الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون، ويتخوف المؤمنون من كثرة ما يُسمع من محن ومصائب وما يقع من زلازل، وفتن في بلاد المسلمين وهم يقرؤون أمثال قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1).
وإذا كانت الآية تربط بين كثرة الفساد في الأرض ومعاصي الخلق وتدعوهم إلى التأمل في ذوات أنفسهم والعودة إنما خالقهم بالتوبة والطاعة فثمة آيات أخر تربط بركات السماء والأرض بالإيمان والتقى، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله (وقد دلَّ العقلُ والنقلُ والفطرةُ وتجاربُ الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التَقربَ إلى ربِّ العالمين وطلب مرضاتِه، والبرِّ والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبةِ لكلِّ خير،
(1) سورة الروم، الآية:41.
(2)
سورة الأعراف، الآية:96.
وأضدادها من الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمتُه بمثل طاعته والتقريب إليه والإحسان إلى خلقه) (1).
كيف لا؟ إخوة الإسلام، والقرآن الكريم يُذكرنا بمصير السابقين ويقول جل ذكره:{فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (2) ويقول تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) وقال تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} (4) وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (5) وتأملوا معاشر المسلمين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (6).
قال الإمام علي، رضي الله عنه:(ما نزل بلاءٌ إلا بذنب وإلا رفع إلا بتوبة)(7).
أيها المسلمون، والفساد الناشئ في الأرض لكثرة خطايا العباد وإسرافهم في الذنوب لا تنتهي آثاره على العصاة وحدهم، بل يعم الناسَ إذا لم يتناصحوا ويأخذوا على أيدي السفهاء (إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده).
ولا تقف العقوبة عند حدود الآدميين، بل يطال شؤم المعصية الأحياء
(1) الداء والدواء/ 38، 39.
(2)
سورة الأعراف، الآية:166.
(3)
سورة الزخرف، الآية:55.
(4)
سورة الحاقة، الآية: 10
(5)
سورة الشورى، الآية:30.
(6)
سورة الرعد، الآية 11.
(7)
الداء والدواء/ 142.
والمخلوقات الأخرى، قال أبو هريرة رضي الله عنه:(إنّ الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)(1). وقال مجاهد، رحمه الله: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، ويقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم).
أيها المسلمون، أما العصاة أنفسهم، أما المفسدون في الأرض، فيكفيهم ما ذل المعصية هوانهم على الله {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (2).
قال الحسن البصري، رحمه الله: هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد- كما قال تعالى:{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} - وإن الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه (3).
ويكفي العصاة المفسدين في الأرض أيضًا محقُ بركة أعمارهم وأموالهم وعلمهم وعملهم، فكل وقتٍ عُصي الله فيه، وكلّ ما عُصى الله فيه، أو بدن، أو جاه، أو علمٍ، أو عملٍ، فهو على صاحبه، ليس له، إذ ليس له من ذلك كله إلا ما أطاع الله فيه.
ولهذا قال العارفون: فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها، ويكون عمره لا يبلغ عشر سنين أو نحوها، كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويكون ماله قي الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها، وهكذا الجاه والعلم (4).
(1) الداء والدواء ص 113.
(2)
سورة الحج، الآية:18.
(3)
الداء والدواء/ 112.
(4)
الداء والدواء، تحقيق يوسف بديوي، دار ابن كثير/ 160، 161.
وقد صح الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم» (1). وفي الحديث الآخر: «الدنيا ملعونةً، ملعونٌ ما فيها إلا ما كان لله» (2).
إخوة الإيمان، تذكروا أنكم خلق من خلق الله، وأن خلق السموات والأرض أكبر من خلقكم، وهذه السموات والأرض في قبضة الله وليس له من شريك في تصريفهما:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (3). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَاّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (4).
أجل، إن الله جعل الأرض ذلولاً ليمشي الناس في مناكبها، ويأكلوا من رزقه، وإذا شاء حركها فمادت من تحتهم تذكيرًا لهم، فهم غير آمنين من خسف الله بهم، وهم غير آمنين من أن يرسل عليهم حاصبًا من السماء فيهلكهم:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (5).
ألا فاشكروا الله على نعمه، ولا تستعينوا بنعم الله على معصيته، ولا تغتروا بإمهال الله لكم، ولا تمرن عليكم الزلازل والمحن، والمصائب والفتن، دون
(1) رواه الترمذي وحسنه 2322.
(2)
رواه أحمد في الزهد (28) وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه خداش، لم أعرفه وبقية رجاله ثقات [المجمع 10/ 222].
(3)
سورة فاطر، الآية:41.
(4)
سورة الحج، الآية:65.
(5)
سورة الملك، الآيتان: 16، 17.
أن تعقلوا مراد الله منها، فتشوا عن أنفسكم، وكل أدرى بنفسه، وتوبوا إلى بارئكم، وتناصحوا بينكم {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1).
اللهمّ قنا عذابك يوم تبعث عبادك. اللهم وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك.
(1) سورة الزمر، الآيات: 54 - 61.