الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، عنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، تضرع إلى ربه حين ناله الأشرار بسوء فكشف الضر عنه وعافاه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد، فالسؤال المهم الذي ينبغي أن نشترك جميعًا في الإجابة عليه: لماذا يروج السحر ويكثر السَّحرَة في بلاد المسلمين؟
وللإجابة عليه يمكن رصد عدد من الأسباب، ومنها:
1 -
ضعف الإيمان في نفوسنا أحيانًا، إذ الإيمان دعامةٌ كبرى، ووقايةٌ عظمى من كل فتنةٍ وشر ومكروه {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1).
وفى الحديث: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (2) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه، ويهتز جانب التوكل على الله، والرضاء بما قدر، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنًا على وهنهم وتستلب أموالهم وعقولهم.
2 -
الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد في ذلك من ضير على المعتقد والدين.
(1) سورة التغابن، الآية:11.
(2)
رواه الطبراني والحاكم وسنده صحيح (صحيح الجامع 2/ 56).
وهل يذهب إليهم من عرف وقدر قوله المصطفى صلى الله عليه وسلم «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (1) الحديث.
أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر، والخطر أعظم، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (2). وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، موقوفًا قال:«من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (3).
3 -
سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السحرة والمشعوذين، فتراهم يذهبون يستطبون عندهم، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع، تخرصات وأوهام، وفصدٌ للعروق تسيل منه الدماء، وتمتماتٌ وطلاسم، وكتاباتٌ ورُبُط تُباع بغالي الأثمان، وهي لا تساوي فلسًا عند أولي الألباب.
بل ولو ذهبت ترقُبُ أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح، وإن نصبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ، وحُذّاق الأطباء؟ !
4 -
طغيان الحياة المادية المعاصرة قست له القلوب، وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس، ونتج عن ذلك العقد النفسية، والمشكلات الوهمية، وارتفاع مؤشر القلق، وزاد الطين بلة ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على
(1) رواه مسلم (2230).
(2)
المستدرك 1/ 8، وانظر التبيان، للعلوان/ 58.
(3)
احذروا السحر والسحرة، العلوان/ 2.
أيدي السحرة والمشعوذين، فراحوا يطرقون أبوا بهم، ويدفعون أموالهم، وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار (1).
5 -
وباتت بعض بيوت المسلمين مرتعًا للشياطين، يقل فيها ذكر الله، وقل أن يقرأ فيها كتاب الله، أو تُوردَ فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقرُّ معها الشياطين، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع، والصور العارية وغير العارية، وألوان الكتب والمجلات السيئة، وقد لا تخلو من مأكول أو مشروب محرَّم، وهذه البيوت الخربة، وإن كان ظاهرها العمران، تصبح مأوى للشياطين، وتصطاد أهلها وتصيبهم بالأدواء، فلا يجدون في ظنهم سبيلاً للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة، وهكذا يسري الداء، وكلما ابتعد الناس عن الله ومنهجه، عظمت حيرتهم وكثُر بلاؤهم، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجًا.
6 -
ضعف دور العلماء والمفكرين، وأهل التربية في التحذير من السحرة، وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرافين، وتلك، وربي، تستحق أن تُعْقَد لها الندوات، وأن تسلط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة، حتى يتم الوعي ولا يؤخذ الناس بالدجل.
7 -
وإذا عُطِّلَ أو قل تنفيذ حكم الله في السحرة، أو ضعفت المتابعة لهم، انتشروا وراج دجلهم، وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات، وضعف تعاون الناس في البلاغ، إذ من الناس من يقل أو ينعدم خوفه من الله، فيسعى في الأرض مفسدًا، إلا أن تردعه قوة أو يخاف الحد، ومن المعلوم أن الله يزع
(1) عالم السحر والشعوذة/ الأشقر ص 8، 88.
بالسلطان ما لا يذع بالقرآن، وقد جاء في حديث يصح وقفه- دون رفعه- «حد الساحر ضربة بالسيف» (1).
وينبغي أن يتعاون الناس في الرفع للجهات المسؤولة لمن يُثبتُ تعاطيه السحر.
8 -
انتشار العمالة الوافدة بشكل عام، ومن غير المسلمين بشكل أخص، والحذر الحذر من السائقين والخدم، ففيهم من يتعاطى السحر أو يتعاون مع أهله، ولهم على البيوت في ذلك آثار سيئة، ينبغي التفطن لها، ومن أعظم وسائلهم جمع الشعر وإرساله وعقد السحر فيه، وكم هو جهد مشكورٌ لموظف بريد أو رجل جوازات اكتشف شيئًا من وسائل السحر والشعوذة فأراح المسلمين أو غيرهم منها، وسلم الله المجتمع من أضرارها، بسبب يقظته وشعوره بالواجب.
9 -
استمرار المرض، وضيق الصدر، وقلّة الصبر، وضاعف الاحتساب للأجر عند الله، كل ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء، وإن لم يكن مقتنعًا في البداية، وربما أقنع نفسه أو أقنعه غيره أن ذلك من فعل الأسباب، والإنسان لا شك مأمور بفعل الأسباب، لكنها الأسباب المشروعة دون المحرمة.
10 -
والدعاية الكاذبة سبب لرواج السحر وذهاب الناس لهؤلاء الدجالين، فقد يكتب الله شفاءً لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة، فيطير بالخبر وينشر في الآفاق الدعوة للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فُتِن، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أو النظر في العواقب، وهكذا يفتن
(1) أخرجه الترمذي وقال: لا يصح رفعه، والبيهقي، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/ 360 نواقض الإيمان/ 512).
الناس بعضهم بعضًا، ويجرئ بعضهم بعضًا، ويكونون أداة للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟
عباد الله، هذه بعض الأسباب لرواج السحر، والذهاب للسحرة، وقد يكون هناك غيرها ..
ومن العدل والإنصاف أن يقال: إنه على الرغم من انتشار السحر، ووجود من يذهب إليهم، فثمة فئام من المسلمين يربؤون بأنفسهم ومن تحت أيديهم عن الذهاب لهؤلاء الدجالين من السحرة، والكهنة والعرافين والمشعوذين، يحميهم الدين، ويبصرهم العقل، وملاذهم التوكل واليقين، وزادهم الصبر واحتساب الأجر من رب العالمين، وتلك شموع تضيء، وهي نماذج للعلم والعقل والدين. جعلنا الله منهم وإخواننا المسلمين.
أيها المسلمون، ويبقى بعد ذلك حديثٌ مهمٌ عن عوامل الوقاية من هذا الداء، وطرق الخلاص المشروعة لمن ابتلى بشيء من ذلك، وأمور أخرى مهمة أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، اللهم اشف مرضانا وعافِ مُبتلانا، واحفظ علينا ديننا وأمتنا وإيماننا.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم ول على المسلمين خيارهم، وأكفهم شر شرارهم، اللهم ومن أرادنا أو أراد أمتنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا رب المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين .. اللهم اشف مرضى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، ونفس كرب المكروبين، وارحم موتاهم ..