الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله على آلائه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة مقرّ بوحدانيته وجلاله وكبريائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فتركها على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أيها الإخوة، يسيرٌ على النفس أن تُعلق أخطاءها على غيرها، ومرغوبٌ عندنا أن نبحث في أي مشكلة تواجهنا عن عنصر آخر خارج محيطنا لنلصق به التهمة .. ذلك ضعف فينا، وقصور في إرادتنا، وعجزٌ عن مواجهة أنفسنا بأنفسنا، ولو أن كل واحد منا تحمل أخطاءه بنفسه، وبحث في سيرته عن أسباب ما أصابه، وعالج الخطأ، وأناب إلى الصواب، لصلحت الحياة بنا، وصلحت أحوالنا.
ومشكلةٌ أخرى لدينا، هي أننا ننسى- أحيانًا- ما يأتينا من خير من الله، ومن نعمة الصحة، والولد، والمال وغيرها .. وهي كثيرةٌ، لا تعد ولا تُحصى. {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1). وفي المقابل نتألم لأي نازلة تنزل بنا، ونتضايق عند وقوع أي مصيبة فينا، حتى ولو كانت صغيرة إلى جانب نعم الله علينا، فهل ذلك من العدل والإنصاف، أم إن ذلك سببه تقصيرنا في طاعة الله، وفي سلوك، وفي أداء فرائضه؟ وهذا يذكرنا بقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَاّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ
(1) سورة النحل، الآية:18.
عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} (1) .. الآيات.
أيها الإخوة: أينا الذي وقف عند تفسير قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (2).
والمصيبة الثالثة: إننا نخطئ كثيرًا، ونظلم أنفسنا ونظلم الناس من حولنا، وقد نشعر بهذا أو لا نشعر .. المهم أننا لا بهتم بذلك، فإذا ما أُصِبنا أو لحق بنا ضرر في أنفسنا أو في أهلينا أو أموالنا، عجبنا واستغربنا. وكرهنا وفزعنا، فهل، ذلك من العدل والإنصاف؟ وأينا الذي وقف عند قوله تعالى:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} (3) قال جمهور السلف: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، وأما مجازاة الكافر فالنار لأن كفره أوبقه وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} . بلغت المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال: اللهم أصلح أحوالنا، وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها» .
(1) سورة المعارج، الآيات: 19 - 26.
(2)
سورة النساء، الآية:123.
(3)
سورة النساء، الآية:123.
وكان ممن فزع لهذه الآية أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو في الفضل والبر والإيمان- فجاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شيء عملنا جزينا به؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: فذلك مما تجزون به (1) ..
أيها المسلمون هل نعي هذه المعاني، وتكون نبراسًا يضيء لنا الطريق في هذه الحياة، وهل نربط بين المصائب والذنوب والمعاصي، وهل نتجرد في إصلاح ذواتنا ومعرفة أقصر الطرق لرفع المحن والمصائب عنا، وعن أمتنا .. أو نستمر في الخطأ، ونرتكس في أوحال الخطيئة، فننتقل من بلية إلى أخرى، ومن وضع مُردٍ إلى آخر أسوأ منه؟ ذلك خياره بأيدينا .. لكن لنثق أن الله تعالى لن يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2). وسوف تستمر تجاربنا الخاطئة حتى نهتدي إلى صراط الله المستقيم. وسنظل نتخبط في الظلمات، حقي نفيء إلى أنفسنا ونبصر نور الله، والمصيبة أن الشقاوة لا تنتهي في هذه الحياة الدنيا، فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ومن يضلل الله فما له من هاد.
(1) تفسير القرطبي 5/ 396 - 398.
(2)
سورة الرعد، الآية:11.