الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجمع بَين وظيفتين فِي بلدين متباعدين
كَانَ الشَّيْخ فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر مدرسا بِالْمَدْرَسَةِ العذراوية وَهُوَ أول من درس بهَا والنورية والجاروخية وَهَذِه الثَّلَاث بِدِمَشْق والمدرسة الصلاحية بالقدس يُقيم بالقدس أشهرا وبدمشق أشهرا وَقد وَقع فِي زَمَاننَا الترافع فِي رجل ولي التدريس فِي بلدين متباعدين حلب ودمشق وَأفْتى جمَاعَة من أهل عصرنا بِالْجَوَازِ على أَن يَسْتَنِيب فِيمَا غَابَ عَنْهَا فَمن أَصْحَابنَا القَاضِي بهاء الدّين أَبُو الْبَقَاء السُّبْكِيّ ابْن الْعم وَالشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الله البعلبكي وَالْقَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن خلف الْغَزِّي وَالشَّيْخ عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن خَليفَة الحسباني وَمن الْحَنَفِيَّة والمالكية والحنابلة آخَرُونَ وَزَاد شمس الدّين الْغَزِّي فَقضى بذلك وَأذن فِيهِ وحاولني صَاحب الْوَاقِعَة على موافقتهم فأبيت وَالَّذِي يظْهر أَن هَذَا لَا يجوز وَأَنا الَّذِي ذكرت لَهُم مَا فعل ابْن عَسَاكِر ومني سَمعه صَاحب الْوَاقِعَة وَلَيْسَ لَهُم فِيهِ دَلِيل لِأَن وَاقِف الصلاحية جوز لمدرسها أَن يَسْتَنِيب على عذر وَهَذَا وَإِن كَانَ لَا ينْهض عذرا لِأَن ابْن عَسَاكِر كَانَ يُقيم بِهَذِهِ الْبَلَد أشهرا وبهذه الْبَلَد أشهرا ومسألتنا فِيمَن يعرض
عَن إِحْدَى البلدين بِالْكُلِّيَّةِ ويقتصر على الِاسْتِنَابَة وَمَا ذكرت وَإِن لم يكن فِيهِ دَلِيل لِأَن وَاقِف الصلاحية إِن سوغ الِاسْتِنَابَة فَمَا يسوغ ذَلِك واقفو العذراوية والنورية والجاروخية وَلَا يجوز ترك بعض الشُّهُور كَمَا لَا يجوز ترك كلهَا وَبِالْجُمْلَةِ فِي وَاقعَة ابْن عَسَاكِر مَا يهون عِنْده واقعتنا وَالْمَسْأَلَة اجتهادية وَابْن عَسَاكِر رجل صَالح عَالم وَالَّذِي فعله دون مَا فعل فِي عصرنا وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظَرِي أَنه لَا يجوز وَأكل المَال فِيهِ أكل بَاطِل وغيبته عَن وَاحِدَة ليحضر أُخْرَى لَيْسَ بِعُذْر فَمَا ظَنك بِمن يغيب بِالْكُلِّيَّةِ
وَقد اعتل بعض هَؤُلَاءِ الْمُفْتِينَ بِأَن الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رحمه الله أفتى بِمَا إِذا مَاتَ فَقِيه أَو معيد أَو مدرس وَله زَوْجَة وَأَوْلَاد أَنهم يُعْطون من مَعْلُوم تِلْكَ الْوَظِيفَة الَّتِي كَانَت لَهُ مَا تقوم بِهِ كفايتهم ثمَّ إِن فضل من الْمَعْلُوم شَيْء عَن قدر الْكِفَايَة فَلَا بَأْس بإعطائه لمن يقوم بالوظيفة ذكره فِي شرح الْمِنْهَاج فِي بَاب قسم الْفَيْء أخذا من قَول الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب أَن من مَاتَ من الْمُقَاتلَة أَعْطَيْت زَوجته وَأَوْلَاده قَالُوا فَإِذا كَانَ هَذَا رَأْي الشَّيْخ الإِمَام مَعَ مَا فِيهِ من تَوْلِيَة من لَا يسْتَحق وتعطيل الْوَظِيفَة فَمَا ظَنك بتولية مُسْتَحقّ يَنُوب عَنهُ يقوم بالوظيفة
وَأَنا أَقُول إِن هَذَا مِمَّا اغتفره الْوَالِد رحمه الله بالتبعية وَقد صرح بِأَنَّهُ لَا يجوز ابْتِدَاء تَوْلِيَة من لَا يصلح فَكيف يجوز تَوْلِيَة من لَا تمكنه الْمُبَاشرَة وَلَا هُوَ مغتفر فِي جَانب أَب لَهُ أَو جد قد تقدّمت مُبَاشَرَته وسابقته فِي الْإِسْلَام
وَقد أفتى ابْن عبد السَّلَام وَالنَّوَوِيّ فِي إِمَام مَسْجِد يَسْتَنِيب فِيهِ بِلَا عذر أَن الْمَعْلُوم لَا يسْتَحقّهُ النَّائِب لِأَنَّهُ لم يتول وَلَا المستنيب لِأَنَّهُ لم يُبَاشر وَخَالَفَهُمَا الشَّيْخ الإِمَام فِيمَا إِذا كَانَ النَّائِب مثل المستنيب أَو أرجح مِنْهُ فِي الْأَوْصَاف الَّتِي تطلب لتِلْك
الْوَظِيفَة من علم أَو دين وَقَالَ فِي هَذِه الصُّورَة تصح الِاسْتِنَابَة لحُصُول الْغَرَض الشَّرْعِيّ وَاقْتضى كَلَامه حِينَئِذٍ جَوَاز الِاسْتِنَابَة بِلَا عذر وَعِنْدِي فِيهِ توقف
وَقد أشاع كثير من النَّاس أَن الْوَالِد كَانَ يرى تَوْلِيَة الْأَطْفَال وظائف آبَائِهِم مَعَ عدم صلاحيتهم إِذا قَامَ بالوظائف صَالح ويرجحهم على الصَّالِحين وتوسعوا فِي ذَلِك وَنحن أخبر بأبينا وبمقاصده وَلم يكن رحمه الله رأى ذَلِك على الْإِطْلَاق إِنَّمَا كَانَ رَأْيه فِيمَن كَانَت لَهُ يَد بَيْضَاء فِي الْإِسْلَام من علم أَو غَيره قد أثر فِي الدّين آثارا حَسَنَة وَترك ولدا صَالحا أَن يُبَاشر وظيفته من يصلح لَهَا وَتَكون الْوَظِيفَة باسم الْوَلَد وَيَقُول التَّوْلِيَة توليتان تَوْلِيَة اخْتِصَاص وتولية مُبَاشرَة فالصبي يتَوَلَّى تَوْلِيَة الِاخْتِصَاص بِمَعْنى أَن تكون لَهُ خُصُوصِيَّة بهَا وَيصرف لَهُ بعض الْمَعْلُوم والصالح يتَوَلَّى تَوْلِيَة مُبَاشرَة يَعْنِي أَنه يَأْتِي بِالْمَعْنَى الْمَقْصُود من الْوَظِيفَة فَيحصل غَرَض الْوَاقِف ومراعاة جَانب الصَّغِير إِعَانَة لحق أَبِيه وَيَقُول أَنا فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا أولي الْمُبَاشر وَهُوَ ذُو الْولَايَة الْحَقِيقِيَّة
فَقلت لَهُ فَلم لَا تصرح لَهُ بِالْولَايَةِ
فَقَالَ أخْشَى على الطِّفْل مِنْهُ فَإِنَّهُ مَتى اسْتَقَرَّتْ لَهُ لم يُعْط الصَّغِير شَيْئا
فَقلت لَهُ اجْعَل الْمُبَاشر هُوَ الْمُتَوَلِي وَاشْترط عَلَيْهِ بعض الْمَعْلُوم للطفل
قَالَ يتأهل الطِّفْل فَلَا يُسلمهُ الْوَظِيفَة وَأَنا مرادي أَن الطِّفْل إِذا تأهل يسلم الْوَظِيفَة لَهُ
فَقلت لَهُ فَمَا الَّذِي يثبت للطفل الْآن
قَالَ ولَايَة الِاخْتِصَاص بِمَعْنى أَنه يصير أَحَق بِهَذِهِ الْوَظِيفَة اسْتِقْلَالا من غير احْتِيَاج إِلَى تَجْدِيد ولَايَة مَتى تأهل وآكلا لبَعض الْمَعْلُوم مَا دَامَ عَاجِزا
فَقلت لَهُ أتفعل ذَلِك فِيمَن لَا يُمكنهُ التأهل كَزَوْجَة وَبنت وَابْن أيس من أَهْلِيَّته
فَقَالَ لَا بل الَّذين تَركهم الْمَيِّت أَقسَام
مِنْهُم من يُمكن أَن يتأهل فَهَذَا نوليه ولَايَة الِاخْتِصَاص ثمَّ أَنا فِي النَّائِب الَّذِي أقيم لَهُ على قدر مَا يظْهر لي من أَمَانَته إِن عرفت من ثقته وَدينه أَنه مَتى تأهل الصَّبِي سلمه وظيفته فقد أصرح لَهُ بِالْولَايَةِ المترتبة فَأَقُول وليتك مُسْتقِلّا مُدَّة عدم صَلَاحِية هَذَا الطِّفْل للمباشرة على أَن تصرف عَلَيْهِ بعض الْمَعْلُوم وَوليت هَذَا الطِّفْل ولَايَة معلقَة بالصلاحية
قَالَ وَأَنا أرى تَعْلِيق الولايات وَقد لَا أصرح لَهُ خشيَة أَن يَمُوت والوظيفة باسمه فيأخذها من لَا يُعْطي ذَلِك الطِّفْل شَيْئا وَهَذِه أُمُور تخرج عَن الضَّبْط يُرَاعِي فِيهَا الْحَاكِم اجْتِهَاده الْحَاضِر وَدينه وَنَظره فِي كل جزئية
وَمِنْهُم من لَا يُمكن أَن يتأهل كَبِنْت أَو زَوْجَة فِي إِمَامَة مَسْجِد أَو ابْن أَيِست أَهْلِيَّته فَهَؤُلَاءِ لَا أوليهم مُطلقًا لَا مُعَلّقا وَلَا ولَايَة اخْتِصَاص وَإِنَّمَا أَقُول لمن أوليه الْتزم بِالنذرِ الشَّرْعِيّ أَن تدفع لهَذَا كَيْت وَكَيْت مَا دَامَ كَذَا من مَعْلُوم هَذِه الْوَظِيفَة فَيصير لَهُ اسْتِحْقَاق بعض الْمَعْلُوم عَلَيْهِ بِهَذِهِ الطَّرِيق
فَقلت لَهُ فَهَذَا كُله فِيمَن سبقت لِأَبِيهِ سَابِقَة فَمَا قَوْلك فِيمَن لَا سَابِقَة لِأَبِيهِ
قَالَ إِن كَانَ فَقِيرا أفهم من نَص الشَّارِع طلب إِعَانَة مثله فعلت مَعَه ذَلِك أَيْضا وَلَا أتركه يبيت جائعا قد عدم أَبَاهُ والرزق الَّذِي كَانَ يدْخل عَلَيْهِ مَعَ أَبِيه
إِلَى غير ذَلِك من تفاصيل كَانَ يذكرهَا تقصر عَنْهَا الأوراق الله أعلم بنيته فِيهَا وَقد كَانَ الرجل متضلعا بِالْعلمِ وَالدّين وغرضنا مِمَّا سقناه أَنه لم يُطلق القَوْل إطلاقا وَلَا فتح للجهال بَاب التطرق إِلَى وظائف أهل الْعلم حاشاه ثمَّ حاشاه لقد كَانَ يتألم من ولَايَة الْجُهَّال تألما لم أجد من غَيره المعشار مِنْهُ وَيذكر من مفاسد ولَايَة الْجَاهِل وَمن لَا يُبَاشر مَا يطول شَرحه وَله فِيهِ كَلَام مُسْتَقل
هَذَا مَا أعرفهُ مِنْهُ وَلَيْسَ هُوَ من الْوَاقِعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وَقد كنت أعرفهُ ينكرها بِعَينهَا غَايَة الْإِنْكَار فَإِن الْجَامِع بَين التدريسين الْمَذْكُورين جمع بَينهمَا فِي حَيَاة الشَّيْخ الإِمَام وَأنكر الشَّيْخ الإِمَام ذَلِك وَلم تكن لَهُ قدرَة على دَفعه لِأَنَّهُ ذُو جاه خطير
وَمن شعر الشَّيْخ ابْن عَسَاكِر
(خف إِذا مَا بت ترجو
…
وارج إِن أَصبَحت خَائِف)
(كم أَتَى الدَّهْر بعسر
…
فِيهِ لله لطائف)