المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(7) - (1458) - باب فتنة المال - شرح سنن ابن ماجه للهرري = مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه - جـ ٢٤

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌تَتِمَّة كتاب الفتن

- ‌(1) - (1452) - بَابُ كَفِّ اللِّسَانِ فِي الْفِتْنَةِ

- ‌(2) - (1453) - بَابُ الْعُزْلَةِ

- ‌(3) - (1454) - بَابُ الْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ

- ‌(4) - (1455) - بَاب: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا

- ‌(5) - (1456) - بَابُ مَنْ تُرْجَى لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْفِتَنِ

- ‌(6) - (1457) - بَابُ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ

- ‌(7) - (1458) - بَابُ فِتْنَةِ الْمَالِ

- ‌فائدة

- ‌(8) - (1459) - بَابُ فِتْنَةِ النِّسَاءِ

- ‌فصل في ذكر الأحكام التي تستفاد من هذا الحديث

- ‌(9) - (1460) - بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ

- ‌(10) - (1461) - بَابُ قَوْلهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}

- ‌(11) - (1462) - بَابُ الْعُقُوبَاتِ

- ‌(12) - (1463) - بَابُ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ

- ‌(13) - (1464) - بَابُ شِدَّةِ الزَّمَانِ

- ‌(14) - (1465) - بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ

- ‌(15) - (1466) - بَابُ ذَهَابِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ

- ‌(16) - (1467) - بَابُ ذَهَابِ الْأَمَانَةِ

- ‌(17) - (1468) - بَابُ الْآيَاتِ

- ‌(18) - (1469) - بَابُ الْخُسُوفِ

- ‌(19) - (1470) - بَابُ جَيْشِ الْبَيْدَاءِ

- ‌(20) - (1471) - بَابُ دَابَّةِ الْأَرْضِ

- ‌(21) - (1472) - بَابُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا

- ‌تنبيه

- ‌(22) - (1473) - بَابُ فِتْنَةِ الدَّجَّال، وَخُرُوجِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

- ‌وأما ترجمة تميم الداري

- ‌فائدة

الفصل: ‌(7) - (1458) - باب فتنة المال

(7) - (1458) - بَابُ فِتْنَةِ الْمَالِ

(29)

- 3939 - (1) حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ

===

(7)

- (1458) - (باب فتنة المال)

(29)

- 3939 - (1)(حدثنا عيسى بن حماد) بن مسلم التجيبي أبو موسى الأنصاري (المصري)، لقبه زغبة - بضم الزاي وسكون المعجمة بعدها موحدة - وهو لقب أبيه أيضًا، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة ثمان وأربعين ومئتين (248 هـ) وهو آخر من حدث عن الليث من الثقات. يروي عنه؛ (م د س ق).

(أنبأنا الليث بن سعد) بن عبد الرَّحمن الفهمي المصري ثقةٌ عالم نحرير، من السابعة، مات سنة خمس وسبعين ومئة (175 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن سعيد) بن أبي سعيد كيسان (المقبري) المدني مولى أم شريك، ثقةٌ ثبتٌ، من الثانية، مات في حدود العشرين ومئة، وقيل قبلها، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).

(عن عياض بن عبد الله) بن سعد بن أبي سرح - بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مهملة - القرشي العامري المكي، ثقةٌ، من الثالثة، مات على رأس المئة (100 هـ). يروي عنه:(ع).

(أنه سمع أبا سعيد الخدري) سعد بن مالك رضي الله تعالى عنه.

وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات.

أي: قال عياض بن عياض بن عبد الله: سمعت أبا سعيد الخدري، حالة كونه (يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (فخطب)

ص: 92

فَقَالَ: "لَا وَالله، مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ !

===

الناس؛ أي: وعظهم بالوعد والوعيد (فقال: لا) نافية (والله) جملة قسمية زادها لتاكيد الكلام (ما) زائدة زيدت لتأكيد المنفي المفهوم من لا؛ أي: أقسمت لكم بالله الذي لا إله غيره؛ لا (أخشى) ولا أخاف (عليكم أيها الناس) فِتَنًا تشغلكم عن الدين والعمل المصالح (إلَّا ما يخرج الله) سبحانه وتعالى (لكم) من الأرض ويبسطه لكم، حالة كون ما يخرجه لكم (من زهرة الدنيا) وزينتها ومتاعها ونعيمها.

والزهرة - بفتح الزاي وسكون الهاء - والمراد بها: الزينة والبهجة؛ كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زهرة الشجر؛ وهو نَوْرُها - بفتح النون - والمراد بها: ما فيها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء.

قال القاري: والمعنى: إني أخاف عليكم أن كثرة أموالكم عند فتح بلادكم تمنعكم من الأعمال الصالحة، وتشغلكم عن المعلوم النافعة، وتحدث فيكم الأخلاق الدنية؛ من التكبر والعجب والغرور، ومحبة الجاه والمال وما يتعلق بهما من لوازم الأمور الدنيوية، والإعراض عن الاستعداد للموت وما بعده من الأهوال الأُخرى.

وقال النووي: وفيه: التحذير من الاغترار بالدنيا والنظر إليها والمفاخرة بها، وفيه استحباب الحلف من غير استحلاف إذا كان فيه زيادة في التوكيد والتفخيم؛ ليكون أوقع في النفوس. انتهى.

(فقال له) صلى الله عليه وسلم (رجل) من الحاضرين، لَمْ أر من ذكر اسمه:(يا رسول الله؛ أيأتي الخير بالشر؟ ! ) أي: أتصير النعمة عقوبة؟ ! لأن

ص: 93

فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً

===

زهرة الدنيا نعمة من الله تعالى، فهل تعود هذه النعمة نقمة، وهو استفهام استرشاد لا إنكار.

والباء في قوله: (بالشر) صلة ليأتي؛ أي: هل يستجلب الخير الشر.

وفيه تسمية المال: خيرًا، ويؤيده: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (1)، وقوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (2).

وفي "الدهني على هامش مسلم": قوله: (أيأتي الخير بالشر) الباء فيهِ لِلتَّعْدية، والاستفهامُ الإنكاريُّ للاسترشادِ.

والمعنى: فهل يستجلب الخير الشر؛ يعني: أن ما يحصل لنا من الدنيا .. خير إذا كان من جهة مباحة، فهل يترتب عليه شر؛ انتهى.

(فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جواب سؤاله (ساعةً) أي: زمنًا قليلًا.

وفي رواية عطاء عند البخاري: (حتى ظننت أنه ينزل عليه) أي: الوحي، وكأنهم فهموا ذلك بالقرينة من الكيفية التي جرت عادته بها عندما يوحى إليه، قال الحافظ رحمه الله تعالى: إنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي عند إرادة الجواب عما يسأل عنه، وهذا على ما ظنه الصحابة.

ويجوز أن يكون سكوته؛ ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة، وقد عَدَّ ابن دريد هذا الحديث؛ وهو قوله:(إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم) من الكلام المفرد الوجيز الذي لَمْ يُسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكلُّ مَنْ وقع شيء منه في كلامه .. فإنما أَخذَه منه.

(1) سورة العاديات: (8).

(2)

سورة البقرة: (180).

ص: 94

ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ قُلْتَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ؟ !

====

ويستفاد من هذا الحديث ترك العجلة في الجواب إذا كان يحتاج إلى التأمل، ويؤيد أنه من الوحي قوله في رواية هلال عن عطاء:(فأفاق يمسح عنه الرحضاء) أي: العرق" فإنه كانت عادته عند نزول الوحي؛ كما تقدم في أحاديث بدء الوحي (وإن جبينه ليتفصد عرقًا).

(ثم) بعدما سكت رسول الله ساعةً (قال) للرجل: (كيف قلت) أيها الرجل في سؤالك؟ (قال) الرجل: (قلت) يا رسول الله في سؤالي لك: (وهل يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: (إن الخير) الحقيقي (لا يأتي إلَّا بخير) ولكن هذه الزهرة ليست بخير محض؛ لما يؤدي إليه من الفتنة والمنافسة والاشتغال بها عن كمال الإقبال على الآخرة.

قال الحافظ: ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر، فهو من جملة الخير، وإنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لَمْ يشرع، وأن كلّ شيء قضى الله أن يكون خيرًا .. فلا يكون شرًّا، وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر. انتهى.

(أوَ خير هو؟ ! ) بفتح (الواو) العاطفة على محذوف، و (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على ذلك المحذوف، و (خير): خبر مقدم، و (هو) مبتدأ مؤخر؛ والتقدير: أتقول ذلك وتظن أن هذا المال خير كله، لا؛ فإنه ليس خيرًا حقيقيًّا وإن سمي خيرًا؛ لأن الخير الحقيقي هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق؛ كما أن الشر الحقيقي فيه هو ما يعرض له من الإمساك عن الحق والإخراج في الباطل، ثم ضرب صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث

ص: 95

إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ.

===

مثلين؛ أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا والمنع من حقها، والآخر: للمقتصد في أخذها والنفع بها.

وأشار إلى الأول بقوله: (إن كل ما ينبت الربيع) قيل: هو الفصل المشهور بالإنبات من فصول السنة الأربعة المجموعة في قول بعضهم:

ربيع صيف من الأزمان

خريف شتاء فخذ بياني

وقيل: هو النهر الصغير المتفجر من النهر الكبير؛ كما في "القسطلاني"، والأول هو الأصح، والله أعلم.

(يقتل) البهيمة (حبطًا) أي: انتفاخًا وتخمةً؛ والحبط - بفتحتين -: التخمة؛ وهي امتلاء البطن وانتفاخه من الإفراط في الأكل.

وهو تمييز محول عن الفاعل؛ والتقدير: إن كلّ ما ينبت يقتل الماشية حبطه حقيقة إذا أفرطت في الرعي.

وفي الرواية الثانية في مسلم: (وإن مما ينبت الربيع) فهذه محمولة على تلك؛ كما في "النووي" يعني: أن ما يحصل في الربيع من النبات بتوالي أمطاره بإنبات الله تعالى؛ ففي الإسناد مجاز عقلي، يهلك الماشية حبطًا؛ أي: تخمة.

(أو يلم) - بضم الياء وتشديد الميم - أي: أو يقارب أن يقتل ويهلك، فـ (أو) للتنويع.

والمعنى: إن الربيع ينبت خيار العشب، فتستكثر منه الماشية لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال، فتنفتق أمعاؤها من ذلك فتموت أو تقرب الموت.

ومن المعلوم؛ أن الربيع ينبت أضراب العشب، فهي كلها خير في نفسها،

ص: 96

إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ؛ حَتى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا .. اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ

===

وإنما يأتي الشر من قبل إفراط الأكل منه، فكذلك المفرط في جمع المال من غير حله، أو من الحلال المشغل عن حاله، يكثر في التنعم بماله، من غير تأمل في مآله، فيقسو قلبه من كثرة الأكل، فيورث الأخلاق الدنية، فيتكبر ويتجبر ويحقر الناس، ويمنع ذا الحق حقه منها، فحيث آل مآل المال لهلاكه في الدنيا، ولعذابه في العقبى .. يصير سبب الوبال، وشدة النكال، وسوء الحال؛ كذا في المرقاة.

وأشار إلى المثل الثاني؛ أعني: مثل المقتصد بقوله: (إلَّا آكلة الخضر) بمد همزة (آكلة) وكسر الكاف، والخضر - بفتح الخاء المعجمة وكسر الضاد المعجمة للأكثر - وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية، واحده خضرة؛ أي: إلَّا الماشية تأكل الخضر؛ وهي البقول التي ترعاها المواشي، قال السندي: والاستثناء منقطع؛ أي: لكن آكلة الخضر تنتفع بأكلها، فكأنها أخذت الكلأ على الوجه الذي ينبغي، وقيل: مفرغ في الإثبات؛ أي: تقتل كلّ آكلة إلَّا آكلة الخضر، والله تعالى أعلم.

قال القاضي عياض: هو عند الجمهور استثناء، ورواه بعضهم بفتح الهمزة وتخفيف اللام؛ على الاستفتاح؛ أي: انظروا آكلة الخضر وما كان منها. انتهى "أبي".

أي: إلَّا آكلة الخضر التي (أكلت) منها ورعت فيها (حتى إذا امتلأت) شبعًا وفي رواية: (امتدت) وعظمت (خاصرتاها) أي: جنباها، تثنية خاصرة - بخاء معجمة وصاد مهملة - وهما جانبا البطن من الحيوان .. (استقبلت الشمس) أي: بركت مستقبلةً إليها تستمرئ بذلك ما أكلت؛ أي: حتى إذا شبعت .. تركت الأكل، ولم تأكل ما فوق طاقة كرشها حتى

ص: 97

فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، فَمَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِحَقِّهِ .. يُبَارَكُ لَهُ، وَمَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ

===

تقتلها كثرة الأكل، وتوجهت إلى مسقط ضوئها، واستراحت فيه (فثلطت) - بمثلثة ولام مفتوحتين ثم طاء مهملة - أي: ألقت ما في بطنها من السرقين رقيقًا سهلًا؛ والثلط: الرجيع الرقيق، وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة.

أ (وبالت) أي: أخرجت البول؛ و (أو) هنا مانعة خلو (ثم اجترت) - بالجيم الساكنة والراء المشددة - أي: استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف فأعادت مضغه، قال النووي: أي: مضغت جرتها، قال أهل اللغة: الجرة - بكسر الجيم -: ما يخرجه البعير من بطنه؛ ليمضغه ثم يبلعه؛ والقصع: شدة المضغ.

(فعادت) أي: رجعت إلى الأكل (فأكلت) ثانيًا.

قوله: (فعادت) أي: إلى الرعي؛ أي: ثم إذا حصل لها واحتاجت إلى الأكل .. عادت إلى الرعي (فأكلت) قال الحافظ: والمعنى: أنَّها إذا شبعت، فثقل عليها ما أكلت .. تحيلت في دفعه؛ بأن تجتر فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمى بها؛ ليسهل خروجه، فإذا خرج .. زال الانتفاخ، فسلمت، وهذا بخلاف ما إذا لَمْ تتمكن من ذلك؛ فإن الانتفاخ يقتلها سريعًا، والله أعلم. انتهى.

(فمن يأخذ مالًا) من أموال الدنيا (بحقه)؛ أي: يأخذه بقدر حاجته من طريق حله ويضعه في حقه؛ أي: في محله .. (يبارك له) فيه: أي: في ذلك المال (ومن يأخذ مالًا بغير حقه) أي: من طريق لا يستحقه بها؛ كالربا والرشوة والغصب والسرقة مثلًا، أو يصرفه في غير حقه من الوجوه المحرمة؛

ص: 98

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ".

===

كالزنا وشرب الخمر .. (فمثله) أي: صفته (كمثل الذي يأبيل ولا يشبع) فيقع في الداء العضال والورطة المهلكة؛ لغلبة الحرص عليه؛ كالذي به داء جوع البقرة، وكالمريض الذي به الاستسقاء حيثما يروي، وكلما يشرب .. يزيد عطشًا وانتفاخًا.

ومعنى الحديث: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطًا بالتخمة؛ لكثرة الأكل، أو يقارب القتل، إلَّا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة، وتحصل به الكفاية المقتصدة؛ فإنه لا يضره، وهكذا المال؛ هو كنبات الربيع، مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه؛ فمنهم: من يستكثر منه ويستغرق فيه، غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه، أو يقارب إهلاكه، ومنهم من يقتصد فيه، فلا يأخذ إلَّا يسيرًا، وإن أخذ كثيرًا .. فرقه في وجوهه؛ كما تثلطه الدابة، فهذا لا يضره، هذا مختصر معنى الحديث، والله أعلم. انتهى من " فتح الملهم".

قوله: "فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع" قال الزين بن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات البديعية:

أولها: تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره.

وثانيها: تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب.

ثالثها: تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه.

ورابعها: تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به، بما تطرحه البهيمة من السلح؛ ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا.

وخامسها: تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه بالشاة إذا استراحت وحطت

ص: 99

(30)

- 3940 - (2) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْن وَهْبٍ،

===

جانبها مستقبلةً عين الشمس؛ فإنه من أحسن حالاتها سكونًا وسكينةً، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها.

وسادسها: تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها.

وسابعها: تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوًا؛ فإن المال من شأنه أن يحرز ويشد وثاقه، وذلك يقتضي منعه من مستحقه، فيكون سببًا لعقاب مقتنيه.

وثامنها: تثبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع. انتهى.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، وأحمد.

ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.

* * *

ثم استشهد المؤلف لحديث أبي سعيد الخدري بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم، فقال:

(30)

- 3940 - (2)(حدثنا عمرو بن سواد) - بتشديد الواو - ابن الأسود بن عمرو العامري أبو محمد (المصري) ثقةٌ، من الحادية عشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(م د س ق).

(أخبرني عبد الله بن وهب) بن مسلم القرشي مولاهم المصري، ثقةٌ ثبتٌ، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ومئة (197 هـ). يروي عنه:(ع).

ص: 100

أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رَبَاحٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ .. أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟ "،

===

(أنبأنا عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري مولاهم المصري، ثقةٌ فقيه حافظ، من السابعة، مات قديمًا قبل الخمسين ومئة. يروي عنه:(ع).

(أن بكر بن سوادة) بن ثمامة الجذامي، أبا ثمامة المصري، ثقةٌ فقيه، من الثالثة، مات سنة بضع وعشرين ومئة (123 هـ). يروي عنه:(م عم).

(حدثه) أي: حدث عمرو بن الحارث (أن يزيد بن رباح) - بموحدة - السهمي أبا فراس - بكسر الفاء - المصري، لقبه مشفر، ثقةٌ، من الثالثة، ولم يصح أنه شهد فتح مصر الأولى. يروي عنه:(م ق).

(حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص) القرشي السهمي رضي الله تعالى عنهما.

وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات أثبات. (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا فتحت عليكم) أيها المسلمون (خزائن فارس والروم) أي: غلبت لكم ونصرتم عليهما .. فـ (أي قوم أنتم؟ ) أي: كيف يكون حالكم، وماذا تصنعون في رخاء العيش؟

قال القرطبي: هذا استفهام يشوبه إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن أمر قبل وقوعه، وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان ذلك من أدلة صحة نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، وكم له صلى الله عليه وسلم منها وكم.

ومعنى "أي قوم أنتم؟ " أَيْ: على أي حال تكونون، فكأنه قال: أتبقون على ما أنتم، أو تتغير بكم الحال؟

ص: 101

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛

===

فـ (قال عبد الرَّحمن بن عوف) الزهري المدني أحد أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم في جواب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (نقول) حينئذٍ: (كما أمرنا الله) تعالى به؛ أي: نقول قولًا؛ مثل القول الذي أمرنا الله به، وكان هذا منه إشارة إلى قول الله تعالى:{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1).

وذلك أنه فهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف عليهم من بسط الدنيا عليهم، فأجابه بذلك، فكأنه قال: نستكفي الفتن والمحن بالله تعالى، ونقول كما أمرنا الله، وهذا إخبار منهم عما يقتضيه الحال، وأنها تتغير بهم. انتهى من "المفهم".

وفي "المبارق": قوله: "أي قوم أنتم؟ ! معناه: هل أنتم من الشاكرين على تلك النعمة العظيمة، أو من غيرهم، وفي هذا الاممتفهام تلويح إلى التهديد على وقوع المنهيات منهم. انتهى منه.

قوله: (قال عبد الرَّحمن بن عوف) رضي الله تعالى عنه؛ أي: (نقول) حينئدٍ قولًا (كما أمرنا الله) تعالى به؛ أي: قولًا كالقول الذي أمرنا الله تعالى به؛ أي: نحمده ونشكره ونسأله المزيد من فضله (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو) - بسكون الواو - عاطفة على كلام عبد الرَّحمن بن عوف.

وقوله: (غير ذلك) روي منصوبًا؛ على تقدير: وتفعلون غير ذلك الذي قُلْتَه من الشكر له؛ يعني بذلك: التحاسد والتباغض، ومرفوعًا؛ على تقدير: أو حالكم غير ذلك.

(1) سورة آل عمران: (173).

ص: 102

تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ".

===

وفيه إشارة إلى أن كونهم على تلك الصفة غير متيقن لهم؛ لعدم اطلاعهم على المغيبات، قاله ابن الملك.

وقولُه: (تتنافسون) أي: تتراغبون إلى الدنيا

إلى آخره .. تفسيرٌ لقوله: "أو غير ذلك" والمعنى: أو تفعلون غير ذلك الذي قلته من الشكر، وذلك الغير بأن تكونوا تتنافسون، أي: تتسابقون إلى أخذ الدنيا (ثم تتحاسدون) بعد الأخذ (ثم تتدابرون) أي: تتقاطعون؛ فيُوَلِّي كلّ واحد منكم دبره إلى الآخر، معرضًا عنه بوجهه (ثم تتباغضون) أي: يبغض بعضكم بعضًا، ثم تنبت البغضاء في قلوبكم، وتتراكم فيها، حتى يكون عنها الخلاف والقتال والهلاك؛ كما وجد.

ويحتمل كون قوله صلى الله عليه وسلم: "تتنافسون

" إلى آخره .. جوابًا لسؤال مقدر وقع من عبد الرَّحمن بن عوف، تقديره: كيف نفعل غير ذلك؛ فقال له: تتنافسون في الدنيا

إلى آخره.

(أو) تفعلون (نحو ذلك) بأن تتقاتلوا أو تتضاربوا أو تنتهبوا أو تغصبوا إلى غير ذلك من الأذى (ثم تنطلقون) وتتصرفون (في) شؤون (مساكين المهاجرين) وضعفائهم (فتجعلون بعضهم) أي: فتجعلون بعض مساكينهم أُمَراء (على رقاب بعض) آخر منهم، وَالِينَ عليهم.

وحاصل المعنى: أنَّ الذين يُعدُّون اليومَ من فقراء المهاجرين ومساكينهم سوف يكون بعضُهم أميرًا على بعض، فيقع التنافسُ في المال والجاه جميعًا.

والتعبير بـ (الرقاب): من التعبير بالبعض عن الكل؛ والمراد: تجعلون بعضهم أمراء على بعض، يعني: أن مساكين المهاجرين تفتح عليهم الدنيا

ص: 103