الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين يقصُّ الحقَّ وهو خير الفاصلين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، حرّم على نفسه الظلمَ وجعله بين عباده محرمًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أثنى عليه ربه بجلائل الأخلاق وكرم الشمائل، فقال جل من قائل عليمًا:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (1).
وزكى خلقه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وأرض اللهم عن أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون، فلئن قعد الضعف واتباع الهوى بأقوام عن إنصاف غيرهم من المسلمين المجتهدين فنالوهم بالتجريح والأذى والتهوين، فقد بلغ التجدد بأخرين أن يترفعوا عن سباب من آذاهم، بل ويوصوا أتباعهم بعدم الانتصار لهم، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، تكثر التهم حوله حين أُدخِل السجن، ويروج الكذاب والشائعات حول منهجه ومؤلفاته، فيكتب رسالة مطولة لأتباعه، ومما قال فيها:
(
…
تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة، والأغاليط المظنونة، والأهواء الفاسدة، وأن ذلك أمر يجل عن الوصف، وكل ما قيل من كذب وزور هو في حقنا خيرٌ ونعمة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ .. } (3).
(1) سورة التوبة، الآية 128.
(2)
سورة ن، الآية 4.
(3)
سورة النور، الآية:11.
وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ما رد به إفك الكاذب وبهتانه، فلا أُحبُّ أن يُنْتَصَتَر من أحدٍ بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كل مسلمٍ، وأنا أحبُّ الخير لكل المسلمين، وأُريدُ لكل مؤمنٍ من الخير ما أُحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي .. ).
وهذا القول من الشيخ سبقه كلامٌ عن نعَم الله عليه المتزايدة، وهو في السجن، وانتشار كتبه، وإقبال الخلق على سبيل السنة والجماعة، وحاجة الأمة إلى تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين (1).
وهو كلام نفيس جدير بمن ينتسبون إلى العلم والديانة أن يقرؤوه، ومن يبحثون عن منهج أهل السنة والجماعة في أدب الاختلاف أن يتأملوه، وينهجوه .. وتبقى بعد ذلك الدعاوى إذا لم يقم عليهن دليلٌ أصحابها أدعياء؟
4 -
إخوة الإيمان، ومن الآداب المشروعة في نقد الآخرين إلانةُ القول وتحري دواعي القبول .. فهذا فرعون قد حكم الله بكفره وضلاله واستكباره، يؤمر الرسولان الكريمان في سبيل دعوته بإلانة القول له {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2). وكذلك يؤمر المصطفى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (3).
فإذا كانت إلانة القول في النصح مطلبًا وإن عُلِم عدم استجابة المنصوح، فكيف ترونه ينبغي أن يكون الأمر عند من يُرجى قبوله النصح؟
إن الكلمة الطيبة سهمٌ ينفذ إلى القلوب، فينفع الله بها من أراد له الهدى، وإن
(1) سورة الفتاوى/ 28/ 42 - 55.
(2)
سورة طه، الآيتان: 43، 44.
(3)
سورة آل عمران، الآية:159.
فظاظة القول، وقسوة الخطاب، حاجز عن سماع الحق، موجبًا لنفرة الخلق {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1).
ولئن كانت مهمة المرسلين- عليهم السلام البلاغ المبين، فلا يُطلب من غيرهم هداية المنحرفين- وما عليهم إلا تحري دواعي القبول بالكلمة الطيبة، والموعظة البليغة، وذكر المحسان في المقدمة
…
فإن البدء بما للمرء من محاسن يحطم الكبرياء في النفس، ويهِّيءُ النفس لسماع ما بعده من الحق والنقد ولكن
…
لا ينبغي الإسراف فيه بحيث يداخل النفس العُجْبَ والغرور
…
أو الاكتفاء به بحيث يرى المرء أن حياته كلها حسنات، فلا يستسيغ السماع بعد، ممن جاءه مذكرًا إياه بالأخطاء والسيئات.
5 -
ومن ضوابط النقد المجادلة بالتي هي أحسن، وذلك بأن يكون صاحبه قاصدًا لإيضاح الحق أو طامعًا في أتباع خصمه له .. أما إن كان قصدُه الغلبة على الخصم، ومجرد الظهور تحقيقًا لحظ النفس، وتدعيمًا لشهوة الهوى، فذلك المراء المذموم شرعًا
…
إذا كنا معاشر المسلمين مأمورين بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب، كما قال تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) فهل ترونه يسوغ بين المسلمين تبادل التُّهم، والرغبة في الانتصار على الخصم لا أكثر؟
وهكذا ينبغي أن يكون سلاح المجادلة، الكلمة الصادقة، والحجة القاطعة لا غير، أما استخدام القوة الغاشمة سبيلاً إلى النصرة بغير حق فذلك طريق العاجزين، وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله، وهو يتحدث عن مجادلة أهل
(1) سورة آل عمران، الآية:159.
(2)
سورة العنكبوت، الآية:46.
الكتاب وغيرهم من الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومما قال:(وإنما جعل السيف ناصرًا للحجّة، وأعدل السيوف سيفٌ ينصر حُجَج الله وبيناتِه، وهو سيف رسوله وأمُته)(1).
6 -
النصح بين السر والعلن، لقد سبق القول أن النصح لمجرد التشهير مخالف للإخلاص، ولاشك أن خلوتك بشخصٍ يستخفي بذنبه أدعى لنصحه وأقرب لقبول نفسه:
تَعَمَّدْني بِنُصْحِكَ في انفرادي
…
وجنِّبني النصيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناس نوعٌ
…
من التوبيخ لا أرضى اسمتاعهُ
فإن خالَفْتَني وعَصَيْتَ أمْري
…
فلا تغضبْ إذا لْم تُعْطَ طاعة
ولهذا قال أهل العلم: فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يُهْجَر ويُذمّ على ذلك، وهذا معنى قولهم: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، بخلاف من كان مستترًا بذنبه، مستخفيًا فإن هذا يُسْتَر عليه، لكن يُنصح سرًا، ويهجره من يعرف حاله حتى يتوب (2).
ويتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، عن نوعين من أعداء الدين، لابد من جهادهما، وبيان حالهما للناس، ويقول:(وقد أمر الله نبيه بجهاد الكفار والمنافقين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (3).
فإذا كان أقوامٌ منافقون يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب، ويُلّبسونها على الناس، ولم تُبَيَّن للناس، فسد أمر الكتاب، وبُذِّل الدين، كما فسد دين أهل
(1) زاد المعاد 3/ 642.
(2)
الفتاوى 28/ 220.
(3)
سورة التحريم، الآية:9.
الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم يُنْكَرْ عل أهله .. ) بل يصِفُ الشيخ طائفةً ثالثةً لابد من الإنكار عليها علانية، وبيان حالها للناس فيقول في كلامٍ بديعٍ أنقله لكم بنصه وحروفه:(وإذا كان أقوامٌ ليسوا منافقين، لكنهم سمّاعون للمنافقين، قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقًا، وهو مخالفٌ للكتاب، وصاروا دعاةً إلى بِدَع المنافقين، كما قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (1)، فلابد أيضًا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإنّ فيهم إيمانًا يوجِبُ موالاتهم، وقد دخلوا في بِدَعٍ من بِدَعِ المنافقين التي تُفْسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البِدَع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق، لكن قالوها ظانين أنها هدى، وأنها خير، وأنها دين- ولم تكن كذلك- لوجب بيان حالها) (2).
وهكذا تتضح الحاجة إلى النصح سرًا وعلنًا، حسب مقتضيات الأحوال والظروف.
أيها المسلمون، هذه بعضٌ من الشروط والضوابط والآداب في نقد الآخرين، يُلْحَقُ بها: نقد الفكرة أَوْلى من نقد الأشخاص، وبيان المنهج الحق كفيلٌ ببيان عورِ المناهج المنحرفة، لأن الأشخاص يذهبون، والأفكار تبقى، وإغفال الناقد وإهماله- أحيانًا- أقصر الطرق لنسيانه، وربما أعطاه فرصةً للتأمْل في ذاته، بل كان من منهج أهل السنة والجماعة، أحيانًا، إغفال الفكرة كذلك وعدم الرد عليها حتى لا يكون ذلك سبيلاً إلى بقائها بعد فناء أصحابها، ومعرفة أجيال لم تشهدها من قبل.
(1) سورة التوبة، الآية:47.
(2)
الفتاوى 28/ 233.
ويلحق كذلك بطرائق النقد وأساليبه: ألا تطول سلسلة النقد، وجواب النقد، فجواب الجواب، حتى لا تثير الضغائن والأحقاد بين الأفراد، بعضهم لبعض، بصفةٍ دائمةٍ، ويُوقَف الكلام عند حدود اتضاح الوجوه المختلفة للطرفين (1).
إخوة الإيمان، وفي زحمة المناظرات والردود، والانتصار للنفس، تضيع أغلى مهمة للنقد، ألا وهي الرغبة في الإصلاح، ودفع الفساد .. وذلك حين يسوف المنتقد في نقد من انتقده، وربما تناسى غيره من الخصوم الصرحاء، بل ربما وسوس له الشيطان أن ذلك المنتقد أخطر وأولى بالنقد
…
وهكذا يتسلل الأعداء، ويفرح المنافقون، إذ تخلو الساحة من الرقابة عليهم
…
ويأمنون من متابعة الخيرين لمخططاتهم، إذ هم في شغُلٍ شاغلٍ بينهم
…
وتُسْتباح المحرمات، وتُرْسِم البرامج والمخططات، ويصطلي بنارها الناقد والمنقود .. ولا يفرق المجرمون بين غالب أو مغلوب، ما داموا في دائرة الخيرين .. وهكذا تُحْفَر القبور بأيدي أصحابها .. وتُطْرَف العيون بأقرب عضو إليها! !
ألا ما أحوج الصادقين لجمع الكلمة .. وإصلاح ذات البين، وتجميع الطاقات، فمكر الأعداء كبيرٌ، وأنفاس الحياة معدودةُ، والانشغال بالبناء ومجاهدة الكفار والمنافقين أولى وأحرى من إشغال النفس بالهدم والتقليل من شأن المسلمين.
حذار عباد الله أن يتجارى بكم الشيطان كما يتجارى بأصحاب الأهواء فترون المنكر معروفًا، وتظنون المصلحين مفسدين، وحذار معاشر العلماء والدعاة وطلبة العلم من التخلي عن دوركم في الإصلاح والإنكار فيتحمل الدعوة غيركم ممن لافقه في الإنكار عندهم، فيبقى دوركم مقتصرًا على نقدهم والاستهانة بهم.
(1) المودودي، التذكرة ص 90.
اللهم ألهمنا رشدنا، وبصِّرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، اللهم ربِّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض .. اللهم هل بلّغت، اللهم فاشهد.