الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ من مَنَامه وَأصْبح أعلم أَصْحَابه بِمَا جرى وَمكث قَرِيبا من الشَّهْر متألما من الضَّرْب ثمَّ سكن عَنهُ الْأَلَم وَمكث إِلَى أَن مَاتَ وَأثر السِّيَاط على ظَهره وَصَارَ ينظر كتاب الْإِحْيَاء ويعظمه ويبجله أصلا أصلا
وَهَذَا حِكَايَة صحيحة حَكَاهَا لنا جمَاعَة من ثِقَات مشيختنا عَن الشَّيْخ الْعَارِف ولي الله ياقوت الشاذلي عَن شَيْخه السَّيِّد الْكَبِير ولي الله تَعَالَى أبي الْعَبَّاس المرسي عَن شَيْخه الشَّيْخ الْكَبِير ولي الله أبي الْحسن الشاذلي رَحِمهم الله تَعَالَى أَجْمَعِينَ
رِسَالَة الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام رضي الله عنه الَّتِي كتبهَا إِلَى بعض أهل عصره
وَنَصهَا {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين
وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا الْمُرْسلين سيدنَا مُحَمَّد وَآله وصحبة أَجْمَعِينَ
أما بعد فقد انتسخ بيني وَبَين الشَّيْخ الْأَجَل مُعْتَمد الْملك أَمِين الدولة حرس الله تأييده بِوَاسِطَة القَاضِي الْجَلِيل الإِمَام مَرْوَان زَاده الله تَوْفِيقًا من الوداد وَحسن الِاعْتِقَاد مَا يجْرِي مجْرى الْقَرَابَة وَيَقْتَضِي دوَام الْمُكَاتبَة والمواصلة وَإِنِّي لَا أَصله بصلَة
هِيَ أفضل من نصيحة توصله إِلَى الله وتقربه لرَبه زلفى وتحله الفردوس الْأَعْلَى
فالنصيحة هِيَ هَدِيَّة الْعلمَاء وَإنَّهُ لن يهدي إِلَى تحفة أكْرم من قبُوله لَهَا وإصغائه بقلب فارغ عَن ظلمات الدُّنْيَا إِلَيْهَا
وَإِنِّي أحذره إِذا ميزت عِنْد أَرْبَاب الْقُلُوب أَحْرَار النَّاس أَن يكون إِلَّا فِي زمرة الْكِرَام الأكياس فقد قيل لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أكْرم النَّاس
فَقَالَ (أَتْقَاهُم)
فَقيل من أَكيس النَّاس
فَقَالَ (أَكْثَرهم للْمَوْت ذكراو أَشَّدهم لَهُ اسْتِعْدَادًا)
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت والأحمق من أتبع نَفسه هَواهَا وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة)
وَأَشد النَّاس غباوة وجهلا من تهمه أُمُور دُنْيَاهُ الَّتِي يختطفها عَنهُ الْمَوْت وَلَا يهمه أَن يعرف أَنه من أهل الْجنَّة أَو النَّار وَقد عرفه الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم}
وَقَالَ {فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا} الْآيَة
وَقَالَ {من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} إِلَى قَوْله {وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ}
وَإِنِّي أوصيه أَن يصرف هَذَا المهم همته وَأَن يُحَاسب نَفسه قبل أَن يُحَاسب ويراقب سَرِيرَته وقصده وهمته وأفعاله وأقواله وإصداره وإيراده أَهِي مَقْصُورَة على مَا يقربهُ من الله تَعَالَى ويوصله إِلَى سَعَادَة الْأَبَد أَو هِيَ مصروفة إِلَى مَا يعمر دُنْيَاهُ ويصلحها لَهُ إصلاحا منغصا مشوبا بالكدورات مشحونا بالهموم والغموم ثمَّ يختمها بالشقاوة وَالْعِيَاذ بِاللَّه
فليفتح عَن بصيرته لتنظر نفس مَا قدمت لغد وليعلم أَنه لَا مُشفق وَلَا نَاظر لنَفسِهِ سواهُ
وليتدبر مَا هُوَ بصدده
فَإِن كَانَ مَشْغُولًا بعمارة ضَيْعَة فَلْينْظر كم من قُرَّة أهلكها الله تَعَالَى وَهِي ظالمة فَهِيَ خاوية على عروشها بعد عمارتها
وَإِن كَانَ مُقبلا على اسْتِخْرَاج مَاء وَعمارَة نهر فليفكر كم من بِئْر معطلة وَقصر مشيد بعد عمارتها
وَإِن كَانَ مهتما بتأسيس بِنَاء فَلْيتَأَمَّل كم من قُصُور مشيدة الْبُنيان محكمَة الْقَوَاعِد والأركان أظلمت بعد سكانها
وَإِن كَانَ معتنيا بعمارة الحدائق الْبَسَاتِين فليعتبر {كم تركُوا من جنَّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة} الْآيَة وليقرأ قَوْله {أَفَرَأَيْت إِن متعناهم سِنِين ثمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يوعدون مَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يمتعون}
وَإِن كَانَ مشغوفا وَالْعِيَاذ بِاللَّه بِخِدْمَة سُلْطَان فليذكر مَا ورد فِي الْخَبَر أَنه يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة أَيْن الظلمَة وأعوانهم فَلَا يبْقى أحد مِنْهُم مد لَهُم دَوَاة وبرى لَهُم قَلما فَمَا فَوق ذَلِك إِلَّا أحضروا فَيجْمَعُونَ فِي تَابُوت من نَار فيلقون فِي جَهَنَّم
وعَلى الْجُمْلَة فَالنَّاس كلهم إِلَّا من عصم الله نسوا الله فنسيهم وأعرضوا عَن التزود للآخرة وَأَقْبلُوا على طلب أَمريْن الجاه وَالْمَال فَإِن كَانَ هُوَ فِي طلب جاه ورياسة فليتذكر مَا ورد بِهِ الْخَبَر أَن الْأُمَرَاء يحشرون يَوْم الْقِيَامَة فِي صور الذَّر تَحت أَقْدَام النَّاس يطؤونهم بأقدامهم
وليقرأ مَا قَالَه تَعَالَى فِي كل متكبر جَبَّار
وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (يكْتب الرجل جبارا وَمَا يملك إِلَّا أهل بَيته) أَي إِذا طلب الرياسة بَينهم وتكبر عَلَيْهِم وَقد قَالَ عليه السلام (مَا ذئبان ضاريان أرسلا فِي زريبة غنم بِأَكْثَرَ فَسَادًا من حب الشّرف فِي دين الرجل الْمُسلم)
وَإِن كَانَ فِي طلب المَال وَجمعه فَلْيتَأَمَّل قَول عِيسَى عليه السلام يَا معشر الحواريين الْعين مَسَرَّة فِي الدُّنْيَا مضرَّة فِي الْآخِرَة بِحَق أَقُول لَا يدْخل الْأَغْنِيَاء ملكوت السَّمَاء
وَقد قَالَ نَبيا صلى الله عليه وسلم (يحْشر الْأَغْنِيَاء يَوْم الْقِيَامَة أَربع فرق رجل جمع مَالا من حرَام وأنفقه فِي حرَام فَيُقَال اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار وَرجل جمع مَال من حرَام وأنفقه فِي حَلَال فَيُقَال اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار
وَرجل جمع مَالا من حَلَال وأنفقه فِي حرَام فَيُقَال اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار وَرجل جمع مَالا من حَلَال وأنفقه فِي حَلَال فَيُقَال قفوا هَذَا واسألوه لَعَلَّه ضيع بِسَبَب غناهُ فِيمَا فرضناه عَلَيْهِ أوقصر فِي صلَاته أَو فِي وضوئها أَو فِي سجودها أَو خشوعها أَو ضيع شَيْئا من فرض الزَّكَاة وَالْحج فَيَقُول الرجل جمعت المَال من حَلَال وأنفقته فِي حَلَال وَمَا صنيعت شَيْئا من حُدُود الْفَرَائِض بل أتيتها بِتَمَامِهَا قيقال لَعَلَّك باهيت واختلت فِي شَيْء من ثِيَابك فَيَقُول يارب مَا باهيت بِمَالي وَلَا اختلت فِي ثِيَابِي فَيُقَال لَعَلَّك فرطت فِيمَا أمرناك من صلَة الرَّحِم وَحقّ الْجِيرَان وَالْمَسَاكِين وَقصرت فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير والتفضيل وَالتَّعْدِيل ويحيط هَؤُلَاءِ بِهِ فَيَقُولُونَ رَبنَا أغنيته بَين أظهرنَا وأحوجتنا إِلَيْهِ فقصر فِي حَقنا فَإِن ظهر تَقْصِير ذهب بِهِ إِلَى النَّار وَإِلَّا قيل لَهُ قف هَات الْآن شكر كل نعْمَة وكل شربة وكل أَكلَة وكل لَذَّة فَلَا يزَال يسْأَل وَيسْأل)
فَهَذِهِ حَال الْأَغْنِيَاء الصَّالِحين المصلحين القائمين بِحُقُوق الله تَعَالَى أَن يطول وقوفهم فِي العرصات فَكيف حَال المفرطين المنهمكين فِي الْحَرَام والشبهات والمكاثرين بِهِ
المتنعمين بشهواتهم الَّذين قيل فيهم {أَلْهَاكُم التكاثر حَتَّى زرتم الْمَقَابِر}
فَهَذِهِ المطالب الْفَاسِدَة هِيَ الَّتِي استولت على قُلُوب الْخلق فسخرها للشَّيْطَان وَجعلهَا ضحكة لَهُ فَعَلَيهِ وعَلى كل مُسْتَمر فِي عَدَاوَة نَفسه أَن يتَعَلَّم علاج هَذَا الْمَرَض الَّذِي حل بالقلوب
فعلاج مرض الْقلب أهم من علاج مرض الْأَبدَان وَلَا ينجو إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم
وَله دواءان أَحدهمَا مُلَازمَة ذكر الْمَوْت وَطول التَّأَمُّل فِيهِ مَعَ الِاعْتِبَار بخاتمة الْمُلُوك وأرباب الدُّنْيَا أَنهم كَيفَ جمعُوا كثيرا وبنوا قصورا وفرحوا بالدنيا بطرا وغرورا فَصَارَت قصورهم قبورا وَأصْبح جمعهم هباء منثورا {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} {أولم يهد لَهُم كم أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم إِن فِي ذَلِك لآيَات أَفلا يسمعُونَ} فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة تشهد بِلِسَان حَالهَا على غرور عمالها
فَانْظُر الْآن فِي جَمِيعهم {هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا}
الدَّوَاء الثَّانِي تدبر كتاب الله تَعَالَى فَفِيهِ شِفَاء وَرَحْمَة للْعَالمين
وَقد أوصى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بملازمة هذَيْن الواعظين فَقَالَ (تركت فِيكُم واعظين صامتا وناطقا والصامت الْمَوْت والناطق الْقُرْآن)
وَقد أصبح أَكثر النَّاس أَمْوَاتًا عَن كتاب الله تَعَالَى وَإِن كَانُوا أَحيَاء فِي مَعَايشهمْ وبكما عَن كتاب الله تَعَالَى وَإِن كَانُوا يتلونه بألسنتهم وصما عَن سَمَاعه وَإِن كَانُوا يسمعونه بآذانهم وعميا عَن عجائبه وَإِن كَانُوا ينظرُونَ إِلَيْهِ فِي صحائفهم ومصاحفهم نائمين عَن أسراره وَإِن كَانُوا يشرحونه عَن تفاسيرهم
فاحذر أَن تكون مِنْهُم وتدبر أَمرك وَأمر من لم يتدبر كَيفَ يقوم ويحشر وَانْظُر فِي أَمرك وَأمر من لم ينظر فِي أَمر نَفسه كَيفَ خَابَ عِنْد الْمَوْت وخسر واتعظ بِآيَة وَاحِدَة من كتاب الله فَفِيهِ مقنع وبلاغ لكل ذِي بَصِيرَة قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون} إِلَى آخرهَا
وَإِيَّاك ثمَّ إياك أَن تشتغل بِجمع المَال فَإِن فرحك بِهِ ينسيك أَمر الْآخِرَة وَينْزع حلاوة الْإِيمَان من قَلْبك
قَالَ عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه لَا تنظروا إِلَى أَمْوَال أهل الدُّنْيَا فَإِن بريق أَمْوَالهم يذهب بحلاوة إيمَانكُمْ
وَهَذِه ثَمَرَة مُجَرّد النّظر فَكيف عَاقِبَة الْجمع والطغيان وَالنَّظَر وَأما القَاضِي الْجَلِيل الإِمَام مَرْوَان أَكثر الله فِي أهل الْعلم أَمْثَاله فَهُوَ قُرَّة الْعين وَقد جمع بَين الفضلين الْعلم وَالتَّقوى وَلَكِن الإستتمام بالدوام وَلَا يتم الدَّوَام إِلَّا بمساعدة
من جِهَته ومعاونة لَهُ عَلَيْهِ فِيمَا يزِيد فِي رغبته وَمن أنعم الله عَلَيْهِ بِمثل هَذَا الْوَلَد النجيب فَيَنْبَغِي أَن يَتَّخِذهُ ذخْرا للآخرة ووسيلة عِنْد الله تَعَالَى وَأَن يسْعَى فِي فرَاغ قلبه لعبادة الله تَعَالَى وَلَا يقطع عَلَيْهِ الطَّرِيق إِلَى الله تَعَالَى
وَأول الطَّرِيق إِلَى الله طلب الْحَلَال والقناعة بِقدر الْقُوت من المَال وسلوك سَبِيل التَّوَاضُع والخمول والنزوع عَن رعونات أهل الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مصائد الشَّيْطَان
هَذَا مَعَ الْهَرَب عَن مخالطه الْأُمَرَاء والسلاطين فَفِي الْخَبَر إِن الْفُقَهَاء أُمَنَاء الله مَا لم يدخلُوا فِي الدُّنْيَا فَإِذا دخلوها فاتهموهم على دينكُمْ
وَهَذِه أُمُور قد هداه الله إِلَيْهَا ويسرها عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يمده ببركة الرِّضَا ويمده بِالدُّعَاءِ فدعاء الْوَالِد أعظم ذخْرا وعدة فِي الْآخِرَة وَالْأولَى
وَيَنْبَغِي أَن أَن تَقْتَضِي بِهِ فِيمَا يؤثره من النُّزُوع عَن الدُّنْيَا
فَالْوَلَد وَإِن كَانَ فرعا فَرُبمَا صَار بمزيد الْعلم أصلا وَلذَلِك قَالَ إِبْرَاهِيم عليه السلام {يَا أَبَت إِنِّي قد جَاءَنِي من الْعلم مَا لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا}
وليجتهد أَن يجْبر تَقْصِيره فِي الْقِيَامَة بتوقيره وَلَده الَّذِي هُوَ فلذة كبده فأعظم حسرة أهل النَّار فقدهم فِي الْقِيَامَة حميما يشفع لَهُم قَالَ الله تَعَالَى {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَا هُنَا حميم}