المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة ال عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]

- ‌سورة النّساء

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 39]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 79]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَاّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ «1»

قَالَ أَبُو رَوْقٍ وَابْنُ السَّائِبِ: نَزَلَتْ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ» فَقَالَتِ الْيَهُودُ: فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَأْكُلُ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ حَلَالٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَنَحْنُ نُحِلُّهُ» فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كُلُّ شَيْءٍ أَصْبَحْنَا الْيَوْمَ نُحَرِّمُهُ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لَهُمْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ الْمَرْءُ الْبِرَّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ. وَنَبِيُّ اللَّهِ إِسْرَائِيلُ

رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا إِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ أَنْ يُحَرِّمَ، أَوْ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحُومَ الْإِبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ أَلْبَانَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ.

فَقَدِ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا فِي أَنَّ كُلًّا

(1) سورة آل عمران: 3/ 93.

ص: 262

مِنْهُمَا فِيمَا تَرَكَ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَمَا يُؤْثِرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَكُلٌّ: مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَالطَّعَامُ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُرِّ خَاصَّةً. قَالَ الرَّازِيُّ: وَالْآيَةُ تُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ سِوَى الْحِنْطَةِ، وَسِوَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْمَاءِ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ. وَقَالَ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «1» وَأَرَادَ الذَّبَائِحَ انْتَهَى.

وَيُجَابُ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الطَّعَامِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ كَانَا مُبَاحَيْنِ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُمَا طَعَامٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كَانَتِ الْيَهُودُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَدَّعِي أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ يَعْنِي إِشْكَالَ الْعُمُومِ. وَالْحِلُّ: الْحَلَالُ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَلَّ نَحْوُ عَزَّ عِزًّا وَمِنْهُ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «2» أَيْ حَلَالٌ بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحِلِّهِ وَلِحُرْمِهِ»

وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. قَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ «3» وَهِيَ كَالْحُرُمِ، أَيِ الْحَرَامِ. وَاللُّبْسُ، أَيِ اللِّبَاسُ. وَإِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ هُوَ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ: الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي آخَرِينَ.

وَقِيلَ: الْعُرُوقُ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ: مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ فِي آخَرِينَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرَضَتْ لَهُ الْآنِسَاءُ فَأَضْنَتْهُ، فَجَعَلَ لِلَّهِ إِنْ شَفَاهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَطْعَمَ عِرْقًا. قَالَ: فَلِذَلِكَ الْيَهُودُ تَنْزِعُ الْعُرُوقَ مِنَ اللَّحْمِ، وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْعُرُوقِ قُرْبَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَرَّمَ الْعُرُوقَ وَلُحُومَ الْإِبِلِ. وَقِيلَ: زِيَادَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَانِ وَالشَّحْمُ إِلَّا مَا عَلَى الظَّهْرِ قَالَهُ: عِكْرِمَةُ. وَتَقَدَّمَ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ لِمَا حَرَّمَهُ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ هُوَ بِمَرَضٍ أَصَابَهُ، فَجَعَلَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى إِنْ شُفِيَ. وَقِيلَ: هُوَ وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يحتمل

(1) سورة آل عمران 5/ 5.

(2)

سورة البلد: 90/ 2.

(3)

سورة الممتحنة: 60/ 10.

ص: 263

الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا كَانَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَيْسَتْ فِيهَا الزَّوَائِدُ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَادَّعَوْا تَحْرِيمَهَا. وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا كَانَ التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَالِاتِّصَالُ أَظْهَرُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: عَلَى نَفْسِهِ، أَنَّ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ لَا بِتَحْرِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُحَرِّمُوا بِالِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: كَانَ تَحْرِيمُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي شَرْعِهِ كَالنَّذْرِ فِي شَرْعِنَا. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَعَلَّ نَفْسَهُ كَانَتْ مَائِلَةً إِلَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا قَهْرًا لِلنَّفْسِ وَطَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الزُّهَّادِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ بِالتَّحْرِيمِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ التَّحْرِيمِ لِلطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عَطِيَّةَ: حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا فِي التَّوْرَاةِ،

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَعْقُوبَ قَالَ: «إِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَا يَأْكُلُهُ لِي وَلَدٌ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَافَقُوا أَبَاهُمْ فِي تَحْرِيمِهِ، لَا أَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بِالشَّرْعِ، ثُمَّ أَضَافُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى الشَّرْعِ فَأَكْذَبُهُمُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ لَا فِيهَا، وَكَانُوا إِذَا أَصَابُوا ذَنْبًا عَظِيمًا حَرُمَ بِهِ عَلَيْهِمْ طَعَامٌ طَيِّبٌ، أَوْ صُبَّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ، وَيُؤَكِّدُهُ «فَبِظُلْمٍ» «1» الْآيَةَ.

وَقِيلَ: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَلَا بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِمُوَافَقَتِهِ بَلْ قَالُوا ذَلِكَ تحرضا وَافْتِرَاءً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ على أنفسهم قيل نُزُولِهَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطَاعِمَ كُلَّهَا لَمْ تَزَلْ حَلَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا لِظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، لَمْ يَحْرُمْ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَطْعُومِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَرَّمَهُ أَبُوهُمْ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَتَبِعُوهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ حَيْثُ أَرَادُوا بَرَاءَةَ سَاحَتِهِمْ بِمَا نُعِيَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «2» الْآيَةَ. وَجُحُودَ مَا غَاظَهُمْ وَاشْمَأَزُّوا منه وامتعضوا. فما نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ لِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ فَقَالُوا: لَسْنَا بِأَوَّلِ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَمَا

(1) سورة النساء: 4/ 160. [.....]

(2)

سورة النساء: 4/ 160.

ص: 264

هُوَ إِلَّا تَحْرِيمٌ قَدِيمٌ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهَلُمَّ جَرًّا، إِلَى أَنِ انْتَهَى التَّحْرِيمُ إِلَيْنَا فَحَرُمَتْ عَلَيْنَا كَمَا حَرُمَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَغَرَضُهُمْ تَكْذِيبُ شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَمَا عُدِّدَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الَّتِي كُلَّمَا ارْتَكَبُوا مِنْهَا كَبِيرَةً حَرُمَ عَلَيْهِمْ نَوْعٌ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.

مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنَ متعلقة بحرم، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَيَبْعُدُ ذَلِكَ، إِذْ هُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْوَاضِحِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ ضَرُورَةً لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ وُجُودِ إِسْرَائِيلَ وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَفُصِلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذْ هُوَ فَصْلٌ جَائِزٌ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ: فِي جَوَازِ أَنْ، يَعْمَلَ مَا قَبْلَ إِلَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا أَوْ حَالًا نَحْوَ: مَا حُبِسَ إِلَّا زَيْدٌ عِنْدَكَ، وَمَا أَوَى إِلَّا عَمْرٌو إِلَيْكَ، وَمَا جَاءَ إِلَّا زَيْدٌ ضَاحِكًا. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبٍ مُطْلَقًا نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ذَلِكَ فِي مَرْفُوعٍ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدًا عَمْرٌو، وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ فَيُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ هُنَا: حِلٌّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ.

قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: فَأْتُوا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَقُّ، لَا زَعْمُكُمْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ. فَأْتُوا: وَهَذِهِ أَعْظَمُ مُحَاجَّةٍ أَنْ يُؤْمَرُوا بِإِحْضَارِ كِتَابِهِمُ الَّذِي فِيهِ شَرِيعَتُهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا ادَّعَوْهُ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم:

مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْمَطَاعِمَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَدِيمٍ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ حَادِثٌ.

وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالتَّوْرَاةِ لِظُهُورِ افْتِضَاحِهِمْ بِإِتْيَانِهَا، بَلْ بُهِتُوا وَذَلِكَ كَعَادَتِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.

وَفِي اسْتِدْعَاءِ التَّوْرَاةِ مِنْهُمْ وَتِلَاوَتِهَا الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ كَانَ عليه السلام النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَا عَرَفَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ أَخَذَ يُحَاجُّهُمْ ويَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَلَا يَجِدُونَ مِنْ إِنْكَارِهِ مَحِيصًا.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي الشَّرَائِعِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَخَرَجَ قَوْلِهِ:«إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» مُخْرَجَ الْمُمْكِنِ، وَهُمْ مَعْلُومٌ كَذِبُهُمْ. وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ شُجَاعًا فَالْقَنِي، وَمَعْلُومٌ، عِنْدَكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُجَاعٍ، وَلَكِنْ هَزُأْتَ بِهِ إِذْ جَعَلْتَ هَذَا الْوَصْفَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُتَّصَفَ بِهِ.

ص: 265

فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْقَوْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَافْتِرَاؤُهُ الْكَذِبَ هُوَ زَعْمُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ يُحْتَمَلُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِلَى التِّلَاوَةِ، إِذْ مُضَمَّنُهَا بَيَانُ مَذْهَبِهِمْ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ الْقَاطِعَةِ، وَيَكُونُ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى كُتُبِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِلَى اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ فِي التَّوْرَاةِ، إِذِ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ حَرَّمَتْهُ التَّوْرَاةُ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ. وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِلَى الْحَالِ بَعْدَ تَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ مِنْ سَنَنِ يَعْقُوبَ. وَشُرِعَ ذَلِكَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ «1» . فَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ ظُلْمٌ فِي مَعْنَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَكَانُوا يُشَدِّدُونَ فَيُشَدِّدُ عَلَيْهِمُ اللَّهُ كَمَا فَعَلُوا فِي أَمْرِ الْبَقَرَةِ. وَجَاءَتْ شَرِيعَتُنَا بِخِلَافِ هَذَا،

دِينُ اللَّهِ «يُسْرٌ يَسِّرُوا وَلَا تعسروا، بعثت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»

وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» وَالْأَظْهَرُ فِي مِنْ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. وَجُمِعَ فِي فَأُولَئِكَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَصْلًا، وَمُبْتَدَأً، وَبَدَلًا. وَالظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقِيلَ: هُوَ هُنَا الْكُفْرُ.

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَصْدَعَ بِخِلَافِهِمْ، أَيِ الْأَمْرُ الصِّدْقُ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ لَا مَا افْتَرَوْهُ مِنَ الْكَذِبِ. وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُّ الطَّعامِ وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ صِدْقٌ، وَأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:«قُلْ صَدَقَ اللَّهُ» أَيْ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقِيلَ: فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هُوَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ مُسْلِمًا. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ:«كُلُّ الطَّعَامِ» «3» الْآيَةَ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. وَقِيلَ: فِي أَنَّهُ مَا كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ:

فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ، فَيَخْلُصُونَ مِنْ مِلَّةِ الْيَهُودِيَّةِ. وَعَرَّضَ بِقَوْلِهِ:«وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» : إِلَى أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فِي اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ

(1) سورة النساء: 4/ 160.

(2)

سورة الحج: 22/ 78.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 93.

ص: 266

عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَفْسِيرًا وَإِعْرَابًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ قُلْ صَدَقَ: بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الصَّادِ، وَ «قُلْ سِيرُوا» «1» بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي السِّينِ. وَأَدْغَمَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ «بَلْ سَوَّلَتْ» «2» . قَالَ ابْنُ جِنِّي: عِلَّةُ ذَلِكَ فُشُوُ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي الْفَمِ وَانْتِشَارُ الصَّوْتِ الْمُثْبَتِ عَنْهُمَا، فَقَارَبَتَا بِذَلِكَ مَخْرَجَ اللَّامِ، فَجَازَ إِدْغَامُهَا فِيهِمَا انْتَهَى. وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالْإِدْغَامُ يَعْنِي إِدْغَامَ اللَّامِ مَعَ الطَّاءِ وَالصَّادِ وَأَخَوَاتِهِمَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ كَكَثْرَتِهِ مَعَ الرَّاءِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَرَاخَيْنَ عَنْهَا وَهِيَ مِنَ الثَّنَايَا.

قَالَ: وَجَوَازُ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ آخِرَ مَخْرَجِ اللَّامِ قَرِيبٌ مِنْ مَخْرَجِهَا انْتَهَى كَلَامُهُ.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ

رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَنَزَلَتْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَهُوَ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ حَجُّ الْبَيْتِ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْ خُصُوصِيَّاتِ دِينِهِ، أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْبَيْتِ وفضائله ليبني الْحَجِّ وَوُجُوبِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَحَقُّ بِالِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ وُضِعَ قَبْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَقِبْلَةُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» كَمَا أَكْذَبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ قَبْلُ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى يَعْقُوبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى زَعَمَتْ أَنَّهَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ شَعَائِرِ مِلَّتِهِ حَجُّ الْكَعْبَةِ وَهُمْ لَا يَحُجُّونَهَا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ تِلْكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ غَيْرَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ أَوَّلَ فِي قَوْلِهِ:«وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ» «3» وَوُضِعَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ.

وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ أول بيت وضع للناس. فَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حين خلقت السموات وَالْأَرْضُ، خَلَقُهُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ تَحْتَهُ. وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ بَنَاهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: طُفْ حَوْلَ هَذَا الْبَيْتِ فَلَقَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَ فِي مَوْضِعِهِ قَبْلَ آدَمَ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، فَرُفِعَ فِي الطُّوفَانِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ يَطُوفُ بِهِ مَلَائِكَةُ السموات.

(1) سورة الأنعام 6/ 120، وسورة العنكبوت: 29/ 20.

(2)

سورة يوسف: 12/ 18.

(3)

سورة البقرة: 2/ 41.

ص: 267

وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو الْبَرَكَاتِ أَسْعَدُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْغَنَائِمِ الْحُسَيْنِيُّ الْجُوَانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنْ شِيثَ بْنَ آدَمَ هُوَ الَّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخَيْمَةِ الَّتِي كَانَ اللَّهُ وَضَعَهَا لِآدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكُونُ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ حُجَّ بَعْدَ الطُّوفَانِ، فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْحَجِّ إِذْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ،

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ: أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ

، فَأَخَذَ الْأَوَّلِيَّةَ بِقَيْدِ هَذِهِ الْحَالِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمٍ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ.

وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ:

«الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:

«أَرْبَعُونَ سَنَةً»

وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ: إِلَّا إِنْ حُمِلَ الْوَضْعُ عَلَى التَّجْدِيدِ فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ يُضَعِّفُ قَوْلَ الزَّجَّاجِ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام، بَلْ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَمَا وَضَعَ الْكَعْبَةَ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ.

وَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ بَيْنَ الْوَضْعَيْنِ أَرْبَعِينَ سَنَةً»

وَأَيْنَ زَمَانُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ زَمَانِ سُلَيْمَانَ! وَمَعْنَى وُضِعَ لِلنَّاسِ: أَيْ مُتَعَبَّدًا يَسْتَوِي فِي التَّعَبُّدِ فِيهِ النَّاسُ، إِذْ غَيْرُهُ مِنَ الْبُيُوتِ يُخْتَصُّ بِأَصْحَابِهَا، وَالْمُشْتَرَكُ فِيهِ النَّاسُ هُوَ مَحَلُّ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ وَقِبْلَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «وُضِعَ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ السميفع وَضَعَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ وَأَلْيَقُ وَأَوْفَقُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَلِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِوَضَعَ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَلِلَّذِي بِبَكَّةَ خَبَرُ إِنَّ. وَالْمَعْنَى: لِلْبَيْتِ الَّذِي بِبَكَّةَ. وَأُكِّدَتِ النِّسْبَةُ بِتَأْكِيدَيْنِ:

إِنَّ وَاللَّامِ. وَأَخْبَرَ هُنَا عَنِ النَّكِرَةِ وَهُوَ أَوَّلَ بَيْتٍ لِتَخَصُّصِهَا بِالْإِضَافَةِ، وَبِالصِّفَةِ الَّتِي هي وضع إمالها، وَإِمَّا لِمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ. إِذْ تَخْصِيصُهُ تَخْصِيصٌ لَهَا بِالْمَعْرِفَةِ وَهُوَ لِلَّذِي بِبَكَّةَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ أول بيت وضع للناس، وَيُحَسِّنُ الْإِخْبَارَ عَنِ النَّكِرَةِ بِالْمَعْرِفَةِ دُخُولُ إِنَّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ قَرِيبًا مِنْكَ زَيْدٌ. تُخَصَّصُ قَرِيبٌ بِلَفْظِ مِنْكَ، فَحَسُنَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ. وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ تَخْصِيصٍ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الِاخْتِيَارِ قَالَ:

وَإِنَّ حَرَامًا أَنْ أَسُبَّ مُجَاشِعًا

بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الْخَضَارِمِ

وَالْبَاءُ فِي بِبَكَّةَ ظَرْفِيَّةٌ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ. وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ بَكَّةُ هِيَ الْمَسْجِدُ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ.

ص: 268

مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ أَمَّا بَرَكَتُهُ فَلِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ لِمَنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ وَطَافَ بِهِ وَعَكَفَ عِنْدَهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ:

«يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ» «1» . وَقِيلَ: بَرَكَتُهُ دَوَامُ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَلُزُومُهَا، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ لَهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: النُّمُوُّ، وَالْآخَرُ: الثُّبُوتُ، وَمِنْهُ الْبَرَكَةُ لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا. وَالْبَرْكُ الصَّدْرُ لِثُبُوتِ الْحِفْظِ فِيهِ، وَالْبَرَاكَاءُ الثُّبُوتُ فِي الْقِتَالِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ ثَبَتَ وَلَمْ يَزَلْ. وَقِيلَ: بَرَكَتُهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ.

رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمًا وَلَمْ يَضَعْ أُخْرَى إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ بِهَا لَهُ حَسَنَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» .

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ مَغْفِرَةٌ لِلذُّنُوبِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بَرَكَتُهُ تَطْهِيرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: بَرَكَتُهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ حَتَّى الْوَحْشَ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الظَّبْيُ وَالْكَلْبُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَوِّمًا مُصْلِحًا كَانَ فِيهِ إِرْشَادٌ. وَبُولِغَ بِكَوْنِهِ هُدًى، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَذَا هُدًى.

قِيلَ: وَمَعْنَى هُدًى أَيْ قِبْلَةً. وَقِيلَ: رَحْمَةٌ. وَقِيلَ: صَلَاحٌ. وَقِيلَ: بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ هُنَا هُدًى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أي من حيث دعى الْعَالَمُونَ إِلَيْهِ، وَانْتِصَابُ مُبَارَكًا عَلَى الْحَالِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي اسْتَكَنَّ فِي وُضِعَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا وُضِعَ أَيْ أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ مُبَارَكًا، أَيْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ الْحَالِ بِأَجْنَبِيٍّ وَهُوَ: الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِأَنَّ خَبَرٌ لَهَا، فَإِنْ أَضْمَرْتَ وُضِعَ بَعْدَ الْخَبَرِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَالِ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ: لَلَّذِي بِبَكَّةَ وُضِعَ مُبَارَكًا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ تَفْسِيرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذكر كون هذا البت أَوَّلًا، إِذْ كَانَ قَدْ لَاحَظَ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَوْنَهُ وُضِعَ أَوَّلًا بِقَيْدِ هَذِهِ الْحَالِ.

وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْعَامِلُ فِي بِبَكَّةَ، أَيِ اسْتَقَرَّ بِبَكَّةَ فِي حَالِ بَرَكَتِهِ. وَهُوَ وَجْهٌ ظَاهِرُ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَأَمَّا هُدًى فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُبَارَكًا، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَهُوَ هُدًى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْإِضْمَارِ.

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أَيْ عَلَامَاتٌ وَاضِحَاتٌ مِنْهَا: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْحَجَرُ الَّذِي قَامَ

(1) سورة القصص: 28/ 57.

ص: 269

عَلَيْهِ، وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَهُوَ: مِنْ حِجَارَةِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَشْهَدُ لِمَنْ مَسَّهُ.

وَالْحَطِيمُ، وَزَمْزَمُ، وَأَمْنُ الْخَائِفِ وَهَيْبَتُهُ وَتَعْظِيمُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَأَمْرُ الْفِيلِ، وَرَمْيُ طَيْرِ اللَّهِ عَنْهُ بِحِجَارَةِ السِّجِّيلِ، وَكَفُّ الْجَبَابِرَةِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، وَإِذْعَانُ نُفُوسِ الْعَرَبِ لِتَوْقِيرِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ دُونَ نَاهٍ وَلَا زَاجِرٍ، وَجِبَايَةُ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهِ، وَهُوَ «بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» «1» وَحِمَايَتُهُ مِنَ السُّيُولِ. وَدَلَالَةُ عُمُومِ الْمَطَرِ إِيَّاهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ عَلَى خِصْبِ آفَاقِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ مِنْ جَانِبٍ أَخْصَبَ الْأُفُقُ الَّذِي يَلِيهِ. وَذَكَرَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ كَوْنَ الطَّيْرِ لَا يعلوم عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالطَّيْرُ يُعَايَنُ بِعُلُوِّهِ، وَقَدْ عَلَتْهُ الْعُقَابُ الَّتِي أَخَذَتِ الْحَيَّةَ الْمُشْرِفَةَ عَلَى جِدَارِهِ، وَتِلْكَ كَانَتْ مِنْ آيَاتِهِ انْتَهَى. وَأَيُّ عَبْدٍ عَلَا عَلَيْهِ عَتَقَ.

وَتَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ عَتَا فِيهِ، وَإِجَابَةُ دُعَاءِ مَنْ دَعَا تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَمُضَاعَفَةُ أَجْرِ الْمُصَلِّي، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْبَيْتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْبَيْتِ. لَكِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِي الظَّرْفِيَّةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ الْآيَاتِ تَكُونُ دَاخِلَ الْجُدْرَانِ. وَوَجْهُ التَّوَسُّعِ أَنَّ الْبَيْتَ وُضِعَ بِحَرَمِهِ وَجَمِيعِ فَضَائِلِهِ، فَهِيَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَلِذَلِكَ عَدَّ الْمُفَسِّرُونَ آيَاتٍ فِي الْحَرَمِ وَأَشْيَاءَ مِمَّا الْتُزِمَتْ فِي شَرِيعَتِنَا مِنْ: تَحْرِيمِ قَطْعِ شَجَرِهِ، وَمَنْعِ الِاصْطِيَادِ فِيهِ. وَالَّذِي تَعَرَّضَتْ لَهُ الْآيَةُ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ آيَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ وَقْتَ رَفْعِهِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ طَالَ لَهُ الْبِنَاءُ، فَكُلَّمَا عَلَا الْجِدَارُ ارْتَفَعَ الْحَجَرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ، فَمَا زَالَ يَبْنِي وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ حَتَّى كَمُلَ الْجِدَارُ. ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ لَيَّنَ الْحَجَرَ فَغَرِقَتْ فِيهِ قَدَمَا إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّهَا فِي طِينٍ، فَذَلِكَ الْأَثَرُ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ. وَقَدْ نَقَلَتْ كَافَّةُ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مُرُورِ الْأَعْصَارِ. وَقَالَ فِي ذَلِكَ أبو طالب:

وموطىء إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٍ

عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ

فَمَا حُفِظَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ نَازَعَ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَقِيلَ: سَبَبُ أَثَرِ قَدَمَيْهِ فِي هَذَا الْحَجَرِ أَنَّهُ وَافَى مَكَّةَ زَائِرًا مِنَ الشَّامِ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ: انْزِلْ. حَتَّى أَغْسِلَ رَأْسَكَ، فَأَبَى أَنْ يَنْزِلَ، فَجَاءَتْ بِهَذَا الْحَجَرِ مِنْ جِهَةِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عليه حتى غسلت

(1) سورة إبراهيم: 14/ 37.

ص: 270

شِقَّ رَأْسِهِ، ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ حَتَّى غَسَلَتِ الشِّقَّ الْآخَرَ، فَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهِ.

وَارْتِفَاعُ آيَاتٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْحَالُ حَقِيقَةً. وَنِسْبَةُ الْحَالِيَّةِ إِلَى الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَجَازٌ، كَنِسْبَةِ الْخَبَرِ إِلَيْهَا. إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ عِنْدَكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا:

وَمَا يُعْزَى لِلظَّرْفِ مِنْ خَبَرِيَّةٍ وَعَمَلٍ، فَالْأَصَحُّ كَوْنُهُ لِعَامِلِهِ. وَكَوْنُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا هُوَ الْعَامِلُ فِي بِبَكَّةَ، أَمْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا هُوَ وُضِعَ عَلَى مَا أَعْرَبُوهُ، أَوْ عَلَى ما أعربناه. ويجوز أو يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً. أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِ آيات بينات.

مَقامُ إِبْراهِيمَ مَقَامٌ: مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى الْجَمْعِ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ وعمرو ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ «آيَةٌ بَيِّنَةٌ» عَلَى التَّوْحِيدِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَعْرَبُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، مِنْ قَوْلِهِ: آيَاتٌ، وَأَعْرَبُوهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ هُنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَعَلَى مَا أَعْرَبُوهُ فَكَيْفَ يُبْدَلُ الْمُفْرَدُ مِنَ الْجَمْعِ، أَوْ يُخْبَرُ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ؟ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِظُهُورِ شَأْنِهِ وَقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام مِنْ تَأْثِيرِ قَدَمِهِ فِي حَجَرٍ صَلْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «1» . وَالثَّانِي: اشْتِمَالُهُ عَلَى آيَاتٍ، لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بعض آية، وإبقاؤه دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لآية لِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً، وَحِفْظَهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ أُلُوفَ سِنِينٍ آيَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِيهِ «آيات بينات مقام إبراهيم» وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ كَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُتَرَجِّحُ عِنْدِي أَنَّ الْمَقَامَ وَأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلَا مِثَالًا مِمَّا فِي حَرَمِ اللَّهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لِعِظَمِهِمَا، وَأَنَّهُمَا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْكُفَّارِ إِذْ هُمْ مُدْرِكُونَ لِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِحَوَاسِّهِمْ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَبْلَهُ: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنَ الدَّاخِلِ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهِيَ جِمْعٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُذْكَرْ أَمْنُ الدَّاخِلِ فِي الْآيَةِ تَفْسِيرًا صِنَاعِيًّا، إِنَّمَا جَاءَ «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» «2» جُمْلَةً مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، أَوْ مبتدأ وخبر، لَا عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا يُعْطَفُ عَلَى قَوْلِهِ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا صِنَاعِيًّا. بَلْ لَمْ يَأْتِ بَعْدَ قَوْلِهِ: آياتٌ بَيِّناتٌ سِوَى مُفْرَدٍ وَهُوَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أجزت أن

(1) سورة ابراهيم: 14/ 120.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 97.

ص: 271

يَكُونَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَمْنُ عَطْفَ بَيَانٍ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً: إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ، وَإِمَّا شَرْطِيَّةٌ؟ قُلْتُ: أَجَزْتُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. لِأَنَّ قوله: «ومن دخله كان آمِنًا» دَلَّ عَلَى أَمْنِ دَاخِلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ آيات بينات مقام إبراهيم، وَأَمْنُ دَاخِلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا صَحَّ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ أَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ انْتَهَى سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ. لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَأَمْنُ الدَّاخِلِ، هُوَ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفَسَّرَ بِهِمَا الْآيَاتِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله: ومن دخله كان آمِنًا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فَتَدَافَعَا إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، فَيُمْكِنُ التَّوْجِيهُ. فَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فِي مَعْنَى: وَأَمْنِ دَاخِلِهِ، إِلَّا من حيث تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَيُطْوَى ذِكْرُ غَيْرِهِمَا دَلَالَةً عَلَى تَكَاثُرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ آيات بينات مقام إبراهيم وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ وَكَثِيرٌ سِوَاهُمَا. وَنَحْوُهُ فِي طَيِّ الذِّكْرِ قَوْلُ جَرِيرٍ:

كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلُثُهُمُ

مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلُثٌ مِنْ مَوَالِيهَا

وَمِنْهُ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالنِّسَاءُ، وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةُ»

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِعْرَابِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ آيات نكرة، ومقام إِبْرَاهِيمَ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّخَالُفُ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ. وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَحُكْمُ عَطْفِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ حُكْمُ النَّعْتِ، فَتَتْبَعُ النَّكِرَةُ النَّكِرَةَ وَالْمَعْرِفَةُ الْمَعْرِفَةَ، وَقَدْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَأَمَّا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَكِرَتَيْنِ. وَمَا أَعْرَبَهُ الْكُوفِيُّونَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: عَطْفُ بَيَانٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ عَلَى النَّكِرَةِ قَبْلَهُ، أَعْرَبَهُ الْبَصْرِيُّونَ بَدَلًا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ عَطْفِ الْبَيَانِ فِي النَّكِرَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ. وَالْأَوْلَى وَالْأَصْوَبُ في إعراب مقام إبراهيم أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَحَدُهَا: أَيْ أَحَدُ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ مِنْهَا: أَيْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَيَكُونُ ذِكْرُ الْمَقَامِ لِعِظَمِهِ وَلِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ، وَلِكَوْنِهِ مُشَاهَدًا لَهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِإِذْكَارِهِ إِيَّاهُمْ دِينَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: آيَةٌ بَيِّنَةٌ بِالتَّوْحِيدِ، فَإِعْرَابُهُ بَدَلٌ، وَهُوَ بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ،

ص: 272

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ «1» وَيَكُونُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْتُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ بَنَاهُ، وَقَامَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَكَّةُ كُلُّهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَالْحَرَمُ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ إِلَى مُنْتَهَى التَّنْعِيمِ، وَمِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ يُقَالُ لَهُ الْمَقْطَعُ، وَمِمَّا يَلِي عَرَفَةَ تِسْعَةُ أَمْيَالٍ إِلَى مُنْتَهَى الْحُدَيْبِيَةِ.

وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً: الضَّمِيرُ فِي «وَمَنْ دَخَلَهُ» عَائِدٌ عَلَى الْبَيْتِ: إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَالْمُقَيَّدُ بِتِلْكَ الْقُيُودِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْهُدَى وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ إِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالْحَجَرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِبَعْضِ آيَاتِ الْبَيْتِ، وَمُذَكِّرَةٌ لِلْعَرَبِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنِ احْتِرَامِ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَمْنِ مَنْ دَخَلَهُ مِنْ ذَوِي الْجَرَائِمِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ بِالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ، إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «2» وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً «3» فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَصَابَ حَدًّا فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. فَمَنْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَتَلَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: أَنْ يَخْرُجَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى الْحِلِّ فَيُقْتَلَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَاسْتَجَارَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ آمِنٌ. وَالْأَمْرُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَعْرِضُ أَحَدٌ لِقَاتِلِ وَلِيِّهِ. إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُ، وَلَا يُكَلِّمُوهُ، وَلَا يؤوه حَتَّى يَتَبَرَّمَ فَيَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ بِمِثْلِ هَذَا عَطَاءٌ أَيْضًا، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَالُوا: هَذَا فِيمَنْ يُقْتَلُ خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ يَعُوذُ بِالْحَرَمِ، أَمَّا مَنْ قُتِلَ فِيهِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ.

وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ: إِذَا جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَأَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ

(1) سورة الشورى: 42/ 52- 53.

(2)

سورة العنكبوت: 29/ 67.

(3)

سورة البقرة: 2/ 126. [.....]

ص: 273

لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَا يُخَالَطْ، أَوْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ:

لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيهِ، لَا بِقَتْلٍ وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَا يُخَالَطُ. قَالُوا: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَنَى فِيهِ لَا يُؤَمَّنُ، لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَرَدَّ الْأَمَانَ. فَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ فِيمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ. وَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ. أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ. وَهُوَ عَامٌّ فِيمَنْ جَنَى فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ دَخَلَهُ، لَكِنْ صَدَّ الْإِجْمَاعَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَنْ جَنَى فِيهِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ دَخَلَهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ فِي آخَرِينَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ فِي. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا: أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ حَاجًّا، أَوْ مَنْ دَخَلَهُ مُخْلِصًا فِي دُخُولِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» .

وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ دَخَلَهُ وَرَقَى عَلَى الصَّفَا أَمِنَ أَمْنَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ سِوَاهُ مُتَكَلَّفَاتٌ، وَيَنْبُو اللَّفْظُ عَنْهَا، وَيُخَالِفُ بَعْضُهَا ظَوَاهِرَ الْآيَاتِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

رَوَى عِكْرِمَةُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا «2» قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ، قِيلَ لَهُ: حُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ، فَلْيَحُجُّوا إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَا نَحُجُّهُ أَبَدًا.

وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأْكِيدِ فَرْضِ الْحَجِّ، إِذْ جَاءَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى، وَجَاءَ بعلى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَجَاءَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّاسِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصَ لِيَكُونَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ. فَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يَعْنِي أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلَّهِ فِي رِقَابِ النَّاسِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ أَدَائِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ النَّاسَ ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَفِيهِ ضَرْبَانِ مِنَ التَّأْكِيدِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبْدَالَ تَنْبِيهٌ لِلْمُرَادِ وَتَكْرِيرٌ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيضَاحَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالتَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ إِيرَادٌ لَهُ فِي صُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ حِجٌّ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ: الْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ.

وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ الْحِجَّ بِالْكَسْرِ مَصْدَرًا نَحْوَ: ذَكَرَ ذِكْرًا. وَجَعَلَهُ الزَّجَّاجُ اسْمَ الْعَمَلِ. وَلَمْ يختلفو فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَحَجٌّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ وَلِلَّهِ وَعَلَى النَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ فِي الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّاسِ حَالًا، وأن

(1) سورة الفتح: 48/ 27.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 85.

ص: 274

يَكُونَ خَبَرَ الْحَجِّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «وَلِلَّهِ» حَالًا، لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَقَدُّمِهَا عَلَى العامل المعنوي. وحج مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ الْبَيْتُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ. إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» «1» هَذَا الْأَصْلُ ثُمَّ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ. فَمَتَى ذُكِرَ الْبَيْتُ لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ إِلَّا أَنَّهُ الْكَعْبَةُ، وَكَأَنَّهُ صَارَ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا وَقَالَ الشَّاعِرُ:

لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيَتُ أَكْرَمُ أَهْلَهُ

وَأَقْعُدُ فِي أَفَنَائِهِ بِالْأَصَائِلِ

وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي وُجُوبِهِ إِلَّا الِاسْتِطَاعَةُ. وَذَكَرُوا أَنَّ شُرُوطَهُ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهِ، وَقَالَ بِذَلِكَ دَاوُدُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ مُخَاطَبًا بِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٌ، إِذِ السَّيِّدُ يَمْنَعُهُ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِحُقُوقِهِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ. فَلَوْ حَجَّ الْعَبْدُ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَالصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ، ثُمَّ عَتَقَ وَبَلَغَ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. وَظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِذْ قَالَ: يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ مَرَّةً، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْطَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ: مَشْيٍ، وَتَكَفُّفٍ، وَرُكُوبِ بَحْرٍ، وَإِيجَارِ نَفْسِهِ لِلْخِدْمَةِ. الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالْمَشْرُوطُ مُطْلَقُ الِاسْتِطَاعَةِ. وَلَيْسَتْ فِي الْآيَةِ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا عَلَى التَّرَاخِي، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي وَقْتِ حُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَالْقَوْلَانِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَرْكِ تَفْسِيقِ الْقَادِرِ عَلَى الْحَجِّ إِذَا أَخَّرَهُ الْعَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَنْ فَوَّتَ صَلَاةً حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَقَضَاهَا.

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ حَجَّ بَعْدَ أَعْوَامٍ مِنْ وَقْتِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْتَ قَاضٍ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي لَا يَجِدُ فِي ذَلِكَ حَدًّا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ: أَنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ وَهُوَ قَادِرٌ وَتَرَكَ فَسَقَ، وَرُوِيَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَفِي إِعْرَابِ مَنْ خِلَافٌ، ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، فَتَكُونُ مَنْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَبَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الضَّمِيرِ، فَهُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ شَرْطِيَّةٌ، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَيَلْزَمُ حَذْفُ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَحَذْفُ جَوَابِ الشرط، إذ

(1) سورة آل عمران: 3/ 96.

ص: 275

التَّقْدِيرُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، أَوْ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِقِلَّةِ الْحَذْفِ فِيهِ وَكَثْرَتِهِ فِي هَذَا. وَيُنَاسِبُ الشَّرْطَ مَجِيءُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ وَقِيلَ: مَنْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمْ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: مَنْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ حَجٌّ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ قَدْ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَرُفِعَ بِهِ الْفَاعِلُ نَحْوَ: عَجِبْتُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ زَيْدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعَ الْفَاعِلِ بِهِ قَلِيلٌ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَكَادُ يُحْفَظُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ مُسْتَطِيعِهِمْ وَغَيْرِ مُسْتَطِيعِهِمْ أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ الْمُسْتَطِيعُ. وَمُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ إِنَّمَا هُوَ الْمُسْتَطِيعُ لَا النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ يَعُودُ عَلَى الْبَيْتِ، وَقِيلَ: عَلَى الحج. وإليه متعلق باستطاع، وسبيلا مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ اسْتَطَاعَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ. قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ «1» وَكُلُّ مُوصِلٍ إِلَى شَيْءٍ، فَهُوَ سَبِيلٌ إِلَيْهِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَى الْبَيْتِ سَبِيلًا، وَلَيْسَتِ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ حَالُ الَّذِي يَجِدُ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالضَّحَّاكُ: إِذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا غَيْرَ شَاقٍّ عَلَى نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا قَدَرَ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ، وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِيرَاثٌ بِمَكَّةَ، أَكَانَ يَتْرُكُهُ، بَلْ كَانَ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ؟ وَلَوْ حَبْوًا فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ وَجَدَ شَيْئًا يُبْلِغُهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ الصِّحَّةُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَثِقَ بِقُوَّتِهِ لَزِمَهُ، وَعَنْهُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. وَقَدْ يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّفَرِ، وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ لَا راحلة له وَلَا زَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَفْسِهِ: أَوَّلًا: فَمَنْ مَنَعَهُ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ وَلَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ سَأَلَ ذاهبا وآئبا مِمَّنْ لَيْسَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ فِي إِقَامَتِهِ. فَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: لَا بَأْسَ بذلك.

(1) سورة الأعراف: 7/ 197.

ص: 276

وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَى الْحَجِّ وَالْغَزْوِ سَائِلًا. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَحُجَّ النِّسَاءُ فِي الْبَحْرِ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي حَجِّ النِّسَاءِ مَاشِيَاتٍ إِذَا قَدِرْنَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا حَجَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَاخْتُلِفَ إِذَا عَدِمَتْهُ. فَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: الْمَحْرَمُ مِنَ السَّبِيلِ وَلَا حَجَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَهَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فِي الْفَرْضِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ: الْمَنْعُ، وَعَدَمُهُ. وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَرَابَةٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ صِهْرٍ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ نِكَاحِهَا أَوْ مُسْلِمًا غَيْرَ مَأْمُونٍ، فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تُسَافِرُ مَعَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَخْرُجُ مَعَ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

مَعَ حُرَّةٍ ثِقَةٍ مُسْلِمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَعَ رَجُلٍ ثِقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَعَ قَوْمٍ عُدُولٍ، وَتَتَّخِذُ سُلَّمًا تَصْعَدُ عَلَيْهِ وَتَنْزِلُ، وَلَا يَقْرَبُهَا رَجُلٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ مَعَ وُجُودِ الْمُكُوسِ وَالْغَرَامَةِ. فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِذَا كَانَ الْمُكْسُ، وَلَوْ دِرْهَمًا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِذَا كَانَتِ الْغَرَامَةُ كَثِيرَةً مُجْحِفَةً سَقَطَ الْفَرْضُ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً غَيْرَ مُجْحِفَةٍ بِهِ لِسِعَةِ مَالِهِ فَلَا يَسْقُطُ، وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَيْهِ مَضَتِ الْأَعْصَارُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمَعْضُوبَ لَا يَلْزَمُهُمَا الْمَسِيرُ إِلَى الْحَجِّ. فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْقُطُ عَنِ الْمَعْضُوبِ فَرْضُ الْحَجِّ، وَلَا يُحَجُّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. فَإِنْ وَصَّى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُجَّ مِنَ الثُّلُثِ، وَكَانَ تَطَوُّعًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَالٍ يَسْتَأْجِرُ بِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا بَذَلَ أَحَدٌ لَهُ الطَّاعَةَ وَالنِّيَابَةَ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَلَوْ بَذَلَ لَهُ مَالًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ. وَمَسَائِلُ فُرُوعِ الِاسْتِطَاعَةِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِوُجُوبِ الْحَجِّ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ مِثْلَهُ: الضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِمْرَانُ الْقَطَّانُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَمَنْ كَفَرَ بِأَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ فَلَمْ يَحُجَّ، فَهَذَا كُفْرُ مَعْصِيَةٍ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ كُفْرُ جُحُودٍ. وَيَصِيرُ عَلَى

قَوْلِ السُّدِّيِّ لِقَوْلِهِ:

ص: 277

«مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ»

«لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» .

عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْهَا يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ، مَكَانَ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ تَغْلِيظًا عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ، وَلِذَلِكَ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا»

وَنَحْوُهُ مِنَ التَّغْلِيظِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى كَلَامِ السُّدِّيِّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَمَنْ كَفَرَ بِكَوْنِ الْبَيْتِ قِبْلَةَ الْحَقِّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها «1» وَكَفَرُوا بِهَا وَقَالُوا: لَا نَحُجُّ إِلَيْهَا أَبَدًا.

ومن شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالْفَاءِ، وَالرَّابِطُ لَهَا بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْعالَمِينَ إِذْ مَنْ كَفَرَ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ. وَفِي هَذَا اللَّفْظِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَصْدُ بِالْكَلَامِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ عَمَّ اللَّفْظُ لِيَبْرَعَ الْمَعْنَى وَيَتَنَبَّهَ الْفِكْرُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، حَتَّى لَيْسَ بِهِ افْتِقَارٌ إِلَى شَيْءٍ، لَا رَبَّ سِوَاهُ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْهَا يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْكِيدِ ذِكْرُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالسُّخْطِ وَالْخِذْلَانِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ:

عَنِ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ. وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الْعَالَمِينَ تَنَاوَلَهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ. وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ الْكَامِلِ، فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى عِظَمِ السُّخْطِ الَّذِي وَقَعَ عِبَارَةً عَنْهُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ حَجِّ الْعَالَمِينَ.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ:

قَالَ الطَّبَرِيُّ: سَبَبُ نُزُولِهَا وَنُزُولِ مَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلَ الْإِغْرَاءَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَاسْمُهُ: شَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ أَعْمًى شَدِيدَ الضَّغَنِ وَالْحَسَدِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَرَأَى ائْتِلَافَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَقَالَ: مَا لَنَا مِنْ قَرَارٍ بِهَذِهِ الْبِلَادِ مَعَ اجْتِمَاعِ مَلَإِ بَنِي قَيْلَةَ، فَأَمَرَ شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا جَرَى فِيهِ مِنَ الْحَرْبِ وَمَا قَالُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمُوا حَتَّى ثَارُوا إِلَى السِّلَاحِ بِالْحَرَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» ؟ وَوَعَظَهُمْ فَرَجَعُوا وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

، هَذَا مُلَخَّصُهُ وَذَكَرُوهُ مُطَوَّلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ

(1) سورة البقرة: 2/ 142.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 105.

ص: 278

الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ فِي كِتَابِنَا، وَالظَّاهِرُ نِدَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عُمُومًا وَالْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ كَقِيَامِهَا عَلَى الْخَاصَّةِ. وَكَأَنَّهُمْ بِتَرْكِ الاستذلال وَالْعُدُولِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَنْزِلَةِ من علم ثم أنكر. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ:«وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ» «1» انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ. وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُورَدُ الدَّلَائِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُجَابُونَ عَنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ أَقْوَى لِتَقَدُّمِ اعْتِرَافِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَأَصْلِ النُّبُوَّةِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْبَيْتِ آياتٌ بَيِّناتٌ «2» وَأَوْجَبَ حَجَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «3» نَاسَبَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْكُفَّارِ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَنَادَاهُمْ بيا أهل الْكِتَابِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ يَعْتَزِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ، بَلْ يَنْبَغِي طَوَاعِيَتُهُ وَإِيمَانُهُ بِهَا، إِذْ لَهُ مَرْجِعٌ مِنَ الْعِلْمِ يَصِيرُ إِلَيْهِ إِذَا اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ.

وَالْآيَاتُ: هِيَ الْعَلَامَاتُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: آيَاتُ اللَّهِ هِيَ آيَاتٌ مِنَ التَّوْرَاةِ فِيهَا صِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَيُحْتَمَلُ الْقُرْآنُ، وَمُعْجِزَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ فِيهَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَى أَعْمَالِهِ مُشَاهِدًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ لَا يُنَاسِبُهُ أَنْ يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ، فَلَا يُجَامِعُ الْعِلْمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِ لَا يَكَادُ يَقَعُ مِنْهُ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ. وَأَتَتْ صِيغَةُ «شَهِيدٌ» لِتَدُلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقِ. لِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تَقْبَلُ التَّفَاوُتَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.

فَإِذَا جَاءَتِ الصِّفَةُ مِنْ أَوْصَافِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فَذَلِكَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى «لِمَ» وَحَذْفِ الْأَلِفِ مِنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْجَارُّ. وَقَوْلُهُ: «عَلَى مَا تَعْمَلُونَ» مُتَعَلِّقٌ بقوله: شهيد. وما مَوْصُولَةٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ عَلَى عَمَلِكُمْ.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَضَلَالَهُمْ، وَلَمْ يكتفوا حتى

(1) سورة آل عمران: 3/ 99.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 97.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 97.

ص: 279

سَعَوْا فِي إِضْلَالِ مَنْ آمَنَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى ذَلِكَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عملها» . وصدّ: لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ. يُقَالُ: صَدَّ عَنْ كَذَا، وَصَدَّ غَيْرَهُ عَنْ كَذَا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: يَصُدُّونَ ثُلَاثِيًّا، وَهُوَ مُتَعَدٍّ وَمَفْعُولُهُ مَنْ آمَنَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَصُدُّونَ مِنْ أَصَدَّ، عَدَّى صَدَّ اللَّازِمَ بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ.

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ وَمَعْنَى صَدَّ هُنَا: صَرَفَ. وَسَبِيلُ اللَّهِ: هُوَ دِينُ اللَّهِ، وَطَرِيقُ شَرْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ.

وَمِنَ التَّأْنِيثِ قَوْلُهُ:

فَلَا تَبْعُدْ فَكُلُّ فَتَى أُنَاسٍ

سَيُصْبِحُ سَالِكًا تِلْكَ السَّبِيلًا

قَالَ الرَّاغِبُ: وقد جاء يا أَهْلَ الْكِتابِ دُونَ قُلْ، وَجَاءَ هُنَا قُلْ. فَبِدُونِ قُلْ هُوَ اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، فَجَعَلَ خِطَابَهُمْ مِنْهُ اسْتِلَانَةً لِلْقَوْمِ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ. وَلَمَّا قَصَدَ الْغَضَّ مِنْهُمْ ذَكَرَ قُلْ تَنْبِيهًا عَلَى أنهم غير متساهلين أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الْخِطَابَيْنِ وَصَلَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَطْلَقَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمَدْحِ تَارَةً، وَعَلَى الذَّمِّ أُخْرَى. وَأَهْلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَدْحِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا افْتَعَلُوهُ دُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ نَحْوَ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «1» وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.

وَأَيْضًا فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ وَالتَّهَكُّمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَنْ لَا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، انتهى ما لخص من كَلَامِهِ.

وَالْهَاءُ فِي يَبْغُونَهَا عَائِدَةٌ عَلَى السَّبِيلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ: يَطْلُبُونَ لَهَا اعْوِجَاجًا.

تَقُولُ الْعَرَبُ: ابْغِنِي كَذَا بِوَصْلِ الْأَلِفِ، أَيِ اطْلُبْهُ. أَيْ وَأَبْغِنِي بِقَطْعِ الْأَلِفِ أَعِنِّي عَلَى طَلَبِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) كَيْفَ يَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُوَ مُحَالٌ؟ (قُلْتُ) فِيهِ مَعْنَيَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ تَلْبِسُونَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تُوهِمُوهُمْ أَنَّ فِيهَا عِوَجًا بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى لَا تُنْسَخُ، وَبِتَغْيِيرِكُمْ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ تُتْعِبُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي إِخْفَاءِ الْحَقِّ، وَابْتِغَاءِ مَا لَا يَتَأَتَّى لَكُمْ مِنْ وُجُودِ الْعِوَجِ فِيمَا هُوَ أَقْوَمُ مِنْ كُلِّ مُسْتَقِيمٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَبْغُونَ هُنَا مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ التَّعَدِّي. أَيْ يَتَعَدَّوْنَ عَلَيْهَا، أو فيها.

(1) سورة البقرة: 2/ 79.

ص: 280

وَيَكُونُ عِوَجًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ الضَّمِيرِ في يبغون، أَيْ عِوَجًا مِنْكُمْ وَعَدَمَ اسْتِقَامَةٍ انْتَهَى. وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عِوَجًا مَفْعُولًا بِهِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:

«يبغونها عِوَجًا» تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يصدّون أَوْ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَيْنِ يَرْجِعَانِ إِلَيْهِمَا.

وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أَيْ بالعقل نحو: «وألقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» «1» أَيْ عَارِفٌ بِعَقْلِهِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ. نَحْوَ قَالَ:«فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2» وَتَارَةً بِإِقَامَةِ ذَلِكَ، أَيْ شَهِدْتُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَعْثِهِ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَتِهِ وَصِدْقِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّهَا سَبِيلُ اللَّهِ الَّتِي لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا ضَالٌّ مُضِلٌّ. أَوْ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ عُدُولٌ يَثِقُونَ بِأَقْوَالِكُمْ، وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي عِظَامِ أُمُورِهِمْ، وَهُمُ الْأَحْبَارُ انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: «وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ» دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ شُهَدَاءَ، وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الِاسْمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ شَهَادَةٌ. وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، فَتَعَيَّنَ وَصْفُهُمْ بِأَنْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ بِحَالٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ لَمَّا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ صَدَّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكُفَّارِ وَإِضْلَالِهِمْ وَنَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَنْبِيهًا عَلَى تَبَايُنِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ «قُلْ» لِيَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ وَتَأْنِيسًا لَهُمْ. وَأَبْرَزَ نَهْيَهُ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَطَوَاعِيَّتِهِمْ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ تَقَعْ طاعتهم لهم. والإشارة بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى الْأَوْسِ والخزرج بسب ثَائِرَةِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ. وَأَطْلَقَ الطَّوَاعِيَةَ لِتَدُلَّ عَلَى عُمُومِ الْبَدَلِ، أَيْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْكُمْ طَوَاعِيَةٌ مَا فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ إِضْلَالِكُمْ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الطَّاعَةَ بِقِصَّةِ الأوس والخزرج عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالرَّدُّ هُنَا التَّصْيِيرُ أَيْ يُصَيِّرُونَكُمْ.

وَالْكُفْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا لَيْسَ بِكُفْرٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ فِي إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَلَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ مَعْصِيَةً لَا كُفْرًا إِلَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحِبِّينَ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَحْسِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ مَنْهِيًّا بَعْدَ مَنْهِيٍّ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أن يخرجوا

(1) سورة ق: 50/ 37.

(2)

سورة آل عمران: 2/ 81.

ص: 281

عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَصِيرُوا كَافِرِينَ حَقِيقَةً. وَانْتِصَابُ كَافِرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليردّ، لِأَنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ:

فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضًا

وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودًا

وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ هَذَا سُؤَالُ اسْتِبْعَادِ وُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ مَعَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ: وَهُمَا تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ الظَّاهِرُ الْإِعْجَازِ، وَكَيْنُونَةُ الرَّسُولِ فِيهِمُ الظَّاهِرُ عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ. وَوُجُودُ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ تُنَافِي الْكُفْرَ وَلَا تُجَامِعُهُ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ كُفْرٌ مَعَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ فَوُبِّخُوا عَلَى وُقُوعِهِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلِذَلِكَ نُودُوا بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. فَلَيْسَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً «1» وَالرَّسُولُ هُنَا: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِلَا خِلَافٍ. وَالْخِطَابُ قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ. وَقِيلَ:

لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ آثَارَهُ وَسُنَّتَهُ فِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمَانِ بَيِّنَانِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَنَبِيُّ اللَّهِ. فَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَأَبْقَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَحْمَةً مِنْهُ وَنِعْمَةً فِيهِ، حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَطَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُتْلَى بِالتَّاءِ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: يُتْلَى بِالْيَاءِ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّ الْآيَاتِ هِيَ القرآن. قال ابن عطية: وَفِيكُمْ رَسُولُهُ هِيَ ظَرْفِيَّةُ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ لِشَخْصِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَقْوَالِهِ وَآثَارِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ الْإِنْكَارُ وَالتَّعْجِيبُ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْكُمُ الْكُفْرُ، وَالْحَالُ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ تُتْلَى عَلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ غَضَّةً طَرِيَّةً وَبَيْنَ أَظْهُرِكِمْ رَسُولُ اللَّهِ يُنَبِّهُكُمْ وَيَعِظُكُمْ وَيُزِيحُ شُبَهَكُمْ؟.

وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ.

وَيُنَاسِبُ هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَهُ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ «2» . وَقِيلَ: يَسْتَمْسِكُ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: يلتجىء عليه، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَقًّا عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ شُرُورِ الكفار. وجواب من

(1) سورة البقرة: 2/ 28.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 101. [.....]

ص: 282