الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى، وأشكره، وأُثني عليه الخير كلّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء ورسله، وعلى الآل والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.
إخوة الإسلام، وفاز بالدرجات العلى، والأجر العظيم كذلك- من غير الحجاج- من استثمر أيام العشر بعمل الصالحات، ومن جاهد نفسه على فعل الخيرات. وها هي الأيام تنقضي، وكذلك العمل ينصرم، ويبوء بالخيبة والخسران أصحاب الهمم الضعيفة، وساعة المندم يوم القيامة أشد وأنكى، يوم تكون شكوى بعض الأنفس:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (1). هنا في هذه الحياة الدنيا يتباين الناس في الإيمان، فشخصٌ يعمل وكأن الآخرة أمامه يراها رأي العين، فيشتاق لحورها، ويشتهي من ثمارها، ويتمنى لو صار إلى أنهارها، وكلما أنس من نفسه ضيقًا في هذه الحياة ذكَّر نفسه بسعة الآخرة، وكلما أحس بمصيبة أو نكد، صبَّر نفسه ومناها بحياة لا نكد فيها ولا صخب في جنات ونهر، ومقعد صدق عند مليك مقتدر.
وشخص آخر يعمل حين يرى الناس يعملون- لكن في بحار الشهوات غارق - وظلمة الدنيا تكاد تحجبه عن أنوار الآخرة، وغاية أمانيه أن يكون صاحبها حرث ونسل، أو صاحب ملك عريض تتنوع فيه ملاذ الدنيا وشهواتها .. وهو في ظل هذه الأحلام لا يتلذذ في العبادة .. وهو في هذه الغفلة لا يكاد يحمس بنعيم الآخرة ..
(1) سورة الزمر، الآية:56.
وتظل الغفلة تلاحقه وتظل هموم الدنيا تطارده، وفي أوديتها السحيقة متسع لهلاكه وأمثاله .. فلا يصحو إلا على طرق النذير، ولا يفيق إلا على صيحة الملك الموكل لقبض روحه .. وهنا في هذه اللحظات يبدأ الندم، ويدرك الشارد حقيقة الدنيا وخداعها، ويبدأ المرء يلوم نفسه، يتذكر ما مضى من عمره، حتى وإن كان من أنعم أهل الدنيا، فيخيل إليه وكأنه لم يمكث في الدنيا إلا ساعة، أو أقل، ويتذكر ما هو مقدم عليه .. وأن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون، وهيهات أن ينفع الندم، بل وهيهات أن يعطى المرء فرصة لمزيد من التأمل والتفكر، فاللحظات حاسمة، والنهاية قريبة، والمشهد سريع، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (1).
إخوة الإيمان، وفضل الله عظيم، ورحمته واسعة، وهو الذي يهب الناس من أعمال الخير ما يعوضون به ما فاتهم، ويلحقون به من سبقهم، وفي الأيام الخالية كان صيام عرفة لغير الحاج فرصة للتزود بزاد التقوى، وفرصة لتكفير السيئات، والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول:«صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده .. » فأي فضل بعد هذا؟ وأي نعمة تربو على هذه النعمة؟
أيها المسلمون من الحجاج والمقيمين وتبقى- بفضل الله ورحمته- صحائفكم في هذه الأيام بيضاء نقية، وقد غفر الله لكم، إن شاء الله، بالحج أو بصيام عرفة، ما تقدم من ذنوبكم .. فهل تحافظون على هذه المكاسب؟ لم يُسَوِّد بعضنا صحيفته بالآثام والموبقات، وكان موسمًا من مواسم الخير لم يمر به، أو نفحة من نفحات الله لم تدركه، وهل يضمن حياته إلى موسم آخر؟
(1) سورة الأعراف، الآية:34.
إن مغفرة الذنوب هدف يسعى الخيرون له، ولكن هناك هدفًا آخر أعلى وأغلى، ألا وهو رفعة الدرجات في الجنات، وما فتئ المؤمنون يتنافسون في الحصول على هذه الدرجات أشد من تنافس أهل الدنيا بدنياهم، وتشهد الأرض في كل زمان رجالاً يمشون على هذه الأرض، وهم من أصحاب الدرجات العلى في الجنة، ليس بينهم وبين الجنة إلا أن يموتوا، وقد ختم الله لهم بالخير وثبتهم على الحق.
أما الذين ماتوا وحطوا رحالهم في الجنة فأولئك لا خوف ولا هم يحزنون، نسأل الله أن يلحقنا بهم وأن يثبتنا على الحق كما ثبتهم.
إخوة الإيمان، وطريق الجنة لاشك محفوف بالمكاره والمخاطر، ومعرض فيه السائر لأنواع من الفتن والبلايا .. ولكن الله تعالى يعين السائرين، ويوفق العاملين، ويسدد الخطا، ويغفر الزلات للمستغفرين.، ويهيئ دائمًا للناس فيه فرص الخير ما يكفرون به السيئات، ويرتفعون في الدرجات، فهل نحس بهذه النعمة؟ وهل نشكر المنعم على هذا الإحسان؟ إن اللبيب حقًا من يحضر الموسم، فإذا كان المغنم أمسك به ولم يفوت بقدر المستطاع، حتى يكسب في المغنم الآخر وهكذا- لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها- وليس الناس ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولكن الارتفاع بالنفس عن الكبائر والموبقات المهلكات، والتزود من عمل الصالحات، التي يكفر الله بها السيئات، وكلما أحس الإنسان بتقصير ضاعف العمل حتى يسدد النقص والخلل ..
إخوة الإيمان، ومن فضل الله ورحمته أن هذا الموسم من مواسم الخير يأتي في نهاية عام أثقلت فيه الكواهل بحمل الخطايا والسيئات .. ثم تتاح الفرصة للتخفيف منها، واستقبال العام الجديد بصحف بيضاء، وهمم عالية، لا مكان
فيها للخطايا، أسأل الله أن لا يحرمنا وإياكم فضله، وأن يتقبل منا أعمالنا، وأن يتجاوز عن تقصيرنا، وأن لا يجعلنا من المحرومين المطرودىن، وأن يجعلنا في عداد الفائزين وأن يغفر لنا ما سلف، وأن يعيننا على عمل الصالحات فيما نستقبل من أيامنا، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.