المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عال وسافل] - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عال وسافل]

‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

ولمَّا كان الفقرُ إلى اللَّه عز وجل هو عينَ الغنى به، فأفقرُ النَّاس إلى اللَّه أغناهم به، وأذلُهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسِه أعلمُهم باللَّه، وأمقتهم لنفسه أقربُهم إلى مرضاة اللَّه = كان ذكرُ الغنى باللَّه مع الفقر إليه متلازمَين متناسبَين، فنذكر فصلًا نافعًا في الغنى العالي.

واعلم أنَّ الغنى على الحقيقة لا يكون إلا للَّه

(1)

الغني بذاته عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فموسومٌ بسِمَةِ الفقرِ، كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع. فكما

(2)

أنَّ كونه مخلوقًا أمرٌ ذاتيٌّ له، فكونه فقيرًا أمرٌ ذاتيٌّ له، كما تقدم بيانه

(3)

. وغناهُ أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ عارض له، فإنَّه إنَّما استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به فقير إليه. ولا يُوصَف بالغنى على الإطلاق إلا مَن غناهُ من لوازم ذاته، فهو

(4)

الغني بذاته عمَّا سواه، وهو الأحد الصمد الغني الحميد.

والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال، فالغنى السافل: الغنى بالعواريّ المسترَدَّة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث، وهذا أضعف الغنى،

(1)

"ط": "باللَّه".

(2)

"ك، ط": "وكما".

(3)

انظر ما سلف في ص (12).

(4)

"ف": "وهو"، خلاف الأصل، وكذا في "ن".

ص: 65

فإنَّهُ غنًى بظل زائل، وعاريَّةٍ ترجع عن قريب إلى أربابها، فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها، وكأنَّ الغنى بها كان حُلْمًا فانقضى. ولا همَّة أضعفُ من همَّةِ من رضي بهذا الغنى الذي هو ظلٌّ زائلٌ.

وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإيَّاه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أحبَّ إلى الشيطان وأبعدَ من

(1)

الرحمن من قلبٍ ملآنَ بحبِّ هذا الغنى وبالخوف

(2)

من فقده.

قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمنًا، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر

(3)

.

وهذا الغنى محفوفٌ بفقرَين: فقرٍ قبله، وفقرٍ بعده، وهو كالغفوة بينهما، فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغترَّ به ولا يجعله نهايةَ مطلبه، بل إذا حصلَ له جعله سببًا لغناهُ الأكبر ووسيلةً إليه، ويجعله خادمًا من خدمه لا مخدومًا له، وتكون نفسه أعزَّ عليه من

(4)

أن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمةً لغيره.

(1)

"ط": "عن".

(2)

"ك، ط": "والخوف".

(3)

من كلام حمدون القصَّار النيسابوري شيخ الملامتية (271 هـ). انظر الرسالة القشيرية (272).

(4)

"من" ساقطة من "ك".

ص: 66

فصل [في الغنى العالي وتفسير كلام الهروي في درجاته]

وأمَّا

(1)

الغنى العالي فقال شيخ الإسلام

(2)

:

"هو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمتُه للحكم، وخلاصُه من الخصومة. والدرجة الثانية: غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتُها من المسخوط

(3)

، وبراءتها من المراياة

(4)

. والدرجة الثالثة: الغنى بالحقِّ، وهو ثلاث مراتب: الأولى: شهود ذكره إيَّاك، والثانية: دوام مطالعة أوليته، والثالثة: الفوز بوجوده"

(5)

.

قلتُ: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس"

(6)

. ومتى استغنت النفس استغنى القلب. ولكن الشيخ قسَّم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلَّقه فقال: "غنى

(1)

"ط": "أما"، واستدركت الواو في القطرية.

(2)

يعني صاحب "منازل السائرين".

(3)

"ط": "الحظوظ". ولعلَّه تغيير من الناشر اعتمادًا على مدارج السالكين، ولو تروَّى قليلًا لوجد المؤلف يفسر قول الهروي فيما يأتي حسب ما نقله هنا من نسخة المنازل.

(4)

في "ط": "المراءاة". والذي في الأصل وغيره بالياء على القلب، لغة في المراءاة. انظر: اللسان (رأي 14/ 296).

(5)

منازل السائرين (57)، وقارن النص وتفسيره في مدارج السالكين (2/ 507 - 503).

(6)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6446)، ومسلم في الزكاة (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 67

القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة". ومعلومٌ أنَّ هذا شرط في الغنى، لا أنَّهُ نفس الغنى؛ بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى. فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أنَّ غناه بها نفسِها، وإنَّما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط، كما سيأتي بيانه

(1)

. فإنَّ الغنيَّ

(2)

إنَّما يصير غنيًّا بحصول مايسدُّ فاقته ويدفع حاجته. وفي القلبِ فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدُّها إلا فوزُه بحصول الغني الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كلُّ شيء، وإن فاته فاته كلُّ شيء. فكما أنَّه سبحانه الغنيُّ على الحقيقة ولا غنيَّ سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غِنى بغيره ألبتة. فمن لم يستغن به عمَّا سواه تقطَّعت نفسه على السوى حسراتٍ، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة، وحضره كلُّ سرور وفرح، واللَّه المستعان.

وإنَّما قدَّم الشيخُ

(3)

الكلامَ على "غنى القلب" على الكلام على "غنى النفس"؛ لأنَّ

(4)

كمال صلاح النفس، وغناها

(5)

بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب؛ وإصلاحُ

(6)

النفس متقدمٌ على إصلاح القلب

(7)

. هكذا قيل! وفيه ما

(1)

بعده في "ك، ط": "إن شاء اللَّه".

(2)

"ط": "فالغنى".

(3)

"ك، ط": "شيخ الإسلام".

(4)

"ف": "أنَّ" أخطأ في القراءة.

(5)

"ط": "النفس غناها".

(6)

"ك، ط": "صلاح".

(7)

"ط": "إصلاحه". "ك": "صلاح القلب".

ص: 68

فيه، لأنَّ صلاحَ كلٍّ منهما مقارنٌ لصلاح الآخر، ولكن لمَّا كان القلب هو الملِك وكان صلاحه صلاحَ جميع رعيته كان أولى بالتقديم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب"

(1)

.

والقلبُ

(2)

إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربِّه وعطاياه السنية خلَعَ على الأمراءِ والرعية خِلَعًا تناسبها: فخلعَ على النفس خِلَع الطمأنينة والسكينة والرضا والإخبات، فأدَّت الحقوق سماحةً لا كظمًا بل

(3)

بانشراح ورضًا ومبادرة. وذلك لأنَّها جانست القلب حينئذٍ، ووافقته في أكثر أموره، واتحد مرادهما غالبًا، فصارت له وزير صدق، بعد أن كانت عدوًّا مبارزًا بالعداوة. فلا تسأل عمَّا أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأنينة ولذَّة عيش ونعيم هو رقيقة

(4)

من نعيم أهل الجنَّة! هذا، ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما، بل عُدّتها وسلاحها كامنٌ متوارٍ، لولا قوْةُ

(5)

سلطان القلب وقهرُه لحاربت بكلِّ سلاح؛ فالمرابطة

(1)

من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599).

(2)

"ك": "فالقلب".

(3)

"بل" ساقطة من "ك، ط".

(4)

أراد أنَّه جزء يسير جدًّا من نعيم أهل الجنَّة. وقد استعمل المؤلف هذا التعبير في مدارج السالكين أيضًا فقال: "وذلك رقيقة من حال أهل الجنَّة في الجنَّة"(2/ 464). وقال: "وهذا رقيقة من حال أهل الجنَّة"(3/ 156)، وقرن بها كلمة "لطيفة" في (3/ 294) قال:"فإنَّ نعيم المحبة في الدنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنة في الآخرة". فالرقيقة هنا اسم. وقد ضبطت في "ك" بضم أولها وفتح ثانيها، وفوقها علامة "صح"، وفي "ط":"دقيقة". والصوابُ ما أثبتنا.

(5)

"ط": "قدرة".

ص: 69

على ثغري الظاهر والباطن فرضٌ معيَّن

(1)

مدَّة أنفاس الحياة:

وتنقضي الحربُ، محمودٌ عواقبُها

للصابرين، وحظُّ الهاربِ الندمُ

(2)

وخَلَعَ على الجوارح خِلَع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعةَ

(3)

المهابة والنور والبهاء، وعلى اللسان خلعةَ الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغضّ عن المحارم، وعلى الأذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد في معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوَّة وأيدٍ، وعلى الفرج خلعةَ العفَّة والحفظ؛ فغدا العبدُ وراح يرفُلُ في هذه الخِلَع، ويجرُّ لها في النَّاس أذيالًا وأردانًا

(4)

.

فغنى النفس مشتقٌ من غنى القلب وفرعٌ عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس. وغنى القلب بما

(5)

يناسبه من تحقّقه

(6)

بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تُخلع عليه، فيستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل

(1)

"ك، ط": "متعين".

(2)

"ن، ك، ط": "محمودًا". ولم أجد البيت.

(3)

"ف": "خلع" خلافًا للأصل.

(4)

من قول ابن إسرائيل الدمشقي:

فواحد فى رياض الأنس منبسط

يجرّ للتّيه أذيالًا وأردانا

انظر: ذيل مرآة الزمان (3/ 428).

(5)

"ط": "ما".

(6)

"ط": "تحقيقه".

ص: 70

له من آثار الصفات المقدسة و [ما]

(1)

تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفةٍ صفةٍ

(2)

على الانفراد ومجموعها قائمةً بالذَّات. وهذا أمرٌ تضيق عن شرحه عدَّةُ أسفار، بل حظُّ العبد منه علمًا وإرادة كما يُدخل إصبعه في اليم، بل الأمر أعظم من ذلك، واللَّه عز وجل {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد/ 17].

فإذا استغنى القلبُ بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفسُ غنًى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجبُ ثقلَها وكسلَها وإخلادَها إلى الأرضِ، وصارت [لها]

(3)

حرارةٌ توجِبُ حركتَها وخفّتَها في الأوامر وطلبَها الرفيق الأَعلى، وصارت برودتُها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها. وذهبت أيضًا عنها

(4)

اليبوسةُ المضادَّةُ للينها وسرعةِ انفعالها وقبولها؛ فإنَّها إذا كانت يابسةً قاسيةً كانت بطيئة الانفعال، بعيدة القبول، لا تكاد تنقاد. فإذا صارت برودتها حرارةً، ويبوستها رطوبةً

(5)

وسُقيَت بماءِ الحياة الذي أنزله اللَّه على قلوب أنبيائه، وجعلها قرارًا ومعينًا له، ففاض منها على قلوب أتباعهم، فأنبتت من كلِّ زوجٍ كريم = فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤديةً لحقوقه، قائمةً بأوامره، راضيةً عنه، مرضيةً له بكمال طمأنينتها {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر/ 27 - 28].

(1)

ما بين الحاصرتين من "ط".

(2)

"ك، ط": "بكل صفة على".

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من "ك، ط". وفي الأصل و"ف" علامة "ظ" أي انظر.

(4)

"ك، ط": "عنها أيضًا".

(5)

"ط": "يبوستها حرارة، وبرودتها رطوبة"، وهو خطأ.

ص: 71

فلنرجع إلى كلامه.

[تفسير الدرجة الأولى وهي غنى القلب]

فقوله في الدرجة الأولى -وهي غنى القلب- أنَّهُ "سلامته من السبب" أي من الفقر إلى السبب، وشهودِه، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به. فمن كان معتمدًا على سبب غنيًّا به

(1)

واثقًا به لم يطلق عليه اسم "الغنى"، لأنَّه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمَّى صاحبُه غنيًّا إلا إذا سلِم من علُّة السبب استغناءً بالمسيِّب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنيًّا بتدبير اللَّه عز وجل.

فمن كملت له السلامة من علَّة الأسباب، ومن علَّة المنازعة للحكم، بالاستسلام له والمسالمة

(2)

، أي بالانقياد لحكمه الذي

(3)

حصَّل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته

(4)

. فإذا وقف العبد على حسن تدبيره

(5)

واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، إن

(6)

لم ينضمّ إليه المسالمة للحكم -وهو الانقياد له- فإنَّ المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليلٌ على وجود رعونة الاختيار، وذلك

(1)

"ط": "سبب غناه"، تحريف.

(2)

"ف": "المسالة"، تحريف.

(3)

"الَّذي" ساقط من "ط"، ولعلَّ الناشر حذفه لتقويم النص.

(4)

العبارة "فمن كملت له السلامة. . . " إلى هنا كذا وردت في الأصل وغيره. وأراها قلقة في هذا الموضع، ولو حذفت لاستقام السياق.

(5)

من "رحمته" إلى هنا ساقط من "ف" لانتقال النظر.

(6)

"ن": "الاستغناء وهذا الوقوف إن. . . ". "ط": "وإن"، خطأ.

ص: 72

دالٌّ على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار، ومن كان فقيرًا إلى شيء لم يُرِده اللَّه عز وجل لم يُطلَق عليه اسمُ الغني بتدبير اللَّه عز وجل. فلا يتمُّ الغنى بتدبير الربِّ عز وجل لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره.

ثمَّ يبقى عليه الخلاصُ من معنى آخر، وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الربِّ. فإنَّ مخاصمة

(1)

الخلق دليلٌ على فقره إلى الأمرِ الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ، يسخَط

(2)

لفوته، ويخاصم الخلقَ عليه، لا يطلق عليه اسم الغني حتَّى يسلم الخلق من خصومته لكمال

(3)

تفويضه إلى وليّه وقيومه ومتولي تدبيره.

فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علَّة منازعته لأحكام اللَّه عز وجل، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ = استحقَّ أن يكون غنيًّا بتدبير مولاه، مفوِّضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه؛ فتكون مخاصمته للَّه وباللَّه، ومحاكمته إلى اللَّه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل:"اللهُمَّ لكَ أسلمتُ وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ"

(4)

.

(1)

"ك، ط": "منازعة".

(2)

"ك": "ينحط"، تحريف.

(3)

"ك، ط": "بكمال".

(4)

أخرجه البخاري في كتاب التهجد (1120)، ومسلم في صلاة المسافرين (769) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 73

فتكون مخاصمةُ هذا العبدِ للَّه، لا لهواه وحظِّه؛ ومحاكمتُه خصمَه إلى أمر اللَّه وشرعه، لا إلى شيءٍ سواه. فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتَّبع هواه، وانتصر لنفسه. وقد قالت عائشة:"ما انتقم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه قط"

(1)

، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمَه إلى غيرِ اللَّه ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أُمِر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتَّى يجعل الحُكمَ للَّه وحده، كما هو كذلك في نفس الأمر.

والحكم حكمان

(2)

: حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني. فهذا الذي ذكره الشيخ في "منازل السائرين" وشرَحه عليه الشارحون إنَّما مراده به

(3)

الحكم الكوني القدري. وحينئذٍ فلا بدَّ من تفصيل ما أجملوه من مسألة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإنَّ هذا الإطلاق غيرُ مأمور به، ولا ممكن للعبد في نفسه.

بل الأحكام ثلاثة: "حكم شرعي ديني"، فهذا حقه أن يُتلقَّى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل الانقياد المحض. وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلًا البتة، وإنَّما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول. فإذا تلقَّى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادةً وتنفيذًا وعملًا، فلا تكون له شهوةٌ تنازعُ مرادَ اللَّهِ من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهةٌ تُعارضُ إيمانَه

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6126) وغيره، ومسلم في الفضائل (2327).

(2)

"ك، ط": "نوعان".

(3)

"به" ساقط من "ف".

ص: 74

به

(1)

وإقرارَه.

وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شهبة تعارض الحقَّ، وشهوةٍ تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتّبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل

(2)

خوضَ الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقُه تحت الأمر، واضمحلَّ خوضُه في معرفته بالحقِّ؛ فاطمأنَّ إلى اللَّه معرفةً به

(3)

، ومحبةً له، وعلمًا بأمره، وإرادةً لمرضاته، فهذا حقُّ الحكم الديني.

الحكم الثاني: الحكمُ الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي حَكَمَ به يَسخطه ويُبغضه ويَذُمّ عليه. فهذا حقُّه أن يُنازَعَ ويُدَافَعَ بكلِّ ممكن ولا يُسالَمَ البتة، بل يُنازعَ بالحكم الكوني أيضًا، فينازعَ حكمُ الحقِّ بالحقِّ للحق، ويدافَع

(4)

به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي: "النَّاسُ إذا وصلوا

(5)

إلى القضاءِ والقدر أمسكوا، وأنا انفتحتْ لي فيه

(6)

رَوزَنة

(7)

فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ. والعارفُ من يكون منازعًا للقدر، لا واقفًا مع القدر"

(8)

انتهى.

(1)

"به" ساقط من "ط"، وكذا من "ك"، ثمَّ استدرك بخط مغاير.

(2)

"ط": "الباطن" تحريف.

(3)

"به": ساقط من "ك".

(4)

"ك، ط": "فيدافع".

(5)

"ك، ط": "دخلوا".

(6)

"فيه" ساقط من "ك، ط".

(7)

الروزنة: الكوَّة النافذة، فارسي معرَّب. انظر: المعرب (336).

(8)

مدارج السالكين (1/ 272)، مجموع الفتاوى (2/ 458)، (6/ 308)(10/ 158). وانظر تفسير قول الشيخ "نازعت أقدار الحق. . . " في =

ص: 75

فإن ضاق ذرعُكَ عن هذا الكلام وفهمه فتأمَّل قول عمر بن الخطاب، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفِرُّ من قدَر اللَّه؟ فقال: "نفِرُّ من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه"

(1)

.

ثمَّ كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له في هذا العالم إلا به، ولا تتمُّ له مصلحة إلا بموجبه. فإنَّه إذا جاءَه قَدرٌ من الجوع والعطش و

(2)

البرد نازعه، وترك الانقياد له ومسالمته، ودَفَعَ

(3)

بقدَر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر اللَّه بقدره.

وهكذا إذا وقع الحريقُ في داره فهو بقدَر اللَّه، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلماهُ بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتَّى يطفئ قدَر اللَّه بقدر اللَّه، وما خرج في ذلك عن قدر اللَّه.

وهكذا إذا أصابه مرض بقدر اللَّه دافع هذا القدر، ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض. فحقُّ هذا الحكم الكوني أن يحرص العبدُ على مدافعته ومنازعته بكلِّ ما يمكنه، فإنْ غلبه وقهرَه حرَص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها اللَّه لذلك

(4)

،

= (8/ 547 - 550).

(1)

سقط لفظ الجلالة من "ط". وفي القطرية: "قدره". وأثر عمر رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب الطب (5729)، ومسلم في كتاب السلام (2219).

(2)

"ط": "أو".

(3)

"ك، ط": "دفعه".

(4)

"ط": "بك" خطأ صحح في القطرية.

ص: 76

فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم. وبهذا أُمِرَ، بل هذا حقيقة الشرع والقدر.

ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطِها حقَّها لزمَه التعطيلُ للقدر أو الشرع، شاء أم

(1)

أبى. فما للعبد ينازع أقدارَ الربِّ تعالى بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية

(2)

، ولا ينازع أقدارَه بأقداره

(3)

في حقِّ مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروجٌ عن العبودية ونقصٌ في العلم باللَّه وصفاته وأحكامه؟ ولو أنّ عدوًّا للإسلام قَصَده لكان هذا بقدر اللَّه، ويجب على كل مسلم دفعُ هذا القدَر بقدَرٍ يحبُّه اللَّه -وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب- دفعًا لقدر اللَّه بقدره، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية؛ اللّهم إلّا إذا بذل العبدُ جهدَه في المدافعة والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري

(4)

على العبد بغير اختياره، ولا طاقَة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته.

فهذا حقُّه أَن يتلقّى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة، وأن يكونَ فيه كالميّت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركبُ في لُجّة البحر، وعجَز عن السباحة، وعن سببٍ يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة. مع أنَّ عليه في هذا الحكم عبودياتٍ أخَر سوى

(1)

"ن، ك، ط": "أو".

(2)

"ك": "أسباب مصالحه ومعايشه الدنيوية".

(3)

"بأقداره" ساقط من "ك، ط".

(4)

"ك": "جرى".

ص: 77

التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزّةَ الحاكم سبحانه في حكمه، وعدلَه في قضائه، وحكمتَه في جريانه عليه، وأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه

(1)

، وأنّ الكتابَ الأول سبقَ بذلك قبل برء

(2)

الخليقة، فقد جفّ القلمُ بما يلقاه كلُّ عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

ويشهد أن القدر ما أصابه إلّا لحكمة اقتضاها اسمُ الحكيم جل جلاله وصفة

(3)

الحكمة، وأنّ القدر قد أصاب مواقعه وحلّ في المحل الذي ينبغي أن يحلّ فيه، إذ هو مُوجَب الحكمة البالغة والعلم المحيط والعزّة التامّة، لم يخطئ مواقع الحكمة، ولم يتعدَّ منازله التي ينبغي

(4)

له أن ينزل بها

(5)

؛ وأنّ ذلك أوجبه عدلُ اللَّه وحكمتُه وعزّتُه وعلمُه وملكُه العادل، فهو موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العلى. فله عليه أكملُ حمد وأتمُّه، كما له الحمدُ على جميع أفعاله وأوامره.

وإن كان حظُّ العبد من هذا القدر الذمّ، فحقُّ الربِّ جل جلاله منه الحمد والمدح، لأنّه موجَب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجَب نقصِ العبد وجهلِه وظلمِه وتفريطِه.

(1)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (21589، 21611، 21653)، وعبد بن حميد (247)، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وابن حبان (727) من حديث زيد بن ثابت، وهو حديث صحيح، صححه ابن حبان (ز).

(2)

"ك، ط": "بدء".

(3)

"ط": "وصفته".

(4)

العبارة "أن يحل فيه. . " إلى هنا ساقطة من "ط" لانتقال النظر.

(5)

"ط": "به"، ولعلَّه تغيير بسبب السقط.

ص: 78

فاقتسم الربِّ والعبدُ الخُطتين

(1)

في هذا القدَر، فكان

(2)

للرب تعالى فيه الحمدُ، والنعمةُ، والفضلُ، والثناء الحسن؛ وللعبد خُطَة

(3)

الذمّ، واللّوم، والإساءة، واستحقاق العقوبة.

استأثر اللَّهُ بالمحامِد والْـ

ـفَضْلِ، وولَّى الملامةَ الرَّجلا

(4)

ويشفيه في هذا المقام

(5)

أربعُ آيات:

أحدها

(6)

قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء/ 79].

والثانية: قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران/ 165].

والثالثة: قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى/ 30].

والرابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} [الشورى/ 48].

(1)

"ك، ط": "الحطَّين"، تحريف. وعبارة المصنف ناظرة إلى قول النابغة:

إنَّا اقتسمنا خُطَّتَينا بيننا

فحملتُ برَّةَ واحتملتِ فَجارِ

(2)

"ك، ط": "وكان".

(3)

"ك": "وللعبد حظه". وفي "ط": "والعبد حظه"، والصواب ما أثبتنا من الأصل.

(4)

للأعشى، وقد سبق في ص (11).

(5)

"ط": "ويتبين هذا المقام في"، تحريف.

(6)

كذا في الأصل و"ف، ن". وسيأتي مثله في ص (446، 376، 820). وانظر: بدائع الفوائد (308) ومدارج السالكين (2/ 239). وفي "ك، ط": "إحداها".

ص: 79

فمن نزَّل هذه الآيات على هذا الحكم علمًا ومعرفةً، وقام بموجبها إرادةً وعزمًا وتوبةً واستغفارًا، فقد أدَّى عبودية اللَّه في هذا الحكم، وهذا قدر زائد على مجرَّد التسليم والمسالمة. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه.

فصل [في تفسير الدرجة الثانية وهي: غنى النفس]

قوله في غنى النفس إنَّه: "استقامتها على المرغوب، وسلامتها من المسخوط

(1)

، وبراءتها من المراياة

(2)

":

يريد به

(3)

استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه اللَّه ويرضاه، وتجنُّبَها لمناهيه التي يسخطها ويُبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيمًا للَّه وأمره، وإيمانا به، واحتسابًا لثوابه، وخشية من عقابه

(4)

؛ لا طلبًا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربًا من ذمهم وازدرائهم، وطلبًا للجاه والمنزلة عندهم. فإنَّ هذا دليل على غاية الفقر من اللَّه، والبعد منه

(5)

، وأنَّه أفقر شيء إلى المخلوق.

فسلامةُ النفس من ذلك واتصافُها بضده دليلُ غناها؛ لأنَّها إذا أذعنت منقادةً لأمر اللَّه طوعًا واختيارًا ومحبة وإيمانًا واحتسابًا، بحيث تصير

(1)

"ط": "الحظوظ"، تغيير من الناشر قد مرَّ التنبيه عليه.

(2)

انظر ما سلف في ص (67).

(3)

"به" ساقط من "ك، ط".

(4)

"ك": "لعقابه".

(5)

"ك": "عنه".

ص: 80

لذتُها وراحتُها ونعيمُها وسرورُها في القيام بعبوديته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول

(1)

: "يا بلالُ أرحْنا بالصلاة"

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:"حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَيْني في الصلاةِ"

(3)

.

وقُرَّة العين

(4)

فوق المحبة، فجعل النساءَ والطِّيب مما يحبه، وأخبر أنَّ قرَّة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها، وتحضره

(5)

لذتُه وفرحُه

(6)

وسرورُه وبهجتُه = إنَّما هو

(7)

في الصلاة التي هي صلةٌ باللَّه وحضورٌ بين يديه، ومناجاةٌ له واقترابٌ منه، فكيف لا تكون قرَّةَ العين، وكيف تقَرُّ عينُ المحبِّ بسواها؟ فإذا حصل للنفس هذا الحظُّ الجليلُ فأيَّ فقرٍ تَخشَى معه، وأيُّ غنًى فاتها حتَّى تلتفتَ إليه؟

ولا يحصل لها هذا حتَّى ينقلبَ طبعُها، ويصير مجانسًا

(8)

لطبيعة

(1)

"ك": "كما قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم".

(2)

أخرجه أحمد (23088، 23154)، وأبو داود (4985)، والطبراني في الكبير (6214) وغيرهم. والحديث وقع خلاف في وصله وإرساله، وأشار الدارقطني والخطيب إلى أنَّ إرساله أصح. انظر: علل الدارقطني (4/ 120 - 122)، وتاريخ بغداد (10/ 443). (ز).

(3)

أخرجه أحمد (12293، 12294، 13057). والنسائي (3940) وابن أبي عاصم في الزهد (235). والحديث اختلف في وصله وإرساله. فصححه موصولًا الحاكم، وقوَّاه الذهبي، وجوّده العراقي، وحسَّنه ابن حجر. ورجح الدارقطني المرسل، فقال:"والمرسل أشبه بالصواب". انظر الأحاديث المختارة للضياء المقدسي (5/ 113)(ز).

(4)

"ك، ط": "فقرّة".

(5)

"ط": "ومحض لذته"، تحريف.

(6)

"ف": "فرحته"، خلاف الأصل.

(7)

كذا "هو" في الأصل وغيره. والضمير راجع إلى "قرّة العين".

(8)

"ك": "مجانبًا"، تحريف.

ص: 81

القلب؛ فتصير بذلك مطمئنةً بعد أن كانت لوَّامة. وإنَّما تصير مطمئنة بعد تبدُّل صفاتها، وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحقِّ جل جلاله، فجرى أثرُ ذلك النور في سمعه وبصرِه، وشعرِه وبَشرِه، وعَظْمِه ولَحْمِه،

(1)

وسائرِ مفاصله؛ وأحاطَ بجهاته من فوقه وتحته، ويمينه ويساره، وخلفه وأمامه؛ وصارت ذاتُه نورًا فصارَ

(2)

عملُه نورًا، وقولُه نورًا، ومدخلُه نورًا، ومخرجُه نورًا؛ وكان في مبعثه ممن أُتِمَّ

(3)

له نورُه، فقطَع به الجسر.

وإذا وصلت النفسُ إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعدَ عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإنَّ فقرَها إلى الشهوات هو الموجِبُ لها التقاعدَ عن المرغوب المطلوب؛ وأيضًا فتقاعدُها عن المطلوب منها

(4)

موجِبٌ لفقرها إلى الشهوات، فكلٌّ منهما موجب للآخر. وتركُ الأوامر أقوى لها في

(5)

افتقارها إلى الشهوات، فإنَّهُ بحسب قيام العبد بالأمر تُدفَع

(6)

عنه جيوشُ الشهوة، كما قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت/ 45].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}

(7)

[الحج/ 38]، وفي

(1)

"ك، ط": "لحمه ودمه".

(2)

"ك، ط": "وصار".

(3)

"ط": "انبهر"، تحريف شنيع.

(4)

"ط": "بينهما"، تحريف.

(5)

"ط": "من"، تحريف.

(6)

"ك": "يدفع".

(7)

كذا وردت الآية في الأصل وغيره بلفظ "يدفع" على قراءة ابن كثير وأبي =

ص: 82

القراءة الأخرى: "يُدافِعُ". فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوَّة الإيمان وضعفه.

فإذا

(1)

صارت النفس حرَّةً مطمئنةً غنيةً بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب، ففاض منه إليها = استقامت بذلك الغنى على الأمر المرغوب

(2)

، وسلِمتْ به عن الأمر المسخوط، وبرئت من المراياة

(3)

. ومدار ذلك كله على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا

(4)

، ولهذا كان الدِّين كفُه في قوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود/ 112]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} [الأحقاف/ 13].

فصل [في الدرجة الثالثة وهي: الغنى بالحق سبحانه، ولها ثلاث مراتب]

وهذه الاستقامة تُرَقِّيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كلِّ ما سواه، وهي أعلى درجات الغنى.

فأوَّل هذه الدرجة أن تشهد ذكرَ اللَّه عز وجل إيَّاك قبلَ ذكرك له،

= عمرو، ثمَّ ذكرت قراءة الباقين:"يدافع". وعلى هذا الترتيب جاء كلام المؤلف: "فكمال الدفع والمدافعة". والناشر قد غير الترتيب في إثبات القراءتين.

(1)

"ك، ط": "لماذا".

(2)

"ط": "الموهوب"، تحريف.

(3)

انظر ما سلف في ص (67).

(4)

"ك، ط": "باطنًا وظاهرًا".

ص: 83

وأنَّه

(1)

تعالى ذَكَرَك فيمن ذكَره من مخلوقاته ابتداءً قبلَ وجودِك وطاعتِك وذكرِك، فقدّر خلقَك ورزقَك وعمَلَك وإحسانَه إليك ويعمَه عليك حيث لم تكن شيئًا البتة.

وذكَرك سبحانه بالإسلام، فوفقك له، واختارك له دون من خذله، قال تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج/ 78] فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قطّ، وإنَّما هو الذي أفَلَك بسابق ذكره، فلولا ذكرُه لك بكل جميلٍ أولاكَه لم يكن لكَ

(2)

إليه سبيل.

ومن الذي ذكَرك باليقظة، حتَّى استيقظتَ، وغيرُك في رقدة الغفلة مع النُّوَّام؟

ومَن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتَّى وفَّقك لها، وأوقعَها في قلبك، وبعث دواعيك عليها

(3)

، وأحيا عزَماتِك الصادقةَ عليها، حتَّى تُبْتَ

(4)

إليه، وأقبلتَ عليه، فذقتَ حلاوة التوبة وبردَها ولذَّتَها؟

(5)

ومَن الذي ذكرك سواه بمحبَّته حتَّى هاجت من قلبك لواعجُها، وتوجَّهتْ نحوَه سبحانه ركائبُها؛ وعمرَ قلبَك بمحبَّته بعد طول الخراب، وآنسَك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب؟

ومن تقرَّب إليك أوَّلًا حتَّى تقرَّبت إليه، ثمَّ أثابك على هذا التقرب

(1)

" ك": "وأنَّ اللَّه".

(2)

"لك" سقط من "ط" واستدرك في القطرية.

(3)

"عليها" ساقط من "ك، ط".

(4)

"ط": "ثُبت".

(5)

"ط": "لذَّاتها".

ص: 84

تقرُّبًا آخر، فصار التقرُّبُ منك محفوفًا بتقرّبَين منه تعالى: تقرُّبٍ قبله، وتقرُّب بعده؛ والحبُّ منك محفوفًا بحبَّينِ منه: حبٍّ قبله، وحُبٍّ بعده؛ والذكرُ منك محفوفًا بذكرَين: ذكرٍ قبله، وذكرٍ بعده؟

فلولا سابقُ ذكره إيَّاك لم يكن من ذلك كلّه شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرّةٌ ممَّا وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبَّته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه. فهذه كلُّها آثارُ ذكره لك.

ثمَّ إنَّه سبحانه ذَكَرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عينٍ ونفَسٍ نعمٌ عديدةٌ ذكَرك بها قبلَ وجودك، وتعرَّف بها إليك، وتحبَّب بها إليك، مع غناه التامّ عنك وعن كل شيء. وإنَّما ذلك مجرَّد إحسانه وفضله وجوده، إذ هو الجوادُ

(1)

المحسنُ لذاته، لا لمعاوضةٍ، ولا لطلب جزاءٍ منك، ولا لحاجةٍ دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟ فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنَّه ذكرك بها، فَلْتعظُمْ عندك لِذكره لك بها، فإنَّه

(2)

ما حقَّرك مَن ذكَرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبَّب إليك بنعمته؛ هذا كلّه مع غناه عنك.

فإذا شهد العبدُ ذكرَ ربِّه له، ووصل شاهدُه إلى قلبه شَغَلَه ذلك عمَّا سواه، وحصل لقلبه به غنًى عالٍ لا يشبهه شيء. وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذُه وسيّدُه يَذكُره ولا ينساه، فهو يحصل له -بشعوره بذكر أستاذه له- غنى زائد على إنعام سيّده عليه وعطاياه السنية له؛ فهذا هو غني ذكر اللَّه للعبد.

(1)

زاد هنا في "ك، ط": "المفضل".

(2)

"ط": "فإنَّها".

ص: 85

وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "مَنْ ذَكَرَني في نَفْسه ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ"

(1)

. فهذا ذكرٌ ثانٍ بعد ذكر العبد لربّه غير الذكر الأوَّل الذي ذكره به

(2)

حتى جعله ذاكرًا، وشعورُ العبد بكلا الذكرَين يُوجب له غنى زائدًا على إنعام ربّه عليه وعطاياه له.

وقد ذكرنا في كتاب "الكلم الطيب والعمل الصالح"

(3)

من فوائد الذكر استجلابَ ذكرِ اللَّه لِعبده. وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلَّق بالذكر، كل فائدةٍ منها لا خطَر

(4)

لها. وهو كتاب عظيم النفع جدًّا.

والمقصودُ أنَّ شعور العبد وشهودَه لذكر اللَّه له يُغني قلبه ويَسدُّ فاقته، وهذا بخلاف مَن نسوا اللَّه فنسيَهم؛ فإنَّ الفقرَ من كُلّ خير حاصلٌ لهم، وما يظنون أنَّه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر

(5)

أسباب فقرهم.

(1)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7405) وغيره، ومسلم في الذكر (2675).

(2)

"به" ساقط من "ف".

(3)

ص (96). وقد صدر الكتاب في هذه السلسلة بعنوان "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب".

(4)

كذا في الأصل وغيره. أي لا مثيل لها، ولا عوض عنها. في حديث أسامة بن زيد:"ألا مشمّر للجنة، فإنّ الجنَّة لا خطر لها" رواه ابن ماجه (4332). وقال المصنف في زاد المعاد (4/ 273): "فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلامًا". وانظر: اللسان (خطر). وفي ط: "لا نظير لها"، ولعله تغيير من ناسخ أو ناشر.

(5)

"ف": "آكد". "ن": "أحد"، والصواب ما أثبتنا.

ص: 86

فصل الدرجة الثانية من درجات الفنى باللَّه عز وجل: دوامُ شهودِ أوَّليته تعالى

وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى ممَّا قبله، والغنى به أتمّ من الغنى المذكور؛ لأنَّه من مبادئ الغنى بالحقيقة؛ لأنَّ العبد إذا فتح اللَّه لقلبه

(1)

شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الحقّ الكامل في أسمائه وصفاته، الغنيّ بذاته عمَّا سواه، الحميد المجيد

(2)

بذاته قبل أن يخلق مَن يحمده ويعبده ويمجّده، فهو معبود محمود حيّ قيّوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإنَّما كان به؛ وهو تعالى بنفسه ليس بغيره، فهو القيوم الذي قيامُ

(3)

كلِّ شيءٍ به، ولا حاجةَ به في قيومته إلى غيره بوجه من الوجوه = فإذا شهد العبدُ سبقَه تعالى بالأوَّلية

(4)

ودوام وجوده الحقّ، وغاب بهذا عمَّا سواه من المحدَثات؛ فني في وجوده من لم يكن، كأنَّه لم يكن

(5)

، وبقي من لم يزل. واضمحلَّت الممكنات في وجوده الأزليّ الدائم، بحيث صارت كالظلال التي

(6)

يبسطُها ويمدُّها ويقبِضُها، فيستغني العبدُ بهذا

(1)

"ف": "له"، خلاف الأصل.

(2)

"المجيد" ساقط من "ك، ط".

(3)

"ف": "أقام" خلافًا للأصل.

(4)

في الأصل: "الأولوية" سهو، وكذا في "ف".

(5)

"كأنَّهُ لم يكن" ساقط من "ط".

(6)

في الأصل و"ف": "الذي"، وفي حاشيتيهما علامة "ظ" أي انظر. ولعلَّه سبق قلم. وكذا في "ن، ك"، والمثبت من "ط".

ص: 87

المشهد العظيم، ويتغذَّى به

(1)

عن فاقاته وحاجاته.

وإنَّما كان أفضلَ عندهم

(2)

ممَّا قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبةٌ مشيرةٌ إلى وجود العبد. وهذا الشهود الثاني ساترٌ للموجودات

(3)

كلِّها سوى الأوَّل تعالى، قد اضمخَلتْ، وفنيتْ فيه، وصارتْ كأوليتها، وهو

(4)

العدم. فأفنتها أوَّليةُ الحق تبارك وتعالى، فبقي العبد محوًا صرفًا وعدمًا محضًا، وإن كانت إنّيَّتُه متشخصةً

(5)

مشارًا

(6)

إليها، لكنَّها لما نُسِبتْ إلى أوَّلية الحق عز وجل اضمحلَّتْ وفنيتْ، وبقي الواحد الحقّ الذي لم يزل باقيًا. فاضمحلَّ ما دون الحق تعالى في شهود العبد، كما هو مضمحلّ في نفسه. وشهِد العبدُ حينئذٍ أنَّ كل شيء سوى اللَّه

(7)

باطل، وأنَّ الحقَّ المبين هو اللَّه وحده. ولا ريب أنَّ الغنى بهذا الشهود أتمُّ من الغنى بالذي قبله.

وليس هذا مختصًّا بشهود أوَّليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الربّ جل جلاله يستغني العبدُ بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديّتها.

فمَن شهد مشهدَ علوِّ اللَّه على خلقه وفوقيّته لعباده واستوائه على عرشه، كما أخبر به أعرَفُ الخلق وأعلَمُهم به الصادقُ المصدوقُ، وتعبَّد

(1)

في الأصل وغيره: "بها"، وهو أيضًا سهو. وفي حاشيتي الأصل و"ف" علامة "ظ".

(2)

"ط": "كان هذا عندهم أفضل".

(3)

"ط": "سائر الموجودات" تحريف.

(4)

"ف": "هي" خلاف الأصل.

(5)

"ط": "مشخصة".

(6)

"ك": "ومشارم إليها".

(7)

"ك، ط": "ما سواه".

ص: 88

بمقتضى هذه الصفة، بحيث يصيرُ لقلبه صَمَدٌ يعرج القلبُ إليه مناجيًا له مطرقًا واقفًا بين يديه وقوفَ العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأنَّ كلِمَه وعملَه صاعدٌ إليه معروضٌ عليه بين خاصَّته

(1)

وأوليائه، فيستحيي أن يصعد إليه مِن كلمه وعمله

(2)

ما يُخزيه ويفضحه هناك؛ ويشهدُ نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كلَّ وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء، والتولية والعزل، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، وكشف البلاءِ وإرساله، وتقليب

(3)

الدول ومداولة الأيام بين النَّاس إلى غير ذلك من التصرّف

(4)

في المملكة التي لا يتصرّف فيها سواه، فمراسيمُه

(5)

نافذةٌ فيها كما يشاء {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة/ 5] = فمن أعطى هذا المشهد حقَّه معرفةً وعبوديةً استغنى به.

وكذلك من شهِد مشهدَ العلم المحيط الذي لا يعزُب عنه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال؛ بل أحاط بذلك كلّه

(6)

علمًا تفصيليًّا، ثمَّ تعبَّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره، وإراداته

(7)

، وعزماته، وجوارحه علمًا

(1)

"ك": "مع خاصته". ط: "مع أوفى خاصته"!

(2)

"وعمله" ساقط من "ط".

(3)

"ك، ط": "تقلب".

(4)

"ك، ط": "التصرفات".

(5)

"ك، ط": "فمراسمه".

(6)

"ط": "علمه"، تحريف.

(7)

"ك، ط": "وإرادته وجميع أحواله"!

ص: 89

بأنَّ

(1)

حركاته الظاهرة والباطنة وخواطرَه وإراداته

(2)

وجميعَ أحواله ظاهرةٌ مكشوفةٌ لديه

(3)

، علانيةٌ له، باديةٌ له

(4)

لا يخفى عليه منها شيء.

وكذلك إذا أشعرَ قلبَه صفةَ سمعِه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواءٌ عنده من أسرَّ القولَ ومن جهرَ به، لا يشغله جَهْرُ من جَهَرَ عن سمعه لِصوت مَن أسرَّ، ولا يشغله سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلّطه الأصواتُ على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل

(5)

هي عنده كلها كصوت واحد، كما أنَّ خلقَ الخلق جميعِهم وبعثَهم عنده بمنزلة نفس واحدة.

وكذلك إذا شهد معنى اسمه "البصير" جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاءِ في حِنْدِس الظلماء، ويرى تفاصيلَ خلقِ الذرَّة الصغيرة ومخّها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مدَّ البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقَّه من العبودية، فحرَسَ حركاته وسكناته

(6)

، وتيقَّن أنَّها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدةٍ لا يغيب عنه منها

(7)

شيء.

(1)

"ك، ط": "عَلِمَ أنَّ".

(2)

"ك، ط": "وإرادته".

(3)

"ن": "لربه".

(4)

"له" ساقط من "ك، ط".

(5)

"بل" ساقط من "ف، ن".

(6)

"ط": "يحرس حركاتها وسكناتها".

(7)

"منها" ساقط من "ط" واستدرك في القطرية.

ص: 90

وكذلك إذا شهد مشهدَ القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنَّه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت

(1)

؛ وأنَّه تعالى هو القائم بنفسه، المقيمُ لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاءِ المحسن إليه وجزاءِ المسيء إليه؛ وأنَّه لكمال

(2)

قيوميَّته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النَّهار وعملُ النَّهار قبل الليل، لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، ولا يضلّ ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع

(3)

مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية.

وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاءِ. وهو شهادة أن لا إله إلا هو، وأنَّ إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أنَّ ربوبية ما سواه كذلك، فلا أحد سواه يستحق أن يؤلَّه ويُعبَد، ويُصلَّى له ويُسجَد. ويستحقُّ نهاية الحبّ مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده. فكلُّ عبوديةٍ لغيره باطلةٌ وعناءٌ وضلال، وكلُّ محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكلُّ غنًى بغيره

(4)

فقرٌ وفاقة، وكلُّ عزٍّ بغيره ذلّ وصغار، وكلُّ تكثّر بغيره قلَّة وذلَّة. فكما استحال أن يكون للخلق ربّ غيره، فكذلك يستحيل

(5)

أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات، وتوجهت نحوه الطلبات.

(1)

"بما كسبت" ساقط من "ك، ط".

(2)

"ك، ط": "بكمال".

(3)

"ن": "أعلى".

(4)

"ك، ط": "لغيره"، تحريف.

(5)

"ط": "استحال".

ص: 91

ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإنَّ الإله على الحقيقة هو الغنيّ الصمَد الكامل في أسمائه وصفاته، الذي حاجةُ كل أحدٍ إليه، ولا حاجة به إلى أحد؛ وقيامُ كلِّ شيءٍ به، وليس قيامُه بغيره. ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظمَ فساد واختلّ أعظمَ اختلال، كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإنَّ استقلالَهما ينافي استقلالَهما، واستقلالَ أحدهما يمنع ربوبّيةَ الآخر، فتوحيد الربوبيّة أعظم دليل على توحيد الإلهية.

ولذلك

(1)

وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحّة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطَر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبيّة. ولذلك

(2)

كان عُبّادُ الأصنام يُقِرون به، وينكرون توحيد الإلهية، ويقولون:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص/ 5] مع اعترافهم بأنّ اللَّه وحده هو الخالق لهم وللسماوات والأرض وما بينهما، وأنّه المتفرّد

(3)

بملك ذلك كله. فأرسل اللَّه تعالى الرسلَ تذكِّرهم

(4)

بما في فطَرهم الإقرارُ به من توحيده وحده لا شريك له، وأنَّهم لو رجعوا إلى فِطَرهم وعقولهم لدلَّتهم على امتناع إليما آخر معه واستحالته وبطلانه.

فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاءِ، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظُّ العباد منه بحسب حظّهم من معرفة الأسماء

(1)

"ك": "كذلك"، خطأ.

(2)

"ك، ط": "وكذلك".

(3)

"ط": "المنفرد"، والأصل غير منقوط.

(4)

"ك، ط": "فأرسل اللَّه تعالى يذكر بما".

ص: 92

والصفات. ولذلك كان أكملُ الخلق فيه أعرفَهم باللَّه وأسمائه وصفاته

(1)

، ولذلك

(2)

كان الاسم الدَّالّ على هذا المعنى هو اسم اللَّه جل جلاله، فإنَّ هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلُّها إليه، فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء اللَّه، ولا يقال:"اللَّه" من أسماء الرحمن. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف/ 185].

فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهدُ كلّها، وكلُّ مشهد سواه فإنَّما هو مشهدٌ لصفة من صفاته. فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهيَّة، وقام بحقّه من التعبَّد الذي هو كمالُ الحبّ بكمالِ الذلّ والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تمَّ له غناه بالإله الحقّ، وصار من أغنى العباد. ولسانُ حالِ مثلِ هذا يقول:

غنِيتُ بلا مالِ عن النَّاس كلِّهم

وإنَّ الغنى العالي عن الشيء لا بِهِ

(3)

فيا لَه من غنًى ما أعظم خطره، وأجلَّ قدره! تضاءَلتْ دونه الممالكُ فما دونها، فصارت بالنسبة إليه كالظلِّ من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديثُ النفس، ويطرده الانتباهُ من النوم.

(1)

العبارة "ولذلك. . . " إلى هنا ساقطة من "ك، ط".

(2)

"ك": "وكذلك".

(3)

من قصيدة نسبت في المستطرف (2/ 43) إلى الإمام الشافعي. ومنه في ديوانه - نشرة إحسان عباس (17)، والبيت وحده ورد في المستطرف أيضًا (1/ 110) منسوبًا إلى القهستاني، وله في معجم الأدباء (1680). وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 419)، ومدارج السالكين (3/ 152).

ص: 93

فصل الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالربّ جل جلاله: الفوز بوجوده.

هذا الغنى أعلى درجات الغنى؛ لأنَّ الغنى الأوَّل والثاني كانا من آثار ذكر اللَّه والتوجّه، ففاض على القلب في صدق توجهه

(1)

أنوارُ الصفات المقدَّسة، فاستغنى

(2)

القلبُ بذلك، وحصل

(3)

له أيضًا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده، وحسن وكالته له

(4)

، وقيوميته بتدبيره، وحسن تدبيره، فاستغنت النفس بذلك أيضًا.

وأمَّا هذا الغنى الثالث الذي هو "الغنى بالحق" فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إنَّما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات. وإنَّما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عينِ اليقين عندما يطلعِ فجرُ التوحيد، فهذا أوَّله. وكمالُه عند طلوع شمسه، فيتقطع

(5)

ضبابُ الوجود الفاني، وتُشرق شمسُ الوجود الباقي، فيتقطَّع

(6)

لها كل ضباب. وهذا عبارة عن نور يُقذَف

(7)

في القلب يُكشَف له بذلك النور عن عظَمةِ الذَّات، كما كُشِف له بالنور الذي قبلهَ عن عظمة الصفات.

فإذا كان أثرٌ من آثار صفات الذَّات أو صفات الأفعال يُغني القلبَ

(1)

"ن": "من صدق. . . ". "ك، ط": "من صدق التوجه".

(2)

"ط": "واستغنى".

(3)

"ك، ط": "وجعل"، تحريف.

(4)

"له" ساقط من "ك، ط".

(5)

هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "فينقطع".

(6)

هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "فينقطع".

(7)

في حاشية "ف" إشارة إلى أن في نسخة: "يقذفه".

ص: 94

والنفسَ، فما ظنُّك بما تكاشَفُ

(1)

به الأرواحُ من أنوار قدسِ الذَّات المتَّصفة بالجلال والإكرام. فهذا غنًى لا يناله الوصفُ، ولا يدخل تحت الشرح، فيستغني العبد الفقير بوجود سيّده العزيز الرَّحيم.

فيا لكَ من فَقْرٍ تَقَضَّى

(2)

، ومِن غِنَى

يدومُ، ومِن عيشٍ ألذَّ من المُنى!

(3)

فلا تستعجزْ نفسَك عن البلوغ إلى هذا المقام، فبينك وبينه صدقُ الطلب، فإنَّما

(4)

هي عزمةٌ صادقةٌ، ونهضةُ حُرٍّ لنفسه

(5)

عنده قدرٌ وقيمةٌ، يغار عليها أن يبيعَها بالدون.

وقد جاءَ في أثرٍ إلهي: "يقول اللَّه عز وجل: ابْنَ آدمَ خَلَقْتكَ لنفسي فلا تَلْعَبْ، وَتَكَفلْتُ برزقك فلا تتْعَبْ، ابْنَ آدمَ اطْلُبْني تَجدْني، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شيءٍ، وإِنْ فُتُّكَّ فَاتَكَ كلُّ شيءٍ، وأَنَا أَحَبُّ إليكَ مِنْ كُل شيءٍ"

(6)

.

فمن طلَب اللَّه بصدقٍ وجده، ومن وجده أغناه وجودُه عن كلِّ شيءٍ

(7)

.

(1)

"ك": "يكشف"، خطأ.

(2)

قرأ ناسخ "ف": "يُقضى"، وكتب في الحاشية:"ينقضي ظ". وفي "ك": "يقضى". وفي "ط": "ينقص"، والصواب ما أثبتنا.

(3)

لم يفطن ناسخ "ف"، فأثبت هذا البيت نثرًا، وكذا في "ك، ط".

(4)

"ك، ط": "وإنَّما".

(5)

"ك، ط": "ممن لنفسه".

(6)

أثر إسرائيلي، كما نصَّ شيخ الإسلام في الفتاوى (8/ 52)، وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 400، 507)، والداء والدواء (305)، وروضة المحبين (432). وسيأتي مرة أخرى في ص (526).

(7)

"عن كل شيء" ساقط من "ك".

ص: 95