الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين ..
أيها المسلمون، أما الدرس الثاني من قصة موسى عليه السلام مع فرعون فقد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفًا عصبية ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يُسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم قال الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
والمعنى: كما قال العوفي عن ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وقاله مجاهد: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة
…
أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرًا، وكذا قال قتاده والضحاك (2).
الدرس الثالث: وفي ظل هذه الظروف العصيبة أُمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية:
أ) الصبر والصلاة، قال الله تعالى لهم {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (3) وقال لهم ولغيرهم:
(1) سورة يونس، الآية:87.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 224.
(3)
سورة الأعراف، الآية:128.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء وهي ملاذه حين الشدة والضراء.
ب) والإيمان بالله والتوكل عليه ضرورة للمسلم في كل حال وهما في حال الشدة عدة {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (2).
ج) وكذلك الدعاء وصدق اللجوء إلى الله، أمان من الضيق وفيه فرج من الكروب وخلاص من فتنة الظالمين، ونجاة من الكافرين:
د) ومع ذلك فلابد من الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في حصول المطلوب فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (5). قال ابن جُريج: يُقالُ أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وقال محمد بن على بن الحسين، مكث أربعين يومًا (6).
(1) سورة البقرة، الآية:153.
(2)
سورة يونس، الآية:84.
(3)
سورة يونس/ الآيتان: 85، 86.
(4)
سورة يونس، الآية:88.
(5)
سورة يونس، الآية:89.
(6)
تفسير ابن كثير ج 4/ 226.
أمة الإسلام، أما الدرس الرابع الذي تكشفه قصة الحوار بين موسى عليه السلام والمؤمنين معه، وفرعون وملئه، فهو الخداع والتدليس الذي يمارسه المجرمون على رعاع الناس وجهلتهم، وتأملوا في مقولة فرعون للسحرة -حين آمنوا- كما قال تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (1).
وقال في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (2).
قال ابن كثير رحمه الله: وفرعون يعلم، وكل من له لبّ، أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل، فإن موسى عليه السلام، بمجرد ما جاء من (مدين) دعا فرعون إلى الله وأظهرَ لهُ من المعجزات ما جعله يبعث في مملكته لجمع السحرة لإبطال سحر موسى، كما زعم، وموسى، عليه السلام، لا يعرف أحدًا منهم، ولا رآه ولا اجتمع به .. إلى أن يقول ابن كثير:(وفرعون يعلم ذلك، وإنما قاله تستُرًا وتدليسًا على رعاع دولته وجهلتهم، كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} فإن قومًا صدّقوه في قوله {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} من أجهل خلق الله وأضلهم، انتهى كلامه رحمه الله (3).
أيها المؤمنون، ومع الخداع والتدليس على الدهماء تُقْلب الحقائق، ويُتَّهَم الأبرياء- وهذا هو الدرس الخامس- فلم يكتف فرعون وقومه بالقول عن المؤمنين الصادقين {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (4)، بل اتّهَم الملأ وجلساءُ السوء موسى والمؤمنين معه، بالإفساد في الأرض: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ
(1) سورة الأعراف، الآية:123.
(2)
سورة طه، الآية:71.
(3)
التفسير 3/ 454، 455.
(4)
سورة الشعراء، الآية:54.
مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (1).
وهكذا إخوة الإيمان، فليس كل من ادّعى النزاهة والعدالة مُحِقًا صادقًا، وليس كلُّ مَنْ رُميَ بالتَّطَرُّف أو أُتَّهِمَ بالفساد مبطلاً كاذبًا، وليست تغير الألفاظ والاتهامات الباطلة من واقع الأمر شيئًا، لكنها السنة في الابتلاء تمضي في الأولين والآخرين؟
ومن حق ابن كثير أن يعجب لهذه المقولة الكاذبة ويقول: (يا الله العجب صار هؤلاء يُشفقون من إفساد موسى وقومه، ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لايشعرون)(2).
الدرس السادس: أن الصراع مهما امتد أجله، والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين .. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (3).
أجل، فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شكٍ بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرّنهم تقلّبُ الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر البين للمؤمنين.
أيها المسلمون، ويحسّ المسلمون برباط العقيدة، مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى عليه السلام المحنة، فكذلك ينبغي أن
(1) سورة الأعراف، الآية:127.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 456.
(3)
سورة الأعراف، الآية:128.
يتجاوزها المسلمون في كل عصر وملة، وكما صام موسى عليه السلام يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شُكرًا لله على هذا النصر للمؤمنين صامه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصون بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، ويرجون بره وفضله.
وقد قال عليه الصلاة والسلام بشأنه: « .. وصوم عاشوراء يُكّف السنة الماضية» (1) وفي لفظ «وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» (2).
فقدّروا لهذا اليوم قدره .. وسارعوا فيه إلى الطاعة واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا- تطوّعًا لله- يومًا قبله أو يومًا بعده، وإن صمتم العاشر ويومًا قبله ويومًا بعده فذلك أكمل مراتب الصيام، كما قال ابن القيم، رحمه الله (3).
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي، صحيح الجامع 3/ 251.
(2)
رواه الترمذي وابن حبان، صحيح الجامع 3/ 262.
(3)
زاد المعاد 2/ 76.