الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَن يحسن الظَّن بِجَمِيعِ الصَّحَابَة ويثنى عَلَيْهِم كَمَا أثنى الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
فَكل ذَلِك مِمَّا وَردت بِهِ السّنة وَشهِدت بِهِ الْآثَار فَمن اعْتقد جَمِيع ذَلِك موقنا بِهِ كَانَ من أهل الْحق وعصابة السّنة وَفَارق رَهْط الضلال والبدعة
فنسأل الله تَعَالَى كَمَال الْيَقِين والثبات فِي الدّين لنا ولكافة الْمُسلمين إِنَّه أرْحم الرَّاحِمِينَ
وصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ
ذكر كَلَام الطاعنين على هَذَا الإِمَام ورده وَنقض عرى باطله وهده
قَالَ الإِمَام أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ الْمَالِكِي مجيبا لمن سَأَلَهُ عَن حَال كتاب إحْيَاء عُلُوم الدّين ومصنفه هَذَا الرجل يَعْنِي الْغَزالِيّ وَإِن لم أكن قَرَأت كِتَابه فقد رَأَيْت تلامذته وَأَصْحَابه فَكل مِنْهُم يَحْكِي لي نوعا من حَاله وطريقته فأتلوح بهَا من مذْهبه وَسيرَته ماقام لي مقَام العيان
فَأَنا أقتصر على ذكر حَال الرجل وَحَال كِتَابه وَذكر جمل من مَذَاهِب الْمُوَحِّدين والفلاسفة والمتصوفة وَأَصْحَاب الإشارات فَإِن كِتَابه مُتَرَدّد بَين هَذِه الطرائق لَا يعدوها
ثمَّ أتبع ذَلِك بِذكر حيل أهل مَذْهَب على أهل مَذْهَب آخر
ثمَّ أبين عَن طرق الْغرُور وأكشف عَمَّا دفن من حبال الْبَاطِل ليحذر من الْوُقُوع فِي حبالة صائدة
ثمَّ أثنى على الْغَزالِيّ فِي الْكَشْف وَقَالَ هُوَ أعرف بالفقه مِنْهُ بأصوله وَأما علم الْكَلَام الَّذِي هُوَ أصُول الدّين فَإِنَّهُ صنف فِيهِ أَيْضا وَلَيْسَ بالمستبحر فِيهَا وَلَقَد فطنت لسَبَب عدم استبحاره فِيهَا وَذَلِكَ أَنه قَرَأَ علم الفلسفة قبل استبحاره فِي فن أصُول الدّين فكسبته قِرَاءَة الفلسفة جَرَاءَة على الْمعَانِي وتسهيلا للهجوم على الْحَقَائِق لِأَن الفلاسفة تمر مَعَ خواطرها وَلَيْسَ لَهَا حكم شرع ترعاه وَلَا تخَاف من مُخَالفَة أَئِمَّة تتبعها
وعرفني بعض أَصْحَابه أَنه كَانَ لَهُ عكوف على رسائل إخْوَان الصَّفَا وَهِي إِحْدَى وَخَمْسُونَ رِسَالَة ومصنفها فيلسوف قد خَاضَ فِي علم الشَّرْع وَالْعقل فمزج مَا بَين العلمين وَذكر الفلسفة وحسنها فِي قُلُوب أهل الشَّرْع بِأَبْيَات يتلوها عِنْدهَا وَأَحَادِيث يذكرهَا ثمَّ كَانَ فِي هَذَا الزَّمَان الْمُتَأَخر رجل من الفلاسفة يعرف بِابْن سينا مَلأ الدُّنْيَا تآليف فِي علم الفلسفة وَهُوَ فِيهَا إِمَام كَبِير وَقد أدته قوته فِي الفلسفة إِلَى أَن حاول رد أصُول العقائد إِلَى علم الفلسفة وتلطف جهده حَتَّى تمّ لَهُ مَا لم يتم لغيره وَقد رَأَيْت جملا من دواوينه وَرَأَيْت هَذَا الْغَزالِيّ يعول عَلَيْهِ فِي أَكثر مَا يُشِير عَلَيْهِ من الفلسفة
ثمَّ قَالَ وَأما مَذَاهِب الصُّوفِيَّة فلست أَدْرِي على من عول فِيهَا
ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَنه عول على أبي حَيَّان التوحيدي
ثمَّ ذكر توهية أَكثر مَا فِي الْإِحْيَاء من الْأَحَادِيث وَقَالَ عَادَة المتورعين أَن لَا يَقُولُوا قَالَ مَالك قَالَ الشَّافِعِي فيما لم يثبت عِنْدهم
ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَنه يستحسن أَشْيَاء مبناها على مَا لا حَقِيقِيَّة لَهُ مثل قَوْله فِي قصّ الْأَظْفَار أَن تبدأ بالسبابة لِأَن لَهَا الْفضل على بَقِيَّة الْأَصَابِع لكَونهَا المسبحة إِلَى أخر مَا ذكر من الْكَيْفِيَّة وَذكر فِيهِ أثرا
وَقَالَ من مَاتَ بعد بُلُوغه وَلم يعلم أَن الْبَارِي قديم مَاتَ مُسلما إِجْمَاعًا
قَالَ وَمن تساهل فِي حِكَايَة هَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي الْأَقْرَب أَن يكون فِيهِ الْإِجْمَاع بعكس مَا قَالَ فحقيق أَن لَا يوثق بِمَا نقل
وَقد رَأَيْت لَهُ أَنه ذكر أَن فِي علومه هَذِه مَا لَا يسوغ أَن يودع فِي كتاب فليت شعري أَحَق هُوَ أَو بَاطِل فَإِن كَانَ بَاطِلا فَصدق وَإِن كَانَ حَقًا وَهُوَ مُرَاده بِلَا شكّ فَلم لَا يودع فِي الْكتب ألغموضه ودقته
قَالَ فَإِن كَانَ هُوَ فَمَا الْمَانِع أَن يفهمهُ عَلَيْهِ
هَذَا ملخص كَلَام الْمَازرِيّ
وَسَبقه إِلَى قريب مِنْهُ من الْمَالِكِيَّة أَبُو الْوَلِيد الطرطوشي فَذكر فِي رِسَالَة
إِلَى ابْن مظفر فَأَما مَا ذكرت من أَمر الْغَزالِيّ فَرَأَيْت الرجل وكلمته فرأيته رجلا من أهل الْعلم قد نهضت بِهِ فضائله وَاجْتمعَ فِيهِ الْعقل والفهم وممارسة الْعُلُوم طول زَمَانه
ثمَّ بدا لَهُ الِانْصِرَاف عَن طَرِيق الْعلمَاء وَدخل فِي غمار الْعمَّال
ثمَّ تصوف فَهجر الْعُلُوم وَأَهْلهَا وَدخل فِي عُلُوم الخواطر وأرباب الْقُلُوب ووساوس الشَّيْطَان
ثمَّ شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج وَجعل يطعن على الْفُقَهَاء والمتكلمين
وَلَقَد كَاد يَنْسَلِخ من الدّين فَلَمَّا عمل الْإِحْيَاء عمد يتَكَلَّم فِي عُلُوم الْأَحْوَال ومرامز الصُّوفِيَّة وَكَانَ غير أنيس بهَا وَلَا خَبِير بمعرفتها فَسقط على أم رَأسه وشحن كِتَابه بالموضوعات
انْتهى
وَأَنا أَتكَلّم على كَلَامهمَا ثمَّ أذكر كَلَام غَيرهمَا وأتعقبه أَيْضا وأجتهد أَن لَا أَتعدى طور الْإِنْصَاف وَأَن لَا يلحقني عرق الحمية والاعتساف
وأسأل الله الْإِمْدَاد بذلك والإسعاف فَمَا أحد مِنْهُم معاصرا لنا وَلَا قَرِيبا وَلَا بَيْننَا إِلَّا وصلَة الْعلم ودعوة الْخلق إِلَى جناب الْحق فَأَقُول أما الْمَازرِيّ فَقبل الْخَوْض مَعَه فِي الْكَلَام أقدم لَك مُقَدّمَة وَهِي أَن هَذَا الرجل كَانَ من أذكى المغاربة قريحة وأحدهم ذهنا بِحَيْثُ اجترأ على شرح الْبُرْهَان لإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ لغز الْأمة الَّذِي لَا يحوم نَحْو حماه وَلَا يدندن حول مغزاة إِلَّا غواص على الْمعَانِي ثاقب الذِّهْن مبرز فِي الْعلم
وَكَانَ مصمما على مقالات الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ رضي الله عنه جليلها وحقيرها كبيرها وصغيرها لَا يتعداها ويبدع من خَالفه وَلَو فِي النزر الْيَسِير وَالشَّيْء الحقير
ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك مالكي الْمَذْهَب شَدِيد الْميل إِلَى مذْهبه كثير المناضلة عَنهُ
وَهَذَانِ الإمامان أَعنِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ وتلميذه الْغَزالِيّ وصلا من التَّحْقِيق وسعة الدائرة فِي الْعلم إِلَى الْمبلغ الَّذِي يعرف كل منصف بِأَنَّهُ مَا انْتهى إِلَيْهِ أحد بعدهمَا وَرُبمَا خالفا أَبَا الْحسن فِي مسَائِل من علم الْكَلَام وَالْقَوْم أَعنِي الأشاعرة لَا سِيمَا المغاربة مِنْهُم يستصعبون هَذَا الصنع وَلَا يرَوْنَ مُخَالفَة أبي الْحسن فِي نقير وَلَا قطمير وكأنما عناه الْغَزالِيّ بقوله
…
وَرُبمَا ضعفا مَذْهَب مَالك فِي كثير من الْمسَائِل كَمَا فعلا فِي مَسْأَلَة الْمصَالح الْمُرْسلَة وَعند ذكر التَّرْجِيح بَين الْمذَاهب
فهذان أَمْرَانِ نفر الْمَازرِيّ مِنْهُمَا وينضم إِلَى ذَلِك أَن الطّرق شَتَّى مُخْتَلفَة وَقل مَا رَأَيْت سالك طَرِيق إِلَّا ويستقبح الطَّرِيق الَّتِي لم يسلكها وَلم يفتح عَلَيْهِ من قبلهَا وَيَضَع عِنْد ذَلِك من غَيره لَا ينجو من ذَلِك إِلَّا الْقَلِيل من أهل الْمعرفَة والتمكين
وَلَقَد وجدت هَذَا واعتبرته حَتَّى فِي مَشَايِخ الطَّرِيقَة
وَلَا يخفى أَن طَريقَة الْغَزالِيّ التصوف والتعمق فِي الْحَقَائِق ومحبة إشارات الْقَوْم وَطَرِيقَة الْمَازرِيّ الجمود على الْعبارَات الظَّاهِرَة وَالْوُقُوف مَعهَا وَالْكل حسن وَللَّه الْحَمد إِلَّا أَن اخْتِلَاف الطَّرِيقَيْنِ يُوجب تبَاين المزاجين وَبعد مابين القلبين
لَا سِيمَا وَقد انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ من الْمُخَالفَة فِي الْمَذْهَب وتوهم الْمَازرِيّ أَنه يضع من مذْهبه وَأَنه يُخَالف شيخ السّنة أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ حَتَّى رَأَيْته أَعنِي الْمَازرِيّ قَالَ فِي شرح الْبُرْهَان فِي مَسْأَلَة خَالف فِيهَا إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَلَيْسَت من الْقَوَاعِد الْمُعْتَبرَة وَلَا الْمسَائِل المهمة من خطأ شيخ السّنة أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ فَهُوَ المخطأ وَأطَال فِي هَذَا
وَقَالَ فِي الْكَلَام على مَاهِيَّة الْعقل فِي أَوَائِل الْبُرْهَان وَقد حكى عَن الْأَشْعَرِيّ أَنه يَقُول الْعقل هُوَ الْعلم وَأَن الإِمَام رضي الله عنه قَالَ مقَالَة الْحَارِث المحاسبي إِنَّه غريزة بعد أَن كَانَ فِي الشَّامِل ينكرها وَإنَّهُ إِنَّمَا رضيها لكَونه فِي آخر عمره قرع بَاب قوم آخَرين يُشِير إِلَى الفلاسفة
فليت شعري مَا فِي هَذِه الْمقَالة مِمَّا يدل على ذَلِك
وأعجب من هَذَا أَنه أَعنِي الْمَازرِيّ فِي أخر كَلَامه اعْترف بِأَن الإِمَام لَا ينحو نحوهم وَأخذ يجل من قدرَة وَله من هَذَا الْجِنْس كثير
فَهَذِهِ أُمُور توجب التنافر بَينهم وَتحمل الْمنصف على أَن لَا يسمع كَلَام الْمَازرِيّ فيهمَا إِلَّا بعد حجَّة ظَاهِرَة
وَلَا تحسب أننا نَفْعل ذَلِك إزراء بالمازري وحطا من قدره لَا وَالله بل بَينا بطرِيق الْوَهم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مَعْذُور فَإِن الْمَرْء إِذا ظن بشخص سوءا قَلما أمعن بعد ذَلِك فِي النّظر إِلَى كَلَامه بل يصير بِأَدْنَى لمحة أدلت يحمل أمره على السوء وَيكون مخطئا فِي ذَلِك إِلَّا من وفْق الله تَعَالَى مِمَّن برىء عَن الْأَغْرَاض وَلم يظنّ إِلَّا
الْخَيْر وَتوقف عِنْد سَماع كل كلمة وَذَلِكَ مقَام لم يصل إِلَيْهِ إِلَّا الْآحَاد من الْخلق وَلَيْسَ الْمَازرِيّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هذَيْن الْإِمَامَيْنِ من هَذَا الْقَبِيل
وَقد رَأَيْت فعله فِي حق إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي مَسْأَلَة الاسترسال الَّتِي حكيناها فِي تَرْجَمَة الإِمَام فِي الطَّبَقَة الرَّابِعَة وَكَيف وهم على الإِمَام وَفهم عَنهُ مَالا يفهمهُ عَنهُ الْعَوام وَفَوق نَحوه سِهَام الملام
إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَأَقُول إِن مَا ادَّعَاهُ من أَنه عرف مذْهبه بِحَيْثُ قَامَ لَهُ مقَام العيان هُوَ كَلَام عَجِيب فَإنَّا لَا نستجير أَن نحكم على عقيدة أحد بِهَذَا الحكم فَإِن ذَلِك لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الله وَلنْ تَنْتَهِي إِلَيْهِ القوانين وَالْأَخْبَار أبدا
وَقد وقفنا نَحن على غَالب كَلَام الْغَزالِيّ وتأملنا كتب أَصْحَابه الَّذين شاهدوه وتناقلوا أخباره وهم بِهِ أعراف من الْمَازرِيّ ثمَّ لم ننته إِلَى أَكثر من غَلَبَة الظَّن بِأَنَّهُ رجل أشعري المعتقد خَاضَ فِي كَلَام الصُّوفِيَّة
وَأما قَوْله وَذكر جملا من مَذَاهِب الْمُوَحِّدين والفلاسفة والمتصوفة وَأَصْحَاب الإشارات فَأَقُول إِن عني بالموحدين الَّذين يوحدون الله فالمسلمون أول دَاخل فيهم ثمَّ عطف الصُّوفِيَّة عَلَيْهِم يُوهم أَنهم لَيْسُوا مُسلمين وحاشا لله
وَإِن عني بِهِ أهل التَّوَكُّل على الله فهم من خير فرق الصُّوفِيَّة الَّذين هم من خير الْمُسلمين فَمَا وَجه عطف الصُّوفِيَّة عَلَيْهِم بعد ذَلِك
وَإِن أَرَادَ أهل الْوحدَة الْمُطلقَة الْمَنْسُوب كثير مِنْهُم إِلَى الْإِلْحَاد والحلول فمعاذ الله لَيْسَ الرجل فِي هَذَا الصوب وَهُوَ مُصَرح بتكفير هَذِه الفئة وَلَيْسَ فِي كِتَابه شَيْء من معتقداتهم
وَأما قَوْله الْغَزالِيّ لَيْسَ بالمتبحر فِي علم الْكَلَام فَأَنا أوافقه على ذَلِك لكني أَقُول إِن قدمه فِيهِ راسخ وَلَكِن لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قدمه فِي بَقِيَّة علومه هَذَا ظَنِّي
وَأما قَوْله إِنَّه اشْتغل فِي الفلسفة قبل استبحاره فِي فن الْأُصُول فَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل لم ينظر فِي الفلسفة إِلَّا بعد مَا استبحر فِي فن الْأُصُول وَقد أَشَارَ هُوَ أَعنِي الْغَزالِيّ إِلَى ذَلِك فِي كِتَابه المنقذ من الضلال وَصرح بِأَنَّهُ توغل فِي علم الْكَلَام قبل الفسلفة
ثمَّ قَول الْمَازرِيّ قَرَأَ علم الفلسفة قبل استبحاره فِي علم الْأُصُول بعد قَوْله إِنَّه لم يكن بالمستبحر فِي الْأُصُول كَلَام يُنَاقض أَوله آخِره
وَأما دَعْوَاهُ أَنه تجرأ على الْمعَانِي فَلَيْسَتْ لَهُ جرْأَة إِلَّا حَيْثُ دله الشَّرْع ويدعى خلاف ذَلِك من لَا يعرف الْغَزالِيّ ولايدري مَعَ من يتحدث
وَمن الْجَهْل بِحَالهِ دَعْوَى أَنه اعْتمد على كتب أبي حَيَّان التوحيدي وَالْأَمر بِخِلَاف ذَلِك وَلم يكن عمدته فِي الْإِحْيَاء بعد معارفة وعلومه وتحقيقاته الَّتِي جمع بهَا شَمل الْكتاب ونظم بهَا محاسنه إِلَّا على كتاب قوت الْقُلُوب لأبي طَالب الْمَكِّيّ وَكتاب الرسَالَة للأستاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي الْمجمع على جلالتهما وجلالة مصنفيهما
وَأما ابْن سينا فالغزالي يكفره فَكيف يُقَال إِنَّه يقْتَدى بِهِ
وَلَقَد صرح فِي كتاب المنقذ من الضلال أَنه لَا شيخ لَهُ فِي الفلسفة وسنحكي كَلَامه فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقَوله لَا أَدْرِي على من عول فِي التصوف
قلت عول على كتاب الْقُوت والرسَالَة مَعَ مَا ضم إِلَيْهِمَا من كَلَام مشايخه أَي على العلائي وَأَمْثَاله وَمَعَ مَا زَاده من قبل نَفسه بفكره وَنَظره
وَمَا فتح بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدِي أغلب مَا فِي الْكتاب وَلَيْسَ فِي الْكتاب للفلاسفة مدْخل وَلم يصنفه إِلَّا بعد مَا ازدرى علومهم وَنهى عَن النّظر فِي كتبهمْ وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي غير مَوضِع من الْإِحْيَاء
ثمَّ فِي كتاب المنقذ من الضلال مَا نَصه ثمَّ إِنِّي لما ابتدأت بعد الْفَرَاغ من علم الْكَلَام بِعلم الفلسفة وَعلمت يَقِينا أَنه لَا يقف على فَسَاد نوع من الْعُلُوم من لَا يقف على مُنْتَهى ذَلِك الْعلم حَتَّى يُسَاوِي أعلمهم فِي أصل الْعلم ثمَّ يزِيد عَلَيْهِ ويجاوز دَرَجَته فَيطلع على مَا لم يطلع عَلَيْهِ صَاحب الْعلم من غور وغائلة فَإذْ ذَاك يُمكن أَن يكون مَا يَدعِيهِ من فَسَاده حَقًا وَلم أر أحدا من عُلَمَاء الْإِسْلَام وَجه عنايته إِلَى ذَلِك وَلم يكن فِي كتب الْمُتَكَلِّمين من كَلَامهم حَيْثُ اشتغلوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِم إِلَّا كَلِمَات معقدة مبددة ظَاهِرَة النتاقض وَالْفساد وَلَا يظنّ الِاعْتِرَاف بهَا عَاقل عَامي فضلا عَمَّن يَدعِي دقائق الْعُلُوم
فَعلمت أَن رد هَذَا الْمَذْهَب قبل فهمه والاطلاع على كنهه يَرْمِي فِي عماية فشمرت عَن سَاق الْجد فِي تَحْصِيل ذَلِك الْعلم من الْكتب بِمُجَرَّد المطالعة من غير استعانة بأستاذ وَتعلم
فَأَقْبَلت على ذَلِك فِي أَوْقَات فراغي من التدريس والتصنيف فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَأَنا مهتم بالتدريس والإفادة لبل غلَّة نفر من الطّلبَة بِبَغْدَاد فأطلعني الله تَعَالَى
بِمُجَرَّد المطالعة فِي هَذِه الْأَوْقَات على مُنْتَهى علومهم فِي أقل من سنتَيْن
ثمَّ لم أزل أواظب على التفكر فِيهِ بعد فهمه قَرِيبا من سنة أعاوده وأراودوه وأتفقد غوائله وأغواره حَتَّى اطَّلَعت على مَا فِيهِ من خداع وتلبيس وَتَحْقِيق وتحيل اطلاعا لم أَشك فِيهِ
فاسمع الْآن حكايتي وحكاية حَاصِل علومهم فَإِنِّي رَأَيْت أصنافا وَرَأَيْت علومهم أقساما وهم على كَثْرَة أصنافهم تلزمهم وجهة الْكفْر والإلحاد وَإِن كَانَ بَين القدماء مِنْهُم والأقدمين والأواخر مِنْهُم والأوائل تفَاوت عَظِيم فِي الْبعد عَن الْحق والقرب مِنْهُ
انْتهى
وَقَالَ بعده فصل فِي بَيَان أصنافهم وشمول سمة الْكفْر كافتهم
واندفع فِي ذَلِك
فَهَذَا رجل يُنَادي على كَافَّة الفلاسفة بالْكفْر وَله فِي الرَّد عَلَيْهِم الْكتب الفائقة وَفِي الذب عَن حَرِيم الْإِسْلَام الْكَلِمَات الرائقة ثمَّ يُقَال إِنَّه بني كِتَابه على نالتهم فيا لله وَيَا للْمُسلمين نَعُوذ بِاللَّه من تعصب يحمل على الوقيعة فِي أَئِمَّة الدّين
وَأما مَا عَابَ بِهِ الْإِحْيَاء من توهنه بعض الْأَحَادِيث فالغزالي مَعْرُوف بِأَنَّهُ لم تكن لَهُ فِي الحَدِيث يَد باسطة وَعَامة مَا فِي الْإِحْيَاء من الْأَخْبَار والْآثَار مبدد فِي كتب من سبقه من الصُّوفِيَّة وَالْفُقَهَاء وَلم يسند الرجل لحَدِيث وَاحِد وَقد اعتنى بتخريج أَحَادِيث الاحياء بعض أَصْحَابنَا فَلم يشذ عَنهُ إِلَّا الْيَسِير
وسأذكر جملَة من أَحَادِيثه الشاذة استفادة
وَأما مَا ذَكرُوهُ فِي بعض قصّ الْأَظْفَار فَالْأَمْر الْمشَار إِلَيْهِ يروي عَن عَليّ كرم الله وَجهه غير أَنه لم يثبت وَلَيْسَ فِي ذَلِك كَبِير أَمر وَلَا مُخَالفَة شرع وَقد سَمِعت جمَاعَة من الْفُقَرَاء يذكرُونَ أَنهم جربوه فوجدوه لَا يخطىء من داومة أَمن من وجع الْعين
ويروون من شعر عَليّ كرم الله وَجهه هَذَا
(أبدا بيمناك وبالخنصر
…
فِي قصّ أظفارك واستبصر)
(وَاخْتِمْ بسبابتها هَكَذَا
…
لَا تفعل فِي الرجل ولاتمتر)
(وابدا ليسراك بإبهامها
…
والأصبع الْوُسْطَى وبالخنصر)
(وَيتبع الْخِنْصر سبابة
…
بنصرها خَاتِمَة الْأَيْسَر)
(هَذَا أَمَان لَك قد حُزْته
…
من رمد الْعين كَمَا قد قرى)
وَأما قَول الْمَازرِيّ عَادَة المتورعين أَن لَا يَقُولُوا قَالَ مَالك إِلَى آخِره فَلَيْسَ مَا قَالَ الْغَزالِيّ قَالَ سَوَّلَ الله صلى الله عليه وسلم على سَبِيل الْجَزْم وَإِنَّمَا يَقُول عزو بِتَقْدِير الْجَزْم فَلَو لم يغلب على ظَنّه لم يقلهُ وغايته أَنه لَيْسَ الْأَمر على مَا ظن
وسنعقد فضلا للأحاديث الْمُنكرَة فِي كتاب الْإِحْيَاء
وَأما مَسْأَلَة من مَاتَ وَلم يعلم قدم الْبَارِي فَفرق بَين عدم اعْتِقَاد بالقدم واعتقاد أَن لَا قدم وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أَجمعُوا على تكفيره من اعتقده
فَمن استحضر بذهنه صفة الْقدَم ونفاها عَن الْبَارِي وأوجبهَا منفية أوشك فِي انتفائها كَانَ كَافِرًا
وَأما الساذج فِي مَسْأَلَة الْقدَم الْخَالِي الْخُلُو الْمُؤمن بِاللَّه على الْجُمْلَة
فَهُوَ الَّذِي ادّعى الْغَزالِيّ الْإِجْمَاع على أَنه مُؤمن على الْجُمْلَة نَاجٍ من حَيْثُ مُطلق الْإِيمَان الْجملِي
وَمن البلية الْعُظْمَى والمصيبة الْكُبْرَى أَن يُقَال عَن مثل الْغَزالِيّ إِنَّه غير موثوق بنقله فَمَا أَدْرِي مَا أَقُول وَلَا بِأَنِّي يلقى الله يعْتَقد ذَلِك فِي هَذَا الإِمَام
وَأما تَقْسِيم الْمَازرِيّ فِي الْعلم الَّذِي أَشَارَ حجَّة الْإِسْلَام أَنه لَا يودع فِي كتاب فوددت لَو لم يذكرهُ فَإِنَّهُ شبه عَلَيْهِ
وَهَذَا الْمَازرِيّ كَانَ رجلا فَاضلا ركنا ذكيا وَمَا كنت أَحْسبهُ يَقع فِي مثل هَذَا أَو خَفِي عَلَيْهِ أَن للعلوم دقائق نهى الْعلمَاء عَن الإفصاح بهَا خشيَة على ضعفاء الْخلق وَأُمُور أخر لاتحيط بهَا الْعبارَات وَلَا يعرفهَا إِلَّا أهل الذَّوْق وَأُمُور أخر لم يَأْذَن الله فِي إظهارها لحكم تكْثر عَن الإحصاء
وماذا يَقُول الْمَازرِيّ فِيمَا خرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي الطُّفَيْل سَمِعت عليا رضي الله عنه يَقُول حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ أتحبون أَن يكذب الله وَرَسُوله
وَكم مَسْأَلَة نَص الْعلمَاء عَن عدم الإفصاح بهَا خشيَة على إفضاح من لَا يفهمها
وَهَذَا إمامنا الشَّافِعِي رضي الله عنه يَقُول إِن الْأَجِير الْمُشْتَرك لَا يضمن
قَالَ الرّبيع وَكَانَ لَا يبوح بِهِ خوفًا من أجِير السوء
قَالَ الرّبيع أَيْضا وَكَانَ الشَّافِعِي رضي الله عنه يذهب إِلَى أَن القَاضِي يقْضِي بِعِلْمِهِ وَكَانَ لَا يبوح بِهِ مَخَافَة قُضَاة السوء
فقد لَاحَ لَك بِهَذَا أَنه رُبمَا وَقع السُّكُوت عَن بعض الْعلم خشيَة من الْوُقُوع فِي مَحْذُور وَمثل ذَلِك يكثر
وَأما كَلَام الطرطوشي فَمن الدعاوي الْعَارِية عَن الْأَدِلَّة وَمَا أَدْرِي كَيفَ استجار فِي دينه أَن ينْسب هَذَا الحبر إِلَى أَنه دخل فِي وسواس الشَّيْطَان وَلَا من أَيْن أطلع على ذَلِك وَأما قَوْله شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج فَلَا أَدْرِي أَي رموز فِي هَذَا الْكتاب غير إشارات الْقَوْم الَّتِي لَا ينكرها عَارِف وَلَيْسَ للحلاج رموز يعرف بهَا
وَأما قَوْله كَاد يَنْسَلِخ من الدّين فيالها كلمة وقانا الله شَرها
وَأما دَعْوَاهُ أَنه غير أنيس بعلوم الصُّوفِيَّة فَمن الْكَلَام الْبَارِد فَإِنَّهُ لَا يرتاب ذُو نظر بِأَن الْغَزالِيّ كَانَ ذَا قدم راسخ فِي التصوف وليت شعري إِن لم يكن الْغَزالِيّ يدْرِي التصوف فَمن يدريه
وَأما دَعْوَاهُ أَنه سقط على أم رَأسه فوقيعة فِي الْعلمَاء يُغير دلَالَة فَإِنَّهُ لم يذكر لنا بِمَاذَا سقط
كَفاهُ الله وإيانا غائلة التعصب
وَأما الموضوعات فِي كِتَابه فليت شعري أهوَ واضعها حَتَّى يُنكر عَلَيْهِ إِن هَذَا إِلَّا تعصب بَارِد وتشنيع بِمَا لَا يرتضيه ناقد
وَلَقَد ماجوا فِي هَذَا الْإِحْيَاء الَّذِي لَا يَنْبَغِي لعالم أَن يُنكر مكانته فِي الْحسن والإفادة وَلَقَد قَالَ بعض الْمُحَقِّقين لَو لم يكن للنَّاس فِي الْكتب الَّتِي صنفها الْفُقَهَاء الجامعون فِي تصانيفهم بَين النَّقْل وَالنَّظَر والفكر والأثر غَيره لكفى
وَهُوَ من الْكتب الَّتِي يَنْبَغِي للْمُسلمين الاعتناء بهَا وإشاعتها ليهتدي بهَا كثير من الْخلق وقلما ينظر فِيهِ نَاظرا إِلَّا وتيقظ بِهِ فِي الْحَال رزقنا الله بَصِيرَة ترينا وَجه الصَّوَاب ووقانا شَرّ مَا هُوَ بَيْننَا وَبَينه حجاب
وللشيخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح فِي حق الْغَزالِيّ كَلَام لَا نرتضيه ذكره على الْمنطق تكلمنا عَلَيْهِ فِي أَوَائِل شرحنا للمختصر لِابْنِ الْحَاجِب
وَكتب إِلَى مرّة الخافظ عفيف الدّين المطري الْمُقِيم بِمَدِينَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كتابا سَأَلَني أَن أسَال الشَّيْخ الإِمَام رَأْيه فَذكرت لَهُ ذَلِك فَكتب إِلَيّ الْجَواب بِمَا نَصه الْحَمد لله
الْوَلَد عبد الْوَهَّاب بَارك الله فِيهِ
وقفت على مَا ذكرت مِمَّا سَأَلَ عَنهُ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْقدْوَة عفيف الدّين المطري نفع الله بِهِ فِي تَرْجَمَة الْغَزالِيّ وَأبي حَيَّان التوحيدي وَمَا ذكرته أَنْت فِي الطَّبَقَات فِي تَرْجَمَة التوحيدي وَمَا عِنْدِي فِيهِ أَكثر من ذَلِك فتكتبه لَهُ وَكَذَلِكَ الْغَزالِيّ مَا عِنْدِي فِيهِ زِيَادَة على مَا ذكره ابْن عَسَاكِر وَغَيره مِمَّن تَرْجمهُ وماذا يَقُول الْإِنْسَان فِيهِ وفضله واسْمه قد طبق الأَرْض وَمن خبر كَلَامه عرف أَنه فَوق اسْمه
وَأما مَا ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وَمَا ذكره من عِنْد نَفسه وَمن كَلَام يُوسُف الدِّمَشْقِي والمازري فَمَا أشبه هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة رحمهم الله إلابقوم متعبدين
سليمَة قُلُوبهم قد ركنوا إِلَى الهوينا فَرَأَوْا فَارِسًا عَظِيما من الْمُسلمين قد رأى عدوا عَظِيما لأهل الْإِسْلَام فَحمل عَلَيْهِم وانغمس فِي صفوفهم وَمَا زَالَ فِي غمرتهم حَتَّى فل شوكتهم وكسرهم وَفرق جموعهم شذر بذر وفلق هام كَثِيرَة مِنْهُم فَأَصَابَهُ يسير من دِمَائِهِمْ وَعَاد سالما فرأوه وَهُوَ يغسل الدَّم عَنهُ ثمَّ دخل مَعَهم فِي صلَاتهم وعبادتهم فتوهموا أَيْضا أثر الدَّم عَلَيْهِ فأنكروا عَلَيْهِ
هَذَا حَال الْغَزالِيّ وحالهم وَالْكل إِن شَاءَ الله مجتمعون فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر
وَأما الْمَازرِيّ
…
... لِأَنَّهُ مغربي وَكَانَت المغاربة لما وَقع بهم كتاب الْإِحْيَاء لم يفهموه فحرفوه فَمن تِلْكَ الْحَالة تكلم الْمَازرِيّ
ثمَّ إِن المغاربة بعد ذَلِك أَقبلُوا عَلَيْهِ ومدحوه بقصائد مِنْهُ قصيدة
(أباحامد أَنْت الْمُخَصّص بِالْحَمْد
…
وَأَنت الَّذِي علمتنا سنَن الرشد)
(وضعت لنا الْإِحْيَاء تحي نفوسنا
…
وتنقدنا من ربقة المارد المردي)
وَهِي طَوِيلَة وَإِن كنت لَا أرتضي قَوْله أَنْت الْمُخَصّص بِالْحَمْد ويتأول لفاعليه أَنه من بَين أقرانه أَو من بَين من يتَكَلَّم فِيهِ
وَأَيْنَ نَحن من فَوْقنَا وفوقهم من فهم كَلَام الْغَزالِيّ أَو الْوُقُوف على مرتبته فِي الْعلم وَالدّين والتأله
وَلَا يُنكر فضل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وفقهه وَحَدِيثه وَدينه وقصده الْخَيْر وَلَكِن لكل عمل رجال
وَلَا يُنكر علو مرتبَة الْمَازرِيّ وَلَكِن كل حَال لَا يعرفهُ من لم يذقه أَو يشرف عَلَيْهِ وكل أحد إِنَّمَا يتكيف بِمَا نَشأ عَلَيْهِ وَوصل إِلَيْهِ
وأمامن ذكر أَبَا بكر وَعمر رضي الله عنهما فِي هَذَا الْمقَام فَالله يوفقنا وأياه لفهم مقامهما على قَدرنَا وَأما على قدرهما فمستحيل بل وَسَائِر الصَّحَابَة لَا يصل أحد مِمَّن بعدهمْ إِلَى مرتبتهم لِأَن أَكثر الْعُلُوم الَّتِي نَحن نبحث وندأب فِيهَا اللَّيْل وَالنَّهَار حَاصِلَة عِنْدهم بِأَصْل الْخلقَة من اللُّغَة والنحو والتصريف وأصول الْفِقْه
مَا عِنْدهم من الْعُقُول الراجحة وَمَا أَفَاضَ الله عَلَيْهِم من نور النُّبُوَّة العاصم من الْخَطَأ فِي الْفِكر يُغني عَن الْمنطق وَغَيره من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة
وَمَا ألف الله بَين قُلُوبهم حَتَّى صَارُوا بنعمته أخوانا يُغني عَن الاستعداد للمناظرة والمجادلة فَلم يكن يَحْتَاجُونَ فِي علومهم إِلَّا إِلَى مايسمعونه من النَّبِي صلى الله عليه وسلم من الْكتاب وَالسّنة فيفهمونه أحسن فهم ويحملونه على أحسن محمل وينزلونه مَنْزِلَته وَلَيْسَ بَينهم من يمارى فِيهِ وَلَا يُجَادِل وَلَا بِدعَة وَلَا ضَلَالَة
ثمَّ التابعون على مَنَازِلهمْ ومنوالهم قَرِيبا مِنْهُم ثمَّ أتباعهم وهم الْقُرُون الثَّلَاثَة الَّتِي شهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَهَا بِأَنَّهَا خير الْقُرُون بعده
ثمَّ نَشأ بعدهمْ وَكَانَ قَلِيلا فِي أثْنَاء الثَّانِي وَالثَّالِث أَصْحَاب بدع وضلالات فاحتاجت الْعلمَاء من أهل السّنة إِلَى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حَتَّى لَا يلبسوا على الضُّعَفَاء أَمر دينهم وَلَا يدخلُوا فِي الدّين مَا لَيْسَ مِنْهُ
وَدخل فِي الْكَلَام أهل الْبدع من كَلَام المنطقين وَغَيرهم من أهل الْإِلْحَاد شَيْء كثير ورتبوا علينا شبها كَثِيرَة فَإِن تركناهم وَمَا يصنعون استولوا على كثير من الضُّعَفَاء وعوام الْمُسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم فأضلوهم وغيروا مَا عِنْدهم من الاعتقادات الصَّحِيحَة وانتشرت الْبدع والحوادث وَلم يُمكن كل وَاحِد أَن يقاومهم
وَقد لَا يفهم كَلَامهم لعدم اشْتِغَاله بِهِ وَإِنَّمَا يرد الْكَلَام من يفهمهُ وَمَتى لم يرد عَلَيْهِ تعلو كَلمته ويعتقد الجهلاء والأمراء والملوك والمستولون على الرّعية صِحَة كَلَام ذَلِك المبتدع كَمَا اتّفق فِي كثير من الْأَعْصَار وَقصرت همم النَّاس عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ المتقدمون
فَكَانَ الوجب أَن يكون فِي النَّاس من يحفظ الله بِهِ عقائد عباده الصَّالِحين وَيدْفَع بِهِ شبه الْمُلْحِدِينَ وأجره أعظم من أجر الْمُجَاهِد بِكَثِير ويحفظ أجر بَقِيَّة النَّاس عبادات المتعبدين واشتغال الْفُقَهَاء والمحدثين والمقرئين والمفسرين وَانْقِطَاع الزاهدين
(لَا يعرف الشوق إِلَّا من يكابده
…
وَلَا الصبابة إِلَّا من يعانيها)
واللائق بِابْن الصّلاح وَأَمْثَاله أَن يشْكر الله على مَا أنعم بِهِ من الْخَيْر وَمَا قيض الله لَهُ من الْغَزالِيّ وَأَمْثَاله الَّذين تقدموه حَتَّى حفظوا لَهُ مايتعبد بِهِ وَمَا يشْتَغل بِهِ
وَمَا يحْتَمل هَذَا الْموضع بسط القَوْل فِي ذَلِك
وَإِذا كَانَ فِي الْإِحْيَاء أَشْيَاء يسيرَة تنتقد لَا تدفع محَاسِن أَكْثَره الَّتِي لَا تُوجد فِي كتاب غَيره وَكم من مِنْهُ للغزالي وَسَوَاء عرف من أَخذ عَنهُ التصوف أم لَا فالاعتقادات هِيَ هبة من الله تَعَالَى وَلَيْسَت رِوَايَة انْتهى
وَمَا أَشرت إِلَيْهِ من كَلَام ابْن الصّلاح فِي الْغَزالِيّ هُوَ مَا ذكره فِي الطَّبَقَات من إِنْكَاره عَلَيْهِ الْمنطق وَقَوله فِي أول الْمُسْتَصْفى هَذِه مُقَدّمَة الْعُلُوم كلهَا وَمن لَا يُحِيط بهَا فَلَا ثِقَة بمعلومه أصلا
ثمَّ حكايته كَلَام الْمَازرِيّ وَقد أوردناه
وَذكر ابْن الصّلاح أَن كتاب المضنون الْمَنْسُوب إِلَيْهِ معَاذ الله أَن يكون لَهُ وَبَين سَبَب كَونه مُخْتَلفا مَوْضُوعا عَلَيْهِ
وَالْأَمر كَمَا قَالَ وَقد اشْتَمَل المضنون على التَّصْرِيح بقدم الْعَالم وَنفى الْعلم الْقَدِيم بالجزئيات وَنفى الصِّفَات وكل وَاحِدَة من هَذِه يكفر الْغَزالِيّ قَائِلهَا هُوَ وَأهل السّنة أَجْمَعُونَ وَكَيف يتَصَوَّر أَنه يَقُولهَا
وَمِمَّا حكى واشتهر عَن الشَّيْخ الْعَارِف أبي الْحسن الشاذلي وَكَانَ سيد عصره وبركة زَمَانه أَنه رأى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي النّوم وَقد باهى عليه الصلاة والسلام مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام بإلإمام الْغَزالِيّ
وَقَالَ أَفِي أمتيكما حبر كَهَذا
قَالَا لَا
وَسُئِلَ السَّيِّد الْكَبِير الْعَارِف بِاللَّه سيد وقته أَيْضا أَبُو الْعَبَّاس المرسي تلميذ الشَّيْخ أبي الْحسن عَن الْغَزالِيّ فَقَالَ أَنا أشهد لَهُ بالصديقية الْعُظْمَى
وَعَن الشَّيْخ الْكَبِير الْجَلِيل الْعَارِف بِاللَّه أوحد الْأَوْلِيَاء أبي الْعَبَّاس