاعل: بتودّ، هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى شَيْءٍ اتَّصَلَ بِمَعْمُولِ: تَوَدُّ، وَهُوَ: يَوْمَ، لِأَنَّ: يَوْمَ، مُضَافٌ إِلَى: تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ وُجْدَانِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ.

وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَمْثَالَهَا لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْمُولَ فَضْلَةٌ، فَيَجُوزُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ ذِكْرُ الْمَعْمُولِ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الْفَاعِلُ

ص: 97

عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ امْتَنَعَ: زَيْدًا ضَرَبَ، وَزَيْدًا ظَنَّ قَائِمًا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَجَلُ الْمَرْءِ يُسْتَحَثُّ وَلَا يَدْ

رِي إِذَا يَبْتَغِي حُصُولَ الْأَمَانِي

أَيِ: الْمَرْءُ فِي وَقْتِ ابْتِغَائِهِ حُصُولَ الْأَمَانِي يَسْتَحِثُّ أَجْلَهُ ولا يشعر.

و: تجد، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ: مَا عَمِلَتْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى نَصِيبٍ، وَيَكُونُ: مُحْضَرًا، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: تَجِدُ، هُنَا بِمَعْنَى: تَعْلَمُ، فَتَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَنْتَصِبُ: مُحْضَرًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهَا، وَمَا، فِي: مَا عَمِلَتْ، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: عَمَلُهَا، وَيُرَادُ بِهِ إِذْ ذَاكَ اسْمُ الْمَفْعُولِ، أَيْ: مَعْمُولُهَا، فَقَوْلُهُ: مَا عَمِلَتْ، هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ وَثَوَابَهُ.

قِيلَ: وَمَعْنَى: مُحْضَرًا عَلَى هَذَا مُوَفَّرًا غَيْرَ مَبْخُوسٍ. وَقِيلَ: تَرَى مَا عَمِلَتْ مَكْتُوبًا فِي الصُّحُفِ مُحْضَرًا إِلَيْهَا تَبْشِيرًا لَهَا، لِيَكُونَ الثَّوَابُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَمَلِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُحْضَرًا، بِفَتْحِ الضَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: مُحْضِرًا بِكَسْرِ الضَّادِ، أَيْ مُحْضِرًا الْجَنَّةَ أَوْ مُحْضِرًا مُسْرِعًا بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْضَرَ الْفَرَسَ، إِذَا جَرَى وأسرع.

و: مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، مَعْطُوفًا عَلَى: مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي إِنْ كَانَ: تَجِدُ، مُتَعَدِّيَةً إِلَيْهِمَا، أَوِ الْحَالُ إِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ مَحْذُوفًا، أَيْ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا. وَذَلِكَ نَحْوَ: ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا وَعَمْرًا، إِذَا أَرَدْتَ: وَعَمْرًا قَائِمًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: تَوَدُّ، مُسْتَأْنَفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: تَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: وَادَّةٌ تُبَاعِدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُ عَائِدًا عَلَى مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، وَأَبْعَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي عَوْدِهِ عَلَى الْيَوْمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ اللذين أحضر لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ: الْخَيْرُ الَّذِي عَمِلَهُ، وَلَا يُطْلَبُ تَبَاعُدُ وَقْتِ إِحْضَارِ الْخَيْرِ إِلَّا بِتَجَوُّزٍ إِذَا كَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِحْضَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَتَوَدُّ تَبَاعُدُهُ لِتَسْلَمَ مِنَ الشَّرِّ، وَدَعْهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَيْرُ. وَالْأَوْلَى: عَوْدُهُ عَلَى: مَا عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ السُّوءَ يَتَمَنَّى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ التَّبَاعُدَ مِنْهُ، وَإِلَى عَطْفِ: مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، عَلَى: مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَكَوْنِ، تَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ،

ص: 98

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ و: تودّ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ: لِمَا، التَّقْدِيرُ: وَالَّذِي عَمِلَتْهُ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ هِيَ لَوْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَثَنَى بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، شَرْطًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِارْتِفَاعِ: تَوَدُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَقْبَلٌ مَرْفُوعٌ يَقْتَضِي جَزْمُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَهِيَ تَوَدُّ، وَفِي ذَلِكَ ضَعْفٌ.

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَهَرَ مِنْ كَلَامَيْهِمَا امْتِنَاعُ الشَّرْطِ لِأَجْلِ رَفْعِ: تَوَدُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَ سَأَلَنِي عَنْهَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ، رحمه الله، وَاسْتَشْكَلَ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنَّ يَجُوزَ غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِ زُهَيْرِ:

وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ

يَقُولُ: لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ

وَكَتَبْتُ جَوَابَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ فِي كِتَابِي الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى: (بِالتَّذْكِرَةِ) ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ نُقَدِّمَ مَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا، وَمَا بَعْدَهُ مُضَارِعٌ تُتِمُّ بِهِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، جَازَ فِي ذَلِكَ الْمُضَارِعِ الْجَزْمُ، وَجَازَ فِيهِ الرَّفْعُ، مِثَالُ ذَلِكَ: إِنْ قَامَ زَيْدٌ يَقُومُ عَمْرٌو، وَإِنْ قَامَ زَيْدٌ يَقُمْ عَمْرٌو. فَأَمَّا الْجَزْمُ فَعَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافًا، وَأَنَّهُ فَصِيحٌ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ كِتَابِ (الْإِعْرَابِ) عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ: لَا يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ مَعَ: كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها لِأَنَّهَا أَصْلُ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهَا.

وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَنَصِّ الْجَمَاعَةِ، أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بَكَانِ، بَلْ سَائِرُ الْأَفْعَالِ فِي ذَلِكَ مِثْلُ كَانَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْفَرَزْدَقِ:

دَسَّتْ رَسُولًا بِأَنَّ الْقَوْمَ إِنْ قَدَرُوا

عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُورًا ذَاتِ تَوْغِيرِ

وَقَالَ أَيْضًا:

تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لَا تَخُونُنِي

نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ

ص: 99

وَأَمَّا الرَّفْعُ فَإِنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْجَزْمِ، وَمِنْهُ بَيْتُ زُهَيْرٍ السَّابِقُ إِنْشَادُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَيْضًا:

وَإِنْ سُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيعِ مَخَافَةً

يَقُولُ جِهَارًا: وَيْلَكُمْ لَا تَنْفِرُوا

وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ:

وَلَا بِالَّذِي إِنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ

يَقُولُ وَيُخْفِي الصَّبْرَ: إِنِّي لَجَازِعُ

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَإِنْ بَعُدُوا لَا يَأْمَنُونَ اقْتِرَابَهُ

تَشَوُّفَ أَهِلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَرْ

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَإِنْ كَانَ لَا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي

إِلَى قُطْرِي لَا إِخَالَكَ رَاضِيًا

وَقَالَ الْآخَرُ:

إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ، وَإِنْ خُبِّرُوا

فِي الْجَهْدِ أُدْرِكَ مِنْهُمْ طِيبُ أَخْبَارِ

فَهَذَا الرَّفْعُ، كَمَا رأيت كثير، ونصوص الأمة عَلَى جَوَازِهِ فِي الْكَلَامِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ تَأْوِيلَاتُهُمْ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ رَشِيدٍ المالقي، وهو مصنف (رصف الْمَبَانِي) رحمه الله: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا جَاءَ فِي الْكَلَامِ، وَإِذَا جَاءَ فَقِيَاسُهُ الْجَزْمُ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعَمَلِ فِي الْمُضَارِعِ، تَقَدَّمَ الْمَاضِي أَوْ تَأَخَّرَ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْمَسْمُوعُ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَجَعْلِهِ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ.

عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَعَلَ الْفَاءَ مِنْهُ مَحْذُوفَةً.

وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ الرَّفْعِ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيمِ. وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ فَهُوَ مَحْذُوفٌ عِنْدَهُ.

وَذَهَبُ الْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْجَوَابُ حُذِفَتْ مِنْهُ الْفَاءُ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِي فِعْلِ الشَّرْطِ، لِكَوْنِهِ مَاضِيًا، ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ فِي فِعْلِ الْجَوَابِ، وَهُوَ عِنْدَهُ جَوَابٌ لَا عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَلَا عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، وَهَذَا وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَبْلَهُ ضَعِيفَانِ.

ص: 100

وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ: أَنَّ رَفْعَ الْمُضَارِعِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ شَرْطًا، لَكِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ: وَمَا عَمِلَتْ، شَرْطًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى، لَا لِكَوْنِ: تَوَدُّ، مَرْفُوعًا، وَذَلِكَ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ بِالْمَرْفُوعِ التَّقْدِيمُ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ لَا نَفْسَ الْجَوَابِ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ: تود، منويا به كالتقديم أَدَّى إِلَى تَقَدُّمِ الْمُضْمَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي غَيْرِ الْأَبْوَابِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُ، عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ: مَا، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ؟ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ تَقَدُّمُ الْمُضْمَرِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَالضَّمِيرُ قَدْ تَأَخَّرَ عَنِ اسْمِ الشَّرْطِ؟ فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ التَّقْدِيمَ فَقَدْ حَصَلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ نَظِيرُ: ضَرَبَ زَيْدًا غُلَامُهُ، فَالْفَاعِلُ رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ وَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ لِصِحَّةِ عَوْدِ الضَّمِيرِ.

فَالْجَوَابُ: إِنَّ اشْتِمَالَ الدَّلِيلِ عَلَى ضَمِيرِ اسْمِ الشَّرْطِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اقْتِضَاءُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِجُمْلَةِ الدَّلِيلِ، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ إِنَّمَا تَقْتَضِي جُمْلَةَ الْجَزَاءِ لَا جُمْلَةَ دَلِيلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَامِلَةٍ فِي جُمْلَةِ الدَّلِيلِ، بَلْ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَجُمْلَةُ الدَّلِيلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَدَافَعَ الْأَمْرُ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُمْلَةُ دَلِيلٍ لَا يَقْتَضِيهَا فِعْلُ الشَّرْطِ، وَمِنْ حَيْثُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ اقْتَضَتْهَا، فَتَدَافَعَا. وَهَذَا بِخِلَافِ: ضَرَبَ زَيْدًا غُلَامُهُ، هِيَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْفِعْلُ عَامِلٌ فِي الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي صَاحِبَهُ، وَلِذَلِكَ جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: ضَرَبَ غُلَامُهَا هِنْدًا، لِاشْتِرَاكِ الْفَاعِلِ الْمُضَافِ لِلضَّمِيرِ وَالْمَفْعُولِ الَّذِي عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي الْعَامِلِ، وَامْتَنَعَ: ضَرَبَ غُلَامُهَا جَارَ هِنْدٍ، لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعَامِلِ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَلَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ: أَوَدُّ لَوْ أَنِّي أُكْرِمُهُ أَيًّا ضَرَبَتْ هِنْدٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ عَلَى مُفَسِّرِهِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مِنْ سُوءٍ وَدَّتْ لَوْ أَنَّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: مَا، شَرْطِيَّةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَعَمِلَتْ. أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ الْهَاءِ فِي:

عَمِلَتْ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ، إِذْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الشَّرْطِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَتَكُونُ:

وَدَّتْ، جَزَاءَ الشَّرْطِ.

ص: 101

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ أَوْقَعُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الْكَائِنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَثْبَتُ لِمُوَافَقَةِ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ. انْتَهَى.

وَ: لَوْ، هُنَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، وَمَفْعُولُ: تَوَدُّ، مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: تَوَدُّ تَبَاعُدَ مَا بَيْنَهُمَا لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا لَسَرَتْ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي: لَوْ، و: أَنْ، وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ: لَوْ، بِمَعْنَى: أَنْ، وَأَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ فَهُوَ بَعِيدٌ هُنَا لِوِلَايَتِهَا أَنَّ وَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا يُبَاشِرُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ حَرْفًا مصدريًّا إِلَّا قَلِيلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «1» والذي يقتضيه المعنى أن: لَوْ أَنَّ، وَمَا يَلِيهَا هُوَ مَعْمُولُ: لِتَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: يُسَرُّ أَحَدُهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، ذَلِكَ مَعْنَاهُ.

وَمَعْنَى أَمَدًا بَعِيدًا: غَايَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقِيلَ: مِقْدَارُ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: قَدْرُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ. كَرَّرَ التَّحْذِيرَ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ مُمْتَثِلِي أَمْرَهُ ونهيه.

وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ التَّخْوِيفِ وَكَرَّرَهَا، كَانَ ذَلِكَ مُزْعِجًا لِلْقُلُوبِ، وَمُنَبِّهًا عَلَى إِيقَاعِ الْمَحْذُورِ مَعَ مَا قَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَإِحْضَارِهِ لَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهَذَا هُوَ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ اللَّذَيْنِ يَجِبُ أَنْ يُحَذِّرَ لِأَجْلِهِمَا، فَذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِيُطْمَعَ فِي إِحْسَانِهِ، وَلِيُبْسَطَ الرَّجَاءُ فِي أَفْضَالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا إِذَا ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْأَمْرِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْلَغَ فِي الْوَصْفِ مِنْ جُمْلَةِ التَّخْوِيفِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّخْوِيفِ جَاءَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، وَجَاءَ الْمُحَذَّرُ مَخْصُوصًا بِالْمُخَاطَبِ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتِ اسْمِيَّةً، فَتَكَرَّرَ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، إِذِ الْوَصْفُ مُحْتَمِلٌ ضَمِيرَهُ تَعَالَى، وَجَاءَ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمُقْتَضِي لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، وَجَاءَ بِأَخَصِّ أَلْفَاظِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ: رؤوف، وَجَاءَ مُتَعَلِّقُهُ عَامًّا لِيَشْمَلَ المخاطب

(1) سورة الذاريات: 51/ 23.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 165 والأعراف: 7/ 167.

ص: 102

وَغَيْرَهُ، وَبِلَفْظِ الْعِبَادِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّامِّ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مُحْسِنٌ لِعَبْدِهِ وَنَاظِرٌ لَهُ أَحْسَنَ نَظَرٍ، إِذْ هُوَ مِلْكُهُ.

قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى التَّحْذِيرِ، أَيْ: إِنَّ تَحْذِيرَهُ نَفْسَهُ وَتَعْرِيفَهُ حَالَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ الْعَظِيمَةِ بِالْعِبَادِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَحَذَرُوا دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَاجْتِنَابِ سُخْطِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْحُوفِيُّ: جَعَلَ تَحْذِيرَهُمْ نَفْسَهُ إِيَّاهُ، وَتَخْوِيفَهُمْ عِقَابَهُ رَأْفَةً بِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي عَمًى مِنْ أَمْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَالْكَلَامُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ إِعْلَامِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ وَالْإِطْمَاعِ لِئَلَّا يُفْرِطَ الْوَعِيدَ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ.

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، قَالُوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» أَوْ: فِي قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» قَالُوا ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَبَتْ قُرَيْشٌ أَصْنَامَهَا يَسْجُدُونَ لَهَا،

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»

وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: فِي قَوْمٍ قَالُوا: إِنَّا لَنُحِبُّ رَبَّنَا حُبًّا شَدِيدًا. وَقَالَ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ: فِي وَفْدِ نَجْرَانَ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا نُعَظِّمُ الْمَسِيحَ حُبًّا لِلَّهِ. انْتَهَى.

وَلَفْظُ الْآيَةِ يَعُمُّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ قَلْبِهِ إِلَى مَا حَدَّهُ لَهُ تَعَالَى وَأَمَرَهُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ وَاخْتِصَاصُهُ إِيَّاهُ بِالْعِبَادَةِ، وَمَحَبَّتُهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَهَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَمْ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. رَتَّبَ تَعَالَى عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لَهُ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَحَبَّتُهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى رِضَاهُ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ نَبِيِّهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ، إِذْ لا يهتدي لعقل إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا، بَلْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُوَضِّحُ لِذَلِكَ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ احْتِمَاءً لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُحِبُّونَ، وَيُحْبِبْكُمُ، مِنْ أَحَبِّ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: تَحِبُّونَ وَيَحْبِبْكُمُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْيَاءِ مِنْ حَبَّ، وَهُمَا لُغَتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ قرىء: يَحُبُّكُمُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْإِدْغَامِ.

(1) سورة المائدة: 5/ 18.

(2)

سورة الزمر: 39/ 3.

ص: 103

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: فَاتَّبَعُونِّي، بِتَشْدِيدِ النُّونِ، أَلْحَقَ فِعْلَ الْأَمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ وَأَدْغَمَهَا فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَلَمْ يَحْذِفِ الواو شبها: بأتحاجوني، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ لِقَوْلِهِمْ تَصْدِيقًا مِنْ عَمَلٍ، فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِهِ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَكِتَابُ اللَّهِ يُكَذِّبُهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ يَذْكُرُ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَيُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ مَعَ ذِكْرِهَا، وَيَطْرَبُ وَيَنْعَرُ وَيُصَفِّقُ، وَقُبِّحَ مَنْ فِعْلُهُ هَذَا، وَزَرَى عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إدغام: راء، و: يغفر لَكُمْ، فِي لَامِ: لَكُمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ مِمَّنْ رَوَاهَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكُوفَةِ: أبا جعفر الرؤاسي، وَالْكِسَائِيَّ، وَالْفَرَّاءَ رَوَوْا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، وَرَأْسَانِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُمَا: أَبُو عَمْرٍو، ويعقوب قرآ بِذَلِكَ وَرَوَيَاهُ، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ.

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ هَذَا تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي،

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُ بِأَنَّ نَحْبَهُ كَمَا أَحَبَّتِ النصارى عيسى بن مَرْيَمَ، فَنَزَلَ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: تَوَلَّوْا، مَاضِيًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ، أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا. وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ وَلَمْ يُطِعْهُ كَافِرًا، وَتَقْيِيدُ انْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ مُشْعِرٌ بِالْعَلِيَّةِ، فَالْمُؤْمِنُ الْعَاصِي لَا يَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ.

قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ وَفُنُونِ الْبَلَاغَةِ الْخِطَابُ الْعَامُّ الَّذِي سَبَبُهُ خَاصٌّ. فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ وَالتَّكْرَارُ، فِي قَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللَّهِ، وَفِي: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ، وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ عَلَى، وَفِي قَوْلِهِ: مَا عَمِلَتْ، وَمَا عَمِلَتْ، وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ، والله رؤوف، وَفِي قَوْلِهِ: تُحِبُّونَ اللَّهَ، يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ، قل أطيعوا الله، فإن اللَّهَ.

ص: 104