الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أنعم على عباده المؤمنين إذ هداهم للإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرح صدور المسلمين للإيمان فهم على نور من ربهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل المؤمنين إيمانًا، وأحسنهم خُلُقًا
…
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون، والإيمان ضمان للثبات في مواقف الامتحان، وهو مركب للنجاة في طوفان الفتن والمحن، به يميز الله الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (1).
يُفرِّق المؤمنون بين عذاب الله وفتنة الناس، يصبرون على البلوى ويشكرون على السراء «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خير له» وفي حديث آخر:«المؤمن بخير على كل حال، تُنزعُ نفسه من بين جنبه وهو بحمد الله» (2).
والإيمان معلم هاد في بيداء الصحاري المهلكة إذا تاه الدليل أو خيَّمَ الظلام، أو كان حبيس الغم، أو ضاقت على المرء الضوائق، فيؤنسه الإيمان بخالقه، ويتسع له المكان مهما كان ضيقه وعزلته:{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (3).
(1) سورة آل عمران، الآية:179.
(2)
صحيح الجامع 6/ 5.
(3)
سورة الأنبياء، الآية: 87، 88.
الإيمان الحق سبب للأمان إذا انتشر الرعب، وساد القلق، وتخطف الناس، ولم يأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (2).
والمؤمنون هم الذين تزيدهم الشدائد ثباتًا، ورؤيتهم لتكالب الأعداء إيمانًا وتسليمًا:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (3).
أما غير المؤمنين فتطير قلوبهم لكل نازلة: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (4).
المؤمنون رحماء بينهم هينون لينون، كافون عن الأذى، باذلون للمروءة والندى، وليس من الإيمان إيذاء المؤمنين قولاً وفعلاً:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (5).
المؤمنون يتحاكمون إلى شرع الله، ويرضون بالإسلام حكمًا، ولا يجدون في أنفسهم حرجًا بل يرضون ويسلمون تسليمًا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6).
(1) سورة الكهف، الآية:96.
(2)
سورة الأنعام، الآية:82.
(3)
سورة الأحزاب، الآية:22.
(4)
سورة الأحزاب 14 لآية: 19.
(5)
سورة الأحزاب، الآية:58.
(6)
سورة النور، الآية:51.
أما غير المؤمنين فيأنفون من حكم الله ويتحاكمون إلى الطاغوت: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1).
المؤمنون حقًا يتحرون الحلال في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، وهم حريصون على الحلال جمعًا، وإنفاقًا، لا يشربون الخمر، ولا يأكلون السحت، ولا يتعاملون بالربا أو ضروب المعاملات المحرمة الأخرى في البيع والشراء، نفقتهم عدلاً وسطًا بين التقتير والإسراف، أمرهم ربهم بالحلال فامتثلوا، ونهاهم عن الحرام فانتهوا، قال لهم في الأولى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (2)، وقال لهم في الأخرى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)، وقال كذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَأما مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4).
أما غير المؤمنين فلا يتورعون عن الحرام، ولا يحتاطون في الحلال، أمرهم فُرطًا، وربما ملكوا القناطير المقنطرة، وقد يخيل لمن لا يعرفهم أنهم من شدة اللهاث جوعى، وربما انقلبت موازينهم فجأة، فأصبح الغني فقيرًا، والدائن مدينًا، فلا الإيمان أسعفهم بالنزاهة والشكر على المال جمعًا، وليس غير الإيمان يسليهم على فقده صبرًا {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (5).
(1) سورة النور، الآية: 48 - 50.
(2)
سورة البقرة، الآية:172.
(3)
سورة المائدة، الآية:90.
(4)
سورة آل عمران، الآية:130.
(5)
سورة الحج، الآية:18.
عباد الله هذه دعوة لنا جميعًا فلنعلم حقيقة الإيمان، ونتخلق بأخلاق الإسلام، وليست حصرًا لحقائق الإيمان، ولا إحصاءً لصفات المؤمنين، لكنها الإشارة بالبعض إلى الكل، أما النتيجة التي يجب أن نخلص إليها فهي أن الإيمان ليس بضاعة مزجاة تباع وتشترى بأبخس الأثمان، أو مجرد دعوى وألقاب تجوز على كل لسان
…
وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي
…
ولكن الإيمان نهج متكامل، فهو عبادة لله خاشعة، ومعاملة لخلقه كريمة، وأخلاق رفيعة، هو كسب نظيف وإنفاق مشروع.
الإيمان الحق اعتقاد سليم، وعمل صحيح، جهاد وتضحية، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولاء وبراء، مظهر ومخبر، بذل للندى وكف عن الأذى، وخروج عن الأنانية المقيتة، ونصرة للنفوس المسلمة المظلومة.
وبهذا يتبين خطأ نظرتين للإيمان، إحداهما جافية والأخرى غالية.
أما الجافية فترى أن مجرد الإيمان بالله كافٍ حتى وإن ضُيَّعت الصلاة وقُصِّر في أداء الزكاة، واختلطت المعاملات حلُّها والحرام، بل يُكثر هذا الصنف الجافي من القول لا داعي للتركيز على المظاهر فالمخابر هي الأساس، وهؤلاء يهدمون الإسلام لبنة لبنة حتى إذا لم يبق إلا شبح البناء تهاوى وبكى من على الأطلال.
أما الصنف الغالي فهم يعظمون الصغير، ويكفرون على الذنب الكبير، وربما فتحوا معارك في خطأٍ علاجه بالحسنى أجدى وأولى، وربما ظنوا احتقار الناس دينًا، والتنقص من أمرهم دينًا وشرعًا، والله يقول:{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1).
(1) سورة النجم، الآية:32.
إد دين الله وسط بين الغالي والجافي
…
والحكم عند التنازع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نظرة واسعة وفهم عميق.
اللهم سددنا في أقوالنا وأفعالنا
…
وهب لنا إيمانًا تصلح به سرائرنا وعلانيتنا ....