المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وأما ترجمة تميم الداري - شرح سنن ابن ماجه للهرري = مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه - جـ ٢٤

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌تَتِمَّة كتاب الفتن

- ‌(1) - (1452) - بَابُ كَفِّ اللِّسَانِ فِي الْفِتْنَةِ

- ‌(2) - (1453) - بَابُ الْعُزْلَةِ

- ‌(3) - (1454) - بَابُ الْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ

- ‌(4) - (1455) - بَاب: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا

- ‌(5) - (1456) - بَابُ مَنْ تُرْجَى لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْفِتَنِ

- ‌(6) - (1457) - بَابُ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ

- ‌(7) - (1458) - بَابُ فِتْنَةِ الْمَالِ

- ‌فائدة

- ‌(8) - (1459) - بَابُ فِتْنَةِ النِّسَاءِ

- ‌فصل في ذكر الأحكام التي تستفاد من هذا الحديث

- ‌(9) - (1460) - بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ

- ‌(10) - (1461) - بَابُ قَوْلهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}

- ‌(11) - (1462) - بَابُ الْعُقُوبَاتِ

- ‌(12) - (1463) - بَابُ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ

- ‌(13) - (1464) - بَابُ شِدَّةِ الزَّمَانِ

- ‌(14) - (1465) - بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ

- ‌(15) - (1466) - بَابُ ذَهَابِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ

- ‌(16) - (1467) - بَابُ ذَهَابِ الْأَمَانَةِ

- ‌(17) - (1468) - بَابُ الْآيَاتِ

- ‌(18) - (1469) - بَابُ الْخُسُوفِ

- ‌(19) - (1470) - بَابُ جَيْشِ الْبَيْدَاءِ

- ‌(20) - (1471) - بَابُ دَابَّةِ الْأَرْضِ

- ‌(21) - (1472) - بَابُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا

- ‌تنبيه

- ‌(22) - (1473) - بَابُ فِتْنَةِ الدَّجَّال، وَخُرُوجِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

- ‌وأما ترجمة تميم الداري

- ‌فائدة

الفصل: ‌وأما ترجمة تميم الداري

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعه على الإسلام وأسلم، وحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا يوافق الحديث الذي حدث رسول الله لأصحابه عن المسيح الدجال وخروجه في أمته صلى الله عليه وسلم.

‌وأما ترجمة تميم الداري

فهو تميمُ بن أوس بن خارجة الداريُّ؛ نسبة إلى الدار بن هانئ من بني لَخْم، كان راهبَ عصره وعابد أهل فلسطين، وقيل: نسبة إلى جده الدار بن هانئ بن حبيب، وقيل: نسبة إلى دارين؛ وهو اسم موضع في بلاد البحرين تُجْلَبُ إليه العُطورُ من بلاد الهند، والأول أصح.

أبو رقية - بقاف وتحتانية مصغرًا - الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، وكان راهب أهل فلسطين، أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم بن أوس بن خارجة الداري، ولهما صحبة، قدم تميم المدينة، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وهو أول من أسرج السراج في المسجد النبوي) رواه الطبراني من حديث أبي هريرة.

و(أول من قص) أي: وعظ الناس؛ وذلك في عهد عمر رضي الله تعالى عنهما، رواه إسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة.

وكذا رواه عمر بن شبة في "تاريخ المدينة" أنه كان يعظ الناس قبل صلاة الجمعة، انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان، وسكن فلسطين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه بها قرية (عينون) قبل أن تفتح، فأقره عمر رضي الله تعالى عنهما، وكان كثير التهجد، مات بالشام سنة أربعين، وقبره بـ (بيت جبرين) من بلاد فلسطين، كذا في "الإصابة"(1/ 186).

ص: 364

أَنَّ الرِّيحَ أَلْجَأَتْهُمْ إِلَى جَزِيرَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا، فَقَعَدُوا فِي قَوَارِبِ السَّفِينَةِ،

===

قال النووي: وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن تميمًا الداري أتاني فأخبرني" هذا معدود في مناقب تميم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه هذه القصة.

وفيه رواية الفاضل عن المفضول، ورواية المتبوع عن تابعه، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر، وقبول خبر الواحد، وهو جواب لغز من ألغز بقوله:(من الذي حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) انتهى.

وأما ترجمة أخي تميم الداري .. فهو نعيم بن أوس أخو تميم الداري، قال أبو عمر: يقال: إنه وفد مع أخيه تميم على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن منده: له ذكر في حديث أورده الواقدي في "المغازي" من طريق عبد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: (قدم وفد الداريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك؛ وهم عشرة: هانى بن حبيب، والفاكه بن النعمان، وجُبَيْلَةُ بن مالك، وعروة بن مالك، وقيس بن مالك، وأخوه مرة، وأبو هند، وأخوه الطيب، وتميم بن أوس، وأخوه نعيم بن أوس، ويزيد بن قيس، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الطيب: عبد الله، وسمى عروة: عبدَ الرحمن. انتهى من "الإصابة في تمييز الصحابة".

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن أخًا لتميم الداري) اسمه: نعيم بن أوس الداري (أخبرني) كما أخبرني تميم أخوه (أن الريح) العاصفة (ألجأتهم) أي: ردتهم ورجعتهم من فوق البحر (إلى جزيرة لا يعرفونها، فقعدوا في قوارب السفينة) زمنًا قليلًا؛ انتظارًا لوقفة الرياح.

والقوارب: جمع قارب - بكسر الراء والفتح أشهر - وهي سفينة صغيرة تكون مع أصحاب السفن الكبار البحرية يتخذونها لحوائجهم في البحر

ص: 365

فَخَرَجُوا فِيهَا فَإِذَا هُمْ بِشَيْءٍ أَهْدَبَ أَسْوَدَ، قَالُوا لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: أَخْبِرِينَا، قَالَتْ: مَا أَنَا بِمُخْبِرَتِكُمْ شَيْئًا وَلَا سَائِلَتِكُمْ، وَلكِنْ هَذَا الدَّيْرُ قَدْ رَمَقْتُمُوهُ

===

(فخرجوا فيها) أي: في القوارب إلى الجزيرة (فإذا هم) وجدوا فيها؛ أي: في الجزيرة (بشيء أهدب) أي: بحيوان كثير شعر الهدب، أو طويله؛ والهدب - بضمتين أو بضم فسكون -: شعر أشفار العين.

وقوله: (أسود) صفة ثانية لشيء فـ (قالوا له) أي: قال أصحاب السفينة لذلك الشيء الأهدب: (ما أنت؟ ) أي: أي شيء أنت، ومن أي شيء كنت؟ (قال) ذلك الشيء الأهداب الأسود لأصحاب السفينة:(أنا الجساسة).

قوله: فقالوا له: (ما أنت؟ ) أي: أيُّ جنسٍ أنت من الحيوان؟

قال القرطبي: اعتقدوا فيها أنها مما لا يعقلُ، فَاسْتَفْهَمُوا عنها بـ (ما) ثم إنها كلَّمتهم كلامَ من يعقل، وعند ذلك رَهِبُوا أن تكون شيطانة، فقالت في جواب سؤالهم:(أنا الجسَّاسة) هو - بفتح الجيم وتشديد السين المهملة - اسم لدابة عجيبة، قيل: سميت بذلك؛ لتجسسها الأخبار للدجال؛ لأنها جاسوسة له، وجاء عن عبد الله بن عمرو:(أنها دابة الأرض المذكورة في القرآن) كذا في "شرح النووي".

(قالوا) أي: قال أصحاب السفينة؛ يعني: رفقة تميم الداري لها: (أخبرينا) أيتها الجساسة عن جنسك وعن شؤونك وعملك؟

(قالت) الجساسة لهم: (ما أنا بمخبرتكم شيئًا) من شؤوني (ولا) بـ (سائلتكم) عن شؤونكم (ولكن هذا الدير) - بفتح الدال وسكون الياء المثناة من تحت -: هو خان النصارى وراهبهم، وفي "المغرب": صومعة الراهب.

أي: هذا الخان الذي (قد رمقتموه) أي: رأيتموه ونظرتموه حين

ص: 366

فَأْتُوهُ؛ فَإِنَّ فِيهِ رَجُلًا بِالْأَشْوَاقِ إِلَى أَنْ تُخْبِرُوهُ وَيُخْبِرَكُمْ، فَأَتَوْهُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ؛ فَإِذَا هُمْ بِشَيْخٍ مُوثَقٍ شَدِيدِ الْوَثَاق، يُظْهِرُ الْحُزْنَ، شَدِيدِ التَّشَكِّي، فَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ؟

===

مروركم عليه (فأتوه) أي: فاذهبوا إليه (فإن فيه) أي: في ذلك الخان (رجلًا) ملتبسًا (بالأشواق) أي: بالاشتياق (إلى أن تخبروه) شؤونكم (و) إلى أن (يخبركم) شؤونه، وقوله: الكن هذا الدير) بالرفع مبتدأ، وقوله:(قد رمقتموه) صلة لموصول محذوف، وجملة قوله:(فأتوه) خبر المبتدأ؛ والتقدير: ولكن هذا الدير والخان الذي رمقتموه ورأيتموه حين مروركم عليه، فأتوه؛ أي: فاذهبوا إليه؛ فإن فيه؛ أي: فإن في ذلك الدير رجلًا ملتبسًا بالاشتياق إلى إخباركم له خبر ما عندكم وإخباره إياكم خبر ما عنده.

وقوله: (فأتوه) - بفتح التاء المثناة فوق - بصيغة الماضي مفرع على محذوف؛ تقديره: فلما أمرتهم الجساسة بالذهاب إليه .. أتوه؛ أي: جاؤوا ذلك الرجل الذي في الدير (فدخلوا عليه، فـ) لما أتوه (إذا هم) راؤون (بشيخ) أي: برجل كبير السن (موثق) بلفظ اسم المفعول؛ من الإيثاق؛ أي: برجل مربوط (شديد الوثاق) أي: برجل موثق شديد ربطه (يُظْهِرُ) لمن رآه (الحزنَ) والتأسفَ؛ ليَفُكَّ الوثاقَ عنه.

وقوله: (شديد التشكي) صفة ثالثة لشيخ؛ أي: شديد الشكوى وكثيرها لمن رآه؛ ليغيثه بحل الرباط عنه.

(فـ) لما رأوه .. (قال) ذلك الشيخ الموثق (لهم) أي: لتميم ولمن معه من أصحاب سفينته: (من أين) أنتم؟ أي: من أي مكان أنتم؛ لأن (أين) اسم استفهام عن مكان؟

ص: 367

قَالُوا: مِنَ الشَّام، قَالَ: مَا فَعَلَتِ الْعَرَبُ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَب، عَمَّ تَسْأَلُ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي خَرَجَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، نَاوَأَ قَوْمًا فَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْرُهُمُ الْيَوْمَ جَمِيعٌ: إِلههُمْ وَاحِدٌ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، قَالَ: مَا فَعَلَتْ عَيْنُ زُغَرَ؟

===

(قالوا) أي: قال أصحاب تميم له؛ أي: لذلك الشيخ المربوط: نحن (من) أهل (الشام).

فـ (قال) لهم: (ما فعلت العرب) هل هم على دينهم الأول من عبادة الأوثان أم يعبدون الله عز وجل؟

(قالوا) له: (نحن) معاشر هؤلاء الرفقة (قوم) أي: جماعة (من العرب، عم تسأل) عنهم؟ أي: عن أي شيء تسأل من شؤونهم؟

(قال) لهم الشيخ الموثق: (ما فعل هذا الرجل الذي خرج) أي ظهر (فيكم) يا معاشر العرب؟

فـ (قالوا) أي: فقالت رفقة تميم للشيخ الموثق ردًّا لسؤاله: فعل (خيرًا) فإنه (ناوأ) أي: عادى وحارب (قومًا) كذبوه (فأظهره الله) عز وجل؛ أي: نصره (عليهم) أي: أعانه الله وغلبه عليهم (فأَمْرهُم) أي: فشَأْنُ العرب مع ذلك الرجل الذي ظهر فيهم (اليوم) أي: في الزمن الحاضر (جميع) أي: متفقون على دينه، مصدقون له في دعواه (إلههم) أي: معبودُ العرب مع معبود ذلك الرجل .. إله (واحد) الذي لا إله إلا هو (ودينهم) أي: ودين العرب مع دين ذلك الرجل .. دين (واحد) الذي هو دين الإسلام الذي لا دين غيره.

(قال) ذلك الشيخ الموثق لهم؛ أي: لرفقة تميم: (ما فعلت عين زغر؟ ) أي: ماؤها؛ هل ينقص أم يزيد؟

ص: 368

قَالُوا: خَيْرًا، يَسْقُونَ مِنْهَا زُرُوعَهُمْ، وَيَسْتَقُونَ مِنْهَا لِسَقْيِهِمْ،

===

وزغر - بضم الزاي وفتح الغين المعجمة ثم راء؛ على وزن زفر -: هي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام. انتهى "نووي"، وهي لا تنصرف. انتهى "مبارق" للعلمية والعدل، أو للعلمية والتأنيث.

وقال الحموي في "معجم البلدان"(4/ 143): هي قرية في مَشَارِفِ الشام؛ أي: أمامها القبلي.

وقيل: زغر اسم لبنت لوط عليه السلام نزلت بهذه القرية، فسميت باسمها.

وحدثني الثقة أن زغر هذه في طرف البحيرة المنتنة في واد هناك، بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيام، وهي من ناحية الحجاز، ولهم هناك زروع.

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: لما هلكت قوم لوط .. مضى لوط عليه السلام وبناته يريدون الشام، فماتت الكبرى من بناته، فكان يقال لها:(رَبَّةُ) فدفنت عند عين هناك، فسميت باسمها:(عين ربة).

ثم ماتت بعد ذلك الصغرى، وكان اسمها:(زغر) فدفنت عند عينٍ من ماء، فسميت:(عينَ زُغَر) وهذه في وادٍ وَخِمٍ رديء في أشأمِ بقعةٍ، إنما يَسْكُنه أهلُه للوطنِ. انتهى من "الكوكب".

(قالوا) هذا مرتب على محذوف؛ تقديره: فقُلْنَا له: (عن أي شَأْنها تَستَخْبِرُ؟ ) قال الشيخ الموثق: أستخبركم هل في العين ماء، وهل يزرع أهلها بماء العين؟

فقالوا؛ أي: أصحاب له في جوابه: كانت العين (خيرًا) أي: على خير (يسقون) أي: يسقي أهلها (منها زروعهم ويستقون)؛ أي: يستقي أهلها (منها) أي: يأخذون من تلك العين الماء في دلائهم (لسقيهم) أي: لشرب

ص: 369

قَالَ: فَمَا فَعَلَ نَخْلٌ بَيْنَ عَمَّانَ وَبَيْسَانَ؟ قَالُوا: يُطْعِمُ ثَمَرَهُ كُلَّ عَامٍ، قَالَ: فَمَا فَعَلَتْ بُحَيْرَةُ الطَّبَرِيَّةِ؟ قَالُوا: تَدَفَّقُ

===

أنفسهم؛ أي: ما زالت العين بخير، يسقون ويستقون منها.

(قال) الشيخ الموثق: (فما فعل نخل بين عَمَّان) بفتح المهملة وتشديد الميم (وبيسَانَ) - بفتح الموحدة وسكون التحتانية - كلاهما بلدتان مشهورتان بالشام، ذكر الطيبي أنها - أي: بيسان - قرية بالشام.

وزاد ابن الملك: وقال الحموي في "معجم البلدان"(2/ 526): بيسان: مدينة بالأردن بالغور الشامي، ويقال: هي لسان الأرض، وهي بين حوران وفلسطين، وبها عين الفلوس، يقال: إنها من الجنة، وهي عين فيها ملوحة يسيرة، جاء ذكرها في حديث الجساسة، وتوصف بكثرة النخل، وقد رأيتها مرارًا، لم أر فيها غير نخلتين حائلتين، وهو من علامات خروج الدجال، وهي بلدة وبئة حارة، أهلها سمر اللون جعد الشعور؛ لشدة الحر الذي عندهم، ثم ذكر في الأخير أن هناك موضعًا آخر اسمه بيسان، وهو باليمامة. انتهى باختصار.

(قالوا) أي: رفقة تميم للشيخ الموثق: قلنا للشيخ الموثق: عن أي شأنها؛ أي: عن أي شأن نخلها وحالها تستخبر؟ (فقال): أسألكم عن نخلها هل يثمر الآن أم لا؟ (قلنا له: نعم) يثمر نخلها و (يُطعِمُ) نخلُها (ثمرَه كلَّ عام).

(قال) الشيخ الموثق: (فما فعلت بُحيرة الطبرية؟ ) بحر صغير معروف بالشام؛ وطبرية: بلدة بناها بعض ملوك الروم، والنسبة إليها طبرانيّ - بالألف والنون - ولطَبَرِسْتانَ الَّتِي بخراسان: طَبَرِيٌّ. انتهى "س".

وفي "مسلم": (قلنا له: عن أي شأنها تستخبر؟ قال) الشيخ الموثق: (هل فيها) أي: في تلك البحيرة (ماء)؟

(قالوا) أي: قُلْنَا له، ففيهِ التفاتٌ:(تَدَفَّقُ) من باب تفعل الخماسي، قال

ص: 370

جَنَبَاتُهَا مِنْ كَثْرَةِ الْمَاء، قَالَ: فَزَفَرَ ثَلَاثَ زَفَرَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: لَوِ انْفَلَتُّ مِنْ وَثَاقِي هَذَا .. لَمْ أَدَعْ أَرْضًا إِلَّا وَطِئْتُهَا برِجْلَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا طَيْبَةَ لَيْسَ لِي عَلَيْهَا سَبِيلٌ"، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِلَى هَذَا يَنْتَهِي فَرَحِي، هَذِهِ طَيْبَةُ، وَالَّذِي نَفْسِي

===

في "المنجد": تدفَّقَ واسْتَدْفَقَ الماءُ: تَصَبَّب، ويصح:(تَدفُقُ) من باب نصر (جنباتها) جمع جنبة؛ والجنبة: الناحية والجانب. انتهى "سندي".

أي: قلنا له: هي كثيرة الماء تدفق جنباتها؛ أي: تدفق الماء جوانبها ونواحيها بسرعة وقوة؛ لكثرة مائها؛ كما قاله (من كثرة الماء) أي: تدفق وترمي تلك البحيرة؛ من أجل كثرة مائها من كل جوانبها وأطرافها.

(قال: فزفر) أي: صاح ذلك الشيخ (ثلاث زفرات) أي: ثلاث صيحات؛ فالزفير: أول صوت الحمار؛ والشهيق: آخره؛ لأن الزفير إدخال النفس، والشهيق إخراجه، ذكره السيوطي. "سندي".

(ثم قال) الشيخ: (لو انفلتُّ) وانفككت وخرجت (من وثاقي) وربطي (هذا) الذي رأيتموه عليَّ (لم أدع) أي: لم أترك (أرضًا) أي: ناحيةً من نواحي الأرض (إلا وطئتها) ومشيت فيها (برجلي هاتين إلا طيبة) محمد صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مسلم زيادة:(مكة) المكرمة؛ وطيبة - بفتح الطاء المهملة وسكون الياء - هي المدينة، ويقال لها أيضًا: طابة، وكل منهما مأخوذ من الطيب؛ لطيبها بطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه اليس لي عليها سبيل) أي: ليس لي سبيل وطاقة وقدرة على دخولها (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى هذا) أي: من أول الخبر إلى هذا؛ أي: إلى قول الشيخ الموثق: (إلا طيبة ليس لي عليها سبيل)(ينتهي فرحي) وسروري الحاصل بقول الشيخ الموثق: (هذه طيبة، و) أقسمت لكم بالإله (الذي نفسي)

ص: 371

بِيَدِهِ؛ مَا فِيهَا طَرِيقٌ ضَيِّقٌ وَلَا وَاسِعٌ وَلَا سَهْلٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ شَاهِرٌ سَيْفَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

(109)

- 4019 - (5) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ،

===

وروحي (بيده) المقدسة على أن (ما فيها) أي: ما في جهات طيبة ونواحيها (طريقٌ ضَيِّقُ) المسالك (ولا واسعُ) المسالك (ولا سَهْلُ) المسالك بكونه لا عقبة فيه (ولا) ذُو عقبة؛ بأن كان فيه (جبل .. إلا و) الحال أنه (عليه) أي: على ذلك الطريق (مَلَكٌ) من ملائكة الله، حارسٌ له من شياطين الإنس والجن (شاهرٌ) ذلك المَلكُ أي: مُخْرِج (سيفَه) من غِلافه (إلى) مجيء (يوم القيامة) غاية الحراسة.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الفتن، باب قصة الجساسة، وأبو داوود في كتاب الملاحم، باب في خبر الجساسة، والترمذي في كتاب الفتن، وقال: حديث حسن صحيح.

ودرجته: أنه صحيح وإن كان سند المؤلف حسنًا؛ لما تقدم من أن مجالدًا مختلف فيه؛ لأن له متابعات كثيرة ممن روى عن الشعبي؛ كعبد الله بن بريدة، وأبي الحكم سيار بن وردان، وغيلان بن جرير، كلهم عن الشعبي، وله شواهد أيضًا، وغرضه: الاستشهاد به لحديث حذيفة بن اليمان.

* * *

ثم استشهد المؤلف رابعًا لحديث حذيفة بحديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنهم، فقال:

(109)

- 4019 - (5)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير - مصغرًا - السلمي الدمشقي صدوق مقرئ خطيب، من كبار العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).

ص: 372

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ

===

(حدثنا يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرمي أبو عبد الرحمن الدمشقي القاضي، ثقة من الثامنة، رمي بالقدر، مات سنة ثلاث وثمانين ومئة (183 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر) الأزدي أبو عتبة الشامي الداراني، ثقة، من السابعة، مات سنة بضع وخمسين ومئة (153 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثني عبد الرحمن بن جبير) بجيم وموحدة مصغرًا (ابن نفير) - بنون وفاء مصغرًا - الحضرمي الحمصي، ثقة، من الرابعة، مات سنة ثماني عشرة ومئة (118 هـ). يروي عنه:(م عم).

(حدثني أبي) جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة جليل، من الثانية، مخضرم، له ولأبيه صحبة رضي الله تعالى عنهما، فكأنه هو ما وفد إلا في عهد عمر، مات سنة ثمانين (80 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(م عم).

(أنه) أي: أن جبيرًا (سمع النواس) بفتح النون وتشديد الواو ثم مهملة (ابن سمعان) - بفتح أوله أو كسره - ابن خالد، له ولأبيه صحبة رضي الله تعالى عنهما، قال ابن عبد البر: إن أباه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أخته، فلما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم .. تعوذت منه فتركها، وهي الكلابية، كذا في "التهذيب"(الكلابي) - بكسر الكاف - نسبة إلى بني كلاب، قبيلة مشهورة في العرب، الصحابي المشهور الشامي. يروي عنه:(م عم).

ص: 373

يَقُولُ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ الْغَدَاةَ، فَخَفَضَ فِيهِ وَرَفَعَ،

===

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

حالة كون النواس (يقول: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال) أي: شأنه وفتنته في وقت (الغداة) وهي: أول النهار (فخفض) النبي صلى الله عليه وسلم صوته (فيه) أي: في ذكره؛ إبقاء للنشاط على نفسه (ورفع) صوته في ذكره تارة، ليسمع من بعد عنه، أو المعنى:(فخفض فيه) أي: حقر في شأنه (ورفع فيه) أي: عظم فتنته تارة أخرى.

وعبارة القرطبي: هنا: قوله: "فخفض فيه ورفع" - بتخفيف الفاء فيهما - أي: أكثر من الكلام فيه؛ فتارةً يرفع صوته، ليسمع من بعد عنه، وتارةً يخفض صوته؛ ليستريح من تعب الإعلان، وهذه الحالة حالة المكثر من الكلام.

وقيل: معناه: فحقره وصغره تارة؛ كما قال في حديث آخر: "هو أهون على الله من ذلك" وتارة عظمه؛ كما قال: "ليس بين يدي الساعة خلق أكبر فتنة من الدجال"، والمعنى الأول أسبق إلى الفهم.

وقد روى اللفظان: (فخفض فيه ورفع) مشددًا الفاء، وهو التضعيف والتكثير، أي: للمبالغة في كثرة ذلك. انتهى من "المفهم".

قال النووي: وفي معناه قولان:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الكلام في شأنه؛ فتارة رفع صوته؛ ليسمعه كل أحد، وأخرى خفض؛ ليستريح من تعب الجهر.

والثاني: أن المراد من التخفيض: تصغير شأنه وتحقيره، كما ذكر أنه أعور وأهون على الله من ذلك، وأنه لا يقدر على قتل أحد إلا ذلك الرجل، ثم يعجز عنه، وأنه يضمحل أمره، ويقتل بيد عيسى عليه السلام.

ص: 374

حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ؛ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ:"مَا شَأْنُكُمْ؟ "، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الْغَدَاةَ فَخَفَضْتَ فِيهِ ثُمَّ رَفَعْتَ؛ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْل، قَالَ: "غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ؛

===

والمراد من الترفيع: تعظيم فتنته حيث تَصْدُر منه أمورٌ خارقة للعادة، وأنه ليس بين يدي الساعة أحدٌ أعظمُ فتنةً من الدجال. انتهى منه.

ولفظة: (حتى) في قوله: (حتى ظننَّا) هـ غاية لمحذوف؛ تقديره: أي: أكثر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإنذار في الدجال حتى ظننا نحن معاشر الصحابة (أنه) أي: أن الدجال مختف (في طائفة) أي: في قطعة من أشجار (النخل) قريبة إلينا؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم وصفه بصفات كثيرة من الفتن حتى ظننا أنه مختف في مكان قريب إلينا (فلما رحنا) أي: رجعنا (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواح، أي: في آخر النهار .. (عرف) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذلك) الظن الهائل (فينا) معاشر الحاضرين (فقال) لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شأنكم) وحالكم في الخوف من الدجال أشد الخوف حتى ظننتم أنه قريب إليكم؟

(فقلنا) له: (يا رسول الله) أنك (ذكرت) لنا (الدجال) وفتنته (الغداة) أي: في أول هذا النهار (فخفضت فيه) أي: في ذكره صوتك تارةً (ثم رفعت) صوتك بذكره تارةً أخرى (حتى ظننا أنه) أي: أن الدجال قريب إلينا مختف (في طائفة) أي: في قطعة من أشجار (النخل) القريبة إلينا، فلذلك خفنا منه خوفًا شديدًا فـ (قال) لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:(غير الدجال) من دعاة جهنم (أخوفني) أي: أشد خوفًا (عليكم) عندي.

والمعنى: إني أخاف عليكم من كير الدجال أكثر مما أخافه عليكم منه؛

ص: 375

إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ .. فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ .. فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِه، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ،

===

أي: غير الدجال أخوف عليكم عندي من الدجال، فحذف؛ للعلم به، وقد بسطنا الكلام على هذه الجملة في "الكوكب الوهاج" فراجعه.

(إن يخرج) الدجال ويظهر (وأنا) حي (فيكم .. فأنا حجيجه) أي: محاجه ومخاصمه ودافعه وقاطعه بالحجة؛ بإظهار كذبه وإفساد قوله (دونكم) أي: من غير افتقار وحاجة إلى محاجة شخص معين يدافعه عنكم؛ أي: فأنا كافٍ لكم في محاجته (وإن يخرج) ويظهر الدجال (و) الحال أنا (لست فيكم .. فامرؤ) أي: فكل امرئ منكم، والدليل على عمومه قوله فيما بعد:"والله خليفتي على كل مسلم"(حجيج نفسه) أي: محاج ومدافع له عن نفسه.

والمعنى: ليحتج كل امرئ منكم عن نفسه ويدافعه عنها بما أعلمته من صفته، وبما يدل عليه العقل من كذبه في دعوى الألوهية؛ وهو خبر بمعنى الأمر.

وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات، والتمسك بالأدلة الواضحات. انتهى من "المفهم".

وهذا الكلام يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبين له وقت خروجه، غير أنه كان يتوقعه ويقربه، وكذلك كان يقرب أمره حتى يظنوا أنه في النخل القريب منهم. انتهى منه.

(والله) عز وجل (خليفتي على) دفع شره وفتنته عن (كل مسلم) ومسلمة؛ يعني: أن الله تعالى وليّ كل مسلم وحافظه من شره، فيعينه عليه، ويدفع شره عنه بلا واسطة.

وهذا منه صلى الله عليه وسلم تفويض إلى الله في كفاية كل مسلم من

ص: 376

إِنهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ قَائِمَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ،

===

تلك الفتن العظيمة وتوكل عليه في ذلك، ولا شك في أن من صح إسلامه في ذلك الوقت أنه يكفى تلك الفتن؛ لصدق النبي صلى الله عليه وسلم في توكله، وصحة ضمان الله تعالى كفاية من توكل عليه بقوله عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1)؛ أي: كافيه مشقة ما توكل عليه فيه، وموصله إلى ما يصلحه منه، ومع هذا، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقرؤه على الدجال، فيؤمن من فتنته؛ وذلك عشر آيات من أول سورة الكهف أو من آخرها، على اختلاف الرواية في ذلك، والاحتياط والحزم يقتضي أن يقرأ عشر آيات من أول سورة الكهف، وعشر آيات من آخرها، على أنه قد روى أبو داوود من حديث نواس:(فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف؛ فإنه جوار لكم من فتنته) رواه أبو داوود (4321).

ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا (إنه) أي: إن الدجال رجل (شاب) الجسم، لا كهل ولا شيخ (قطط) - بفتحتين وبكسر الطاء الأولى، لغتان فيه - أي: شديد جعودة الشعر الذي لا يمتد إلا باليد؛ كشعور السودان، مباعد عن الجعودة المحبوبة، كذا في النووي.

(عينه قائمة) ناتئة جاحظة عن موضعها؛ أي: بارزة مرتفعة عنه؛ كأنها عنبة طافية؛ أي: حبةُ عنبةٍ بارزةٌ خارجةٌ من بين سائر الحبوب (كأَنِّي أُشَبِّهُهُ) في ظني (بعَبْدِ العزى بن قَطَنٍ) - بفتحتين - ولم يَقُلْ: كأنه عبد العزى بن قطن، قيل: إنه لم يكن جازمًا بتشبيهه به، وقيل: إنه كان يهوديًّا، والظاهر أنه كان مشركًا؛ لأن العزى اسم صنم، يؤيده ما جاء في بعض الحواشي:(هو رجل من خزاعة، هلك في الجاهلية). انتهى من "الأبي".

(1) سورة الطلاق: (3).

ص: 377

فَمَنْ رَآهُ مِنْكُمْ .. فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ (سُورَةِ الْكَهْفِ) إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاق، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا،

===

قال علي القاري في "المرقاة"(10/ 162): قلتُ: لا شك في تشبيهه به إِلا أنه لما كان معرفةُ المشبَّه في عالمِ الكشف أو المنامِ .. عبر عنه بـ (كأَنِّي) كما هو المعتبر في الرؤيا، والله أعلم.

ويمكن أن يقال: لما لم يوجد في الكون أقبح منه صورة، فلا يَتِمُّ التشبيهُ مِن جميع الوجوه، بل ولا من وجه واحد .. عدل عن صيغة الجزم وعبَّر عنه بما عَبَّر به منه ثم في صيغة الحال؛ إشعارًا باستحضار صورة المآل. انتهى.

(فمن رآه) أي: رأى الدجال (منكم) أيها المسلمون .. (فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) زاد أبو داوود من طريق صفوان بن صالح: (فإنها جواركم من فتنته)، والجوار - بكسر الجيم -: الأمان.

(إنه) أي: إن الدجال (يخرج) ويظهر (من خلة) أي: في خلة وطريق (بين الشام والعراق) وقيل للطريق والسبيل: خلة؛ لأنه خل وفصل ما بين البلدتين (فعاث) أي: أفسد في الأرض (يمينًا) أي: في يمينه (وعاث) أي: أفسد في الأرض (شمالًا) أي: في شماله، وفي مشارقها ومغاربها وجنوبها.

روي (عاث) بالعين المهملة والثاء المثلثة مفتوحة غير منونة؛ على أنه فعل ماض، وبكسرها وتنوينها؛ على أنه اسم فاعل؛ أي: فهو عاث في الأرض يمينًا وشمالًا.

يقال: عثا في الأرض يعثو؛ إذا أفسد، وكذلك عثي - بالكسر - يعثى؛ من باب رضي، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (1)،

(1) سورة البقرة: (60).

ص: 378

يَا عِبَادَ اللهِ؛ اثْبُتُوا"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ"،

===

والتعبير بالماضي عن المستقبل إشعار بأنه محقق الوقوع لا محالة.

(يا عباد الله؛ اثبتوا) على دينكم دين الإسلام، ولا تؤمنوا به، وهذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم يَأْمُر مَنْ لَقِيَ الدجالَ أن يَثْبُتَ ويَصْبِرَ؛ فإِن لُبْثَه في الأرض قليل؛ على ما يأتي.

وأما من سمع به ولم يلقه .. فليبعد عنه، وَلْيَفِرَّ منه بنفسه؛ كما أخرجه أبو داوود من حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع الدجال .. فَلْيَنْأَ عنه، والله؛ إِنَّ الرجلَ لَيَأْتِيهِ وهو يحسب أنه مؤمن، فيَتْبَعُه مِمَّا يَبعث به من الشُّبهات، أو لما يبعث به من الشبهات" رواه أبو داوود (4319).

قال النواس بن سمعان: (قلنا) معاشر الحاضرين: (يا رسول الله؛ وما لبثه) أي: مكثه (في الأرض؟ قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدر لبثه في الأرض ومدته (أربعون يومًا؛ يومٌ) أولُ منها طُولُه (كـ) طُولِ (سنة، ويومٌ) ثان منها طُولهُ (كـ) طولِ (شهر، ويوم) ثالث منها طوله (كـ) طول (جمعة) وأسبوع (وسائر أيامه) أي: أيام الدجال (كأيامكم) أي: باقي أيام مكثه في الأرض؛ أي: قدرها كقدر أيامكم.

قال القرطبي: ظاهر هذا الكلام أن الله تعالى يخرق العادة في تلك الأيام، فيبطئ بالشمس عن حركتها المعتادة في أول يوم من تلك الأيام، حتى يكون أول يوم منها كمقدار سنة معتادة، ويبطئ بالشمس في الثاني منها، حتى تكون كمقدار شهر معتاد، ويبطئ الشمس في الثالث منها حتى يكون كمقدار جمعة،

ص: 379

قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ تَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ:"فَاقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ"، قَالَ: قُلْنَا: فَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ:

===

وهذا ممكن، لا سيما وذلك الزمان تنخرق فيه العوائد كثيرًا، لا سيما على يدي الدجال.

(قلنا) معاشر الحاضرين: (يا رسول الله؛ فذلك اليوم الذي كسنة) أ (تَكْفِينا) وتُجزِئُنا (فيه صلاة يوم) واحد؛ وهي خمس صلوات فقط؟ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكفيكم فيه صلاة يوم واحد، بل (فاقدروا له) أي: لذلك اليوم (قدره) أي: قدر اليوم من سائر الأيام.

قال النووي رحمه الله تعالى: ومعنى: "اقدروا له قدره" أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون من بينه وبين الظهر كل يوم .. فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر .. فصلوا العصر، وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب .. فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، وهكذا حتى ينقضي ذلك اليوم، وقد وقَعَ صلواتُ سنةٍ فرائض كلُّها مؤداةٌ في وقتها.

وأما الثاني الذي كشهر، والثالث كجمعة .. فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول؛ على ما ذكرناه، والله أعلم.

وقال القاضي عياض: في قوله: "اقدروا له

" إلى آخره، هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحبُ الشرع، ولَوْ وُكِلْنَا فيه إلى الاجتهادِ .. لكانَتْ الصلاةُ فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. انتهى.

(قال) النواس بن سمعان: (قلنا) معاشر الحاضرين عند الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله (فما) قدر (إسراعه) أي: قدر إسراع الدجال في سيره (في الأرض؟ قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدر إسراعه في الأرض

ص: 380

"كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ"، قَالَ: "فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِه، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، وَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرىً،

===

(كالغيث) أي: كإسراع الغيث الذي (استدبرته الريح) العاصفة؛ أي: الشديدة الهبوب، قال الأبي: علموا أن له إسراعًا، فسالوا عن كيفيته لقولهم:(ما لبثه؟ ).

والمراد بـ (الغيث): الغيم؛ إطلاقًا للسبب على المسبب؛ أي: يسرع في الأرض إسراع الغيم إذا استدبرته وجاءت وراءه الريح العاصفة؛ أي: يسرع الدجال في سيره وتَجوُّلهِ في نواحي الأرض وأرجائها؛ كإسراع الغيث الذي استدبرته الريح العاصفة، وهو كناية عن سرعة سيره في الأرض، وقطع المسافات البعيدة في أسرع وقت.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيأتي) الدجال في تَجوُّله في الأرض؛ أي: يمر على (القوم فيدعوهم) إلى الإيمان به وتصديق ألوهيته (فيستجيبون له) إلى ما دعاهم إليه؛ من تصديق ألوهيته (ويؤمنون به) أي: ويصدقون بألوهيته، وهذه الجملة مفسرة للجملة التي قبلها (فيأمر السماء أن تمطر) لهم، (فتمطر) لهم؛ مجازاة لهم على الإيمان به وإجابتهم إلى دعوته (ويأمر الأرض أن تنبت) لهم (فتنبت) لهم؛ مجازاةً لهم على إيمانهم به (وتروح) أي: ترجع (عليهم) فيما بعد الزوال (سارحتهم) أي: ماشيتهم التي تسرح؛ أي: تذهب أول النهار إلى المرعى.

والسارحة: المواشي التي تخرج للسرح؛ وهي: الرعي؛ كالإبل والبقر والغنم؛ أي: ترجع إليهم سارحتهم آخر النهار إلى مراحها، حالة كونها (أطول ما كانت) عليه مِنْ قَبْلُ (ذُرىً) أي: تامًا، ونصبه على التمييز.

والذرى - بضم الذال المعجمة، جمع ذروة بضمها أيضًا - وهي الأسنمة،

ص: 381

وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ

===

جمع سنام؛ وهي: لحمة تنبت في وسط ظهر الإبل.

(و) حالة كونها (أَسْبَغَه) أي: أَمْلأَ ما كانت عليه (ضروعًا) لكثرة اللبن؛ والضروع - جمع ضرع -: مجتمع اللبن من المواشي بمنزلة ثدي المرأة من الإنسان (و) حالة كونها (أمده) أي: أزيد ما كانت عليه (خواصر) لكثرة أكلها وخصب مرعاها.

والخواصر جمع خاصرة، وامتدادها كناية عن شدة امتلائها؛ بسبب الشبع؛ والمراد: أن من آمن بالدجال .. يكون في خصب، فترجع ماشيته في المساء سمينة طويلة الأسنام.

قال الخطابي رحمه الله تعالى في "أعلام الحديث"(4/ 232): وقد يُسأَلُ عن هذا، فيقال: كيف يجوز أن يجري الله آياته على أيدي أعدائه، وإحياء الموتى آية عظيمة من آيات أنبيائه، فكيف مكَّن منه للدجال، وهو كَذَّابٌ مُفْتَرٍ على الله يدعي الربوبية لنفسه؟ !

فالجواب: أن هذا جارٍ لله تعالى على سبيل الامتحان لعباده، إذا كان منه ما يدل على أنه مبطل غير محق في دعواه؛ وهو أن الدجال أعور عينه اليمنى مكتوب على جبهته (كافر) يقرؤه كل مسلم، فدعواه داحضة مع رسم الكفر ونقص العور الشاهدين بأنه لو كان ربًّا .. لقدر على رفع العور عن عينه ومحو السمة عن وجهه، وآيات الله تعالى التي أعطاها لأنبيائه سليمة عَمَّا تُعَارُ بِهِ وعَمَّا يُناقِضُها. انتهى.

(ثم) بعدما مر على الذين آمنوا وأمدهم بنعمه (يأتي القومَ) الآخرين (فيدعوهم) إلى الإيمان به (فيردون عليه قوله) وينكرونه (فينصرف) أي: يرجع

ص: 382

عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ مَا بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَك، فَيَنْطَلِقُ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ ألنَّحْل، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَض،

===

(عنهم، فيصبحون) أي: فيصيرون في صباح ذلك اليوم (ممحلين) أي: مصابين بالمحل وفي بعض الروايات: (آزِلِينَ)، والمحل والأزل والقحط والجدب كلها بمعنىً واحد، وفي "القاموس":(المحل) على وزن فحل: الجدب والقحط.

والإمحال: كون الأرض ذات جدب وقحط، يقال: أَمْحَلَ البلدُ؛ إذا أزل وأَفْقرَ بسببِ انقطاعِ المطر ويبس الأرض، حال كونهم (ما بأيديهم شيء) من أموالهم أي: من مواشيهم (ثم يَمرُّ) الدجال (بالخَرِبة) - بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء -: المكان الخربُ الذي ليس فيه نبات ولا زرع؛ أي: يَمرُّ على الأرض الخالية عن النبات والأبنية التي ليس بها أنيس (فيقول) الدجال (لها) أي: لتلك الخربة: (أخرجي كنوزك) أي: معادنك التي خلقها الله فيك (فينطلق فتتبعه) أي: فتتبع الدجال (كنوزها)؛ أي: كنوز تلك الخربة ومعادنها، حالة كون الدجال (كيعاسيب النحل) وأُمرائها التي تتبعها سائر النحل؛ واليعاسيب جمع يعسوب؛ واليعسوب: أمير النحل وسلطانه الذي إذا طار .. تبعته جماعته.

والمعنى: أن كنوز الأرض تتبع الدجال؛ كما تتبع النحل أميرها، فشبه الدجال باليعسوب، والكنوز بالنحل.

(ثم) بعدما ذكر من تبعية الكنوز له (يدعو) الدجال (رجلًا ممتلئًا) أي: مملوئًا (شبابًا) وقوةً (فيضربه) أي: فيضرب الدجال ذلك الرجل الشاب (بالسيف ضربةً فيقطعه) به حتى يصير ذلك الرجل الشاب (جزْلَتين) أي: قطعتين وفرقتين منفصلتين مثل (رَمْيَة الغَرض) أي: مثلَ قطعبما منفصلة من الغَرَض والهَدَف إذا رميت بالسهم؛ والغرض: هو الهدف الذي يرمى إليه؛

ص: 383

ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ

===

والرمية: مرة من الرمي؛ والمراد: أنه يفرق جسمه حتى يصير قطعتين بينهما مسافة بقدر رمية الغرض، وهذا المعنى هو الذي رجحه أكثر الشراح، ولكنه فيه بعد؛ كما قاله القرطبي.

قال القرطبي: والأولى فتح الجيم في (جزلتين) مع سكون الزاي؛ لأن جزلتين هنا مُلَاقٍ في المعنى لِيَقْطَعه، فكأنه قطَعَهُ قِطعتَين، أو جَزلَه جَزْلَتين، وجَزْلَة مصدرٌ محدودٌ لجَزل جزلًا وجزلةً، ويجوز كسرها على أنه اسم؛ يعني: قسمه قطعتين وفرقتين.

وقوله: (رَمْية الغرض) منصوب نصب المصدر؛ أي: كرمية الغرض في السرعة والإصابة.

وقيل: المعنى: جعل بين القطعتين مثل رمية الغرض، وفيه بُعْدٌ، والأول أشبه. انتهى من "المفهم".

(ثُمَّ) بعد قَتْلِه بالسيف (يدعوه) الدجالُ ويناديه (فيقبل) ذلك المقتول ويأتي إلى الدجال، حالةَ كونه (يتهلَّلُ) أي: يُضيء (وجههُ) مثل ضوء الهلال والقمر؛ أي: يُقبل إليه، حالة كونه (يضحك) والجملة حال ثانية من فاعل (يقبل) أي: يقبل إلى الدجال حالة كونه ضاحكًا بشاشًا. انتهى من "المرقاة".

والمعنى: يصير حيًّا بعدما كان ميتًا، وقد ذكرنا أن كل ما يظهر على يدي الدجال من الخوارق استدراجٌ له (فبينما هو) أي: الدجال كائن (كذلك) أي: مُلْتَبِسٌ بذلك؛ من قتلهِ وإحيائه؛ أي: فبينما أوقات كون الدجال على ذلك المذكور من قتله وإحيائه، هذه روايات مسلم.

وفي روايةِ ابن ماجه: (فبَيْنَما هُم كذلك) أي: الناسُ والدجالُ مشغولِون بما

ص: 384

إِذْ بَعَثَ اللهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ،

===

هم فيه .. (إذ بعث الله) عز وجل وأَرْسل إليه (عيسى ابن مريم فينزل) عيسى من السماء (عندَ المنارَة) - بفتح الميم - أي: عند المِئْذَنةِ (البيضاء) الكائنة تلك المنارة في (شرقي) مدينة (دمشق) اسم مدينة مشهورة بالشام، سميت باسم أول من بناها؛ وهو دمشق بن نمروذ عدو إبراهيم الخليل عليه السلام، وولده (دمشق) آمن بإبراهيم عليه السلام، وهاجر معه من العراق إلى الشام، وهو من صلحاء أتباع إبراهيم؛ كما بيناه في تفسيرنا "حدائق الروح والريحان" وفي أوائل "الكوكب الوهاج".

و(إذ) هنا فجائية رابطة لجواب (بينما)، وقوله:(شرقي دمشق) بنصب (شرقي) على الظرفية وإضافته إلى دمشق؛ أي: فينزل عيسى عند المنارة البيضاء، حالة كون عيسى (بين مهرودتين) أي: لابسأ حلتين مصبوغتين بورس أو زعفران؛ والمهرودتان - بالدال المهملة ويعجم - أي؛ حالة كون عيسى بينهما؛ بمعنى: لابسهما. انتهى من "المرقاة"، والمهرود: الثوب الذي يصبغ بالورس ثم بالزعفران، قاله في "النهاية".

قوله: "عند المنارة البيضاء " قال النووي: وهذه المنارة موجودة اليوم شرقي دمشق، وظاهر هذا أن عيسى عليه السلام ينزل بدمشق، وهذا ما جزم به البرزنجي في كتاب "الإشاعة في أشراط الساعة"(ص 145).

وقال السيوطي في "مصباح الزجاجة"(ص 297): قال ابن كثير: هذا هو الأشهر في موضع نزول عيسى، وقد جددت هذه المنارة في زماننا، في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، من حجارة بيض، ولعل هذا؛ يكون من دلائل النبوة الظاهرة، فرضي الله تعالى بناء هذه المنارة؛ لينزل عليها عيسى ابن مريم.

ص: 385

وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْن، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ .. قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَ .. يَتَحَدَّرُ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤ،

===

ثم قال الحافظ ابن كثير: وقد ورد في بعض الأحاديث أن عيسى ينزل بِبَيْتِ المقدس، وفي رواية بـ (الأُرْدُنِ) وفي رواية ب (معسكر المسلمين) فالله أعلم بمكان نزوله.

قال السيوطي: وحديث نزوله ببيت المقدس مذكور عند ابن ماجه، وهو عندي أرجح، ولا ينافي سائر الروايات؛ لأن بيت المقدس هو شرقي دمشق، وهو معسكر المسلمين إذ ذاك.

والأردن اسم الكورة؛ كما في "الصحاح"، وبيت المقدس داخل فيه، فاتفقت الروايات، فإن لم يكن في بيت المقدس الآن منارة بيضاء .. فلا بُدَّ من أن تُحدث قبل نزوله، وقد أحدثت، وما رجحه السيوطي من نزول عيسى ببيت المقدس هو ما رجحه أكثر العلماء، والله أعلم.

قوله: "بين مهرودتين" على زنة مفعولتين، وروي بالذال المعجمة أيضًا؛ أي: ينزل في ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران؛ كما تقدم آنفًا، فـ (بين) هنا بمعنى (في) الظرفية، وهذا كناية عن جمال ملبسه عليه السلام؛ أي: ينزل في مهرودتين حالة كونه (واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ) وخفض (رأسه .. قطر) أي: رأسه؛ أي: انصب من رأسه قطرات الماء (وإذا رفع) أي: رأسه .. (يتحدر منه) أي: تحدر من رأسه ونزل (جمان) أي: حبوب من الماء (كاللؤلؤ) أي: مثل جمان اللؤلؤ والفضة في صفائها ولمعانها؛ يعني: إذا خفض رأسه .. قطر منه ماء كثير، وإذا رفعه .. تحدر منه؛ أي: نزل منه ماء ببطئ وتأخر شيئًا فشيئًا شبيه بجمان اللؤلؤ وحبوبه في الصفاء واللمعان، وهذا كناية عن جمال ذات عيسى عليه السلام وحسن خلقته مع جمال لباسه المذكور آنفًا.

ص: 386

وَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَنْطلِقُ حَتَّى يُدْرِكَهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ،

===

(ولا يحل) أي: لا يمكن ولا يقع (لكافر يجد ريح نفسه) أي: ريح نفس عيسى عليه السلام بفتح النون والفاء - أي: فلا يمكن لكافر وجد ريح نفس عيسى عليه السلام الحياة في حال من الأحوال (إلا مات) ذلك الكافر الذي شم ريح نفس عيسى عليه السلام (ونفسه) أي: والحال أن نفس عيسى (ينتهي) ويصل (حيث ينتهي) ويصل (طرفه) - بسكون الراء - أي: بصره.

وقال القرطبي: معناه: أن الكفار لا يقربونه، وإنما يهلكون عند رؤيته ووصول نفسه إليهم؛ حفظًا من الله تعالى له، وإظهارًا لكرامته (فينطلق) عيسى؛ أي: يطلب عيسى عليه السلام الدجال ويتتبَّعه (حتى يدركه) أي: حتى يدرك عيسى الدجال (عند باب لد) - بضم اللام وتشديد الدال، وبصرفه - اسم جبل بالشام، وقيل: اسم قرية من قرى بيت المقدس، وقيل: اسم بلدة معروفة في فلسطين قريبة من بيت المقدس، ولحكومة إسرائيل فيها اليوم مطار.

(فيقتله) أي: فيقتل عيسى الدجال، قال العلامة علي القاري في "المرقاة" (10/ 198): قوله: "فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه .. إلا مات" يجوز أن يكون الدجال مستثنىً من هذا الحُكْمِ؛ لحكمةِ إراءةِ دمه في الحرْبةِ؛ ليزداد كونُهُ ساحرًا في قلوب المؤمنين.

ويحتمل كون هذه الكرامة لعيسى أولًا حين نزوله، ثم تكون زائلة حين يرى الدجال؛ إذ دوام الكرامة ليس بلازم، وقيل: النفس الذي يموت الكافر لأجله هو النفس المقصود به إهلاك الكافر، لا النفس المعتاد، فعدم موت الدجال؛ لعدم النفس المراد، وقيل: المفهوم منه: أن من وجد نفس عيسى من الكفار .. يموت، ولا يفهم منه: أن يكون ذلك أول وصول نفسه، فيجوز أن يحصل ذلك

ص: 387

ثُمَّ يَأْتِي نَبِيَّ اللهِ عِيسَى قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ فَيَمْسَحُ وُجُوهَهُمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ .. إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: يَا عِيسَى؛ إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ

===

بهم بعد أن يريهم عيسى عليه السلام دم الدجال في حربته؛ للحكمة المذكورة.

ثم قال علي القاري رحمه الله تعالى: من الغريب أن نفس عيسى عليه السلام تعلق به الإحياء لبعض، والإماتة لبعض؛ ومقصوده: أن عيسى عليه السلام قد أوتي عند بعثته، معجزة إحياء الموتى بنفسه، وفي آخر حياته صار نفسه سببًا لموت الكفار. انتهى من "التكملة".

(ثم يأتي نبي الله عيسى) عليه السلام بالنصب على المفعولية - (قوم) - بالرفع على الفاعلية - أي: يأتيه قوم من المسلمين (قد عصمهم الله) تعالى أي: قد حفظهم الله منه من شر الدجال وفتنته (فيمسح) عيسى ابن مريم عن (وجوههم) أي: يمسح عن وجوه أولئك القوم؛ أي: يزيل عن وجوههم بمسحه عليها ما أصابها من غبار سفر الغزو ووعثائه؛ مبالغة في إكرامهم وفي اللطف بهم.

وقيل: معناه: يكشف ما نزل بها من الخوف والمشقات والحزن والكآبة على وجوههم بما يسرهم من خبره بقتل الدجال، ويكون المعنى الأول حقيقيًّا، والثاني مجازيًّا.

(ويحدثهم) عيسى؛ أي: يخبرهم (بدرجاتهم في الجنة، فبينما هم) أي: عيسى ومن معه (كذلك) أي: على ذلك من مسح وجوههم، وإخباره بدرجاتهم.

وفي رواية: (فبينما هو) كائن كذلك من إخبار عيسى لهم ومسحه وجوهَهُم (إذ أوحى الله) تعالى (إليه: يا عيسى؛ إني قد أخرجت) أي: أوحى إليه بأني

ص: 388

عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَأَحْرِزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ،

===

قد أخرجت (عبادًا لي) من مقرهم ووطنهم (لا يدان) أي: لا طاقة (لأحد) من الناس ولا قدرة (بقتالهم) أي: على قتال أولئك العباد؛ واليدان: كناية عن القوة؛ لأنهما مظهر القوة، قال الأبي: وعبر عنها باليد؛ لأن الدفاع لا يكون إلا بها، وثنيت مبالغة، كأن يديه معدومتان للعجز عن دفعهم.

وإعرابه: (يدان): مثنى اللفظ مفرد المعنى في محل النصب اسم (لا)، مبني على فتح مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الحكاية، وخبر (لا) الجارُّ والمجرورُ المذكورُ بعده؛ تقديره: لا قُوَّةَ ولا طاقة لأحدٍ على قتالهم.

وقوله: (أخرجت عبادًا لي) أي: أظهرت جماعة منقادة لقضائي وقدري؛ والمراد بهم: يأجوج ومأجوج، والمعهود في الكتاب والسنة جميعًا أنه إذا قصد بالعباد الكفار والطغاة .. أضيفوا إلى الله سبحانه وتعالى بوإسطة اللام؛ كما في قوله تعالى في سورة الإسراء:{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} (1).

وأما إن أريد بهم: المسلمون والصلحاء .. أضيفوا إلى الله تعالى بلا واسطة؛ كقوله تعالى: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} (2)، وكقوله هنا:(فأحرز عبادي) المؤمنين؛ أي: فاجمعهم (إلى الطور) أي: إلى جبل الطور، فأُضيفوا إلى الله بدون واسطة اللام، والطور: جبل معروف بالشام.

وقوله: (فحرز) - بتشديد الراء - من التحريز، مأخوذ من الحرز، والمراد بالعباد هنا: المسلمون؛ أي: ضمهم إليه، واجعله حرزًا لهم، يقال: أحرزت الشيء أحرزه إحرازًا؛ إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ؛ أي: ارتحل

(1) سورة الإسراء: (5).

(2)

سورة الزمر: (16).

ص: 389

وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّة، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، ثُمَّ يَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ:

===

بهم إلى جبل يحْرزون فيه أنفسهم؛ والطور: الجبل في السريانية، فيعم كل جبل، ويحتمل أن يكون ذلك هو طور سيناء.

(ويبعث الله) سبحانه وتعالى إليهم؛ أي: يرسل سبحانه (يأجوج ومأجوج) من مقرهم؛ وهو ما وراء سد ذي القرنين (على الناس) أي: على أهل الأرض مشارقها ومغاربها، جنوبها وشمالها؛ (وهم كما قال الله) تعالى: أي: والحال أن يأجوج ومأجوج {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} أي: إلى كل حدب ومكان مرتفع ({يَنْسِلُونَ})(1)؛ أي: يسرعون، وقد تقدم القول على يأجوج ومأجوج في أول كتاب الفتن، فراجعه.

والحدب - بفتحتين -: المكان المرتفع من الآكام والكَدَاء؛ وينسلون: من النسلان؛ وهي مقاربة الخطا مع الإسراع؛ كمشي الذئب إذا بادر، قاله القُتْبِيُّ، وقال الزجاج: ينسلون؛ أي: يسرعون.

(فيمر أوائلهم) أي: أوائل يأجوج ومأجوج (على بحيرة الطبرية) والبحيرة: تصغير بحرةٍ؛ وبُحيرة طَبَريَّةَ - بفتح الطاء والباء -: بحيرة من أعمال الأردن في طرف الغور، وفي طرف جبل، وجبلُ الطور مُطِلٌّ عليها، وتُطِلُّ على هذه البحيرة مدينة طبرية، وهي التي ينسب إليها الإمام الطبراني صاحب "المعاجم الثلاثة" كما مر في أوائل هذا الحديث.

(فيشربون ما فيها) من الماء؛ أي: ما في البحيرة من الماء حتى يُنَشِّفونَها (ثم يمر آخرهم) أي: آخر يأجوج ومأجوج على موضع البحيرة (فيقولون)

(1) سورة الأنبياء: (96).

ص: 390

لَقَدْ كَانَ فِي هَذَا مَاءٌ مَرَّةً، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِئَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الله، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ

===

أي: يقول الآخر بعضهم لبعض: والله (لقد كان في هذا ماء مرة) أي: مرة من المرَّات والدهور؛ أي: زمنًا من الأزمان فأين هو الآن؟ يعني: أن أوائلهم يشربون ماء البحيرة كله حتى لا يبقى للماء فيها إلا آثار، فيمر عليها أواخرهم فيدركون بهذه الآثار أنه كان فيها ماء أولًا.

(ويحصر) - بالبناء للمفعول - أي: يحبس (نبي الله عيسى) عليه السلام (وأصحابه) من المؤمنين؛ أي: يبقون محصورين على جبل الطور بلا طعام ولا شراب حتى يشتد عليهم الجوع (حتى يكون رأس الثور لأحدهم) أي: رأس الثور الذي لا يؤكل غالبًا (خيرًا) لأحدهم وأحب عنده (من مئة دينار) كائن (لأحدكم اليوم) لفقدان ما يأكلونه عندهم.

يعني: أنهم تشتد بهم الفاقة والمجاعة إلى حد نفاد أغذيتهم وطعامهم، وهم محاصرون بيأجوج ومأجوج، حتى لا يوجد رأس الثور عندهم - وهو فحل البقر - إلا بمئة دينار، وهذا مع كمال رخص البقر في تلك الديار الشامية، ومع أن رأس الثور لا يرغب فيه الناس رغبتهم في لحم باقي أعضاء البقر.

قال القاضي: لعل ذلك لما ينالهم من الحاجة إلى ما يأكلون وهم لا يَحْرثُونَ؛ لشِدَّةِ حَصْرِهم، قال الأبي: وإنما ذكر الرأس؛ ليقاس عليه البقية في القيمة.

(فيرغب) أي: يتضرع إلى الله تعالى ويدعوه (نبي الله عيسى) عليه السلام (وأصحابه) المؤمنون؛ أي: يتضرعون إليه تعالى ويدعونه الفرج من هذه المحاصرة والمجاعة، والرغبة هنا بمعنى الدعاء.

وزاد في بعض الروايات: (إلى الله) تعالى (فيرسل الله) تعالى (عليهم)

ص: 391

النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، وَيَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَلَا يَجِدُونَ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ،

===

أي: على يأجوج وماجوج؛ أي: يسلط الله عليهم وينزل بهم (النغف) - بفتحتين - جمع نغفة؛ وهي دود يكون في أنوف الإبل والغنم (في رقابهم) وأعناقهم.

وهذا استجابة لدعاء عيسى وأصحابه عليه السلام (فيصبحون) أي: يصبح يأجوج ومأجوج، أي: يكونون في صباح تلك الليلة التي دعوا عليهم (فرسى) أي: هلكى موتى دفعة واحدة (كموت نفس واحدة).

وقوله: "فرسى" كهلكى وزنًا ومعنىً، وهو جمع فريس؛ كقتلى وقتيل، مأخوذ مِن فرس الذئبُ الشاةَ؛ إذا كسرها وقتَلَها، ومنه: فَرِيسَةُ الأسَد، وقوله:"كموت نفس واحدة" أي: يهلكون جميعًا دفعةً واحدة.

قال التوربشتي رحمه الله تعالى: يعني: أن القهر الإلهي الغالب على كل شيء يفرسهم دفعة واحدة، فيصبحون قتلى.

وقد نبه بالكلمتين؛ أعني: (النغف) و (فرسى) على أنه سبحانه يهلكهم في أدنى ساعة بأهون شيء؛ وهو النغف، فيفرسهم فرس السبع فريسته بعد أن طارَت نُعْرةُ البغي في رؤوسهم، فزعموا أنهم قاتلوا مَنْ في السماء. انتهى من "المرقاة".

(و) بعد هلاك يأجوج ومأجوج (يَهْبِط) ويَنْزِل (نبي الله عيسى وأصحابه) المسلمون من جبل الطور إلى الأرض، (فلا يجدون) في الأرض (موضعَ شِبر) أي: قَدْرَ شِبر .. (إلا قد ملأه زَهَمُهم) - بفتحتين - أي: دَسَمُهم (ونَتنهم) أي: عفُونتهم، وهو عطف تفسير لما قبله (ودماؤهُم).

والزَّهمُ - بفتح الزاي والهاء - النتَنُ والدُّسومةُ، يقال: زَهِمَت يَدي - بكسر

ص: 392

فَيَرْغَبُونَ إِلَى اللهِ عز وجل، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ

===

الهاء - من باب فرح؛ أي: دسمت، ثم استعيرت الكلمة للنتن؛ لأن الدسومة تُنْتِنُ بعد قليل.

وذ كر التوربشتي أن الزهم - بفتحتين - معناه: الدسومة؛ والزهم - بضم الزاي وسكون الهاء -: الريح المنتنة، وذكر في "القاموس": أن الزهمة: رِيحُ لحمٍ سَمينٍ.

(فيرغبون) أي: يتضرع نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه (إلى الله عز وجل ويدعونه تصفية الأرض من نتنهم، وفي بعض الرواية: (فيرغبون إلى الله تعالى) أي: يتضرع نبي الله عيسى وأصحابه؛ أي: يدعون الله تضرعًا وخفية تصفية الأرض من جِيَفِهم (فيُرسل الله) تعالى (عليهم) أي: على موتى يأجوج ومأجوج (طيرًا) طوال الأعناق وغلاظها؛ أعناقها (كلأعناق البخت) والإبل؛ أي: كطول أعناق الإبل؛ والبُخْتُ - بضم الباء الموحدة وسكون المعجمة -: نوعٌ من الإبل غلاظُ الأعناق، عظام الأسنام، قاله القرطبي، وقال في اللسان: البُخْتُ والبُخْتِيَّةُ: دَخِيل في العربية، أعجمي معرب؛ وهي الإبل الخُراسانيةُ، تُنتج مِن عربية وفالج، وهي جمال طوال الأعناق. انتهى.

(فتحملهم) أي: فتحمل تلك الطيورُ الغِلاظُ موتى يأجوج ومأجوج (فتطرحُهم حيثُ شاء الله) تعالى؛ أي: في مكان شاء الله طَرْحَهم فيه، مما لا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالى (ثم) بعد نَقْلِ الطيور موتاهم (يرسل الله) عليهم؛ أي: على أهل الأرض؛ أي: يُنزل الله سبحانه وتعالى (مطرًا) شديدًا (لا يَكُنُّ) أي: لا يَسْتُر منه، وهو بضم الكاف وتشديد النون؛ من باب شَدَّ، وهو من كَنَنْتُ الشيءَ؛ إذا سترْتُه وصُنْتُه من الشمس، وهو بمعنى أَكْنَنْتُ الرباعي؛ إذا ستَرْتَه؛

ص: 393

مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُهُ حَتَّى يَتْرُكَهُ كَالزَّلَقَة، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَك،

===

والمفعول محذوف، والجملةُ الفعلية صفة لمطر؛ أي: يُرسل الله مطرًا شديدًا لا يسترُ ولا يحجزُ (منه) أي: من ذلك المطر، لكثرتِه (بيت) مبنيٌّ من (مَدَر) أي: من طين مُتحجِّر (ولا) بيتٌ ممدود من (وبر) أي: من نسيج شعر إبل.

والمراد: أن هذا المطر يُصيب كُلَّ شيء، سواء كان ذلك الشيء تحتَ سقف البيت أم لا؛ لأن الماء؛ لكثرتِه يتقَاطَرُ مِن سقف البيت أيضًا؛ لشدته.

قوله: (بيتُ مدر ولا وبرٍ) مرفوع على الفاعلية لـ (يَكُنُّ) والمدر - بفتحتين -: التراب المتحجر؛ كما مَرَّ آنفًا؛ والمراد به هنا: البيوت المحكمة المبنية من الأحجار والطوب واللبن؛ كبيوت المدن والقرى.

والوبر - بفتح الواو وسكون الموحدة -: صوف الإبل؛ والمراد هنا: البيوت المبنية من وبر الإبل وصوف الغنم وشعر البقر؛ يعني: غير المحكمة؛ كبيوت أهل الريف والمواشي.

(فيغسله) ذلك المطر الأرض كلها شرقًا وغربًا؛ أي: يَنْزفُهَا من آثارِ جيفِ يأجوج ومأجوج (حتى يتركه) أي: حتى يترك الأرض ويصيرها (كالزلقة) - بفتح الزاي واللام والقاف - أي: كالمرآة في صفائِها ونقائها.

وقيل: معناه: حتى يُصيِّرها كالمَصْنعِ الذي يجتمعُ فيه الماء المملوءِ ماءً، وقيل: كالإجّانة الخضراء، وقيل: كالروضة.

ويروى (كالزلفة) بالفاء بدل القاف، ومعناهما واحد.

(ثم) بعد إنزال الماء وصفاء الأرض (يقال للأرض) من جهة الله تعالى: (أَنْبِتي) يا أرضُ (ثمرتك) وحبوبَك؛ أي: أخرجي أشجارك وثمارك، فتنبت ثمرتها (وردي بركتك) أي: خيراتك من الثمار والحبوب والأعشاب والمياه

ص: 394

فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعُهُمْ، وَيَسْتَظِلُّونَ بقِحْفِهَا، وَيُبَارِكُ اللهُ فِي الرِّسْلِ؛ حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ تَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاس،

===

(فيومئذ) أي: فيومَ إذْ أُمرت الأرضُ بإخراج خيراتِها فأخرجَتْها؛ وهو أيامُ نزول عيسى عليه السلام (تأكل العصابة) أي: الجماعة من الناس؛ أي: فيوم إذ نزَلَ عيسى عليه السلام في الأرض تأكلُ الجماعةُ من الناس (من الرمانةِ) أي: من الحبة الواحدة من الرمان (فتشبعهم)؛ أي: يَشْبَعُون منها لِكِبرها؛ وذلك من بركة الأرض (ويَستظلُّون) أي: تستظل العصابةُ من حر الشمس (بقِحْفِها) أي: بقَحْفِ تلك الرمانةِ وقِشْرِها الذي أكلوا منه.

والقِحْفُ - بكسر القاف وسكون الحاء المهملة في الأصل -: عظم مستدير فوق دماغ الإنسان، واستعير لما يلي رأس الرمانة من القشر، وقيل: ما انفلق من جمجمة الدماغ وانفصل؛ والجمجمة: هي العظم المحتوي على الدماغ؛ والمراد: أن الرمانة تكون كبيرة، بحيث تستظل بقشرها العصابة.

(ويبارك الله) عز وجل (في الرِّسْلِ) أي: في اللبن - وهو بكسر الراء وسكون السين - أي: ينزل الله فيه البركة؛ وهي كثرة الخير معنىً لا حسًّا.

(حتى إِن اللِّقْحة من الإبل) واللقْحةُ - بكسر اللام وفتحها مع سكون القاف فيهما لغتان مشهورتان، والكسر أشهر -: هي الناقةُ القريبةُ العهد بالولادة، وجمعها لُقَح؛ كبركة وبُرك؛ واللقوح: ذات اللبن، وجمعها لقاح؛ أي: حتى إن لبن اللقحة من الإبل لـ (تكفي الفئام) أي: الجماعة (من الناس) وهمزة (إن) في قوله: (حتى إن اللقحة) مكسورة؛ بدليل ذكر اللام الفارقة بعدها في غير هذه الرواية، و (حتى) ابتدائية، وفتحها في تشكيل أغلب النسخ غلط ممن لا يعرف العربية؛ والفئام - بكسر الفاء، على وزن رجال -: الجماعة، ولا واحد له من لفظه؛ والمراد: أن لبن الناقة الواحدة

ص: 395

وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْقَبِيلَةَ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي الْفَخِذَ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ .. إِذْ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ رِيحا طَيِّبَةَ فَتَأْخُذُ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ،

===

يكفي الجماعة من الناس؛ والمراد من الفئام هنا: جماعة أكثر من القبيلة.

(واللقحةَ من البقر) لـ (تكفي القبيلةَ) من الناس؛ والقبيلة: أكثر من الفخذ وأقل من الفئام (واللقحة من الغنم) لـ (تكفي الفخذَ) من الناس، قال أهل اللغة: الفخذ: الجماعة من الأقارب، وهم دون البطن؛ والبطن: دون القبيلة. انتهى "نووي".

قال الزبير بن بكار: العرب على ست طبقات:

شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة. وما بينهما من الآباء .. فإنما يعرفها أهلها، وسميت بالشعوب؛ لأن القبائل تتشعب منها، وسميت القبائل بذلك؛ لأن العمائر تقابلت عليها، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمائر تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ.

قال ابن فارس: لا يقال في (فخْذ) النسب إلا بسكون الخاء، بخلاف الجارحة، تلك يقال فيها: بكسر الخاء وسكونها، وبكسر الفاء أيضًا. انتهى من "المفهم".

(فبينما هم) أي: الناس كائنون (كذلك) أي: مبسوطون عليهم من بركات الأرض .. (إذ بعث الله عليهم ريحًا طيبة) و (إذ) فجائية رابطة لجواب (بينما) أي: بينما أوقات كونهم مبسوطين عليهم .. فاجأهم بعث الله تعالى عليهم ريحًا طيبة؛ أي: لينةً (فتأخذ) تلك الريح بألم يظهر (تحت آباطهم) جمع إبط؛ وهو ما تحت مجتمع الكتف والعضد (فَتقْبضُ روحَ كل مسلم) ومسلمة.

ص: 396

وَيَبْقَى سَائِرُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ كَمَا تَتَهَارَجُ الْحُمُرُ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ".

===

قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ "روح كل مؤمن وكل مسلم": (وكل مسلم) بالواو المفيدة للجمع، والصواب أن يقال:(أو كل مسلم)، (أو) المفيدة للشك.

(ويبقى) على الأرض (سائر الناس) أي: خبائثهم ورذائلهم ممن لا مروءة له ولا حياء له؛ وهم الكفار، حالة كونهم (يتهارجون) أي: يتجامعون فيها أي: في الأرض؛ أو تلك الأزمنة تهارجًا (كلما تتهارج الحمر) في الشوارع وبحضرة الناس؛ والحمر - بضمتين - جمع حمار؛ وهو ذكر الأتان؛ أي: يجامع الرجال النساء بحضرة الناس؛ كما يفعل الحمير ولا يكترثون لذلك.

من الهرج - بسكون الراء - وهو الجماع، يقال: هرج زوجته؛ إذا جامعها، يهرجها - بتثليث الراء - وفسره بعضهم: بأن المراد من التهارج هنا: التخاصم؛ فإن الأصل في الهرج: القتل وسرعة عدو الفرس، وهرج في حديثه؛ أي: خلط. انتهى من "المرقاة".

(فعليهم) أي: فعلى هؤلاء الشرار (تقوم الساعة) وينفخ الصور.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته، وأبو داوود في كتاب الملاحم، باب خروج الدجال، والترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في فتنة الدجال، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به لحديث حذيفة، والله أعلم.

* * *

ثم ذكر المؤلف المتابعة في حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنهما، فقال:

ص: 397

(109)

- 4019 - (م) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ

===

(109)

- 4019 - (م)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي، صدوق مقرئ خطيب، من كبار العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).

(حدثنا يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرمي أبو عبد الرحمن الدمشقي القاضي، ثقة، من الثامنة، مات سنة ثلاث وثمانين ومئة (183 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا) عبد الرحمن بن يزيد (بن جابر) الشامي الأزدي الداراني، ثقة، من السابعة، مات سنة بضع وخمسين ومئة (153 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن يحيى بن جابر) بن حسان (الطائي) أَبِي عمرو الحمصي القاضي، ثقة، من السادسة، وأرسل كثيرًا، مات سنة ست وعشرين ومئة (126 هـ). يروي عنه:(م عم).

(حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير) الحضرمي الحمصي، ثقة، من الرابعة، مات سنة ثماني عشرة ومئة (118 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن أبيه) جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة، من الثانية، مخضرم، مات سنة ثمانين (80 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(م عم).

(أنه) أي: أن جبير بن نفير (سمع النواس بن سمعان) رضي الله تعالى عنهما.

وهذا السند من سباعياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات،

ص: 398

يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَيُوقِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِسِيِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنُشَّابِهِمْ وَأَتْرِسَتِهِمْ سَبْعَ سِنِينَ".

(110)

- 4020 - (6) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ،

===

غرضه: بيان متابعة يحيى بن جابر الطائي لعبد الرحمن بن يزيد بن جابر في رواية هذا الحديث عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير.

أي: سمع جبير بن نفير النواس بن سمعان حالة كون النواس (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

) الحديث السابق المذكور قبل هذا الحديث، ولكن زاد يحيى الطائي في الحديث على عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قوله صلى الله عليه وسلم:(سيوقد المسلمون) في المطابخ والتنانير وفي مصانع الحدادين حطبًا (من قسي يأجوج ومأجوج و) من (نشابهم وأترستهم سبع سنين) ظرف للإيقاد بعد هلاك يأجوج ومأجوج، يعني: من أخشاب هذه الآلات.

والقسي - بكسر القاف وتشديد الياء - جمع قوس؛ والنشاب - بضم النون وتشديد الشين -: سهام العرب، والأترسة جمع ترس؛ وهو الدرقة.

ودرجة هذه المتابعة: الصحة، لصحة سندها كأصلها، والغرض بسوقها: بيان المتابعة مع بيان هذه الزيادة المذكورة.

* * *

ثم استشهد المؤلف خامسًا لحديث حذيفة بن اليمان بحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنهم، فقال:

(110)

- 4020 - (6)(حدثنا علي بن محمد) بن إسحاق الطنافسي الكوفي، ثقة عابد، من العاشرة، مات سنة ثلاث، وقيل: خمس وثلاثين ومئتين. يروي عنه: (ق).

ص: 399

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ السَّيْبَانِيِّ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ

===

(حدثنا عبد الرحمن) بن محمد بن زياد (المحاربي) أبو محمد الكوفي، لا بأس به، وكان يدلس، قاله أحمد، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع)، وقال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن سعد: ثقة كثير الغلط، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات".

(عن إسماعيل بن رافع أبي رافع) عويمر الأنصاري المدني القاضي نزيل البصرة، يكنى أبا رافع، ضعيف الحفظ، من السابعة، مات في حدود الخمسين ومئة (150 هـ). يروي عنه:(ت ق). قال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال الترمذي: ضعفه بعض أهل العلم، وسمعت محمدًا يقول: هو ثقة مقارب الحديث، وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث، وقال ابن حبان: كان رجلًا صالحًا إلا أنه يقلب الأخبار، وبالجملة: فهو مختلف فيه، فلا يرد السند.

(عن أبي زرعة السَّيْبَاني) - بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة - الحمصي (يحيى بن أبي عمرو) ثقة، من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة، أو بعدها. يروي عنه:(عم). ولكن روايته عن الصحابة مرسلة.

(عن أبي أمامة الباهلي) صدي بن عجلان الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين (86 هـ). يروي عنه:(ع).

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه المحاربي، وهو مختلف فيه، وإسماعيل بن رافع مختلف فيه أيضًا، وأبو زرعة السيباني روايته عن الصحابة مرسلة.

ص: 400

قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَاهُ، فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ قَالَ: "إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّال، وَإنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاء، وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ؛ وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ .. فَأَنَا حَجِيجٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي

===

(قال) أبو أمامة: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ذكَّرنا يومًا بالترغيب والترهيب (فكان أكثر خطبته) تلك (حديثًا حدثناه عن) خروج (الدجال) في آخر الزمان (وحذرناه) أي: أمرنا في ذلك الحديث بالتحذُّر والاجتناب عن الإيمان به وامتثاله فيما يأمر به (فكان من قوله) صلى الله عليه وسلم في بيان صفته وشؤونه (أن قال) صلى الله عليه وسلم: (إنه) أي: إن الشأن والحال (لم تكن) أي: لم توجد (فتنة في الأرض منذ) أن (ذرأ الله) أي خلق الله (ذرية آدم أعظمُ) بالرفع، صفة لـ (فتنة) وكان تامة؛ كما أشرنا إليه؛ أي: لم تكن فتنة أشد على بني آدم (من فتنة الدجال) بعد أن خلق الله ذرية آدم.

(وإن الله) عز وجل (لم يبعث نبيًّا) من الأنبياء .. (إلا حذر أمته الدجالَ) أي: إلا أمر الله ذلك النبي بأن يُحذِّر ويُخوِّف أمته من الدجال وفتنته (وأنا آخر الأنبياء) والمرسلين (وأنتم) أيتها الأمة المحمدية (آخر الأمم) إيجادًا (وهو) أي: الدجال (خارج فيكم) أي: ظاهر (لا محالة) ولا شك في ذلك؛ لأنه من أشراط الساعة (وإن يخرج) الدجال من محبسه (و) الحال (أنا) حي (بين ظهرانيكم) أي: في وسطكم .. (فأنا حجيج) أي: مخاصم ودافع (لـ) ـه عن (كل مسلم، وإن يخرج) من محبسه (من بعدي) أي: من بعد وفاتي وارتحالي

ص: 401

فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِه، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاق، فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ؛ فَاثْبُتُوا؛

===

إلى دار الآخرة .. (فكل امرئ) وامرأة (حجيج) ومدافع له عن (نفسه، والله) سبحانه وتعالى (خليفتي) ووكيلي (على كل مسلم) في رعايته عن شره وفتنته (وإنه) أي: وإن الدجال (يخرج) ويظهر (من خلة) أي: في خلة ومفرج (بين) حدود (الشام والعراق).

قوله: "من خلة" - بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام - كما تقدم في الحديث السابق؛ وهو في الأصل: الطريق في الرمل، ثم أطلق على الطريق مطلقًا؛ أي: سواء كان في الرمل أم لا، و (من) فيه بمعنى:(في) الظرفية؛ أي: ينزل في طريق فاصل بين طرفي الشام والعراق وحدودهما.

ورواه بعضهم بلفظ (حله) - بضم الحاء المهملة وبهاء الضمير - أي: من دون (من) قبله بالرفع على الابتداء، وخبره الظرف المذكور بعد، والجملة الاسمية في محل النصب على الحالية من فاعل (يخرج) أي: يخرج حالة كون نزوله بمنزل بين البلدين.

قوله: (فيعيث) هو مضارع؛ من عاث يعيث عيثًا؛ من باب هاب يهيب، فهو من الأجوف اليائي؛ بمعنى: أفسد إفسادًا وأشد الفساد مسرعًا فيه.

والمعنى: فيعيث؛ أي: فيفسد فيمن كان (يمينًا) عن منزله ذلك؛ بدعوتهم إلى الإشراك (ويعيث) أي: يفسد فيمن كان (شمالًا) عن منزله ذلك بدعوتهم إلى الاعتراف بألوهيته.

وهذا الوجه الأخير أصح وأرجح في تفسير قوله: (خلة).

(يا عباد الله؛ فاثبتوا) واستمروا على دينكم دين الإسلام والتوحيد ولا تزلزلوا عنه.

قال القاري: معناه: أيها المؤمنون الموجودون في ذلك الزمان، أو أنتم

ص: 402

فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي، إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، ثُمَّ يُثَنِّي فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ،

===

أيها المخاطبون على فرض أنكم تدركون ذلك الزمن؛ فاثبتوا على دينكم وإن عاقبكم.

(فإني سأصفه) أي: سأذكر (لكم) وصف الدجال بي (صفة لم يصفها إياه) أي: الدجال؛ أي: لم يذكر تلك الصفة فيه؛ أي: في الدجال (نبي) واحد من الأنبياء الذين مضوا (قبلي) وذلك الوصف الذي ذكرته لكم في الدجال هو قولي: (إنه) أي إن الدجال (يبدأ) أي: يشرع في الكلام مع الناس (فيقول) تفسير لما قبله؛ أي: يشرع في الكلام مع الناس، فيقول في بدايته:(أنا نبي، و) الحال أنه (لا نبي بعدي) وأنا خاتم النبيين، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة (ثم يثني) أي: يذكر الدجال كلامًا ثانيًا: (فيقول) للناس: (أنا ربكم) أي: معبودكم ومالككم الذي ظهر لكم الآن (و) الحال أنكم أيها الناس (لا ترون ربكم) وأنتم في الدنيا (حتى تموتوا) وتبعثوا من قبوركم وتحشروا في عرصات القيامة.

ويقول أيضًا للناس: أنا ربكم (و) الحال (إنه أعور) أي: فاقد العين اليمنى (وإن ربكم ليس بأعور) لأنه منزه عن كل النقائص، والناقص في نفسه لا يقدر أن يخلق كاملًا، لأنه لو قدر .. لكمل نفسه، ولكن ليس برب قادر على الخلق، بل عبد مسيء أدب سيده، قال الطيبي في "شرح المشكاة": هذا الخطاب وما قبله من الخطاب السابق، من قوله: (يا عباد الله، فاثبتوا

) إلى هنا .. من الخطاب العام، أراد به: من يدرك الدجال من أمته.

ثم قيل: هذا القول منه صلى الله عليه وسلم استمالة لقلوب أمته، وتثبيتهم

ص: 403

وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: (كَافِرٌ) يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّة وَنَارًا؛ فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ؛ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ .. فَلْيَسْتَغِثْ بِاللهِ وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ (الْكَهْفِ) فَتَكُونَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتِ النَّارُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ أَبَاكَ وَأُمَّكَ

===

على ما يعاينونه من فتنة الدجال وشره، وتوطينهم على ما هم عليه من الإيمان بالله تعالى واعتقاده وتصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

(وإنه) أي: وإن الشأن والحال (مكتوب بين عينيه) أي: بين عيني الدجال: (كافر؛ يقرؤه) أي: يقرأ ذلك المكتوب (كل مؤمن) سواء كان من (كاتب) أي: عارف بالكتابة (أو) من (غير كاتب) أي: غير عارف بالكتابة.

(وإن من فتنته) أي: من فتنة الدجال التي يفتن بها الناس (أن معه) أي: مع الدجال (جنة) يدخلها من آمن به (ونارًا) يدخلها من كذبه (فناره) أي: فنار الدجال التي يدخلها من كذبه (جنة) أي: ماء بارد، ونعمة لذيذة من كذبه وأدخلها (وجنته) التي يدخلها من صدقه وآمن به (نار) مسعرة موقدة على من أدخلها؛ لتصديقه إياه (فمن ابتلي بـ) إدخال (ناره) لتكذيبه إياه .. (فليستغث) أي: فليلجأ (بالله) بالدعاء؛ أي: فليطلب الإغاثة من الله (وليقرأ) العشر الآيات التي هي من (فواتح) سورة (الكهف، فتكون) تلك النار (عليه) أي: على ذلك القارئ (بردًا) أي: باردة (وسلامًا) أي: برودة ذات سلامة لا تضره ببرودتها (كما كانت النار على إبراهيم) عليه السلام كذلك؛ أي: باردة برودة ذات سلامة من ضرر النار التي ألقاه فيها نمروذ اللعين.

(وإن من فتنته) أي: من فتنة الدجال (أن يقول) الدجال (لأعرابي) من أعراب المدينة: (أرأيت) أي: أخبرني (إن بعثت) وأحييت لك (أباك وأمك،

ص: 404

أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَقُولَانِ: يَا بُنَيَّ؛ اتَّبِعْهُ؛ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا وَيَنْشُرَهَا بالْمِنْشَارِ حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْن، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا؛ فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الْآنَ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي،

===

أتشهد) أي: هل تقر لي (أني) أنا (ربك) أي: إلهك الذي يستحق منك العبادة؟ (فيقول) الأعرابي: (نعم) أقر لك بربوبيتك (فيتمثل) أي: يتصور (له) أي: للأعرابي (شيطانان) ذكر وأنثى (في صورة أبيه وأمه، فيقولان) أي: الشيطانان (يا بني) أي: للأعرابي (اتبعه) أي: اتبع الدجال وأطعه فيما يأمرك به (فإنه) أي: فإن الدجال (ربك) ومعبودك الذي يستحق منك العبادة، فيؤمن الأعرابي به؛ طاعةً للشيطانين اللذين تمثلا على صورتي والديه.

(وإن من فتنته) أي: من فتنة الدجال وشره (أن يسلط) - بالبناء للمفعول - أي: أن يسلطه الله عز وجل (على نفس واحدة) أي: أن يمكن الله له من قتل نفس واحدة؛ أي: معتقدة بوحدانية الله تعالى حية؛ لأنه لا تأثير له بنفسه إلا بإذن الله عز وجل (فيقتلها) أي: فيقتل تلك النفسَ الواحدةَ؛ أي: المُوحِّدةَ بإذن الله سبحانه (وينشُرها) أي: ويشقُّ الدجالُ تلك النفس التي أذن الله له في قَتْلِها (بالمنشار) اسمُ آلة لقطعِ الأَخشاب وشَقِّها؛ أي: يَشُقُّ ذلك المقتولَ (حتى يُلْقَى) - بالبناء للمفعول - أي: حتى يُرْمَى ذلك المقتولُ (شِقَّتينِ) - بكسر الشين المعجمة وتشديدِ القافِ المفتوحة - على صيغةِ التثنية؛ أي: حتى يُرْمى فرقتين منفصلتين.

(ثم يقول) الدجالُ من عنده ممن آمن به: (انظروا إلى عبدي هذا؛ فإني أبعثه الآن) أي: في هذا الزمن الحاضر وأحييه (ثم) بعد إحيائي له (يزعم) القول الفاسد الذي لا يطابق الواقع؛ وهو (أن له ربًا غيري،

ص: 405

فَيَبْعَثُهُ اللهُ وَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَأَنْتَ عَدُوُّ الله، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللهِ؛ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ".

===

فيبعثه) أي: يبعث (الله) عز وجل ذلك المقتول بإرادته (ويقول له الخبيث) أي: الدجال الذي خبث بادعاء الألوهية للمقتول الذي أحياه الله بإذنه: (من ربك؛ فيقول) المقتول الذي أحياه الله بإذنه في جواب سؤال الدجال: (ربي) أي: مالكي ومعبودي هو (الله) أي: المعبود الذي يعبده من في السماوات والأرض، لا إله غيره (وأنت) أيها السائل لي عن معبودي (عدو الله) تعالى؛ بادعاء الألوهية والشركة معه تعالى في العبادة، و (أنت الدجال) أي: الكذاب المبالغ في كذبه بادعاء الألوهية (والله) أي: أقسمت لك بالإله الذي لا إله غيره.

(ما كنت) أنا (بعد) أي: فيما بعد؛ أي: من الزمن المستقبل (أشد بصيرة) ومعرفة (بك) أي: بكذبك (مني) أي: من معرفتي بكذبك (اليوم) أي: في هذا الزمن الحاضر.

والمعنى: أعرف بكذبك في ادعاء الألوهية فيما بعد، ولكن كنت أشد معرفة بكذبك اليوم؛ أي: في هذا الزمن الحاضر حين عجزت عن إحيائي، فأحياني ربي، والله أعلم.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: أبو داوود في كتاب الملاحم، باب خروج الدجال، وأخرجه الترمذي والنسائي، وله شاهد من حديث النواس بن السمعان، أخرجه مسلم في "صحيحه"، وقد سبق للمؤلف أيضًا.

وقال في "العون": والمؤلف - يعني: أبا داوود - أورد حديث أبي أمامة الباهلي مختصرًا، وأحال على ما قبله، وساقه ابن ماجه بتمامه.

وقال أيضًا: وأما إسناد المؤلف في هذا الحديث - يعني: أبا داوود - ..

ص: 406

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّنَافِسِيُّ: فَحَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ،

===

فصحيح، ورواته كلهم ثقات؛ عيسى بن محمد الرملي وثقه أبو زرعة، وأما ضمرة بن ربيعة الرملي .. فوثقه يحيى بن معين وأحمد والنسائي وابن سعد، وأما يحيى بن أبي عمرو السيباني .. فوثقه أحمد ودحيم وابن خراش والعجلي، وأما عمرو بن عبد الله السيباني .. فوثقه ابن حبان، وذكره في ثقات التابعين.

فدرجة هذا الحديث: أنه صحيح؛ لصحة سنده، ولأن له شواهد ومتابعات، وغرضه: الاستشهاد به لحديث حذيفة بن اليمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (قال) لنا شيخنا (أبو الحسن) علي بن محمد بن إسحاق (الطنافسي) الكوفي، ثقة عابد، من العاشرة، مات سنة ثلاث، وقيل: خمس وثلاثين ومئتين (235 هـ). يروي عنه: (ق).

(فحدثنا) عبد الرحمن بن محمد بن زياد (المحاربي) أبو محمد الكوفي، لا بأس به، وكان يدلس، قاله أحمد، من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومئة (195 هـ). يروي عنه:(ع). ووثقه النسائي وابن معين وابن سعد وابن شاهين، وذكره ابن حبان في "الثقات".

(حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي) - بفتح الواو وتشديد المهملة - أبو إسماعيل الكوفي، قال البخاري: هو من ولد الوصاف بن عامر العجلي، ضعيف، من السادسة، روى عن: عطية العوفي، ويروي عنه:(ت ق)، والمحاربي، ووكيع.

(عن عطية) بن سعد بن جنادة - بضم الجيم بعدها نون خفيفة - العوفي - بفتح المهملة وسكون الواو - الجدلي - بفتح الجيم والمهملة - أبي الحسن

ص: 407

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ"، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللهِ؛ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِه،

===

الكوفي، صدوق يخطئ كثيرًا وكان شيعيًّا مدلسًا، من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة ومئة (111 هـ). يروي عنه:(د ت ق).

(عن أبي سعيد) الخدري، رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه عبيد الله بن الوليد وعطية العوفي، وهما ضعيفان.

(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الرجل) الذي قتله الدجال بالمنشار ثم بعثه الله ثم عجز الدجال عن قتله ثانيًا (أرفع أمتي درجة في الجنة).

وهذه القطعة من حديث أبي سعيد ضعيفة؛ لضعف سندها؛ كما تقدم آنفًا، وغرضه: الاستئناس به للترجمة.

ثم (قال) عطية العوفي بالسند المذكور قبله: (قال أبو سعيد: والله؛ ما كنا نرى) - بضم النون - أي: نظن معاشر الصحابة (ذلك الرجل) الذي قتله الدجال أولًا ثم عجز عن قتله ثانيًا (إلا عمر بن الخطاب، حتى مضى) عمر ومر (لسبيله) أي: في سبيله وارتحاله إلى الآخرة، وهو كناية عن موته، فتبين خلاف ما ظننا به بموته، وإنما ظننا بعمر بن الخطاب كونه ذلك الرجل؛ لشدته وقوته في الدين ونصرته لأمر اليقين، وقيل: إن الرجل هو الخضر عليه السلام.

و(قول النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك الرجل أرفع أمتي

) إلى آخره؛ أي: أمتي الذين هم الموجودون يومئذ، فلا يلتزم تفضيل أهل ذلك الزمن الذين خرج فيهم الدجال على الصحابة.

وقد جاء أنه هو الخضر، فإن قلنا: إنه قد صحب أيضًا فلا إشكال من هذا

ص: 408

قَالَ الْمُحَارِبِيُّ: ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرَ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبتَ فَتُنْبِتَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ، فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ، وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ، فَيَأْمُرَ ألسَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرَ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ

===

الوجه، لكن يلزم الإشكال على أن الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة، وأن الأربعة أفضل الصحابة، ثم بقية العشرة، كما ذكروا في كتبهم.

وإن قلنا: إنه نبي .. فيرفع الإشكال بحذافيره؛ أي: بكليته. انتهى "س".

قال المؤلف: (قال المحاربي) عبد الرحمن بن زياد الكوفي: (ثم) بعدما ذكرنا قطعةً من حديث أبي سعيد لغرض الاستئناس (رجعنا إلى) إتمام بقية (حديث أبي رافع) إسماعيل بن رافع عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو عن أبي أمامة الباهلي، فنقول:(قال: وإن من فتنته): معطوف على قوله سابقًا: "وإن من فتنة الدجال أن معه جنة ونارًا".

أي: وإن من فتنة الدجال: (أن يأمر السماء) بـ (أن تمطر، فتمطر) بأمره، (ويأمر الأرض أن تنبت، فننبت) بأمره (وإن من فتنته: أن يمر) الدجال (بالحي) والقبائل من الناس (فيكذبونه) فيما يدعيه من الألوهية (فلا تبقى لهم) ماشية (سائمة إلا هلكت) وماتت.

(وإن من فتنته) أيضًا: (أن يمر بالحي فيصدقونه) فيما يدعي (فيأمر السماء أن تمطر) عليهم (فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت) النبات لمواشيهم (فتنبت) الأرض لها (حتى) ترعى مواشيهم من ذلك النبات وتشبع و (تروح) أي: ترجع (مواشيهم) تلك إلى مراحها آخر النهار (من يومهم ذلك) الذي أمر فيه الدجال السماء بالإمطار والأرض بالإنبات، حالة كون مواشيهم (أسمن

ص: 409

مَا كَانَتْ وَأَعْظَمَهُ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُرُوعًا، وَإِنَّهُ لَا يَبْقَى شَيءٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ؛ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِيهِمَا مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً؛ حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الظُّرَيْبِ الْأَحْمَرِ

===

ما كانت) عليه من قبل ذلك اليوم؛ أي: حالة كونها ظاهرة السمن وشديدته؛ والأسمن: اسم تفضيل من السمن، وهو كثرة اللحم.

(و) حالة كونها (أعظمه وأمده خواصر) أي: أوسع ما كانت عليه من قبل خواصر وأضلاعًا، منصوب على التمييز جمع خاصرة؛ وهي: الكلية، ففيه مجاز مرسل والعلاقة الحالية والمحلية؛ لأن الخاصرة حالة تحت الأضلاع.

(و) حالة كونها (أدر) ما كانت عليـ (ـه) من قبل، من جهة درور اللبن وسيلانه (ضروعًا، وإنه) أي: إن الشان والحال (لا يبقى شيء من الأرض) أي: مكان من أمكنة الأرض .. (إلا وطئه) أي: وطئ الدجال ومشى فيه (و) إلا (ظهر) وغلب (عليه) أي على ذلك المكان (إلا مكة) المكرمة (والمدينة) المنورة بنوره صلى الله عليه وسلم ووفاته فيها (فإنه) أي: فإن الدجال (لا يأتيهما) أي: لا يأتي مكة والمدينة (من نقب) - بفتح فسكون - هو الطريق بين الجبلين، أي: لا يأتيهما بنقب (من نقابهما) جمع نقب، الكائنة تلك النقاب في جهة من جهاتهما الأربع (إلا لقيته) أي: لقيت الدجال وتلقته (الملائكة) الذين هم حراسهما (بالسيوف) حالة كون سيوفهم (صلتة) أي: مجردة من الغلاف، يقال: أصلت السيف؛ إذا جرد من غمده وضربه بالسيف صلتًا - بفتح الصاد وسكون اللام وضمها مع سكونها - كلاهما بمعنىً، وهو السيف المجرد من الغلاف، فتمنعه الملائكة من دخول المدينة (حتى ينزل) الدجال (عند الظريب) - مصغرًا - أي: عند الجبل الصغير (الأحمر) والظريب تصغير ظرب؛ بوزن كتف؛ والظراب: الجبال

ص: 410

عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْه، فَتَنْفِي الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيد، وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَلَاصِ"، فَقَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ أَبِي الْعُكَرِ:

===

الصغار؛ أي: ينزل (عند منقطع السبخة) أي: آخر سبخة المدينة، والظرف متعلق بـ (ينزل) على كونه بدلًا من الظرف الأول؛ كما أشرنا إليه في الحل؛ والسبخة - بفتحات -: هي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.

(فترجف المدينة) أي: تضطرب وتتحرك وتتزلزل (بأهلها) أي: بسكانها؛ أصل الرجف: الحركة والاضطراب (ثلاث رجفات) أي: ثلاث حركات (فلا يبقى) فيها، أي: في المدينة (منافق ولا منافقة .. إلا خرج إليه) أي: خرج إلى الدجال كل منهما في منزله الذي في منقطع سبخة المدينة.

قوله: (فتنفي) أي: ترمي من داخلها إلى خارجها، معطوف على ترجف (الخبث منها)؛ والخبث - بفتحتين -: هو ما تلقيه النار من وسخ الفضة والنحاس وغيرهما إذا أذيبا على النار.

أي: ترجف المدينة ثلاث مرات فتنفي وترمي خبث من فيها ووسخه من المنافقين والمنافقات إلى خارجها (كما ينفي) ويرمي (الكير) أي: منفاخ الحداد (خبث الحديد) والفضة (ويدعى ذلك اليوم) الذي ترجف فيه المدينة ثلاث رجفات (يوم الخلاص) أي: يوم تتخلص فيه المدينة من خبثها المنافقين والمنافقات برجفتها ثلاث رجفات.

قال المؤلف رحمه الله: (فـ) قال المحاربي بسنده السابق: (قالت أم شريك بنت أبي العكر) العامرية، ويقال: الدوسية، ويقال: الأنصارية، اسمها غزية، صحابية، يقال: هي الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 411

يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِس، وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ؛ فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ .. إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَنْكُصُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى؛

===

رضي الله تعالى عَنْهَا. يروي عنها: (خ م ت س ق): (يا رسول الله؛ فأين العرب يومئذ؟ ) أي: يوم إذ خرج الدجال (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابها: (هم) أي: العرب (يومئذ) أي: يوم إذ خرج الدجال (قليل) بالنسبة إلى الناس؛ لأن الحروب الواقعة فيما بينهم قبل ذلك اليوم أفنتهم وطحنتهم (وجلهم) أي: جل العرب وأكثرهم مجتمعون (ببيت المقدس، و) الحال أن (إمامهم رجل صالح) بتقوى الله تعالى وطاعته؛ وهو الملقب بالمهدي (فبينما إمامهم) أي: فبينما أوقات أن إمامهم (قد تقدم) عليهم للصلاة بهم حالة كونه يريد أن (يصلي بهم) صلاة (الصبح) وفريضتها (إذ) فجائية رابطة لجواب (بينما).

وقوله: (نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح) أي: وقت الصباح؛ والتقدير: فبينما أوقات تقدم إمامهم عليهم؛ ليصلي بهم صلاة الصبح .. فاجأهم نزول عيسى ابن مريم عليهم وقت الصباح (فرجع) هنا من أخوات (صار) ترفع الاسم الذي هو قوله (ذلك الإمام) وتنصب الخبر الذي هو جملة: (ينكص) من النكوص؛ وهو الرجوع إلى وراء.

وجملة قوله: (يمشي القهقرى) حال من فاعل (ينكص) والتقدير: فصار ذلك الإمام الذي تقدم ناكصًا وراجعًا إلى ورائه؛ أي: إلى جهة القوم، حالة كون ذلك ماشيًا مشية القهقرى؛ أي: مشية الرجوع إلى وراء، فجملة (يمشي) حال مؤكدة لمعنى عامله وهو (ينكص).

ص: 412

لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي بِالنَّاس، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ؛ فَإِذَا انْصَرَفَ .. قَالَ عِيسَى عليه السلام: افْتَحُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ وَمَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلّىً وَسَاجٍ؛ فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ .. ذَابَ

===

واللام في قوله: (ليتقدم عيسى) لام كي متعلقة بـ (ينكص) أي: فصار إمامهم ناكصًا إلى ورائه؛ لكي يتقدم عيسى عليهم و (يصلي بالناس) أي: لكي يصلي عيسى إمامًا بالناس، فـ (اللام) المقدرة في (يصلي) علة لتقدم عيسى عليهم (فيضع عيسى) عليه السلام بـ (يده بين كتفيه) أي: بين كتفي إمامهم (ثم) بعدما يضع عيسى يده بين كتفي إمامهم (يقول) عيسى عليه السلام (له) أي: لإمامهم وهو المهدي المنتظر: أيها المهدي (تقدم) علينا (فصل) بنا (فإنها) أي: فإن هذه الصلاة (لك) أي: لصلاتك بهم قد (أقيمت) أي: لأمامتك فعلت إقامة هذه الصلاة قبل أن أدخل عليكم (فيصلي بهم) أي: بالناس (إمامهم) الراتب لهم.

(فإذا انصرف) الإمام وفرغ من الصلاة بهم .. (قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب) أي: باب المسجد، فكأنهم أغلقوا الباب على أنفسهم؛ خوفًا من هجوم الدجال عليهم بغتة (فيفتح) الباب أي: باب المسجد بعدما أمر عيسى بفتحه (ووراءه) وخلفه (الدجال) قائم (و) الحال أنه (معه) أي: مع الدجال (سبعون ألف يهودي، كلهم) أي: كل من السبعين ألفًا (ذو سيف) أي: صاحب سيف (محلىً) أي: مزين بفضة وذهب (وساج) أي: صاحب ساج؛ والساج: الطيلسان الأخضر، وقيل: الطيلسان المقور ينسج كذلك.

(فإذا نظر إليه) أي: إلى عيسى عليه السلام (الدجال .. ذاب) أي: انماع

ص: 413

كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا، وَيَقُولُ عِيسَى عليه السلام: إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ فَيَقْتُلُهُ، فَيَهْزِمُ اللهُ الْيَهُودَ، فَلَا يَبْقَى شَئٌ مِمَّا خَلَقَ اللهُ يَتَوَارَى بهِ يَهُودِيٌّ إِلَّا أَنْطَقَ اللهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، لَا حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَائِطٌ وَلَا دَابَّةٌ إِلَّا الْغَرْقَدُ؛

===

الدجال؛ هيبةً ورعبًا من عيسى (كما يذوب) وينماع (الملح في الماء، وينطلق) الدجال ويذهب، حالة كونه (هاربًا) أي: شاردًا من عيسى (ويقول عيسى عليه السلام للدجال: (إن لي فيك) يا دجال (ضربةً لن تسبقني) أي: لن تفوتني (بها) أي: بسبب تلك الضربة بهربك مني، أو لن تُفَوِّتَ تِلكَ الضربة عَلَيَّ بهربك مِنِّي؛ فإني أَلْحَقُك وأَقتلُك (فيُدْرِكُهُ) أي: فيدرك عيسى الدجَّالَ بَعْدَ هَربه منه (عند باب اللُّدِّ) قال في "النهاية": اللُّدُّ - بضم الدال وتشديد اللام -: موضع بالشام أو بفلسطين. انتهى.

وقوله: (الشرقي) بالجر، صفة لـ (لباب).

(فيقتله) أي: يقتل عيسى الدجال هناك؛ أي: عند باب اللد الشرقي (فيهزم الله) عز وجل (اليهود) الذين كانوا مع الدجال ويشتتهم (فلا يبقى شيء مما خلق الله) تعالى من حيوان وجماد (يتوارى) أي: يستتر (به يهودي) ويختفي وراءه .. (إلا أنطق الله ذلك الشيء) بقدرته بإخباره عن اليهودي الذي اختفى واستتر به (لا حجر) موجود .. إلا أنطق الله به (ولا شجر) كذلك (ولا حائط) أي: لا جدار موجود .. إلا أنطق الله به (ولا دابة) أي: لا حيوان موجود .. إلا أنطق الله به.

وقوله: (إلا الغرقد) استثناء من الشجر؛ أي: لا شجر موجود إلا أنطق الله به (إلا) الشجرة المسماة بـ (الغرقدة) هو ضرب من شجر العِضَاهِ وشجرِ الشوك؛ كالشِّرَرَةِ - واحدةُ الشَّرَرِ -؛ وهو ممَّا يتطايَرُ منه النار عند إيقادِه في النار.

ص: 414

فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ .. إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ الْمُسْلِمَ؛ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ"،

===

قال في "الصحاح": الشرر - بفتحتين -: ما يتطايرُ من النار، والواحدةُ شررة، ويسمى شجر اليهود، وهو كثير في الشام تَغْرُسُه اليهود في أفنيتهم (فإنها من شجرهم لا تنطق) إذا اختفى واحد منهم تحتها.

وقوله: "إلا قال: يا عبد الله" بدل من الاستثناء الأول؛ أعني: قوله: "إلا أنطق ذلك الشيء" بدل تفصيل من مجمل؛ والتقدير: لا حجر يتوارى به يهودي (إلا قال) ذلك الحجر: (يا عبد الله المسلم؛ هذا) الذي اختفى ورائي هو (يهودي، فتعال) إلي؛ أي: أقبل إلي (اقتله).

وكذا تقول في (شجر) والتقدير فيه: لا شجر يتوارى به يهودي .. إلا قال ذلك الشجر: يا عبد الله المسلم؛ هذا الذي اختفى ورائي يهودي، فتعال اقتله.

وكذا تقول في (حائط) أي: لا حائط يتوارى به يهودي .. إلا قال ذلك الحائط: يا عبد الله المسلم

إلى آخره، وكذا تقول في (دابة)

إلى آخره.

و(المسلم) في قوله: (يا عبد الله المسلم) نعت لـ (عبد الله) ويصح أن يكون عطف بيان له.

وإنما كانت (الغرقدة) شجرهم التي يحبونها، قيل: لأن عصا موسى عليه السلام منها، وهذا كذب بحت؛ لأن عصا موسى من آس الجنة، هبطت من الجنة مع آدم عليه السلام فتداولت عليها أيدي الأنبياء قبل موسى حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها لموسى عليهما السلام، أو لأنها أضاءت لموسى ليلة الحيرة مع أهله، أو لأن موسى أوقد منها الزند تلك الليلة، هذه أقوال كلها إسرائيلية لا دليل عليها.

ص: 415

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً؛ السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَة، وَالسَّنَةُ كَالشَّهْر، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَة، وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ؛ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ"، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْقِصَارِ؟ قَالَ: "تَقْدُرُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ كَمَا تَقْدُرُونَهَا

===

قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم معطوف بعاطف مقدر على قوله: (قال: هم يومئذ قليل) وهو من حديث أم شريك؛ والتقدير: قالت أم شريك: يا رسول الله؛ فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل، وقالت له أيضًا: كم أيام لبثه في الأرض؟

فـ (قال) لها (رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالها: (وإن أيامه) أي: أيام لبثه في الأرض بعدما خرج (أربعون سنة) فـ (السنة) الأولى من تلك الأربعين: (كنصف السنة) أي: قدر نصف السنة من غيرها (والسنة) الثانية منها: (كـ) قدر (الشهر) من غيرها (والشهر) من تلك السنين (كالجمعة) أي: قدر الجمعة والأسبوع من غيرها.

(وآخر أيامه) أي: قدر آخر أيام لبث الدجال في الأرض (كالشررة) أي: كمقدار زمن وقوع الشرر؛ أي: شررة النار على ما وقعت عليه، ولأجل قصره (يصبح أحدكم) أي: يدخل أحدكم في الصباح (على باب المدينة، فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي) أي: حتى يدخل في المساء؛ لقصر ذلك الزمن (فقيل له) صلى الله عليه وسلم لم أر من ذكر اسم هذا القائل؛ ليكون على نسق ما قبله: (يا رسول الله؛ كيف نصلي) الصلوات الخمس (في تلك الأيام القصار) المذكورة؟ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقدرون فيها) أي: في تلك الأيام القصار أوقات (الصلاة؛ كما تقدرونها) أي: أوقات الصلاة

ص: 416

فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَال، ثُمَّ صَلُّوا"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَيَكُونُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا،

===

(في هذه الأيام الطوال، ثم) بعدما دخلت الأوقات بهذا التقدير (صلوا) الصلوات الخمس بهذا التقدير.

وهذا الحديث الوارد في بيان أيام الدجال انفرد به ابن ماجه، وهو ضعيف؛ لمخالفته ما جاء في الرواية الصحيحة: (أن مكثه في الأرض أربعون يومًا؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع

) وهو حديث موضوع؛ لمخالفته رواية الثقات.

قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم معطوف بعاطف مقدر على أول حديث أم شريك؛ كسابقه.

والمعنى: وأما نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان .. فقد ثبت في الحديث الصحيح حيث (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فـ) قد (يكون) وينزل (عيسى ابن مريم عليه السلام في أمتي) حالة كونه (حكمًا) أي: حاكمًا بينهم بهذه الشريعة مجددًا لها، لا نبيًّا أرسل بشريعة مستقلة ناسخة لشريعتي، فهو حال من عيسى ابن مريم (عدلًا) في حكمه لا جائرًا، فهو صفة و (حكمًا) أي: حالة كونه حاكمًا عادلًا، يحكم بينكم بالعدل بهذه الشريعة مجددًا لها؛ تكرمة لهذه الأمة وهذه الشريعة، لا نبيًّا مرسلًا بشريعة مستقلة وشريعة ناسخة لهذه الشريعة المحمدية، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة؛ لأن هذه الشريعة آخر الشرائع، ونبيها آخر الأنبياء.

(و) حالة كونه (إمامًا مقسطًا) والإمام: هو المتبع لغيره المقتدى به؛ والمقسط: العادل؛ من أقسط الرباعي، يقال: أقسط يقسط إقساطًا وقسطًا

ص: 417