الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله القائل في محكم التنزيل {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (1) وأشهد أن لا إله إلاً الله وفق من شاء لاتباع الملة والسنة، وأبى الجاهلون إلا المخالفة والابتداع:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2).
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. وهو القائل: «ما تركتُ شيئًا يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه» (3). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
إخوة الإسلام، ويرد السؤال الآخر، وما هي مفاسد البدعة لا سيما وأصحابها يزعمون أنهم يتقربون بها إلى الله زلفى؟
وللبدع مفاسد كثيرة، ومن أول هذه المفاسد أن أصحابها يتهمون شريعة الله بالنقص، إذ يُصرون على قُرُباتٍ لم يأذن بها الله، ولم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عبدوا الله بمستحسنات العقول، وفي ذلك قدحٌ في كمال هذا الدين، وكأنّ أولئك يستدركون على الشريعة، ومنها أن أصحاب البدع يزهدون في السنن الثابتة، وتفتر عزائمهم عن العمل بها، وينشطون في البدع، فتراهم ينفقون أموالهم، وينصبون أبدانهم، ويضيعون أوقاتهم في إحياء البدع، وربما وجدوا خفّة ونشاطًا لما يشعرون به من موافقة الهوى، ولو كان الجهد -على غير هدى-
(1) سورة فاطر، الآية:8.
(2)
سورة المائدة، الآية:50.
(3)
رواه الطبراني بإسناد صحيح، خطب صالح الحميد، المجموعة الثانية/ 8.
ينفع أصحابه لانتفع به رهبان النصارى الذين كانوا ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير هدى، فقال الله فيهم وأمثالهم:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} (1) وتأمل قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (2).
ومن مفاسد البدع أنها السبب للفرقة والخلاف، فتحيا شعارات الجاهلية وتنطمس أنوار الإسلام، إذ يحس كل فريق أن ما هو عليه الحق وما عداه الباطل ويتحقق قوله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (3) فتنشأ الإحن والعداوات بين المسلمين، ولو اعتصموا بحبل الله واستمسكوا بشريعته المنزلة الجامعة لكان فيها أمانٌ من الفرقة والخلاف. قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (4)(5).
ولا يقف الأمر عند حدود الفرقة والخلاف- مع ما فيها من شر وبلاء- بل يحتدم الجدل، ويروج سوق المراء بين المسلمين، وتحصيل الخصومة في الدين، ويضيع بها جزءٌ من وقت المسلمين دون فائدة، قال قتادة- رحمه الله قوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (6)، قال: هم أهل البدع.
(1) سورة الغاشية، الآيات: 2 - 4.
(2)
سورة الكهف، الآيتان: 103، 104.
(3)
سورة المؤمنون، الآية:53.
(4)
سورة آل عمران، الآية:103.
(5)
الخطب المنبرية للشيخ صالح الفوزان 1/ 72.
(6)
سورة آل عمران، الآية:105.
وتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه إذ يقوله: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) (1).
ومن مفاسد البدع أنها تفسد الدين الصحيح، حتى يظنّ من لا يعرف حقيقة الإسلام أنه مجموعةٌ من الخرافات والطقوس الفارغة، فينصرف عنه من يريد الدخول فيه، وهذا ما يريده ويخطط له الكافرون والمنافقون حتى يصدوا عن الدين الحق، ويشغلوهم بترهات باطلة، وعقائد محرمة، وبدع فاسدة .. وهل يستطيع أرباب البدع مقاومة الباطل والمبطلين وهم في الباطل واقعون؟ وهل يستطيعون محاربة الشيطان وصدّه وهم له متبعون؟
كتب عمر بن عبد العزيز- رحمه الله إلى عدي بن أرطأة بشأن بعض القدرية، يقول له:(أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر ناقدٍ كُفُوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلموا بما يكفي، ووصفوا بما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر منهم قوم فجفَوا، وتجاوز آخرون فغَلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)(2).
معاشر الإخوة، كلماتٌ توزن بماء الذهب لمن عقل وتدبر ووعى، على أن دور السلف الصالح لم يقف عند حدود التحذير المجرد، للبدع وأصحابها، بل
(1) حديث حسن، أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، صحيح الجامع 5/ 146.
(2)
صالح الحميد، المجموعة الثانية لخطبه: 11، 12.
استلزم منهم أحيانًا النهي الفعلي، وتفريق المجتمعين على البدع، فقد أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود، رضي الله عنهما: إني رأيت في المجلس قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم أتى حلقةً من تلك الحِلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن، أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد؛ ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذا ثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه (1).
هذه كلمات واضحةٌ صريحة، توزن بماء الذهب لمن عقل ووعى، وهي نهي مبكر عن الابتداع في الدين، وهي تحذيرات من جيل الصحابة والتابعين، وليست نظرات وهابية كما يخيل للجاهلين وأصحاب الأهواء المبتدعين.
وتأمل أخي المسلم كيف يدخل الشيطان على الإنسان من باب القربة والطاعة حتى يبعده عن السنة والجماعة، ويرحم الله الإمام الشافعي وهو القائل:(لأن يلقى الله العبد بكل ذنب- خلا الشرك- خيرٌ من أن يلقاه بشيء من الهوى).
وقيل لسفيان بن عتبة رحمه الله: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم
(1) خطب الشيخ صالح الحميد، المجموعة الثانية/ 13، 14. وانظر: خطب الشيخ الفوزان 1/ 73 مع اختلاف في الرواية.
فقال: أنسيت قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (1) وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون) (2).
فاتقوا الله معاشر المسلمين، وإياكم والبدع واتباع الهوى وعليكم بالاتباع والسنة .. واعلموا أن قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم (3).
رزقني الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وسددنا في الأقوال والأفعال وجنبنا الأهواء والبدع ومقالات ..
(1) سورة البقرة، الآية:93.
(2)
الولاء والبراء للقحطاني/ 312.
(3)
شرح السنة 1/ 171.