الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبدأ طلب حجَّة الْإِسْلَام الْعلم
قَرَأَ فِي صباه طرفا من الْفِقْه بِبَلَدِهِ على أَحْمد بن مُحَمَّد الراذكاني
ثمَّ سَافر إِلَى جرجان إِلَى الإِمَام أبي نصر الْإِسْمَاعِيلِيّ وعلق عَنهُ التعليقة
ثمَّ رَجَعَ إِلَى طوس
قَالَ الإِمَام أسعد الميهني فَسَمعته يَقُول قطعت علينا الطَّرِيق وَأخذ العيارون جَمِيع مَا معي ومضوا فتبعتهم فَالْتَفت إِلَى مقدمهم وَقَالَ ارْجع وَيحك وَإِلَّا هَلَكت
فَقلت لَهُ أَسأَلك بِالَّذِي ترجو السَّلامَة مِنْهُ أَن ترد على تعليقتي فَقَط فَمَا هِيَ بِشَيْء تنتفعون بِهِ
فَقَالَ لي وَمَا هِيَ تعليقتك
فَقلت كتبت فِي تِلْكَ المخلاة هَاجَرت لسماعها وكتابتها وَمَعْرِفَة علمهَا
فَضَحِك وَقَالَ كَيفَ تَدعِي أَنَّك عرفت علمهَا وَقد أخذناها مِنْك فتجردت من مَعْرفَتهَا وَبقيت بِلَا علم
ثمَّ أَمر بعض أَصْحَابه فَسلم إِلَى المخلاة
قَالَ الْغَزالِيّ فَقلت هَذَا مستنطق أنطقه الله ليرشدني بِهِ فِي أَمْرِي فَلَمَّا وافيت طوس أَقبلت على الِاشْتِغَال ثَلَاث سِنِين حَتَّى حفظت جَمِيع مَا علقته وصرت بِحَيْثُ لَو قطع على الطَّرِيق لم أتجرد من علمي
وَقد روى هَذِه الْحِكَايَة عَن الْغَزالِيّ أَيْضا الْوَزير نظام الْملك كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي تَرْجَمَة نظام الْملك من ذيل ابْن السَّمْعَانِيّ
ثمَّ إِن الْغَزالِيّ قدم نيسابور ولازم إِمَام الْحَرَمَيْنِ وجد واجتهد حَتَّى برع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف والجدل والأصلين والمنطق وَقَرَأَ الْحِكْمَة والفلسفة وَأحكم كل ذَلِك
وَفهم كَلَام أَرْبَاب هَذِه الْعُلُوم وتصدى للرَّدّ على مبطليهم وَإِبْطَال دعاويهم
وصنف فِي كل فن من هَذِه الْعُلُوم كتبا أحسن تأليفها وأجاد وَضعهَا وترصيفها
كَذَا نقل النقلَة وَأَنا لم أر لَهُ مصنفا فِي أصُول الدّين بعد شدَّة الفحص إِلَّا أَن يكون قَوَاعِد العقائد وعقائد صغرى وَأما كتاب مُسْتَقل على قَاعِدَة الْمُتَكَلِّمين فَلم أره وسأعقد فصلا لأسماء مَا وقفت عَلَيْهِ من تصانيفه
وَكَانَ رضي الله عنه شَدِيد الذكاء سديد النّظر عَجِيب الْفطْرَة مفرط الْإِدْرَاك قوي الحافظة بعيد الْغَوْر غواصا على الْمعَانِي الدقيقة جبل علم مناظرا محجاجا
وَكَانَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ يصف تلامذته فَيَقُول الْغَزالِيّ بَحر مغدق وإليكا أَسد مخرق والخوافي نَار تحرق
وَيُقَال إِن الإِمَام كَانَ بِالآخِرَة يمتعض مِنْهُ فِي الْبَاطِن وَإِن كَانَ يظْهر التبجح بِهِ فِي الظَّاهِر
ثمَّ لما مَاتَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ خرج الْغَزالِيّ إِلَى المعسكر قَاصِدا للوزير نظام الْملك إِذْ كَانَ مَجْلِسه مجمع أهل الْعلم وملاذهم فناظر الْأَئِمَّة الْعلمَاء فِي مَجْلِسه وقهر الْخُصُوم
وَظهر كَلَامه عَلَيْهِم واعترفوا بفضله وتلقاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرستة بِبَغْدَاد وَأمره بالتوجه إِلَيْهَا
فَقدم بَغْدَاد فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ودرس بالنظامية وأعجب الْخلق حسن كَلَامه وَكَمَال فَضله وفصاحة لِسَانه ونكته الدقيقة وإشاراته اللطيفة وأحبوه
وَأقَام على التدريس وتدريس الْعلم ونشره بالتعليم والفتيا والتصنيف مُدَّة عَظِيم الجاه زَائِد الحشمة عالي الرُّتْبَة مسموع الْكَلِمَة مَشْهُور الِاسْم تضرب بِهِ الْأَمْثَال وتشد إِلَيْهِ الرّحال إِلَى أَن عزفت نَفسه عَن رذائل الدُّنْيَا فرفض مَا فِيهَا من التَّقَدُّم والجاه وَترك كل ذَلِك وَرَاء ظَهره وَقصد بَيت الله الْحَرَام
فَخرج إِلَى الْحَج فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ واستناب أَخَاهُ فِي التدريس
وَدخل دمشق فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ فَلبث فِيهَا يويمات يسيرَة على قدم الْفقر
ثمَّ توجه إِلَى بَيت الْمُقَدّس فجاور بِهِ مُدَّة
ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَاعْتَكف بالمنارة الغربية من الْجَامِع وَبهَا كَانَت إِقَامَته على مَا ذكر الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِيمَا نَقله عَنهُ الذَّهَبِيّ وَلم أَجِدهُ فِي كَلَامه
وَكَانَ الْغَزالِيّ يكثر الْجُلُوس فِي زَاوِيَة الشَّيْخ نصر الْمَقْدِسِي بالجامع الْأمَوِي الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بالغزالية نِسْبَة إِلَيْهِ وَكَانَت تعرف قبْلَة بالشيخ نصر الْمَقْدِسِي
قَالَ لحافظ ابْن عَسَاكِر أَقَامَ الْغَزالِيّ بِالشَّام نَحوا من عشْرين سنة كَذَا نقل شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَلم أجد ذَلِك فِي كَلَام ابْن عَسَاكِر لَا فِي تَارِيخ الشَّام وَلَا فِي التَّبْيِين
ويحكى هُنَا حكايات مِنْهَا أَنه قصد الِاجْتِمَاع بالشيخ نصر وَأَنه لم يدْخل دمشق إِلَّا يَوْم وَفَاته فصادف أَنه دخل إِلَى الْجَامِع وَهُوَ لابس زِيّ الْفُقَرَاء فاتفق جُلُوسه فِي الزاوية الْمشَار إِلَيْهَا فَبعد هنيهة أَتَى جمَاعَة من طلبة الْعلم وشاكلوه فِي الْعُلُوم بعد أَن تأملوه ونظروا إِلَيْهِ مَلِيًّا فوجدوه بحرا لَا ينزف
فَقَالَ لَهُم مَا فعل الشَّيْخ نصر الْمَقْدِسِي قَالُوا توفّي وَهَذَا مجيئنا من مدفنه وَكَانَ لما حَضرته الْوَفَاة سألناه من يخلفك فِي حلقتك فَقَالَ إِذا فَرَغْتُمْ من دفني عودوا إِلَى الزاوية تَجدوا شخصا أعجميا ووصفك لنا أَقروهُ منى السَّلَام وَهُوَ خليفتي
وَهَذِه الْحِكَايَة لم تثبت عِنْدِي ووفاة الشَّيْخ نصر كَانَت سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وَإِن صحت فَلَعَلَّ ذَلِك عِنْد عوده إِلَى دمشق من الْقُدس وَإِلَّا فقد كَانَ اجتماعه بِهِ مُمكنا لما دخل دمشق سنة تسع وَثَمَانِينَ قبل وَفَاة الشَّيْخ نصر بِسنة
وَصرح شَيخنَا الذَّهَبِيّ بِأَن الغزالى جَالس نصرا
قلت وَالَّذِي أوصى نصر الْمَقْدِسِي بِهِ أَن يخلفه بعده هُوَ نصر الله المصِّيصِي تِلْمِيذه
وَمِنْهَا أَنه لما دَخلهَا على زِيّ الْفُقَرَاء جلس على بَاب الخانقاه السميساطية إِلَى أَن أذن لَهُ فَقير مَجْهُول لَا يعرف وابتدأ بكنس الميضات ألتي للخانقاه وَخدمتهَا
وَاتفقَ أَن جلس يَوْمًا فِي صحن الْجَامِع الْأمَوِي وَجَمَاعَة من الْمُفْتِينَ يتمشون فِي الصحن وَإِذا بقروي أَتَاهُم مستفتيا وَلم يردوا عَلَيْهِ جَوَابا وَالْغَزالِيّ يتَأَمَّل فَلَمَّا رأى الْغَزالِيّ أَنه لَا أحد عِنْده جَوَابه ويعز عَلَيْهِ عدم إرشاده دَعَاهُ وأجابه
فَأخذ الْقَرَوِي يهزأ بِهِ وَيَقُول إِن كبار الْمُفْتِينَ مَا أجابوني وَهَذَا فَقير عَامي كَيفَ يجيبني وَأُولَئِكَ الْمفْتُون ينظرونه
فَلَمَّا فرغ من كَلَامه مَعَه دعوا الْقَرَوِي وسألوه مَا الَّذِي حَدثَك بِهِ هَذَا الْعَاميّ فشرح لَهُم الْحَال
فَجَاءُوا إِلَيْهِ وتعرفوا بِهِ واحتاطوا بِهِ وسألوه أَن يعْقد لَهُم مَجْلِسا فَوَعَدَهُمْ إِلَى ثَانِي يَوْم وسافر من ليلته رضي الله عنه
وَمِنْهَا أَنه صَادف دُخُوله يَوْمًا الْمدرسَة الأمينية فَوجدَ الْمدرس يَقُول قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ يدرس من كَلَامه
فخشي الْغَزالِيّ على نَفسه الْعجب فَفَارَقَ دمشق وَأخذ يجول فِي الْبِلَاد فَدخل مِنْهَا إِلَى مصر وَتوجه مِنْهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة
وَقيل إِنَّه عزم على الْمُضِيّ إِلَى السُّلْطَان يُوسُف بن تاشفين سُلْطَان الْمغرب لما بلغه من عدله فَبَلغهُ مَوته
وَاسْتمرّ يجول فِي الْبلدَانِ ويزور الْمشَاهد وَيَطوف على التُّرَاب والمساجد
ويأوى القفار ويروض نَفسه ويجاهدها جِهَاد الْأَبْرَار ويكلفها مشاق الْعِبَادَات بأنواع الْقرب والطاعات إِلَى أَن صَار قطب الْوُجُود وَالْبركَة الْعَامَّة بِكُل مَوْجُود وَالطَّرِيق الموصلة إِلَى رضَا الرَّحْمَن والسبيل الْمَنْصُوب إِلَى مَرْكَز الْإِيمَان
ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَغْدَاد وَعقد بهَا مجْلِس الْوَعْظ وَتكلم على لِسَان أهل الْحَقِيقَة وَحدث بِكِتَاب الْإِحْيَاء
قَالَ ابْن النجار وَلم يكن لَهُ إِسْنَاد وَلَا طلب شَيْئا من الحَدِيث لم أر لَهُ إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا سَيَأْتِي ذكره فِي هَذَا الْكتاب يَعْنِي تَارِيخه
قلت وَلم أره ذكر هَذَا الحَدِيث بعد ذَلِك
وَقد أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِحَدِيث من حَدِيثه سَنذكرُهُ
وَذكر الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر أَنه سمع صَحِيح البُخَارِيّ من أبي سهل مُحَمَّد ابْن عبد الله الحفصي
وَذكر عبد الغافر لَهُ مسموعات سنذكرها فِي كَلَام عبد الغافر
ثمَّ عَاد الْغَزالِيّ إِلَى خُرَاسَان ودرس بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بنيسابور مُدَّة يسيرَة وكل قلبه مُعَلّق بِمَا فتح عَلَيْهِ من الطَّرِيق
ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَدِينَة طوس وَاتخذ إِلَى جَانب دَاره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية
ووزع أوقاته على وظائف من ختم الْقُرْآن ومجالسة أَرْبَاب الْقُلُوب والتدريس لطلبة الْعلم وإدامة الصَّلَاة وَالصِّيَام وَسَائِر الْعِبَادَات إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى
ورضوانه طيب الثَّنَاء أَعلَى منزلَة من نجم السَّمَاء لَا يكرههُ إِلَّا حَاسِد أَو زنديق وَلَا يسومه بِسوء إِلَّا حائد عَن سَوَاء الطَّرِيق ينشدهم لِسَان حَاله
(وَإِن تكنفني من شرهم غسق
…
فالبدر أحسن إشراقا مَعَ الظُّلم)
(وَإِن رَأَوْا بخس فضلى حق قِيمَته
…
فالدر در وَإِن لم يشر بالقيم)
وَكَانَت وَفَاته قدس الله روحه بطوس يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخَمْسمِائة
ومشهده بهَا يزار بمقبرة الطابران
قَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كتاب الثَّبَات عِنْد الْمَمَات قَالَ أَحْمد أَخُو الإِمَام الْغَزالِيّ لماكان يَوْم الِاثْنَيْنِ وَقت الصُّبْح تَوَضَّأ أخي أَبُو حَامِد وَصلى وَقَالَ عَليّ بالكفن فَأَخذه وَقَبله وَوَضعه على عَيْنَيْهِ وَقَالَ سمعا وَطَاعَة للدخول على الْملك
ثمَّ مدرجليه واستقبل الْقبْلَة وَمَات قبل الْإِسْفَار قدس الله روحه
فَهَذِهِ تَرْجَمَة مختصرة يقنع بهَا طَالب الِاخْتِصَار وَإِذا أَبيت إِلَّا الْبسط فِي شرح حَال هَذَا النَّجْم الَّذِي تشرف الأوراق يذاكره ويعبق الْوُجُود برياه فَنَقُول