الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذَّات لا بعلَّة، وكلُّ ما يذكَرُ ويقدَّر
(1)
من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلَّة على الفقر والحاجة، لا علل لذلك؛ إذ ما بالذات لا يعلَّل. فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته، فما يذكَر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلَّةٌ على الفقر، لا أسبابٌ له.
ولهذا كان
الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب
تعالى غيرَ القولين اللذين يذكرهما
(2)
الفلاسفة والمتكلمون، فإنَّ الفلاسفة قالوا: علَّة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علَّة الحاجة الحدوث. والصواب أنَّ الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار. وفقرُ العالم إلى اللَّه عز وجل أمرٌ ذاتي لا يعلَّل، فهو فقيرٌ بذاته إلى ربِّه الغني بذاته. ثمَّ يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلَّة على هذا الفقر.
والمقصود أنَّه سبحانه أخبرَ عن حقيقة العباد وذواتهم بأنَّها فقيرة إليه عز وجل، كما أخبر عن ذاته المقدَّسة وحقيقتِه أنَّه غنيٌّ حميد. فالفقرُ المطلقُ من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجهٍ ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي. فيستحيل أن يكون العبدُ إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ تعالى إلا غنيًّا، كما أنَّهُ يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا ربًّا.
إذا عُرِف هذا، فالفقرُ فقران: فقرُ اضطرارٍ
(3)
، وهو فقرٌ عامٌّ لا خروج لِبَرٍّ ولا فاجر عنه. وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا
(1)
"ط": "يقرّر"، تحريف.
(2)
"ف": "تذكرهما". والأصل غير منقوط.
(3)
"ط": "اضطراري".
ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني فقرٌ اختياريٌ هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه؛ فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجا
(1)
له
(2)
فقرًا هو عينُ غناه وعنوانُ فلاحه وسعادته.
وتفاوتُ النَّاسِ في هذا الفقرِ بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامَّة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.
فاللَّه تعالى أخرج العبد من بطن أُمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيءٍ، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع، ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة؛ فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كمالُه أمرًا مشهودًا محسوسًا لكلِّ أحد، ومعلوم أنَّ هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره.
فلمَّا أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلَّمه، وأقدره، وحرَّكه، وصرَّفه
(3)
، ومكَّنه من
(1)
كذا في الأصل، و"ف"، يعني العلمين الشريفين. وفي "ك، ط": "أنتجتا" يعني المعرفتين.
(2)
"له" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "وصرَّفه وحرَّكه".
استخدام بني جنسه، وسخَّر له الخيل والإبل، وسلَّطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء، وقهرِ الوحوش
(1)
العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجارِ، وشقِّ الأرض، وتعلية البناءِ، والتحيّل على جميع مصالحه
(2)
، والتحرز والتحفظ ممَّا
(3)
يؤذيه = ظن المسكينُ أنَّ له نصيبًا من الملك، وادَّعى لنفسه ملكةً
(4)
مع اللَّه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتَّى كأنَّه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج المضطر
(5)
، بل كان ذلك شخصًا آخر غيرَه؛ كما روى
(6)
الإمام أحمد في مسنده من حديث بُسْر
(7)
بن جِحَاش القرشي أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصق يومًا في كفِّه فوضع عليها إصبعه ثمَّ قال: "قال اللَّه عز وجل: بُنَيَّ
(8)
آدم، أنَّى تعجزني! وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيد
(9)
، فجمعتَ
(1)
"ك، ط": "الوحش".
(2)
"جميع" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ط": "لما".
(4)
"ط": "ملكًا".
(5)
"المضطر" ساقط من "ك، ط"، وفي "ك":"والمحتاج".
(6)
"ف": "أخبر"، خلاف الأصل.
(7)
كذا بالسين المهملة في الأصل. وفي غيره بالمعجمة، قال ابن منده: أهل العراق يقولون "بسر" بالمهملة، وأهل الشام يقولونه بالمعجمة. وقال الدَّارقطني وابن زبر وابن ماكولا: لا يصح بالمعجمة، أمَّا أبوه "جحاش" فضبط في الأصل بكسر الجيم، ويقال أيضًا بفتحها وتثقيل الحاء.
انظر: الإصابة (1/ 291)، وتوضيح المشتبه (1/ 521). وفي "ن" حاشية لم تظهر كاملة في المصورة، أشير فيها إلى قول ابن منده.
(8)
"ط": "يا ابن آدم".
(9)
الوئيد: صوت شدّة الوطء على الأرض يُسمع كالدويّ من بُعد.
ومنعتَ، حتى إذا بلغتِ التراقي قلتَ: أتصدّق، وأنَّى أوانُ الصدقة! "
(1)
.
ومن ههنا خُذِلَ مَن خُذِلَ ووُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فحُجب المخذول عن حقيقته وأُنسيَ
(2)
نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورَته إلى ربه، فطغى وبغى
(3)
وعتا، فحقّت عليه الشقوة. قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق/ 6 - 7] وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 - 10].
فأكملُ الخلقِ أكملُهم عبودية وأعظمهم شهودًا لفقره وحاجته
(4)
وضرورته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين. ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أصلحْ لي شأني كلَّه، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفةَ عين، ولا إلى أحدٍ مِن خَلْقِك"
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد (17842)، وابن ماجه (2707)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (869، 870)، والحاكم (2/ 545)(3855) وغيرهم.
وفيه عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي. قال ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير حريز. وقال ابن حجر: مقبول. وقد روى عنه جماعة. وقال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. ووثَّقه العجلي وابن حبان.
والحديث صحح إسناده الحاكم والبوصيري وابن حجر. انظر: مصباح الزجاجة (3/ 143)، والإصابة (1/ 153). (ز).
(2)
"ك، ط": "نسي".
(3)
"وبغى" ساقط من "ط".
(4)
"ك، ط": "ضرورته وحاجته".
(5)
أخرجه أحمد (20430) مطولًا، وأبو داود (5090)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (651)، وابن حبان (970) مختصرًا، والطيالسي في مسنده (910) وغيرهم. وليس عندهم:"ولا إلى أحد من خلقك". =
وكان يدعو: "يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك"
(1)
. يعلم
(2)
صلى الله عليه وسلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك هو
(3)
منه شيئًا، وأنَّ اللَّه عز وجل يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله عز وجل:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء/ 74].
فضرورته صلى الله عليه وسلم إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وبحسب
(4)
قربه منه ومنزلته عنده، وهذا أمر إنَّما لمن بعده منه
(5)
ما يرشح من ظاهر الوعاءِ. ولهذا كان أقربَ الخلق إلى اللَّه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده منزلة؛ لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه عز وجل.
= والحديث أعلَّه النسائي بجعفر بن ميمون، فقال: ليس بالقوي. ووافقه المنذري. وجعفر له منكرات، وقد تفرَّد بهذا اللفظ في الحديث.
والحديث صحَّحه ابن حبان، وحسَّن إسناده الهيثمي، وابن حجر. انظر: مجمع الزوائد (10/ 137)، ونتائج الأفكار (2/ 369)، وجاء عن أنس عند النسائي في عمل اليوم والليلة (570)، قال ابن حجر:"حسن غريب"، وانظر الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 291)(218). (ز).
(1)
أخرجه أحمد (17630) مطوَّلًا، وابن ماجه (199)، وابن حبان (943)، والحاكم (1/ 706) (1926) وابن منده في التوحيد (120) وغيرهم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم وابن منده والبوصيري. انظر: مصباح الزجاجة (1/ 27). وجاء هذا المتن عن جماعة من الصحابة. راجع السنة لابن أبي عاصم (237،232، 240) وغيره (ز).
(2)
"ك": "فعلم".
(3)
"هو": ساقط من "ط".
(4)
"بحسب" ساقط من "ك". وفي"ط": "وحسب قربه".
(5)
"ك": "إنَّما هو لمن بعده ما"، ثم ضرب بعض القراء على "هو". وفي "ط":"إنَّما بدا منه لمن بعده ما".
وكان يقولُ لهم: "أيها النَّاس، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي، إنَّما أنا عبد"
(1)
وكان يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيحَ ابن مريم، إنَّما أنا عبد، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله"
(2)
.
وذكره اللَّه عز وجل بسمة العبودية في أشر مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدى
(3)
. فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء/ 1]. وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن/ 19]، وقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة/ 23]. وفي حديث الشفاعة: "إنَّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبدٍ غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"
(4)
. فنالَ ذلك المقام بكمال عبوديته للَّه وبكمال مغفرة اللَّه له.
وتأمَّل
(5)
قوله في الآية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر/ 15] فعلَّق الفقر إليه باسمه "اللَّه"
(6)
دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإنَّه
(1)
أقرب لفظ لما ساقه المؤلف ورد عن الحسين بن علي رضي الله عنهما. أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (159) بلفظ "يا أيها النَّاسُ لا ترفعوني فوق حقي، فإن اللَّه عز وجل قد اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني نبيًّا".
وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 138 - 139)(2889)، والحاكم في المستدرك (3/ 197)(4825) بنحوه.
والحديث صحَّحه الحاكم وحسَّنه الهيثمي في المجمع (9/ 21)(ز).
(2)
من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (3445) وغيره.
(3)
وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 110).
(4)
أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في كتاب التفسير (4476) وغيره.
(5)
"ك، ط": فتأمَّل".
(6)
"ك، ط": "باسم اللَّه". وسقط من "ط": "فعلق الفقر إليه".