الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نصح الأمة ورسم لها طريق الاستقامة. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء
…
أيها المسلمون، وإذا وقع السحر أو حصل الأذى على المسلم بشكل عام فحريٌ به أن يصبر ويحتسب، وتزداد ثقته بالله وتوكله عليه، وأن يضرع إليه بالدعاء لكشف الضر، فلا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا جُناح عليه بفعل الأسباب المباحة شرعًا لعلاج السحر فما هي وسائل علاج السحر بعد وقوعه؟ .
لاشكَّ أن الرقى والتعاويذ الشرعية سبب مهمٌ، وعلاج نافع بإذن الله، كيف لا والله يقول:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} (1).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « .. لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك» (2) وفي حديث آخر «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه» (3).
قال أهل العلم: إن الرُّقى تكون مشروعةً إذا تحقق فيها ثلاثة شروط:
الأول: أن لا يكون فيها شرك ولا معصية كدعاء غير الله.
الثاني: أن تكون بالعربية أو ما يفقه معناه.
الثالث: أن لا يعتقد كونها مؤثرةً بنفسها، أن يكون القارئ لها صالحًا وموقنًا بنفعها.
(1) سورة الإسراء، الآية:82.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه مسلم .. وانظر: الأشقر السحر والشعوذة/ 203).
أيها المسلمون، وينفع الله بالرقى المشروعة- وقايةً أو علاجًا- إذا توفر صدق اليقين، والتوكُّلُ، وكونُ القلبِ معمورًا بذكر الله ودعائه
…
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله:
(
…
فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله من التوجُّهات والدعوات والأذكار والتعوُّذات وردُ لا يُخَلُّ به، يطابقُ فيه قلبه لسانَه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه
…
) إلى أن يقول- موضحًا من يتأثرون بالسحر- (وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيُره في القلوب الضعيفة المقفلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسُّفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، وقد ضَعُف حظُّه من الدين والتوكل والتوحيد، ومَن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية، والتعوذات النبوية)(1).
ئانيًا: ومن طرق علاج السحر بعد وقوعه بذل الجهود في معرفة موضع السحر، واستخراجه وإبطاله، والاستعانة على ذلك بالدعاء والتضرع لله، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه- حين سُحِرَ- فدُلَّ على مكان السحر .. وفي هذا تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: (حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة، وهو عندي، لكنه دعا، ودعا، ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشمٍ ومُشاطة، وجُفِّ طلعةِ نخلةٍ ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ناسٍ من
(1) زاد المعاد 4/ 127.
أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة، كأن ماءها نقاعةُ الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين» (1).
وهكذا أطلع الله نبيه على موضع السحر فاستخرجه واستراح منه، وعصمه الله من آثاره السيئة، ولم يكن ذلك قادحًا في مقام النبوة كما قرر أهل العلم. قال القاضي رياض، فظهر بهذا أن السحر إنما على جسده وظواهر جوارحه لا على تميزه ومعتقده، بل ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن ذلك من دلائل نبوته وعلائم عصمته حيث دله الله على مكانه ولم يؤثر فيه السحر، وفي مرسل عبيد الرحمن بن كعب عند ابن سعد (فقالت أختُ لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيًا فسيُخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله) (2).
أيها المسلمون وهنا يرد السؤال: هل يجوز الذهاب للسحرة للتعرف منهم على مكان السحر ومن سحر؟ وما معنى قول ابن المسيب كما في البخاري معلقًا عن قيادة: قلت لابن المسيب: رجل به طِبٌ أو يُؤخذ عن امرأته أيحل عنه أن ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه (3).
أقول سبق البيان في الخطبة الماضية عن حكم الذهاب للسحرة لسؤالهم أو تصديقهم .. وأنقل لكم الآن طرقًا من أقوالِ أهلِ العلم في حل السحرِ عن المسحور يقول ابن القيم رحمه الله: حلُّ السحر عن المسحور نوعان، أحدهما: حلُّ بسحرٍ مثله وهو الذي من عمل الشيطان ..
والثاني النشرة بالرقية والتعويذات والأدوية والدعوات المباحث فهذا
(1) الحديث متفق عليه.
(2)
فوقع الشق الأول كما ثبت في الصحيحين (الأشقر السحر والشعوذة/ 184، 185).
(3)
(الصحيح مع الفتح 10/ 232).
جائز .. أما ما رواه البخاري عن ابن المسيب، فهو محمول على نوع من النشرة لا محذور فيه، لأن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لما سئل عن النشرة: هي من عمل الشيطان» (1) وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله: وقال بعض الحنابلة: «يجوز الحُّل بسحرٍ ضرورةً، والقول الآخر أنه لا يحل، وهذا الثاني هو الصحيح .. - في كلامٍ وتدليلٍ يطول نقله-» (2) ويقول سماحة الشيخ ابنُ باز رحمه الله: «وأما علاجُ السحر بعمل السحرةِ الذي هو التقربُ إلى الجنِ بالذبح أو غيره من القربات، فهذا لا يجوز لأنه من عمل الشياطين، بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون لأنهم لا يؤمنون ولأنهم كذبةٌ فجرةٌ يدَّعون علم الغيب ويلبسون على الناسِ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم- كما سبق بيان ذلك» (3) أهـ.
ثالثًا: ومن الأدوية المباحة لعلاج السحر: الحجامة وقد فصل القول فيها ابن القيم، وأجاب عن العلاقة بين السحر والحجامة (4) ....
كما ذكر ابن بطال، ونقله ابن حجر في الفتح، وابن باز في رسالته عن السحر علاجًا يصلح للرجل إذا حبس عن أهله: وهو: أن يأخذ سبع ورقاتٍ من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثمَّ يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وثم يحسو منه ثلاث
(1)(التبيان/ 57).
(2)
انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1/ 165.
(3)
(رسالة في حكم السحر والكهانة/ 9).
(4)
زاد المعاد 4/ 125.
حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كلَّ ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله) (1).
(ألا فاتقوا الله عباد الله وإذا تداويتم فلا تتداووا بالحرام، يقول عليه الصلاة والسلام «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بالمحرم» (2). وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه «إن الله لم يجعل شفاءكم في ما حرم عليكم» (3).
ألا وإني أُذكر المسلمينَ عمومًا والمرضى بالسحر خصوصًا .. التضرع إلى الله وسؤاله الشفاء وفي محكم التنزيل {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (4).
وأُخوِّفُ السحرة والمشعوذين بالله وأن يتوبوا إلى بارئهم وأن يكفوا عن أذى خلقه، فإن أمد الحياة قصير، والله يمهل الظالم ولا يهمله، وإذا أخذه فإن أخذه أليم شديد .. وفرق بين سحرة فرعون حين كانوا سحرة أشرارًا وحين، انضموا إلى قافلة المؤمنين فخروا لله ساجدين وكان مما قالوا:{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} (5).
اللهم اصرف عنا الأشرار، وأبطل كيد الفجار، وثبت الهداة الأخيار، واهد إليك قلوب العباد
…
(1)(الفتح 10/ 233، رسالة السحر لابن باز ص 9).
(2)
أخرجه أبو داود بسند حسن (أبو داود (3874 في الطب) وانظر: زاد المعاد 4/ 154).
(3)
(أخرجه البخاري تعليقًا 10/ 68، والسابق 4/ 154).
(4)
سورة الشعراء، الآية:80.
(5)
سورة طه، الآيات: 74 - 76.