الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من كلام النبوة الأولى
(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .....
عباد الله، اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
إخوة الإيمان وطالما اعتاد كثير من الناس مقولة (استح يا فلان) وهي كلمة تقال لمن خالف شرع الله، أو وقع في شيء من محارمه، أو استهتر في شيء من الواجبات، وقلل الأدب مع خلق الله بأي شكل من الأشكال، والحق أنها كلمة ذات ولها معنى ولها مغزى، وشيوع الكلمة وكثرة إطلاقها دليل الغيرة، وعلامة الوعي، وهي أسلوب من أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصلح لفئة من الناس لم تُجْدَ معها الوسائل الأخرى، وبلغ بها الاستهتار بالمعاصي إلى حد المجاهرة بها دون خوف من الله، واستحياء من خلقه، وبلغ بها الاستهتار بحقوق الخلق إلى حد يضطر الناس معه إلى أن يقولوا استح يا فلان، ومع أهمية الحياء وحاجتنا إليه إلا أننا أحيانًا نجهل معنى الحياء، وربما فات على بعضنا الفرق بين الحياء الشرعي وغير الشرعي، أو فات علينا معرفة قيمة الحياء.
وكلنا محتاج إلى معرفة الأسباب المؤدية للحياء الشرعي، والأسباب المساعدة على فشو قلة الحياء .. هذه وغيرها، معاشر المسلمين، مما يتعلق بالحياء أمور تمس الحاجة إليها في سبيل طاعتنا لخالقنا وحسن علاقتنا بإخواننا.
وسأقف معكم في هذه الخطبة معرفًا بالحياء، وموضحًا ما يلتبس الأمر فيه، وعسى أن يكون فيها عبرة وعظة للمتحدث والسامع، إنه لسميع الدعاء.
(1) 5/ 3/ 1415 هـ.
إخوة الإسلام وإذا كانت قيمة الأخلاق في الإسلام لا تخفى، وقد سبق الحديث عن شيءٍ منها، فما مكانة الحياء من أخلاق الإسلام؟
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضحًا ذلك: «إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء» رواه مالك وابن ماجه بسند حسن (1).
ولأهمية الحياء وقدره، وحاجة الحياة والأحياء له بقي سمة هذا الدين، وسمة الأديان السابقة، ولم ينسخ من بين ما نسخ من شرائع الله، ولهذا قال المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء) (2).
ويكفي الحياء قدرًا أنه من الإيمان، وأنه طريق إلى الجنة، وعكسه البذاء. يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم:«الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» (3).
وعرف العلماء الحياء، لغة، بأنه تغير وانكسارٌ يعتري الإنسان من خوف ما يُعاب به (4).
أما تعريف الحياء في الشرع: فهو خلقٌ يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث (الحياء خيرٌ كله)(5) ..
وقال الراغب الأصفهاني: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو
(1) جامع الأصول 3/ 622.
(2)
رواه البخاري وأبو داود، جامع الأصول 3/ 621.
(3)
الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، جامع الأصول 3/ 617.
(4)
الفتح 1/ 52.
(5)
المصدر السابق 1/ 52.
مركب من جبن وعفة، ولهذا لا يكون المستحي فاسقًا، وقلما يكون الشجاع مستحيًا (1).
أما الإخوة المسلمون، والحياء علامة خير، وهو شعبةٌ من شعب الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام:«الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء سبعة من الإيمان» (2) والسؤال المهم: لماذا كان الحياء من الإيمان؟ ويليه سؤال آخر لا يقل أهمية: ولماذا أفرد من بين شعب الإيمان؟
أما لماذا كان الحياء من الإيمان، فقد قال ابن قتيبة، يرحمه الله: إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا، كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه (3).
وقال ابن الأثير، يرحمه الله: جُعل الحياء، وهو غريزة، من الإيمان، وهو اكتساب، لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم تكن له تقية- أي مانع- فصار كالإيمان الذي يقطع بين العاصي والمعصية، وإنما جُعل الحياء بعض الإيمان لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله، وانتهاء عما نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعضَ الإيمان (4).
أما إفراده من بين شعب الإيمان الأخرى، فذلك لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحيي يخاف فضية الدنيا والآخرة فيستمر وينزجر.
وهكذا يتضح لكم، معاشر المسلمين، قدر الحياء وقيمتَه، فهو رقابةٌ داخليةٌ تتحكم في سلوكيات الإنسان، وتدفعه لفعل الجميل، وتكفه عن القبائح، حتى
(1) المصدر السابق 1/ 74، 75.
(2)
رواه البخاري. الفتح 1/ 51.
(3)
الفتح 1/ 74.
(4)
النهاية في غريب الحديث 1/ 470.
وإن خالف ذلك هواه، وما تشتهيه نفسه، وإذا تمثل الإنسان الحياء قاده إلى كل خير، وحجبه عن كل سوء، لكن ذلك يحتاج إلى جدٍ واجتهاد، وترويضٍ للنفس، واحتسابٍ للأجر عند الله. وهذا هو الحياء الشرعي المطلوب، فالحياء الشرعي- كما قال أهل العلم- هو المقترن بالعلم والنية الطيبة، وهو الباعث على فعل المأمور، وترك المحظور، وهو الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر (1). وإذا كان هذا هو الحياء الشرعي، فهناك حياء غير شرعي؛ قال عنه الحافظ ابن حجر: ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير، لأن ذلك ليس شرعًا (2).
وقال أيضًا: وأما ما يقع سببًا لترك أمر شرعي، فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة (3).
وهكذا يتضح الفرق بين الحياء الشرعي الذي يريده الله، ويؤجر عليه الإنسان، وبين الضعف والمهانة الذي يُنسَب للحياء، وليس منه في شيء.
نسأله تعالى أن يبصرنا في ديننا، ويرزقنا الحياء، ويعصمنا البذاء والجفاء، وسوء الأخلاق.
(1) الفتح 1/ 52.
(2)
الفتح 1/ 52.
(3)
المصدر نفسه 1/ 52.