الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف تصح القلوب
؟ (1)
أحمد الله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وأفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا يحصي أحذ ثناءً عليه.
وأشهد ألا إله إلا الله، إلهًا واحدًا جل عن الشبه والأمثال، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقب لأمره.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله والأمين على وحيه، والحجة على خلقه، شرح الله به الصدور، وأنار به القلوب، وهدى به أقوامًا من الضلالة إلى الهدى، اللهم صل عليه وعلى إخوانه الأنبياء وعلى آله، وارض اللهم عن أصحابه أعلام الهدى، ومن سار على نهجهم علما يوم الملتقى.
أما بعد فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه بطهارة القلب وتزكيته من أدرانه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (2).
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم كما يقول ابن القيم- رحمه الله على أن المراد بالثياب هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق، ولئن ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية على ظاهرها، وأن المقصود تطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة، فقد قيل: إن الآية تعم هذا كله، وتدلل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظًا، فإن المأمور به، إن كان
(1) في 15/ 10/ 1412 هـ.
(2)
سورة المدثر، الآيات: 1 - 4.
طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك (1).
ومن هنا تعلم، أخي المسلم، أن أول شيء من عوامل إصلاح القلب طيب المطعم، وطيب الملبس، وكونهما من حلال، وليست بخافٍ عليك أن خبيث المكسب تُحجب دعوته دون السماء، وهو يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأني يستجاب له؟ لذلك، كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام اللهم لا تحرمنا فضلك بسبب شح نفوسنا وتجاوزها الحلال إلى الحرام.
والبعد عن المحرمات بشكل عام عامل مهم من عوامل إصلاح القلوب، وتأمل كيف ربط الله في كتابه العزيز بين طهارة القلب وتزكيته وبين الخلاص والنهي عن عدد من الذنوب، كالنظر المحرم، والزنا، وهتك عورات المسلمين، قال تعالى:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2).
وقال تعالي: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3). قال ذلك عقب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل أن التركي هو باجتناب ذلك.
وقال تعالى: - في آية ثالثة- {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} (4). قال ذلك في الاستئذان على أهل البيوت، فإنهم إذا أمروا بالرجوع فامتثلوا ولم
(1)(إغاثة اللهفان 1/ 67، 69).
(2)
سورة النور، الآية:30.
(3)
سورة النور، الآية:21.
(4)
سورة النور، الآية:28.
يطلعوا على عورة، لا يحب صاحب المنزل أن يطلع عليها، كان ذلك من تزكية القلوب، ومن عظمة هذا الدين.
إخوة الإيمان، والأصلُ في ذلك كله غض البصر، وعدم إطلاقه في المحرمات والعورات وقد قيل:
كل الحوادث مبدؤها من النظر
…
ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال العارفون: إن غض البصر يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر، إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ذلكم أن العين رائدة القلب، فإذا أطلق الإنسان بصره في المحرم تعلق قلبه به، فيصير القلب عبدًا لمن لا يصالح أن يكون هو عبدًا له، وحينئذ يقع القلب في الأسر، ويصبح أسيرًا بعد أن كان ملكًا، ومسجونًا بعد أن كان حرًا طليقًا. وتبدأ همومه وشكواه وصبابته وتيهه وغرامه وعشقه في غير الله وهكذا يتوزع قلبه وينصرف عما خلق له، وهذا إنما تمتلئ به القلوب الفارغة من حي الله والإخلاص له، إذ القلب لابد له من تعلق، وفرق بين من تعلق بالله فهداه وبين ما تعلق قلبه بغير الله فأضله وأرداه.
الفائدة الثانية من فوائد غض البصر للقلب أنه يورثه النور وصحة الفراسة: وقد عقب الله على قصة لوط عليه السلام بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} (1) وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة .. هذا في فراسة القلب، أما نوره فقد قال تعالى عقب أمره إلى المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (2). وسر هذا كما قال ابق القيم- رحمه الله أن الجزاء من
(1) سورة الحجر، الآية:75.
(2)
سورة النور، الآية:35.
جنس العمل، فمن غض بصره عمّا حرم الله عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله.
أما الفائدة الثالثة من فوائد غض البصر للقلب فهي تورثه كذلك قوةً وثباتًا، وشجاعةً وقد قيل في الأثر:(إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله). أما المتبع لهواه، والمطلق عنان شهواته فيوجد عنده من ذل النفس، وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وقد قضى الله بالعزة لمن أطاعه واتقاه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) قال تعالى:{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (2).
أخي المسلم، مهما طلبتَ العزة فلق تجدها في غير طاعة الله، ومهما طال أمد تجاربك فستعود صفر اليدين من العزة ما دمتَ للمعاصي ملازمًا، وللطاعات مقلاً، قال بعض السلف:(الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله).
أيها الإخوة، ومهما تبد لكم عزة أصحاب المعاصي فهي سراب خادع، وهي أُنس لحظات، ويعقبها هّم وحسرةٌ لعدّة ساعات، وقال الحسن:(إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذلّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذل من عصاه)(3).
أمة الإسلام، ومن أنفع الأدوية لعلاج مرض القلب القرآن الكريم، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} (4).
(1) سورة المنافقون، الآية:8.
(2)
سورة فاطر الآية: 10.
(3)
إغاثة اللهفان 1/ 60، 62.
(4)
سورة يونس، الآية:57.
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (1).
وحاصل ذلك أن جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه البينات والبراهين القاطعة ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمّن للبراهين والآيات من التوحيد وإثبات المعاد والنبوات ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن
…
فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك .. ولكن ذلك موقوف على فهمه، ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه كما يرى الليل والنهار .. وكما يرى الشمس ليس دونها سحاب.
وأما شفاء القرآن من مرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة .. فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عَّا يضره فيصير القلب محبًا للرشد مبغضًا للغي .. وهكذا يعود القلب إلى فطرته التي فطره الله عليها، فلا يقبل إلا الحق، ولا يفعل إلا الخير، وهكذا يزكو القلب ويطيب وتنساق له الجوارح بعمل الصالحات (2)، وباختصار فالقرآن يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ، وقيل: ليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه (3) وفي القرآن كذلك شفاء للأجسام إذا رقيت به وفيها بلاء، كما يدل على ذلك قصة اللديغ الذي رُقيَ بالفاتحة وهي صحيحة ومشهورة (4).
(1) سورة الإسراء، الآية:82.
(2)
إغاثة اللهفان 1/ 56 - 58، بتصرف واختصار.
(3)
تفسير ابن كثير 5/ 110.
(4)
خرجها الشيخان في صحيحيهما.
إخوة الإيمان، وهذا العلاج القرآني يدعونا إلى مزيدٍ من الاهتمام بكتاب الله وتلاوته وتدبر معانيه، ولن يخيب شخص طلب الدواء مظانَّه الحقيقة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، فاستجيبوا له واطلبوا الشفاء منه، وتعرضوا لنفحاته وهو تعالى مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (1).
أتدرون كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر والإيمان. وقال السدي: المعنى: لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفي إلا بإذنه (2).
ومن هنا نعلم- معاشر المسلمين- أهمية الدعاء والتضرع لله في إصلاح القلوب واستقامتها على منهج الله، وقد كان خير البرية صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء وخاصة لإصلاح القلب ويقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وحين سئل عن سر إكثاره من ذلك أجاب بقوله:«إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها» وفي رواية: «فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» ، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب (3) ..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
(1) سورة الأنفال، الآية:24.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 575.
(3)
تفسير ابن كثير 3/ 577.