الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمكين ذي القرنين .. الحديث والعبرة
(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
أيها الإخوة المسلمون، وحيث سبق الحديث عن التوكل وآثاره، وعن صنف من غير المتوكلين وسلوكياتهم، فقد آن الأوان لعوض نموذج للمتوكلين على الله، وأولئك الذين فهموا حقيقة التوكل على الله، وما عطلوا الأخذ بالأسباب المأذون بها شرعًا، فأورثهم ذلك استقامة على الهدى وتمكينًا في الأرض، ورضى الخالق، ومحبة الخلق، دون عُلُوٍ واستكبار، ودون ضعفٍ ومسكنةٍ واستجداء الآخرين، أو تعلق وركون إلى الكافرين.
تلك، وربي، هي حقيقة التمكين التي تستحق الإشارة والذكر، وسواها من أنواع الغلبة والرئاسة، لا تعدو أن تكن تسلطًا على رقاب الناس، وتحكمًا في مصالح الخلق ومعاشهم، وحجرًا أبلهًا على أفكارهم ومعتقداتهم، لا تلبث أن تزول لأنها لا تملك مقومات الثبات، ولا تستخدم أسلوب الإقناع، أو تسمع للدليل، بل تقيس الأمور بمقياس السادة والعبيد!
هذا التمكين في الأرض مطلبٌ يبحث عنه السادة والزعماء، ويظل يلهثُ في بيداء سرابه المغرمون بالكراسي، فتنقطع أنفاس الكثيرين منهم دون أن يحققوه، لأنه منحةٌ إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله إلا من شاء من خلقه.
وغاية ما يمكن أن يحققه الكثير منهم رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدّر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، واقتيد الملوك الأباطرة، وأصبحوا في عداد
(1) في 28/ 2/ 1415 هـ.
العبيد المأسورين، وتضاءل الملك العريض من حوله، وكان نصيبه من الدنيا ملجأً ضيقًا يستتر به إن لم يكن حظه سجنًا مظلمًا يُغيَّبُ فيه.
وإذا كان هذا جزاءً وفاقًا لما تنكبوا عن صراط الله المستقيم، ونّحوا شرع الله عن أرضه وخلقه، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، فتعالوا بنا لنقف على صورة أخرى من التمكين، رضي الله عنها، وخلد القرآن ذكرها وكان ذو القرنين نموذجها:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً} (1).
وذو القرنين من عباد الله الصالحين، ونتوقف في نبوته، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال «وما أدري، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: «وما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري ذا القرنين نبيًا أم لا» (2).
لقد أعطاه الله ملكًا عظيمًا فيه من كل أدوات التمكين والجنود مما يؤتاه الملوك، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمي بذي القرنين.
وليس يتم التمكين إلا بالعلم الذي يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدمار والهلاك، وبهذا فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك قوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} يعني علمًا (3).
أجل، إن ذا القرنين، مع توكله على الله، لم يتواكل ويغفل الأسباب المؤدية إنما تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف
(1) سورة الكهف، الآية: 84، 85.
(2)
رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير 5/ 121).
(3)
تفسير ابن كثير 5/ 185، 186.
الخلق بالخالق، وتحطيم قوى الشرك وإذلال المشركين، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، مما هو في مكنة أمثاله من ملوك الأرض، فلم يترقَّ في أسباب السموات، ولم يصنع شيئًا يستحيل أن يصنعه البشر، وما ينسج عنه في ذلك من الإسرائيليات والقدرات الخارقة للعادة، لا تستقيم مع النقد، وهذا أنكر معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار، في حوار لطيف، حين قال له: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كُنتُ قلت ذاك فإن الله تعالى قال: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} .
ثم علّق ابن كثير على هذه المحاورة بقوله: وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في الإنكار (1).
إخوة الإيمان، وحتى تعلموا طرَفًا من علم ذي القرنين وعدله ودستوره وسياسته في الملك في البلاد التي افتتحها تأملوا في معنى قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} (2).
قال أهل التفسير: إنه سلك طريقًا حتى بلغ إلى أقصى ما يُسلَك فيه من الأرض من ناحية المغرب، حتى أبصر الشمسَ في منظره تغرب في البحر المحيط في عين حمئة، قيل: ماء وطين أسود، وقيل: إنها حارة لمواجهتها وهج الشمس عند غروبها. وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وبه جمع العلماء بين مختلف الأقوال في العين الحمئة (3).
(1) تفسير ابن كثير 5/ 186.
(2)
سورة الكهف، الآيات: 86 - 88.
(3)
تفسير ابن كثير 5/ 188.
المهم أنه بلغ أمةً من الأمم، ذُكر أنها كانت عظيمةٌ من بني آدم، وحين مكّنه الله منهم، وحكمهُ فيهم، وأظفره بهم خيره، إن شاء قتل وسبى، وإن شاء مّن أو فدى، فعرف عدله وإيمانه حين قال:{أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي استمر على كفره وشركه بربه {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي في الدنيا بنوع من العذاب، {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي في الآخرة، وفيه إثبات المعاد والجزاء {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أي تابعنا إلى ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} في الدار الآخرة عند الله عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي قولاً معروفًا.
وهذه غاية العدل، وقمّةُ العلم، وعلامة الهدى ودليل التمكين في الأرض دون جهلٍ أو استعلاء، وتلك تجربةٌ خاضها ذو القرنين، فما أفشى القتل جزافًا، أو استخدم البطش تجّبرًا وتسلطًا.
ومن مغرب الأرض إلى مشرقها يصل ذو القرنين، ويُمَكِّنُ الله له في الأرض، ويقهر الأمم، ويدعوهم إلى الله فإن هم أطاعوه وإلا أذلَّهم، وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم، واستخدم من كل أمةٍ ما يستعين به- بعد الله- ومع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم، وهكذا جاب الأرض، طولها وعرضها، في مدةٍ قال بنو إسرائيل: إنها بلغت ألفًا وستمائة سنة، والله أعلم.
ولما انتهى إلى مطلع الشمس، وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترًا، قيل: المعنى أنهم كانوا يسكنون سهولاً شاسعةً، ولا يوجد عندهم جبال تحجب عنهم الشمس، وقيل كانوا لا يملكون بيوتًا أو أبنيةً تمنع عنهم أشعةَ الشمس وحرّها، وقيل: ما كانوا يملكون شيئًا يغطون به أجسادهم، وكانوا عُراةً فإذا أشرقت أصابتهم بأشعتها (1).
(1) مع قصص السابقين في القرآن/ صلاح الخالدي/ 333.
وإذا كان القرآن لم يقص علينا من أخباره معهم كما قصّ في أخبار من كانت الشمس تغرب عندهم، فلا شك أن المعاملة بالعدل والحسنى، والدعوة إلى الإيمان والهدى، منهجٌ داوم عليه ذو القرنين في كل الممالك التي مر بها والقرى، استوجَبتْ ذكره في القرآن، ورضي عنه الرحمن، وكان بذلك نموذجًا صالحًا للمُمكَّنين في الأرض. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (1).
اللهم انفعنا بالقرآن، واملأ قلوبنا بالإيمان، ولا تجعلنا من أهل الشقوة والخسران.
(1) سورة الحج، الآية:41.