الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ وَإِنَّمَا يعرف قدره بِمِقْدَار مَا أوتيه هُوَ
وَكَانَ يَقُول لنا لَا أحد من الْأَصْحَاب يعرف قدر الشَّافِعِي كَمَا يعرفهُ الْمُزنِيّ
قَالَ وَإِنَّمَا يعرف الْمُزنِيّ من قدر الشَّافِعِي بِمِقْدَار قوى الْمُزنِيّ وَالزَّائِد عَلَيْهَا من قوى الشَّافِعِي لم يُدْرِكهُ الْمُزنِيّ
وَكَانَ يَقُول لنا أَيْضا لَا يقدر أحد النَّبِي صلى الله عليه وسلم حق قدره إِلَّا الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يعرف كل وَاحِد من مِقْدَاره بِقدر مَا عِنْده هُوَ
قَالَ فأعرف الْأمة بِقَدرِهِ أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه لِأَنَّهُ أفضل الْأمة
قَالَ وَإِنَّمَا يعرف أَبُو بكر من مِقْدَار الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم مَا تصل إِلَيْهِ قوى أبي بكر وَثمّ أُمُور تقصر عَنْهَا قواه لم يحط بهَا علمه ومحيط بهَا علم الله
ذكر كَلَام عبد الغافر الْفَارِسِي
وَأَنا أرى أَن أسوقه بِكَمَالِهِ على نَصه حرفا فَإِن عبد الغافر ثِقَة معاصر عَارِف
وَقد تخرب الحاكون لكَلَامه حزبين فَمن ناقل لبَعض الممادح وحاك لجَمِيع مَا أوردهُ مِمَّا عيب على حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ وَذَلِكَ صَنِيع من يتعصب على حجَّة الْإِسْلَام وَهُوَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ فَإِنَّهُ ذكر بعض الممادح
نقلا معجرف اللَّفْظ محكيا بِالْمَعْنَى غير مُطَابق فِي الْأَكْثَر وَلما انْتهى إِلَى مَا ذكره عبد الغافر مِمَّا عيب عَلَيْهِ اسْتَوْفَاهُ ثمَّ زَاد ووشح وَبسط وَرشح
وَمن ناقل لكل الممادح سَاكِت عَن ذكر مَا عيب بِهِ وَهُوَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وسأبحث عَن سَبَب فعله ذَلِك
وَأما أَنا فأورد جَمِيعه ثمَّ أَتكَلّم عَلَيْهِ وأسأل الله التَّوْفِيق والحماية من الْميل
قَالَ أَبُو الْحسن عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل الْخَطِيب الْفَارِسِي خطيب نيسابور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ حجَّة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين إِمَام أَئِمَّة الدّين من لم تَرَ الْعُيُون مثله لِسَانا وبيانا ونطقا وخاطرا وذكاء وطبعا
شدا طرفا فِي صباه بطوس من الْفِقْه على الإِمَام أَحْمد الراذكاني
ثمَّ قدم نيسابور مُخْتَلفا إِلَى درس إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي طَائِفَة من الشبَّان من طوس
وجد واجتهد حَتَّى تخرج عَن مُدَّة قريبَة وبذ الأقران
وَحمل الْقُرْآن وَصَارَ أنظر أهل زَمَانه وَوَاحِد أقرانه فِي أَيَّام إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَكَانَ الطّلبَة يستفيدون مِنْهُ ويدرس لَهُم ويرشدهم ويجتهد فِي نَفسه
وَبلغ الْأَمر بِهِ إِلَى أَن أَخذ فِي التصنيف
وَكَانَ الإِمَام مَعَ علو دَرَجَته وسمو عِبَارَته وَسُرْعَة جريه فِي النُّطْق وَالْكَلَام لَا يصفي نظره إِلَى الْغَزالِيّ سرا لإنافته عَلَيْهِ فِي سرعَة الْعبارَة وَقُوَّة الطَّبْع وَلَا يطيب لَهُ تصدية للتصانيف وَإِن كَانَ متخرجا بِهِ منتسبا إِلَيْهِ كَمَا لَا يخفى من طبع الْبشر وَلكنه يظْهر التبجح بِهِ والاعتداد بمكانه ظَاهرا خلاف مَا يضمره
ثمَّ بَقِي كَذَلِك إِلَى انْقِضَاء أَيَّام الإِمَام فَخرج من نيسابور وَصَارَ إِلَى المعسكر واحتل من مجْلِس نظام الْملك مَحل الْقبُول وَأَقْبل عَلَيْهِ الصاحب لعلو دَرَجَته وَظُهُور اسْمه وَحسن مناظرته وجري عِبَارَته
وَكَانَت تِلْكَ الحضرة محط رحال الْعلمَاء ومقصد الْأَئِمَّة والفصحاء فَوَقَعت للغزالي اتفاقات حَسَنَة من الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الْخُصُوم اللد ومناظرة الفحول ومنافرة الْكِبَار
وَظهر اسْمه فِي الْآفَاق وارتفق بذلك أكمل الارتفاق حَتَّى أدَّت الْحَال بِهِ إِلَى أَن رسم للمصير إِلَى بَغْدَاد للْقِيَام بتدريس الْمدرسَة الميمونة النظامية بهَا فَصَارَ إِلَيْهَا وأعجب الْكل بتدريسه ومناظرته وَمَا لَقِي مثل نَفسه وَصَارَ بعد إِمَامَة خُرَاسَان إِمَام الْعرَاق
ثمَّ نظر فِي علم الْأُصُول وَكَانَ قد أحكمها فصنف فِيهِ تصانيف
وجدد الْمَذْهَب فِي الْفِقْه فصنف فِي تصانيف
وسبك الْخلاف فحرر فِيهِ أَيْضا تصانيف
وعلت حشمته ودرجته فِي بَغْدَاد حَتَّى كَانَت تغلب حشمة الأكابر والأمراء وَدَار الْخلَافَة
فَانْقَلَبَ الْأَمر من وَجه آخر وَظهر عَلَيْهِ بعد مطالعة الْعُلُوم الدقيقة وممارسة الْكتب المصنفة فِيهَا وسلك طَرِيق التزهد والتأله وَترك الحشمة وَطرح مَا نَالَ من الدرجَة والاشتغال باسباب التَّقْوَى وَزَاد الْآخِرَة
فَخرج عَمَّا كَانَ فِيهِ وَقصد بَيت الله وَحج
ثمَّ دخل الشَّام وَأقَام فِي تِلْكَ الديار قَرِيبا من عشر سِنِين يطوف ويزور الْمشَاهد المعظمة
وَأخذ فِي التصانيف الْمَشْهُورَة الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا مثل إحْيَاء عُلُوم الدّين والكتب المختصرة مِنْهَا مثل الْأَرْبَعين وَغَيرهَا من الرسائل الَّتِي من تأملها علم مَحل الرجل من فنون الْعلم
وَأخذ فِي مجاهدة النَّفس وتغيير الْأَخْلَاق وتحسين الشَّمَائِل وتهذيب المعاش فَانْقَلَبَ شَيْطَان الرعونة وَطلب الرياسة والجاه والتخلق بالأخلاق الذميمة إِلَى سُكُون النَّفس وكرم الْأَخْلَاق والفراغ عَن الرسوم والترتيبات والتزيى بزِي الصَّالِحين وَقصر الأمل ووقف الْأَوْقَات على هِدَايَة الْخلق ودعائهم إِلَى مَا يعنيهم من أَمر الْآخِرَة وتبغيض الدُّنْيَا والاشتغال بهَا على السالكين والاستعداد للرحيل
إِلَى الدَّار الْبَاقِيَة والانقياد لكل من يتوسم فِيهِ أَو يشم مِنْهُ رَائِحَة الْمعرفَة أَو التيقظ لشَيْء من أنوار الْمُشَاهدَة حَتَّى مرن على ذَلِك ولان
ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه لَازِما بَيته مشتغلا بالتفكير ملازما للْوَقْت مَقْصُودا نفيسا وذخرا للقلوب وَلكُل من يَقْصِدهُ وَيدخل عَلَيْهِ
إِلَى أَن أَتَى على ذَلِك مُدَّة وَظَهَرت التصانيف وفشت الْكتب وَلم تبد فِي أَيَّامه مناقضة لما كَانَ فِيهِ وَلَا اعْتِرَاض لأحد على مَا آثره حَتَّى انْتَهَت نوبَة الوزارة إِلَى الْأَجَل فَخر الْملك جمال الشُّهَدَاء تغمده الله برحمته وتزينت خُرَاسَان بحشمته ودولته وَقد سمع وَتحقّق بمَكَان الْغَزالِيّ ودرجته وَكَمَال فَضله وحالته وصفاء عقيدته ونقاء سيرته فتبرك بِهِ وحضره وَسمع كَلَامه فاستدعى مِنْهُ أَن لَا يبقي أنفاسه وفوائده عقيمة لَا استفادة مِنْهَا وَلَا اقتباس من أنوارها وألح عَلَيْهِ كل الإلحاح وتشدد فِي الاقتراح إِلَى أَن أجَاب إِلَى الْخُرُوج وَحمل إِلَى نيسابور
وَكَانَ اللَّيْث غَائِبا عَن عرينه وَالْأَمر خافيا فِي مَسْتُور قَضَاء الله ومكنونه فأشير عَلَيْهِ بالتدريس فِي الْمدرسَة الميمونة النظامية عمرها الله فَلم يجد بدا من الإذغان للولاة وَنوى بِإِظْهَار مَا اشْتغل بِهِ هِدَايَة الشداة وإفادة القاصدين دون الرُّجُوع إِلَى مَا انخلع عَنهُ وتحرر عَن رقة من طلب الجاه ومماراة الأقران
ومكابرة المعاندين وَكم قرع عصاة بِالْخِلَافِ والوقوع فِيهِ والطعن فِيمَا يذره ويأتيه
والسعاية بِهِ والتشنيع عَلَيْهِ فَمَا تأثر بِهِ وَلَا اشْتغل بِجَوَاب الطاعنين وَلَا أظهر استيحاشا بغميزة المخلطين
وَلَقَد زرته مرَارًا وَمَا كنت أحدس فِي نَفسِي مَعَ مَا عهدته فِي سالف الزَّمَان عَلَيْهِ من الزعارة وإيحاش النَّاس وَالنَّظَر اليهم بِعَين الازدراء وَالِاسْتِخْفَاف بهم كبرا وخيلاء واغترارا بِمَا رزق من البسطة فِي النُّطْق والخاطر والعبارة وَطلب الجاه والعلو فِي الْمنزلَة أَنه صَار على الضِّدّ وتصفى عَن تِلْكَ الكدورات
وَكنت أَظن أَنه متلفع بجلباب التَّكَلُّف متنمس بِمَا صَار إِلَيْهِ فتحققت بعد السبر والتنقير أَن الْأَمر على خلاف المظنون وَأَن الرجل أَفَاق بعد الْجُنُون
وَحكى لنا فِي لَيَال كَيْفيَّة أَحْوَاله من ابْتِدَاء مَا ظهر لَهُ سلوك طَرِيق التأله
وغلبت الْحَال عَلَيْهِ بعد تبحره فِي الْعُلُوم واستطالته على الْكل بِكَلَامِهِ والاستعداد الَّذِي خصّه الله بِهِ فِي تَحْصِيل أَنْوَاع الْعُلُوم وتمكنه من الْبَحْث وَالنَّظَر حَتَّى تبرم من الِاشْتِغَال بالعلوم الْعرية عَن الْمُعَامَلَة
وتفكر فِي الْعَاقِبَة وَمَا يجدي وَمَا ينفع فِي الْآخِرَة فابتدأ بِصُحْبَة الفارمذي وَأخذ مِنْهُ استفتاح الطَّرِيقَة وامتثل ماكان يُشِير بِهِ عَلَيْهِ من الْقيام بوظائف الْعِبَادَات والإمعان فِي النَّوَافِل واستدامة الْأَذْكَار وَالْجد وَالِاجْتِهَاد طلبا للنجاة إِلَى أَن جَازَ تِلْكَ العقبات وتكلف تِلْكَ المشاق وَمَا تحصل على مَا كَانَ يَطْلُبهُ من مَقْصُوده
ثمَّ حكى أَنه رَاجع الْعُلُوم وخاض فِي الْفُنُون وعاود الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي كتب الْعُلُوم الدقيقة والتقى بأربابهاحتى انْفَتح لَهُ أَبْوَابهَا وَبَقِي مُدَّة فِي الوقائع وتكافؤ الْأَدِلَّة وأطراف الْمسَائِل
ثمَّ حكى أَنه فتح عَلَيْهِ بَاب من الْخَوْف بِحَيْثُ شغله عَن كل شَيْء وَحمله على الْإِعْرَاض عَمَّا سواهُ حَتَّى سهل ذَلِك
وَهَكَذَا هَكَذَا إِلَى أَن ارتاض كل الرياضة وَظَهَرت لَهُ الْحَقَائِق وَصَارَ مَا كُنَّا نظن بِهِ ناموسا وتخلقا طبعا وتحققا وَأَن ذَلِك أثر السَّعَادَة الْمقدرَة لَهُ من الله تَعَالَى
ثمَّ سألناه عَن كَيْفيَّة رغبته فِي الْخُرُوج من بَيته وَالرُّجُوع إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ من أَمر نيسابور
فَقَالَ معتذرا عَنهُ مَا كنت أجوز فِي ديني أَن أَقف عَن الدعْوَة وَمَنْفَعَة الطالبين بالإفادة وَقد حق عَليّ أَن أبوح بِالْحَقِّ وأنطق بِهِ وأدعو إِلَيْهِ
وَكَانَ صَادِقا فِي ذَلِك
ثمَّ ترك ذَلِك قبل أَن يتْرك وَعَاد إِلَيّ بَيته وَاتخذ فِي جواره مدرسة لطلبة الْعلم وخانقاه للصوفية
وَكَانَ قد وزع أوقاته على وظائف الْحَاضِرين من ختم الْقُرْآن ومجالسة أهل الْقُلُوب وَالْقعُود للتدريس بِحَيْثُ لَا تَخْلُو لَحْظَة من لحظاته ولحظات من مَعَه عَن فَائِدَة إِلَى أَن أَصَابَهُ عين الزَّمَان وضنت الْأَيَّام بِهِ على أهل عصره فنقله الله إِلَى كريم جواره بعد مقاساة أَنْوَاع من الْقَصْد والمناوأة من الْخُصُوم وَالسَّعْي بِهِ إِلَى الْمُلُوك وكفاية الله بِهِ وَحفظه وصيانته عَن أَن تنوشه أَيدي النكبات أَو ينهتك ستر دينه بِشَيْء من الزلات
وَكَانَت خَاتِمَة أمره إقباله على حَدِيث الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم ومجالسة أَهله ومطالعة الصَّحِيحَيْنِ البُخَارِيّ وَمُسلم اللَّذين هما حجَّة الْإِسْلَام وَلَو عَاشَ لسبق الْكل فِي ذَلِك الْفَنّ بِيَسِير من الْأَيَّام يستفرغه فِي تَحْصِيله
وَلَا شكّ أَنه سمع الْأَحَادِيث فِي الْأَيَّام الْمَاضِيَة واشتغل فِي آخر عمره بسماعها وَلم تتفق لَهُ الرِّوَايَة وَلَا ضَرَر فِيمَا خَلفه من الْكتب المصنفة فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَسَائِر الْأَنْوَاع تخلد ذكره وتقرر عِنْد المطالعين المستفيدين مِنْهَا أَنه لم يخلف مثله بعده
مضى إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع عشر من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخَمْسمِائة
وَدفن بِظَاهِر قَصَبَة طابران
وَالله تَعَالَى يَخُصُّهُ بأنواع الْكَرَامَة فِي آخرته كَمَا خصّه بفنون الْعلم فِي دُنْيَاهُ بمنه
وَلم يعقب إِلَّا الْبَنَات
وَكَانَ لَهُ من الْأَسْبَاب إِرْثا وكسبا مَا يقوم بكفايته وَنَفَقَة أَهله وَأَوْلَاده فَمَا كَانَ يباسط أحد فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة وَقد عرضت عَلَيْهِ أَمْوَال فَمَا قبلهَا وَأعْرض عَنْهَا وَاكْتفى بِالْقدرِ الَّذِي يصون بِهِ دينه وَلَا يحْتَاج مَعَه إِلَى التَّعَرُّض لسؤال ومنال من غَيره
وَمِمَّا كَانَ يعْتَرض بِهِ عَلَيْهِ وُقُوع خلل من جِهَة النَّحْو يَقع فِي أثْنَاء كَلَامه وروجع فِيهِ فأنصف من نَفسه واعترف بِأَنَّهُ مَا مارس ذَلِك الْفَنّ وَاكْتفى بِمَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ فِي كَلَامه مَعَ أَنه كَانَ يؤلف الْخطب ويشرح الْكتب بالعبارات الَّتِي تعجز الأدباء والفصحاء عَن أَمْثَالهَا وَأذن للَّذين يطالعون كتبه فيعثرون على خلل فِيهَا من جِهَة اللَّفْظ أَن يصلحوه ويعذروه فَمَا كَانَ قَصده إِلَّا الْمعَانِي وتحقيقها دون الْأَلْفَاظ وتلفيقها
وَمِمَّا نقم عَلَيْهِ مَا ذكر من الْأَلْفَاظ المستبشعة بِالْفَارِسِيَّةِ فِي كتاب كيمياء السَّعَادَة والعلوم وَشرح بعض الصُّور والمسائل بِحَيْثُ لَا يُوَافق مراسم الشَّرْع وظواهر مَا عَلَيْهِ قَوَاعِد الْإِسْلَام
وَكَانَ الأولى بِهِ وَالْحق أَحَق أَن يُقَال ترك ذَلِك التصنيف والإعراض عَن الشَّرْح بِهِ فَإِن الْعَوام رُبمَا لَا يحكمون أصُول الْقَوَاعِد بالبراهين والحجج فَإِذا سمعُوا شَيْئا من ذَلِك تخيلوا مِنْهُ مَا هُوَ المضر بعقائدهم وينسبون ذَلِك إِلَى بَيَان مَذَاهِب الْأَوَائِل
على أَن المُصَنّف اللبيب إِذا رَجَعَ إِلَى نَفسه علم أَن أَكثر مَا ذكره مِمَّا رمز إِلَيْهِ إشارات الشَّرْع وَإِن لم يبح بِهِ وَيُوجد أَمْثَاله فِي كَلَام مَشَايِخ الطَّرِيقَة مرموزة ومصرحا بهَا مُتَفَرِّقَة وَلَيْسَ لفظ مِنْهُ إِلَّا وكما يشْعر أحد وجوهه بِكَلَام موهم فَإِنَّهُ يشْعر سَائِر وجوهه بِمَا يُوَافق عقائد أهل الْملَّة
فَلَا يجب إِذا حمله إِلَّا على مَا يُوَافق وَلَا يَنْبَغِي أَن يتَعَلَّق بِهِ فِي الرَّد عَلَيْهِ مُتَعَلق إِذا أمكنه أَن يبين لَهُ وَجها فِي الصِّحَّة يُوَافق الْأُصُول
على أَن هَذَا الْقدر يحْتَاج إِلَى من يظهره وَكَانَ الأولى أَن يتْرك الإفصاح بذلك كَمَا تقدم مَا ذكره وَلَيْسَ كَمَا يَتَقَرَّر ويتمشى لأحد تَقْرِيره يَنْبَغِي أَن يظهره بل أَكثر الْأَشْيَاء مِمَّا يدْرِي ويطوي وَلَا يحْكى فعلى ذَلِك درج الْأَولونَ وَعبر السّلف الصالحون إبْقَاء على مراسم الشَّرْع وصيانة لمعالم الدّين عَن طعن الطاعنين وعيره المارقين الجاحدين وَالله الْمُوفق للصَّوَاب
وَقد سَمِعت أَنه سمع من سنَن أبي دَاوُد السجسْتانِي عَن الْحَاكِم أبي الْفَتْح الحاكمي الطوسي وَمَا عثرت على سَمَاعه
وَسمع من الْأَحَادِيث المتفرقة اتِّفَاقًا مَعَ الْفُقَهَاء
فمما عثرت عَلَيْهِ مَا سَمعه من كتاب لمولد النَّبِي صلى الله عليه وسلم من تأليف أبي بكر أَحْمد ابْن عَمْرو بن أبي عَاصِم الشَّيْبَانِيّ رِوَايَة الشَّيْخ أبي بكر مُحَمَّد بن الْحَارِث الْأَصْبَهَانِيّ الإِمَام عَن أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حَيَّان عَن المُصَنّف
وَقد سَمعه الإِمَام الْغَزالِيّ من الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الخواري خوار طبران رحمه الله مَعَ ابنيه الشَّيْخَيْنِ عبد الْجَبَّار وَعبد الحميد وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء
وَمن ذَلِك مَا قَالَ أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الخواري أخبرنَا أَبُو بكر بن الْحَارِث الْأَصْبَهَانِيّ أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن حَيَّان أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَمْرو بن أبي عَاصِم حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن أبي ثَابت حَدثنَا الزبير ابْن مُوسَى عَن أبي الْحُوَيْرِث قَالَ سَمِعت عبد الْملك بن مَرْوَان سَأَلَ قباث بن أَشْيَم الْكِنَانِي أَنْت أكبر أم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وَأَنا أسن مِنْهُ ولد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَام الْفِيل
وَتَمام الْكتاب فِي جزأين مسموع لَهُ
انْتهى كَلَام عبد الغافر
وَقد سَاق الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر من أَوله إِلَى قَوْله وَمِمَّا كَانَ يعْتَرض بِهِ عَلَيْهِ وَترك الْبَاقِي فعل ذَلِك فِي تَارِيخ الشَّام وَفِي كتاب التَّبْيِين
فَإِن قلت هَل ذَلِك من الْحَافِظ تعصب لَهُ كَمَا أَن مَا فعله الذَّهَبِيّ تعصب عَلَيْهِ قلت يحْتَمل أَن يكون الْأَمر كَذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون لكَونه لم ير إِشَاعَة ذَلِك عَن مثل هَذَا الإِمَام مَعَ الْقطع بِأَنَّهُ غير قَادِح فِيهِ وَأما الذَّهَبِيّ فَإِنَّهُ ذكر ذَلِك وَضم إِلَيْهِ مَا شَاءَ وسأوقفك عَلَيْهِ وسأتكلم على مَا عيب بِهِ هَذَا الإِمَام بعد نجاز الْغَرَض من ذكر مَا أَنا بصدده إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمن كَلَام المترجمين لحجة الْإِسْلَام رحمه الله وَأَكْثَرهم اجتزأ بِكَلَام عبد الغافر
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر كَانَ إِمَامًا فِي علم الْفِقْه مذهبا وَخِلَافًا وَفِي أصُول الديانَات
وَسمع صَحِيح البُخَارِيّ من أبي سهل مُحَمَّد بن عبد الله الحفصي
وَولي التدريس بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بِبَغْدَاد
ثمَّ خرج إِلَى الشَّام زائر لبيت الْمُقَدّس فَقدم دمشق فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَأقَام بهَا مُدَّة وَبَلغنِي أَنه صنف بهَا بعض مصنفاته ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَغْدَاد وَمضى إِلَى خُرَاسَان ودرس مُدَّة بطوس ثمَّ ترك التدريس والمناظرة واشتغل بِالْعبَادَة
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ فِيهِ من لم تَرَ الْعُيُون مثله لِسَانا وبيانا ونطقا وخاطرا وذكاء وطبعا
ثمَّ انْدفع فِي نَحْو مِمَّا ذكره عبد الغافر من الممادح وَلم يتَعَرَّض لذكر شَيْء من الْفَصْل الْأَخير
وَذكر أَنه استدعى بِأبي الفتيان عمر بن أبي الْحسن الرواسِي الْحَافِظ الطوسي وأكرمه وَسمع عَلَيْهِ صحيحي البُخَارِيّ وَمُسلم
قَالَ وَمَا أَظن أَنه حدث بِشَيْء وَإِن حدث فيسير لِأَن رِوَايَة الحَدِيث مَا انتشرت عَنهُ
انْتهى
وَقد أوجب لي عدم ذكره لشَيْء من الْفَصْل الْأَخير الَّذِي ذكره عبد الغافر وَكَذَلِكَ عدم ذكر ابْن عَسَاكِر لَهُ مَعَ تبري ابْن عَسَاكِر دَائِما حَيْثُ أمكنه عَن الْغَرَض وَنَقله أبدا مَاله وَمَا عَلَيْهِ وَمَعَ تعرضه لما ذكره عبد الغافر فِي الْفَصْل الْأَخير لسَمَاع الْغَزالِيّ مَا اسْمَعْهُ واقتصاره على أَنه استدعى الرواسِي لسَمَاع الصَّحِيحَيْنِ مَعَ كَون هَذَا الْفَصْل لم يذكرهُ عبد الغافر إِلَّا بعد نجاز التَّرْجَمَة وَذكر الْوَفَاة وَلَيْسَ ذَلِك بمعتاد والمعتاد ختم التراجم بالوفاه وَمَوْضِع هَذَا الْفَصْل أثْنَاء التَّرْجَمَة كل ذَلِك أَن أَظن أَنه اختلق على عبد الغافر ودس فِي كِتَابه فَالله أعلم بذلك على أَنه لَيْسَ فِيهِ كَبِير أَمر كَمَا سنبحث عَنهُ