الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آفة العين وطرق الوقاية والعلاج
(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد فأوصي نفسي وإياكم، معاشر المسلمين، بتقوى الله امتثالاً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2).
أيها المسلمون، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التي تُصيبُ بعض بني الإنسان، وكيف يحفظ الله منها.
حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه و (تورد الرجلَ القبرَ وتُدَّخِلُ الجمل القِدْرَ)(4).
إنها «العين» و (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا
(1) في 22/ 5/ 1417.
(2)
سورة الحشر، الآية:18.
(3)
سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.
(4)
رواه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4023).
استغسلتم فاغتسلوا) (1) كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
جاءت الإشارة إلى العين في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (2).
وهكذا يفعل المؤمنون الأسباب، ويبقى التوكل على الله ملاذًا آمنًا، ومعتقدًا صادقًا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد {وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} .
وجاء في القرآن أيضًا إخبارٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عن حسد الكافرين له، ومحاولة إنفاذه بأبصارهم {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (3).
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: (لَيُزْلِقُونَكَ) أي يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك
…
قال ابن كثير: وفي هذه الآية دليلٌ على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما ورد بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة) (4).
إخوة الإيمان، وينبغي أن يعلم أن العين إنسيةٌ وجنِّيةٌ، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تُصيبُ من الإنس، فعن أم سلمة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عنه وسلم قال لجارية
(1) رواه مسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب الطب والرقى.
(2)
سورة يوسف، الآية:67.
(3)
سورة القلم، الآية:51.
(4)
تفسير ابن كثير 8/ 227.
في بيتها، رأى في وجهها سفعة:(بها نظرة استرقوا لها)(1).
والسفعة علامة من الشيطان، وقيل ضربةٌ واحدةٌ منه (2). والمعنى: بها عينٌ أصابتها نظرةٌ من الجن أنفذ من أسنة الرماح (3).
ولهذا (كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من (الجان)، ومن (عين الإنسان) حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك) (4).
عباد الله، ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله، حتى قال عليه الصلاة والسلام «أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين) (5). فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها .. فلا ينبغي الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها .. وفوق ما مضى من الأدلة يردُّ ابن القيم، رحمه الله، على المنكرين لأثر العين بقوله:(فأبطلت طائفةٌ ممن قل نصيبهم من السّمع والعقل، أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم معرفةً عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأمم علي اختلاف مللهم ونِحَلهم، لا تدفع أمر العين ولا تُنكرِه، وإن اختلفوا في سببه، وجهة تأثير العين .. )(6).
أما المسرفون بشأن العين فتطاردهم الأوهام، ويحاصرهم القلق، ويضيف عندهم اليقين، ويختل ميزان التوكل. أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كل
(1) رواه البخاري ومسلم [خ 10/ 171، م (97)].
(2)
النهاية 2/ 375.
(3)
شرح السنة 12/ 163.
(4)
أخرجه الترمذي، وحسبه وأخرجه غيره (2059/ زاد المعاد/ 4/ 165).
(5)
رواه البخاري في التاريخ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1217).
(6)
زاد المعاد 4/ 165.
إخفاق أو فشل إلى العين، وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علّة، ذلكم أن نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمّل لوم الآخرين.
وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفًا وسطًا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلاً وعقلاً، ولا تُغالي فتنسب كل شيء إليها، تتقي العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعًا بعد وقوعها.
أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال (للمَعين) فيقال للعائن: اتق الله، ولا تضر أحدًا من إخوانك المسلمين، وإياك والحسد فإنه منفذٌ للعين فكل عائنٍ حاسدٌ، وليس كل حاسدٍ عائنًا، ولما كان الحاسدُ أعمَّ من العائن كما في قوله تعالى {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1).
والعائن ربما فاتته نفسه أحيانًا، فوقعت منه العين، وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحًا، وربما أصاب أقرب الناس إليه، وإن لم يقصد، من والدٍ أو ولد. ولذا يوصى المسلم عمومًا، والعائن خصوصًا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها حين يقول:
«وإذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يُعجبُه فليَدعُ له بالبركة فإن العين حق) (2).
إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضُّرِّ، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَاّ
(1) سورة الفلق، الآية:5.
(2)
رواه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه بسند صحيح (صحح الجامع الصغير 1/ 212).
بِاللَّهِ} (1). على أن المسلم نفسه ينبغي أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العينُ سهمًا تخرجُ من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهي تصيب تارةً وتُخطئُ تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه أثرت فيه ولابد، وإن صادفته حذرًا شاكي السلاح لا مَنفَذَ فيه للسهام لم تؤثر فيه (2) كذا قال العارفون.
فإن قلتَ: وكيف أتقي العين؟ وما أعظم سلاح ألوذُ به؟ أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعظم لا يضر معه شيء، و (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان
…
إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التي بسطها العلماء في كتب الأذكار.
قال ابن القيم: ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئًا يُعجبهُ أو دخل حائطًا من حيطانه قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.
ومنها رُقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)(3).
ولقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية، وقال لأسماء بنت عُمَيس، رضي الله عنها: (مالي أرى
(1) سورة الكهف، الآية:39.
(2)
ابن القيم (زاد المعاد 4/ 167).
(3)
مسلم 2185 في السلام/ باب الطب.
أجسام بني أخي ضارعة- أي نحيفة-؟ يصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم) (1).
أعوذ الله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
(1) رواه مسلم، كتاب السلام 2198.