الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أكمل الدين وأتم النعمة على المسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ختم الله به الأنبياء، وجعل رسالته للناس كافة، ونسخت شريعته الشرائع السماوية السابقة كلها .. اللهم صل عليه وعلى سائر الأنبياء.
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (1).
أما الناقض الرابع من نواقض الإيمان فهو: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسنُ من حكمه فهو كافر (2).
أيها المسلمون، لقد أجمع العلماء الذين يُعتد بإجماعهم على أن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي، وهي كالقرآن في التحليل والتحريم (3).
وثمة دعوات مغرضةٌ للتقليل من شأن السنة النبوية، أو التشكيك في صحة ما ورد فيها، وتلك طريق لهدم أحكام الإسلام، لأن السنة مستقلةٌ بتشريع الأحكام
…
وربما سمعت قولاً خبيثًا مفاده: دعونا نتحاكم إلى القرآن لأنه كلام الله، أما السنة فهي كلام محمد، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر؟ ! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} (4)، وهل جاء محمد صلى الله عليه وسلم بشيء من أمور الشرع
(1) رواه مسلم 6/ 153 شرح النووي.
(2)
الولاء والبراء/ 75.
(3)
العلوان: التبيان في شرح نواقض الإسلام/ 34.
(4)
سورة الكهف، الآية:5.
من تلقاء نفسه؟ والله يقول عنه:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (1). ويعصمه الله من الزلل والأقاويل الباطلة ويقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (2).
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من الناس فقال فيهم: «لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري، إمَّا أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئئٌ على أريكته فيقول: ما ندري ما هذا؟ عندنا كتاب الله، وليس هذا فيه، وما لرسوله الله يقول ما يخالف القرآن، وبالقرآن هداه الله» (3).
بل لقد جاء الأمر بلزوم سنته صريحًا في القرآن {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (4). فهل ينتهي المنافقون ويستيقظ الغافلون لما أراد بهم؟ .
على أن رفض هدي محمد صلى الله عليه وسلم يتخذ شكلاً آخر، يتجاوز القول إلى العمل، وذلك برفض التحاكم إلى شريعته في كل شيء، والعدول عنها إلى قوانين وضعية- سمّاها الشيخ «حكم الطاغوت» - زعموا أنها أصلح للحياة المعاصرة، وتلك وربي ردةٌ جديدة بُليَ بها شعوب العالم الإسلامي في القرون الأخيرة، ولقد عاش المجتمع الإسلامي قرونًا طوالاً يستظلُّ بشرع الله، وتهيمن الشريعة على حياة أفراده حُكامًا ومحكومين، مع وجود بعض المعاصي سواء كانت كبائر أم صغائر، ولكن النظام السائد هو شرع الله وحكمه، كما كان جهادُ الكُفَّار مُستمرًا، ونشر الإسلام متواصلاً.
(1) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.
(2)
سورة الحاقة، الآيات: 44 - 46.
(3)
أخرجه الترمذي وأبو داود ورزين وإسناده صحيح (جامع الأصول 1/ 83).
(4)
سورة الحشر، الآية:7.
أما أن تُرمى الشريعة المطهرةُ بالقصور، أو يُتهمَ المطالبون بتحكيمها بالرجعية فذلك لم يحدث إلا حين أنهيت الخلافةُ الإسلاميةُ، وتغربَ بعضُ أبناء المسلمين، ومُكنَ لهم في القيادة، وكانوا أداةً طيعةً في أيدي المستعمرين، وكانوا أبعدَ الناس عن نصوص الكتاب المحكم والسنة المطهرة، وإلا ففي القرآن زواجر رادعةٌ، وفي السنة أحكامٌ وتنظيمات شاملةٌ، أينَ هؤلاء من مثل قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1). وأين هم من قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) ..
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3)
…
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4)
…
وأما من يدعون الإسلام وهم يحاصرون شريعة الإسلام في أمور خاصة لا تتجاوز الأحوال الشخصية، أما السياسات العامة والقضايا الكبرى المهمة فتلك يُحَكمون فيها أهواءهم، ويقلدون بها غيرهم، والله تعالى يقول:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (5).
ولقد أحسن أحد العلماء في وصف من طُمِسَتْ بَصيرته فاستبدل بالشريعة القانون حيث قال: (إن مثل هذا مثل الجعل يتأذى من رائحة المسك والورد الفوّاح، ويحيا بالعذرة والغائط في المستراح)(6).
(1) سورة المائدة، الآية:50.
(2)
سورة المائدة، الآية:44.
(3)
سورة المائدة، الآية:45.
(4)
سورة المائدة، الآية:47.
(5)
سورة النساء، الآية:65.
(6)
الرسائل المنبرية: 1/ 139، الولاء والبراء، القحطاني/ 79.
لقد اعتبر العلماء قديمًا وحديثًا الحكمَ بغير ما أنزل الله كُفرًا مُخرجًا عن الملة، نقل الإجماع على ذلك ابن كثير (1). وألف مفتي الديار السعودية فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم، يرحمه الله، رسالة في «تحكيم القوانين» وضح فيها الحالات التي إن فعلها الحاكم دخلت في الكفر المخرج من الملة، ولولا خشية الإطالة، لنقلتها لكم فليراجعها من يشاء.
أيها المسلمون، هذا حديث عن بعض نواقض الإيمان، وسأستكملُ الحديث عن بقيتها في خطبة لاحقة بإذن الله
…
ولكنني قبل ذلك أسارع القول مُحذرًا من مسلكٍ خطير واستعمالٍ محذور، ألا وهو محاولة تطبيق الأحكام الشرعية النظرية على الواقع من قبل أُناسٍ لا يملكون أدوات التطبيق، وليس لهم من فهمِ قواعد الشريعة وكُلياتها ما يستطيعون به تنزيل النصوص منازلها الحقة، فلا ينبغي أن تدرج قضية التكفير على كل لسان، ومصيبةٌ أن يتجرأ فيها سفهاء الأحلام بغير علم ولا برهان، وأهل السنة- قديمًا وحديثًا- يحتاطون لذلك كثيرًا، ولذا فرقوا بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ووضعوا شروطًا للتكفير وموانعَ يعذرُ بها الجاهل والمتأول .. إلى غير ذلك من ضوابط يعيها الراسخون في العلم، وإليكم شيئًا من احتياطهم وحذرهم من تكفير المعين. يقول ابن تنمية، يرحمه الله، :(وليس لأحدٍ أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطا وغلط حتى تُقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة)(2).
ويسوق ابن تيمية في موضع آخر- من الفتاوى- بعضًا من الأعذار الواردة على تكفير المعين فيقول- وما أجمل ما قال- (الأقوال التي يكفر قائلها، قد
(1) البداية والنهاية 13/ 114، التفسير 3/ 123.
(2)
مجموع الفتاوى 12/ 466.
يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطاياه كائنًا ما كان، سواء في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام) (1).
ولقد كان الإمام أحمد- كما نقل الشيخ- يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، ولكن ما كان يكفر أعيانهم
…
وكذلك نقل ابن تيمية عن الإمام الشافعي، رحمه الله (2).
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ومسالة تكفير العين مسالة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفرًا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها)(3).
إخوة الإيمان، وحين أحذر من هذا المسلك الخطر فإنني أفكر بل أخوف بالقرآن، وبحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (4).
ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» (5).
(1) الفتاوى 23/ 326.
(2)
الفتاوى 23/ 348، 349 باختصار.
(3)
الدرر السنية 8/ 244، نواقض الإيمان: العبد اللطيف/ 53.
(4)
سورة النساء، الآية:94.
(5)
أخرجه البخاري ومسلم ح 6045، 61.
وعن عبد الله ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله وسلم قال:«أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» (1).
اللهم اعصمنا من الزلل، ووفقنا لسلوك الطريق الأقوم، وأصلح سرائرنا وعلانيتنا.
(1) متفق عليه.