الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتفصيل هذه الجملة
(1)
ممَّا لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به، ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكلُّ صفة عليا واسم حسن وثناءٍ جميل وكلُّ حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو للَّه عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميعُ ما يوصف به ويُذكر به ويُخبر عنه به فهو محامدُ له وثناءٌ وتسبيح وتقديس. فسبحانه وبحمده، لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه
(2)
خلقُه، فله الحمدُ أوَّلًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، ورفيع مجده، وعلو جده.
فهذا تنبيه على أحد نوعَي حمده، وهو حمد الصفات والأسماء.
والنوع
الثاني: حمد النعم والآلاء
، وهذا مشهود للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمِنها وكافرها؛ من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته بهم
(3)
، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كُرُبات المكروبين
(4)
، وإغاثة
(5)
الملهوفين، ورحمة العالمين
(6)
، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه
(1)
"ب، ك، ط": "الحكمة"، والظاهر أنَّه تحريف.
(2)
"ف": "عليه به"، خلاف الأصل.
(3)
"ك، ط": "لهم".
(4)
"ف": "المحزونين"، تصحيف.
(5)
"ف": "إعانة".
(6)
"ب، ك، ط": "رحمته للعالمين".
وإحسانه، ودفعِ المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفِها بعد وقوعها، ولطفِه تعالى في ذلك بإيصاله
(1)
إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّته وعبادَه
(2)
إلى سُبُل السلام
(3)
، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام.
وحبَّبَ إليهم الإيمان، وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوق والعصيان، وجعلهم من الرَّاشدين. وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسمَّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبَّب إليهم بنعمه، مع غناه عنهم
(4)
، وتبغُّضهم إليه بالمعاصي، وفقرهم إليه.
ومع هذا كله فاتخذَ لهم دارًا، وأعدَّ لهم فيها من كلِّ ما تشتهيه الأنفس وتلذُّه الأعين
(5)
، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والحَبْرَة والسرور والبهجة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر.
ثمَّ أرسلَ إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثمَّ يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضيَ منهم باليسير في هذه المدَّة القصيرة جدًا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم، وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن
(1)
"ب، ك": "باتصاله".
(2)
"ب": "خاصة عباده".
(3)
"ك، ط": "سبيل دار السلام".
(4)
"عنهم" ساقط من "ط".
(5)
"ب، ط": "تلذ الأعين".
يُثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه
(1)
أن يغفر لهم، ووعَدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئاتِ بما يفعلونه بعدها من الحسنات.
وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمةً منه بهم واحسانًا، لا حاجةً منه إليهم، ونهاهم عمَّا نهاهم عنه حمايةً وصيانةً
(2)
لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصَّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال، وصرَّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسَّع لهم طرُقَ العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبوابَ الهداية، وعرَّفهم الأسبابَ التي تُدنيهم من رضاه وتُبعِدهم من غضبه
(3)
.
ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسميهم
(4)
بأحسن أسمائهم كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور/ 31]، {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر/ 53]، {قُلْ لِعِبَادِيَ} [إبراهيم/ 31]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة/ 186].
فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف
(5)
كقوله:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
(1)
"ب": "استغفروا".
(2)
"ب": "نهاهم صيانة وحماية".
(3)
"ك، ط": "عن غضبه". "ن": "من سخطه".
(4)
"ب": "وسماهم"، وما قبله ساقط منها.
(5)
"ف": "والتعطف"، خلاف الأصل.
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة/ 22].
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار/ 6 - 7].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال/ 25 - 26].
فتحتَ هذا الخطاب: إنِّي عاديتُ إبليسَ، وطردتُه من سمائي، وباعدتُه من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثمَّ أنتم يابنيه توالونه وذريته من دوني، وهم أعداءٌ لكم
(1)
! فليتأمَّل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدَّة لصوقه بالقلوب، والتباسه بالأرواح. وأكثرُ القرآن جاءَ على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة.
وأعلم عباده -سبحانه- أنَّه لا يرضى لهم إلا أكرمَ الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف. قال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر/ 7].
(1)
"ب": "لكم أعداء".
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3].
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185]
(1)
.
(2)
.
ويتنضَّل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنّة والتهمة التي ينسبها
(3)
إليه مَن لم يعرفه حقَّ معرفته ولا قدَره حقَّ قدره، من تكليفِ عباده ما لا يقدِرون عليه ولا طاقة لهم بفعله البتَّة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلقِ السماوات والأرضِ وما بينهما لا لحكمةٍ ولا لغاية؛ وأنَّه
(4)
لم يخلق خلقَه لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليتكثَر بهم من قلَّة، ولا ليتعززَ بهم من ذلَّة، ولا ليستعينَ بهم
(5)
، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات/ 56 - 57].
(1)
بعد هذه الآية وقع في الأصل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، وكذا في "ف، ن". وهو جزء من الآية التالية، فحذف فى "ط". وزاد فى "ك، ط": "وقال".
(2)
حذفت الآية الأولى في "ك".
(3)
"ب، ك، ط": "نسبها".
(4)
يعني: ويتنصل من أنه. . . وفي "ب": "لغاية، تعالى اللَّه عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. إنَّه جل جلاله لم يخلق".
(5)
"من ذلة، ولا ليستعين بهم" ساقط من "ك، ط".
فأخبرَ أنَّهُ لم يخلق الجنَّ والإنسَ لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جودًا وإحسانًا ليعبدوه فيربَحوا هم عليه كلّ الأرباح كقوله:{أنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء/ 7]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم/ 44].
ولمَّا أمرهم بالوضوء والغسل
(1)
من الجنابة الذي يحطّ عنهم أوزارهم، ويدخلون به عليه، ويرفع به درجاتهم، قال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة/ 6].
وقال في الأضاحي والهدايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج/ 37].
وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة/ 267]. يقول سبحانه: إنِّي غني عمَّا تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد
(2)
كلِّها. فإنفاقكم لا يسدُّ منه حاجةً، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُكم إنَّما نفعُه لكم وعائدته عليكم.
ومن المتعين على من لم يباشر قلبَه حلاوةُ هذا الخطاب، وجلالتُه، ولطفُ موقعه، وجذبُه للقلوب والأرواح، ومخالطتُه لها = أن يعالجَ قلبَه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من
(1)
"ب، ط": "بالغسل".
(2)
"ك، ط": "المحامد".
ذلك، ويتعرَّضَ إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى اللَّه أن يحيى قلبَه، ويزكيَه، ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب المثت لا يذوق طعمَ الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ومن أراد مطالعة أصولِ النِّعَم فَلْيُسم سرحَ الفكر
(1)
في رياض القرآن، ولْيتأمل ما عدَّد اللَّه فيه من نعَمِه، وتعرَّف بها إلى عباده من أوَّل القرآن إلى اخره، حتَّى خلقَ النَّارِ
(2)
، وابتلاءَهم بإبليس وحزبِه، وتسليطَ أعدائهم عليهم، وامتحانَهم بالشهوات والإرادات والهوى، لِتعظُمَ النعمةُ عليهم بمخالفتها ومحاربة أعدائه
(3)
. فللَّه على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كلِّ ما أحدثه في الأرض من وقائعه
(4)
بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدَّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلامُ الدنيا وأوراقُها، ولا قوى العباد، وإنَّما هو التنبيه والإشارة.
ومن استقرى الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ وثناءً تقصر بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهامُ عن الإحاطة بالواحد منها. ومع ذلك فللَّه سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناءِ لم تتحرَّك بها
(1)
"ط": "الذكر". تحريف.
(2)
"ب": "حين خلق النار". "ك، ط": "حين خلق أهل النار"، والصواب ما أثبتنا من الأصل و"ف". و"خلق النار" معطوف على "ما عدَّد"، فجعل خلق النار وما بعده من النعم التي دعا إلى تأملها.
(3)
"أعدائه" ساقط من "ك". "ط": "محاربته".
(4)
"ب": "إيقاع". "ك": "الأرض ووقائعه".
الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم، ولا سنحت في فكر. ففي دعاء أعرفِ الخلق بربه تعالى وأعلمِهم بأسمائه وصفاته ومحامده: "أسألك بكلِّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن
(1)
ربيع قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حُزني، وذهابَ همِّي وغمِّي"
(2)
.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لمَّا يسجدُ
(3)
بين يدى ربِّه، قال:"فيفتح عليَّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن"
(4)
.
وكان يقول في سجوده: "أعوذ برضاك من سَخَطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ
(1)
"ب": "القرآن العظيم".
(2)
أخرجه أحمد (3712)، وابن حبان (972)، والحاكم (1/ 509) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. قال الحاكم:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه فإنَّه مختلف في سماعه من أبيه". (ز).
(3)
"لما يسجد" كذا في الأصل وغيره. و"لما" الحينية مختصة بالماضي، فلا يجوز دخولها على المضارع. وقد أدخلها المصنف على المضارع في نونيته في ثلاثة مواضع، منها قوله في السياق نفسه:
ولذاك يثني في القيامة ساجدًا
…
لمَّا يراهُ المصطفى بعيانِ
بثناء حمدٍ لم يكن في هذه الد
…
نيا ليحصيَه مدى الأزمان
الكافية الشافية (685). وفي "ك": "لما سجد"، لكنَّه غير مناسب للسياق.
(4)
أخرجه البخاري في التفسير (4712) وغيره، ومسلم في الايمان (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
على نفسك"
(1)
.
فلا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه البتة، وله أسماء وأوصاف وحمد وثناءٌ
(2)
لا يعلمه ملَك مقرَّب، ولا نبي مرسَل. ونسبة ما يعلم العبادُ من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنَقْرَةِ عصفورٍ في بحر.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون في الأسماء الدَّالّة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟
قيل: قد تقدَّم من الكلام في ذلك ما يكفي بعضه لذي الفطرة السليمة والعقل المستقيم. وأمَّا من فسدت فطرته، وانتكس قلبه، وضعفت بصيرة عقله، فلو ضُرب له من الأمثال ما ضُرب فإنَّه لا يزيده إلا عمًى وتحيرًا. ونحن نزيد ما تقدم إيضاحًا وبيانًا، إذ بسطُ هذا المقام
(3)
أولى من اختصاره، فنقول:
قد علمتَ أنَّ جميع أسماءِ الربِّ جل جلاله حسنى، وصفاته كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة؛ وله كل ثناءٍ وكلُّ حمدٍ ومدحة
(4)
، وكلُّ خير فمنه وله وبيده
(5)
، والشرُّ ليس إليه بوجه من الوجوه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه. وإن كان في مفعولاته
(1)
تقدم تخريجه في ص (56).
(2)
"ب": "ثناء وحمد وأسماء وأوصاف".
(3)
"ب": "بسط الكلام في هذا المقام".
(4)
"ب": "وكل مدحة وكل حمد".
(5)
"ب": "وله وبه وبيده".
فهو خيرٌ بإضافته إليه، وشرٌّ بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسَّك بهذا الأصل ولا تُفارِقْه في كلِّ دقيق وجليل، وحكِّمه على كلِّ
(1)
ما يرد عليك، وحاكِمْ إليه واجعله آخيتك التي ترجع إليها وتعتمد عليها.
واعلم أنَّ للَّه خصائصَ في خلقه، ورحمةً وفضلًا يختص به من يشاءُ، وذلك موجَب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثمَّ إيَّاكَ أن تُصغي إلى وسوسِة شياطين الإنس والجنّ والنفس الجاهلة الظالمة أنَّه هلَّا سوَّى بين عباده في تلك الخصائص، وقسَّمها بينهم على السواء؟ فإنَّ هذا عين الجهلِ والسفَه من المعترض به. وقد بيّنَّا فيما تقدم أنَّ حكمته تأبى ذلك وتمنع منه
(2)
.
ولكن اعلم أنَّ الأمرَ قسمةٌ بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا
(3)
. فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولِكلِّ واحدٍ قسطُه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعملٌ فيما هو له مهيَّأ وله مخلوق.
وكلُّ ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنَّه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقَسْمه
(4)
، فلذلك
(5)
لا تضرهم الأدواءُ
(1)
"كل": ساقط من "ب".
(2)
انظر ما سلف في ص (212، 217).
(3)
"وهذا" ساقط من "ط".
(4)
"ب، ط": "قسمته"، وقد سقطت من "ف" سهوًا.
(5)
"ك، ط": "فكذلك".
ولا السُّموم، بل متى وسوس لهم العدو، أو اغتالهم
(1)
بشيءٍ من كيده، أو مسَّهم بشيء من طيفه {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف/ 201 - 202].
وإذا واقعوا معصيةً صغيرةً أو كبيرةً عاد
(2)
ذلك عليهم رحمةً، وانقلب في حقهم دواءً، وبُدِّلَ حسنةً بالتوبة النصوح والحسنات الماحية؛ لأنَّه سبحانه عرَّفهم بنفسه وبفضله، وبأنَّ قلوبهم بيده وعصمتهم إليه، حيث نقض عزماتهم، وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزَّتَه في قضائه، وبرَّه وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشهدهم حاجَتهم إليه وافتقارَهم وذلَّهم، وأنَّه إن لم يعفُ عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا.
فإنهم لمَّا أعطوه
(3)
من أنفسهم العزمَ أن لا يعصوه، وعقدوا عليه قلوبَهم، ثمَّ عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيمَ اقتداره، وجميلَ ستره إيَّاهم، وكريم حلمه عنهم، وسعة مغفرته لهم، وبردَ عفوه
(4)
وحنانه وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل، ورحيم سبقت رحمتُه غضبَه، وأنهم متى رجعوا بالتوبة إليه
(5)
وجدوه غفورًا
(6)
رحيمًا
(1)
"ن، ك، ط": "واغتالهم".
(2)
"ن": "رد".
(3)
"ك، ط": "أعطوا".
(4)
"ب": "وبره وعفوه". "ك، ط": "لهم برد عفوه".
(5)
ما عدا الأصل و"ف": "إليه بالتوبة".
(6)
"ب": "عفوًّا".
حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات، ويُقيلهم العثرات، ويودهم بعد التوبة ويحبهم.
فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاءِ، وتوسلوا إليه بذلّ العبيد
(1)
وعزّ الربوبيّة. فتعرّف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءَه، ويسّرهم للتوبة والإنابة، وأقبل بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه. ولم تمنعه معاصيهم وجناياتُهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم، فتابَ قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه.
فلمَّا تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرَّف إليهم تعرُّفًا آخر: فعرَّفهم رحمتَه، وحسنَ عائدته، وسعةَ مغفرته، وكريمَ عفوه، وجميلَ صفحه، وبرَّه وامتنانَه وكرمَه، وسرعةَ مبادرته
(2)
قبولَهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرود
(3)
، وشدَّة النفور، والإيضاع في طرق معاصيه
(4)
.
وأشهدَهم مع ذلك حمدَه العظيم، وبرَّه العميم، وكرمَه في أن خلَى بينهم وبين المعصية، فنالوها بنعمته واعانته، ثمَّ لم يُخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاكِ والفسادِ الذي لا يرجى معه صلاح
(5)
، بل تداركهم بالدواءَ الشافي
(6)
، فاستخرج منهم داءَ لو استمرَّ معه لأفضى
(7)
إلى الهلاك.
(1)
"ك، ط": "العبودية".
(2)
"ط": "وشرعه، ومبادرته"، تحريف.
(3)
"ك، ط": "شرور"، تحريف.
(4)
"طرق" ساقط من "ب". والإيضاع: الإسراع.
(5)
"ب، ك، ط": "فلاح".
(6)
"ك": "النائي الشافي"، "ط":"الثاني الشافي".
(7)
"ك": "لأخرجهم".
ثمَّ تداركهم بروحِ الرجاءِ، فقدفه في قلوبهم، وأخبر أنَّه عند ظنونهم به. ولو أشهدهم عظيمَ الجناية
(1)
، وقبحَ المعصية، وغضبه ومقته على من عصاه فقط، لأورثهم ذلك المرضَ
(2)
القاتل والداءَ العضال من الياس من رَوحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم. ولكن رحمهم قبل البلاء، وفي حَشْو البلاء، وبعد البلاء
(3)
. وجعل تلك الآثار التي تُوجبها معصيتُه
(4)
من المحن والبلاءِ والشدائد رحمةً لهم وسببًا إلى علوِّ درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده. فأشهدهم بالجناية
(5)
عزَّةَ الربوبية وذلَّ العبيد
(6)
، ورقَّاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته؛ فهم على كلِّ حال يربحون عليه، ويتقلبون في كرمه وإحسانه، فكلُّ
(7)
قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير له، يسوقه به
(8)
إلى كرامته وثوابه.
وكذلك عطاياه الدنيوية نعمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا منهم وسلبَهم إيَّاها انقلبت من عطايا الآخرة، كما قيل: إنَّ اللَّه يُنعِم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت من
(9)
عطايا الآخرة.
(1)
"ك، ط": "عظم الجناية".
(2)
"ف": "بالمرض"، خلاف الأصل.
(3)
"وفي حشو البلاء وبعد البلاء" ساقط من "ط".
(4)
"ك، ط": "المعصية".
(5)
"بالجناية" ساقط من "ب".
(6)
"ط": "العبودية".
(7)
"ك، ط": "وكل".
(8)
"به" ساقط من "ب، ك، ط".
(9)
"من" ساقطة من "ك، ط".
والربُّ سبحانه قد تجلَّى لقلوب المؤمنين العارفين، وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه، ومضاء
(1)
مشيئته، وعظيم سلطانه، وعليّ شأنه
(2)
، وكرمه وبره وإحسانه، وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية من ذلك
(3)
، ووراءَه -ممَّا لم تحتمله قواهم، ولا يخطر ببال، ولا يدخل في خلَد- ما
(4)
لا نسبةَ لما عرفوه إليه. فاعلم أنَّ الذين كان قِسْمُهم أنواع المعاصي والفجور، وفنون الكفر
(5)
والشرك، والتقلب في غضبه وسخطه = قلوبُهم
(6)
وأرواحهم شاهدةٌ عليهم بالمعاصي والكفر، مُقِرَّةٌ بأنَّ له الحجَّة عليهم وأنَّ حقَّه قِبَلهم. ولا يدخل
(7)
النارَ منهم أحدٌ
(8)
إلا وهو شاهدٌ بذلك، مقِرٌّ به، معترفٌ اعتراف طائع مختار
(9)
لا مُكرَه مضطهد. فهذه شهادتُهم على أنفسهم وشهادةُ أوليائه عليهم.
والمؤمنون يشهدون له
(10)
فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤوا بها لكانت رحمتُه أقربَ إليهم من عقوبته.
(1)
"ط": "مضي".
(2)
"ك، ب، ط": "علو شأنه".
(3)
"من ذلك" ساقط من "ط".
(4)
ما عدا الأصل: "مما".
(5)
"وفنون الكفر" ساقط من "ب".
(6)
"ك، ط": "وقلوبهم"، خطأ.
(7)
"ك، ط": "يذكر" تحريف.
(8)
"ب، ك، ط": "أحد منهم النار".
(9)
"مختار" ساقط من "ك، ط".
(10)
"له" ساقط من "ب، ك، ط".
فيشهدون بأنَّهم
(1)
عبِيده ومِلكه، وأنَّه أوجدهم ليظهر بهم مجدُه، وينفذَ فيهم حُكمُه، ويمضي فيهم عدلُه، ويحقَّ عليهم كلمتُه، ويصدقَ فيهم وعيدُه، ويبين
(2)
فيهم سابقُ علمه، ويعمر بها
(3)
ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته.
وشهد
(4)
أولياؤه عظيم ملكه، وعز سلطانه، وصدق رسله، وكمال حكمته، وتمام نعمته عليهم، وقدرَ ما اختصّهم به، ومن أي شيء حماهم وصانهم، وأيَّ شيء صرَف عنهم؛ وأنَّه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين.
وشهدوا له سبحانه بأنَّ ما كان منه إليهم وفيهم -ممَّا يقتضيه إتمامُ كلماته
(5)
الصدق والعدل
(6)
، وصدقُ قوله، وتحقيقُ
(7)
مقتضى أسمائه- فهو محضُ حقَّه. وكل ذلك منه حسن جميل، له عليه أتمُّ حمدٍ وأكمله وأفضلُه. وهو حُكمٌ عدلٌ، وقضاءٌ فصل. وأنَّه المحمود على ذلك كلَّه فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة، ومحض الحمد، وكمالٌ أظهره في حقه، وعزٌّ أبداه، وملكٌ أعلنه، ومرادٌ له أنفذه؛ كما فعل بالبُدن وضروب الأنعام: أتمَّ بها مناسكَ أوليائه
(1)
"ن، ك، ط": "أنَّهم".
(2)
كذا في "ف" وغيرها. ويحتمل قراءة "يتبين".
(3)
كذا في الأصل وغيره، ولعلَّ الصواب "بهم" كما في "ط".
(4)
"ف": "ويشهد"، قراءة محتملة.
(5)
"ب": "كلمته".
(6)
في حاشية "ب": "لعله: حكمه" يعني: كلمته الصدق، وحكمه العدل.
(7)
"ك، ط": "تحقق".
وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام إهلاكًا
(1)
وإتلافًا. فأعداؤه الكفَّار المشركون به الجاحدون به
(2)
أولى أن تكون دماؤهم قرابينَ أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله، كما قال حسَّان بن ثابت
(3)
:
يتطهَّرون، يَرونَه قُربانَهم
…
بدماءِ مَن عَلِقوا من الكفَّار
(4)
وكذلك لمَّا ضحَّى خالد بن عبد اللَّه القَسْري
(5)
بشيخ المعطِّلة الفرعونية الجعد بن درهم، فإنَّه خطبهم في يوم أضحى، فلمَّا أكمل خطبته قال: "أيّها النَّاسُ ضَحُّوا، تقبَّل اللَّه ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنَّه زعمَ أنَّ اللَّه لم يكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيمَ خليلًا، تعالى عمَّا يقول الجعدُ علوًّا كبيرًا. ثمَّ نزل، فذبحه، وكان
(6)
ضحيته. ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق الأفعال
(7)
.
فهذا شهود أوليائه من شان أعدائه، ولكن أعداؤه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانُه
(1)
"ب، ك، ط": "هلاكًا".
(2)
"به" ساقط من "ب، ك، ط".
(3)
كذا وقع في الأصل وغيره، وهو سهو، فالبيت من الأبيات المشهورة التي قالها كعب بن زهير في الأنصار. انظر: ديوانه (35)، ورواية صدر البيت فيه وفي السيرة وغيرها:
يتطهرون كأنَّه نُسُكٌ لهم
(4)
في الأصل والنسخ الأخرى: "علقوا به"، وهو خطأ يخلّ بالوزن.
(5)
"القسري" ساقط من "ب".
(6)
"ب، ك، ط": "فكان".
(7)
ص (29). وانظر الفتاوى (8/ 357).
ورحمتُه، ولكن لمَّا حُجِبوا عن معرفته، ومحبته، وتوحيده، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى
(1)
، ووصفه بما يليق به، وتنزيهه عمَّا يليق به = صاروا أسوأَ حالًا من الأنعام، وضُرِبوا بالحجاب، وأُبعِدوا عنه بأقصى البعد، وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغُيِّبتْ قلوبُهم من
(2)
الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غيابات
(3)
، ليتمَّ عليهم أمرُه
(4)
، وينفذ فيهم حكمُه، واللَّه عليم حكيم
(5)
.
فصل
واللَّه سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء، فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام. فاقتضت حكمته تعالى أن خلقَ دارًا لطالبي رضاه العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، وهي الجنَّة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كلِّ محبوب ومرغوب ومشتهًى ولذيذ، وجعل الخيرَ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلِّ طيبٍ من الذوات والصفات والأقوال.
وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم
(6)
وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به،
(1)
"ط": "العليا".
(2)
"ك، ط": "في"، تحريف.
(3)
"ب": "غايات". "ك، ط": "غابات"، تحريف. وغَيابة الجُب: قعره.
(4)
"ك، ط": "أمده" تحريف.
(5)
"واللَّه عليم حكيم" ساقط من "ن". وفيها وفي "ك، ط" زيادة: "واللَّه أعلم".
(6)
"ط": "لأغراضها". وصحح في القطرية.
الجاحدين لما أخبرتْ به رسلُه من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنَّم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحنَها
(1)
من كلِّ مؤذٍ
(2)
ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلِّ خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دار القرار
(3)
.
وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثمَّ أخرج إليها من آثار
(4)
الدارين بعضَ ما اقتضته أعمالُ أربابهما وما يُستدل به عليهما، حتَّى كأنَّهما رأيُ عين، ليصير للإيمان
(5)
بالدَّارين -وإن كان غيبًا- وجهُ
(6)
شهادة تستأنس
(7)
به النفوس، وتستدلّ به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه، والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذّ النفوس ومشتهاها ما هو نفحةٌ من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال. فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة
(8)
والسرور والعيش الرخي، كما قيل:
(1)
"ك": "سجنها"، "ط":"وسجنها مليءٌ". ولعل هذه الزيادة سببها التصحيف السابق.
(2)
"ب، ك": "شيء مؤذ".
(3)
كذا في الأصل وغيره به. فراد "الدار". وفي "ط": "دارا القرار".
(4)
"ك، ط": "أثمار".
(5)
"ب، ك": في "الإيمان".
(6)
"وجه" ساقط من "ب".
(7)
"ف": "تستأثر". "ن": "تستأمن"، والظاهر أنَّ كليهما تحريف.
(8)
"ب، ك، ط": "الخير".
فإذا رآك المسلمون تيقَّنوا
…
حُورَ الجِنانِ لدى النعيم الخالدِ
(1)
فشمَّروا إليه وقالوا: "اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة"
(2)
. وأحدثت لهم رؤيته عَزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأنَّ النعيم يذكِّر بالنعيم، والشيء يذكِّر بجنسه؛ فإذا رأى أحدُهم ما يُعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال:"موعدك الجنَّة، وإنَّما هي عشية أوضحاها". فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمةٌ من اللَّه، يشوّق
(3)
بها عباده المؤمنين إلى تلك
(4)
التي هي أكملُ منها، وزاد
(5)
لهم من هذه الدار إليها. فهي زاد، وعبرة، ودليل، وأثرٌ من آثار
(6)
رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكنَ عزماته إلى تلك، فنفسه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكملُ منه حتَّى تتوقَ إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم.
وأخرجَ سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أنَّ ذلك من آثار النفَسين الشتائي والصيفي
(7)
اللذين أذِنَ اللَّه سبحانه بحكمته لجهنَّم أن تتنفَّسَ
(1)
لأبي إسحاق الصابئ في يتيمة الدهر (2/ 259).
(2)
من قول النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2961).
(3)
"ب، ك، ط": "يسوق".
(4)
"ب، ك، ط": "تلك الدار".
(5)
في الأصل: "زادًا"، ولعله سهو، وكذا في "ف، ن". والمثبت من "ب، ك، ط".
(6)
"من آثار" ساقط من القطرية.
(7)
"ك، ط": "الشتاء والصيف". "ب": "في الشتاء. . . ".
بهما، فاقتضت [بذنيك] النفسين
(1)
آثارًا ظهرت في هذه الدار كانت دليلًا وعبرة عليها
(2)
. وقد أشار تعالى إلى هذ المعنى، ونبَّه
(3)
عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة/ 73] تذكرةَ تُذِّكر بنار الآخرة
(4)
، ومنفعةً للنازلين بالقَواءِ، وهم المسافرون. يُقال: أقوى الرجلُ، إذا نزل بالقِيِّ والقَوَاءِ، وهي الأرض الخالية. وخص المقوين بالذكر
(5)
، وإن كانت منفعتُها عامَّةً للمسافرين والمقيمين، تنبيها لعباده -واللَّه أعلم بمراده من كلامه- على أنَّهم كلهم مسافرون، وأنَّهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا
(6)
مقيمين ولا مستوطنين، وأنَّهم عابرو سبيل وأبناء سفر.
والمقصود: أنَّهُ سبحانه أشهدَهم
(7)
في هذه
(8)
ما أعدَّ لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خيرٍ وشرٍ. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا
(9)
يسوقُ بها عبادَه المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا
(1)
في الأصل و"ف، ك": "فاقتضت تلك النفسين"، وفي "ف" تحت "النفسين":"النفس ظ"، وفي الحاشية:"النفسان صح". وفي "ن": "فاقتضت بذلك النفسين". وفي "ب": "فأفاضت بالنفسين". وفي "ط": "فاقتضى ذانك النفسان".
(2)
"ط": "دليلًا عليها وعبرة".
(3)
قراءة "ف": "ذنبه".
(4)
"ب، ك، ط": "بها الآخرة".
(5)
"ف": "بالدار". خلاف الأصل وهو تحريف.
(6)
"ط": "ليسوا هم".
(7)
"هم" ساقط من "ط".
(8)
"ب": "هذه الدار"، وزاد كلمة "الدار" في "ط" بين حاصرتين.
(9)
"ف": "سببًا لها" تحريف.
كلَّ الحذَر، واستدلُّوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها في هذه الدار وإشهادُهم إياها، وامتحانُهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرةً وتنبيهًا.
ولمَّا كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرها، وأذاها براحتها، ونعيمُها بعذابها اقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها من شرَّها، وخصَّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور
(1)
المحضة. فكتب على هذه الدار حُكمَ الامتزاج والاختلاط، وخلَطَ فيها بين
(2)
الفريقين، وابتلَى بعضهم ببعض، وجعَل بعضَهم لبعض فتنة؛ حكمةٌ بالغةٌ بهرت العقول وعزَّةٌ قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم
(3)
عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمَع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلَّط بعضَه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك.
فلمَّا حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبَه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكلِّ دارٍ ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها وخلَق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلِّطين للأمرين معًا
(4)
: فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل الرحمة
(1)
"ك، ط": "السرور"، تصحيف.
(2)
"ف": "من"، تحريف.
(3)
"ب": "ولم يمكن قيام".
(4)
"معًا" ساقط من "ك، ب".
والنقمة
(1)
، وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتَّب على كلِّ قسم من هذه الأقسام
(2)
حُكمَه اللائقَ به، وأظهر
(3)
فيه حكمتَه الباهرة
(4)
، ليعلمَ العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنَّه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنَّه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحلِّ المقتضي لذلك، ولا يظلم
(5)
أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقِّه، ولا يعاقبه بغير جنايته.
هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحِكَم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراجِ صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج
(6)
كمالاتهم
(7)
الكامنة في نفوسهم
(8)
من القوَّة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله
(9)
ومصادمته بضده، ليظهر عليه آثارُ القهر وسماتُ الضعف والعجز، ويستيقنَ
(10)
العبد أنَّ القهَّار لا يكون إلا واحدًا، وأنَّه يستحيل أن يكون له شريك؛ بل القهر والوحدة متلازمان.
(1)
"ك، ط": "النقمة والرحمة". وقد غير بعضم "النقمة" في "ك": "النعمة"!
(2)
زاد في "ط": "الخمسة"، مع أنَّ الأقسام المذكورة أربعة فحسب!
(3)
"ب": "فأظهر".
(4)
"ف": "القاهرة"، تحريف. وفي "ب":"لبالغة".
(5)
"ف": "فلا يظلم".
(6)
هذه نهاية نسخة "ن" الناقصة.
(7)
"ف": "حالاتهم"، تحريف.
(8)
"ط": "نفسهم".
(9)
"ب": "بمقاتلته". تصحيف.
(10)
"ب، ك، ط": "ويتيقن".
فالملك والقدرة والقوَّة والعزَّة كلها للَّه الواحد القهَّار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناوٍ
(1)
ومشارك. فخلقَ الرياحَ، وسلَّطَ بعضها على بعض تُصادمها، وتكسِر سَورتَها، وتذهب بها. وخلقَ الماء، وسلَطَ عليه الرياحَ تصرّفه وتكسره. وخلق النَّار، وسلَّطَ عليها الماءَ يكسرها ويطفئها. وخلقَ الحديد، وسلَّط عليه النار تذيبه وتكسر قوته. وخلق الحجارة، وسلَّط عليه الحديد يكسرها ويفتَتها. وخلق آدم وذريته، وسلَّطَ عليهم إبليس وذريته. وخلَق إبليس وذريته، وسلَّطَ عليهم
(2)
الملائكة يشرّدونهم كلَّ مشرَّد ويطرّدونهم كلَّ مطرَّد. وخلق الحرَّ والبرد والشتاء والصيف، وسلَّطَ كلًّا منها على الآخر يُذهِبه ويقهره. وخلقَ الليل والنهار، وقهرَ كلًّا منهما بالآخر. وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر، لكل منه مضاد ومغالب.
فاستبان للعقول والفطَر أنَّ القاهر الغالب لذلك كلِّه واحدٌ، وأنَّه
(3)
من تمام ملكه إيجادُ العالم على هذا الوجه، وربطُ بعضه ببعض
(4)
، وإحواجُ بعضه إلى بعض، وقهرُ بعضه ببعض، وابتلاءُ بعضه ببعض
(5)
، وامتحانُ
(6)
خيره بشرّه وجعلُ شره لغيره الفداءَ. ولهذا يُدفع إلى كلِّ مؤمن يوم القيامة كافرٌ فيقال له: "هذا فداؤكَ من النار"
(7)
. وهكذا
(1)
كذا ورد في الأصل بحذف الهمزة، وهو جائز. وفي "ب، ك، ط": "مناف".
(2)
"ب": "وسلَّط على إبليس وذريته".
(3)
"ب، ط": "وأن".
(4)
"ب، ط": "على بعض".
(5)
"وإحواج. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(6)
"ط": "وامتزاج"، تحريف.
(7)
أخرجه ابن ماجه (4292) عن أنس بن مالك رضي الله عنه بإسناد ضعيف. وله =
المؤمن
(1)
في الدنيا يسلَّط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءَه من عذاب اللَّه، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرورِ أكبر
(2)
منها في العالم أيضًا. فَلْيُعطِ اللبيبُ هذا الموضع حقَّه من التدبر يتبين له حكمةُ اللطيف الخبير.
فصل
وقد تقرَّر أنَّ اللَّه سبحانه كامل الصفات، له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل في ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم. وهو سبحانه خلقَ عبادَه على الفطرة، وكل مولود فإنّما يولد على الفطرة التي فُطِرَ الخلائق عليها، ولكنَّ الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم عن الفطرة
(3)
، ويَعدِلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرَها، ولكن أخرجوهم عن سَنَنِ الحنيفية وأفسدوا فِطَرهم وقلوبهم. وهكذا بالأضداد والأغيار يخرُج بعض المخلوقات عن سَنَن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت في مرتبتها كالمولود في فطرته، ولذلك أمثلة:
المثال الأوَّل: أنَّ الماءَ خلقه اللَّه في الأصل
(4)
طاهرًا مطهِّرًا، فلو تُرِكَ على حالته التي خُلِقَ عليها ولم يخالطه ما يزيلُ طهارته لم يكن إلا
= شاهد في صحيح مسلم (2767) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وانظر المسند (19485)، تعليق المحقق (32/ 230).
(1)
"ف": "يكون المؤمن"، خلاف الأصل.
(2)
"ب، ك، ط": "أكثر".
(3)
"التي فطر. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ط" لانتقال النظر.
(4)
"في الأصل" ساقط من "ك، ط".
طاهرًا، ولكن بمخالطته
(1)
أضدادَه من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه، وخرج عن الخلقة التي خلق عليها. فكانت تلك النجاسات والقاذورات بمنزلة
(2)
أبوي الطفل وكافليه الذين يهودونه وينصرونه ويمجسونه ويشرِّكونه
(3)
. وكما أنَّ الماءَ إذا فسدَ بمخالطته
(4)
الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك القلوب إذا فسدت فِطَرُها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس.
المثال الثاني: الشرابُ المعتصَرُ من العنب، فإنَّه طيِّب يصلح للدواءِ ولإصلاح الغذاءِ وللمنافع
(5)
التي يصلح لها. ولو
(6)
خُلِّيَ على حاله لم يكن إلا طاهرًا طيِّبًا، ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرًا، فخرج بذلك عن خلقته التي خُلِقَ عليها من الطهارة والطيب، فصارَ أخبثَ شيءٍ وأنجسه. فلو انقلبَ خلًّا، أو زالَ تغيُّر الماءِ، كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فإنَّ الحكمَ إذا ثبتَ لعلَّة زال بزوالها
(7)
.
المثال الثالث: الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطنَ الحيوانِ واستقرَّت هناك خرجت عن حالتها التي خُلِقَتْ عليها، واكتسبَتْ بهذه المخالطة والمجاورةِ خبثًا وفسادًا لم يكن فيها، لسلوكها في غير
(1)
"ب، ك، ط": "بمخالطة".
(2)
"ب، ك، ط": "بمعنى".
(3)
الأفعال الأربعة في "ب" بالتثنية: "يهودانه. . . " لضبط "كافلَيه" فيها بالتثنية!
(4)
"ك": "بمخالطة".
(5)
"ك، ط": "والمنافع".
(6)
"ب، ك، ط": "فلو".
(7)
في "ك، ط" زيادة "واللَّه أعلم".
طرقها
(1)
التي بها كمالها.
ولمَّا أنزلَ اللَّهُ سبحانه الماءَ طاهرًا نافعًا، فمازج الأرضَ، وسالت به أوديتها، أوجدَ جل جلاله بينهما بسبب هذه
(2)
المخالطة والممازجة أنواعَ الثمارِ والفواكه
(3)
والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات، وأوجدَ
(4)
مع ذلك المُرَّ والشوكَ والحنظلَ وغيرَ ذلك. واللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة. قال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد/ 4].
ثمَّ إنَّه سبحانه يُصرف ما أخرجه من هذا الماءِ، ويُقلِّبه، ويحيل بعضَه إلى بعض، وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى. وهذا كما خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ، ثمَّ خالفَ بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما تصلح له
(5)
، وأمشى بعضها
(6)
على بطنه، وبعضها على رجلين، وبعضها على أربع؛ حكمة بالغة، وقدرة باهرة.
وكذلك سبحانه يقلِّب الليل والتهار، ويقلِّب ما يوجد فيهما، ويقلِّب أحوال العالم كما يشاء، ويسلك بذلك كلَّه
(7)
مسلك الحكمة البالغة التي
(1)
"ف": "طريقها"، خلاف الأصل.
(2)
"هذه" ساقط من "ب".
(3)
"والفواكه" ساقط من "ب".
(4)
"ف": "وإن وُجِدَ" خلاف الأصل.
(5)
"ك، ط": "وما يَصلح لها".
(6)
"ك، ط": "بعضًا" في هذه الجملة وما يليها.
(7)
"كله" ساقط من "ك، ب، ط".
بها يتم مراده، ويظهر ملكه:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/ 54].
وهذا القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب جل جلاله وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعلائه
(1)
وحكمته وإبداع
(2)
صَنعه، والتقدّمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقهم
(3)
بما أقامه من الشواهد والدلالات
(4)
على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كلّه. وكان من تمام ذلك الإخبارُ عن الكافرين والمكذّبين، وذكرُ ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسلات ربهم، ووصفُ كفرهم وعنادهم وكيف كذَبوا على اللَّه، وكذبوا رسلَه، وردّوا أمره ونصائحه
(5)
. وكان
(6)
في اجتلاب
(7)
ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهد الحقّ، وقيامُ أدلته، وتنوّعُها.
وكان موقع هذا من خلقه موقعَ تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناءِ عليه، فإن
(8)
أسماءَه تعالى الحسنى وصفاته العلى
(9)
هي موضع الحمد، ومن
(1)
"ب" ك، ط":"عزَّته".
(2)
"ب، ك، ط": "أنواع".
(3)
"ك، ط": "تصديقه يفهم"، تحريف.
(4)
"ب": "الآيات".
(5)
"ب، ك، ط": "ومصالحه"، تحريف.
(6)
"ك، ط": "فكان".
(7)
"ف": "اختلاف"، تصحيف.
(8)
"ب، ك، ط": "وإن".
(9)
"ط": "العليا".
تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عمّا وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به. وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما
(1)
في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضادّه ويخالفه. ولهذا كان تسبيحُه تعالى من تمام حمده، وحمدُه من تمام تسبيحه؛ ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين
(2)
. فكان
(3)
ما نسبه إليه أعداؤه والمعطّلون
(4)
لصفات كماله -من علّوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلّم به على رسله وغير ذلك من صفات كلامه- موجبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عن ذلك
(5)
مما نزّه عنه نفسَه وسبّح به نفسَه. وكان في ذلك ظهورُ حمده لخلقه
(6)
، وتنوّعُ أسبابه، وكثرةُ شواهده، وسعةُ طرق الثناءِ عليه به، وتقريرُ عظمته ومعرفته في قلوب عباده. فلولا معرفةُ الأسباب التي يسبّح وينزه ويتعالى عنها، وخَلْقُ مَن يضيفها إِليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أيّ شيء يسبّحونه وعمّا ذا ينزهونه. فلما رأوا في خلقه مَن قد نسبه إلى ما لا يليق به، وجحد من كماله ما هو أولى به، سبّحوه حينئذ تسبيحَ مُجِل له، مُعظِّمٍ له، منزِّهٍ له
(7)
عن أمرٍ قد
(1)
"ف": "وما"، وكذا في الأصل، ولكن لعل الواو مضروب عليها، ولم يظهر خط الضرب لانتشار الحبر.
(2)
"ط": "قربتين"، تصحيف.
(3)
"ب، ك، ط": "وكان".
(4)
(ب): "إليه المعطلون".
(5)
"من صفات. . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط". وقد استدرك في حاشية "ك" بخط مختلف.
(6)
"ب، ط": "بخلقه"
(7)
"له" ساقط من "ط"، ومستدرك في القطرية.
نسبه إليه أَعداؤه والمعطّلون لصفاته.
ونظير هذا اشتمال
(1)
كلمة الإسلام -وهي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه- على النفي والإثبات. فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يُقصد بنفي الإلهيّة عن كلّ من
(2)
ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى. فتجريدُ هذا التوحيد من العقد واللسان بتصوّر إثبات الإلهيّة لغير اللَّه -كما قاله أعداؤه المشركون- ونفيُه وإبطالُه من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله، وتقريره
(3)
، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه.
ونظير ذلك أيضًا أنّ تكذيَب أعداءِ الرسل لهم
(4)
وردَّهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجِبة ظهورَ براهينِ صدقِ الرسل، ودفعَ ما احتجّ به أعداؤهم عليهم من الشبه
(5)
الداحضة، ودحضَ حججهم الباطلة، وتقريرَ طرق الرسالة، وإيضاحَ أدلتها. فإنّ الباطل كلّما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجهُ الحقّ، واستنارت معالمه، ووضحت سبله، وتقررت براهينه. فكسرُ الباطل ودحضُ حججه وإقامةُ الدليل على بطلانه من أدلّة الحق وبراهينه.
فتأمّلْ كيف اقتضى الحقُ وجودَ الباطل، وكيف تمّ ظهورُ الحق
(1)
"ف": "استكمال"، تحريف.
(2)
"ك، ط": "ما".
(3)
"ب": "كمال تقريره".
(4)
"لهم" ساقط من "ك، ط".
(5)
"ب، ك": "الشبهة".
بوجود الباطل، وكيف كان كفرُ أعداءِ الرسل بهم
(1)
وتكذيبُهم لهم ودفعهُم ماجاؤوا به هو
(2)
من تمام صدق الرسل، وثبوت رسالات اللَّه، وقيام حججه على العباد.
ولنضربْ لذلك مثالًا يتبيّن به، وهو: ملِكٌ له عبدٌ قد توحّد في العالم بالشجاعة والبسالة، والناس بين مصدِّق ومكذب. فمِن قائلِ: هو كذلك، ومِن قائلٍ: هو بخلاف ما يظَنّ به، فإنّه لم يقابل الشجعان، ولا واجه الأقران. ولو نازل
(3)
الأقران، وقابل الشجعان، لظهر أمرُه، وانكشف حالُه. فسمع به شجعانُ العالم وأبطالُهم، فقصدوه من كلّ أوب، وأمّوه
(4)
من كلّ قطر، فأراد الملك أن يُظهر لرعّيته ما هو عليه من الشجاعة، فمكن تلك
(5)
الشجعان والأبطال
(6)
من منازلته ومقاومته، وقال: دونكم وإيّاه، وشأنكم به. فهل تسليطُ الملِك لأولئك على عبده ومملوكه إلّا لإعلاءِ شأنه، وإظهار شجاعته في العالم، وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به؟
وكما
(7)
يترتّب على هذا
(8)
إظهارُ شجاعة عبده وقوّته، وحصولُ مقصوده بذلك؛ فكذلك يترتَّب عليه ظهورُ كذبِ من ادعَّى مقاومته،
(1)
"ف": "منهم"، خطأ.
(2)
"ك، ط": "وهو"، خطأ.
(3)
"ب، ك، ط": "بارز".
(4)
أي قصدوه. وفي "ب، ك، ط": "أتوه".
(5)
"ط": "أولئك"."ب": "الشجاعة بين تلك".
(6)
"والأبطال" ساقط من "ك، ط".
(7)
"ب": "فكما". "ط": "كما".
(8)
"هذا": ساقط من "ط" ومستدرك في القطرية.
وظهورُ عجزهم، وفضيحتهم وخزيهم، وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمّات الملِك وحوائجه. فإذا عدَل بهم عن مهمّاته وولاياته
(1)
وعدَل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرّفه في ملكه، وأنّه لو استعملهم في تلك المهمّات لتشوّش أمرُ المملكة، وحصل الخلل والفساد. فاللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته
(2)
، وهو أعلم بالشاكرين
(3)
.
والمقصود أنّ خلقَ الأسباب المضادّةِ للحقّ وإظهارها في مقابلة الحق من أبيَن دلالاتِه وشواهدِه، فَكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت بها
(4)
تلك الحكمةُ، وهي أحبُّ إلى اللَّه تعالى من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. واللَّه أعلم.
فصل
وللنَّاس في دخولِ الشرِّ في القضاءِ الإلهي طُرُقٌ، فنذكرها ونذكر أصولَهم التي تفرَّعت عليها هذه الطرق قبل ذلك. فنقول:
الناسُ قائلان
(5)
: أحدهما قولَ أهل الإسلام وأتباع المرسلين كلِّهم إنَّ اللَّه سبحانه فعَّالٌ لما يريد، يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه "فاعلًا بالاختيار".
(1)
"ط": "ولايته".
(2)
"ك": "واللَّه أعلم. . رسالته". والعبارة ساقطة من "ط".
(3)
"ط": "واللَّه أعلم بالشاكرين".
(4)
وضع "لفاتت" في "ط" بين حاصرتين. وقد سقط "بها" منها ومن "ك".
(5)
كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "للناس قولان".
والفريق
(1)
الثاني قولَ من نفى ذلك وقال: صدورُ العالَمِ
(2)
عنه تعالى صدورًا ذاتيًّا كصدور النور عن الشمس، والحرارة عن النَّار، والتبريد عن الماءِ، ويسمي المتكلمون هذا "الإيجاب الذاتي"، ومصدَره "موجبًا بالذات
(3)
"، وهذا قول الفلاسفة المشَّائين. وهو الذي يذكره ابن الخطَيب
(4)
وغيره عن الفلاسفة، ولا يحكي عنهم غيرَه، وإنَّما هو قول المشَّائين. وقرَّبه متأخرُهم وفاضلُهم ابن سينا إلى الإسلام بعضَ التقريب، مع مباينته لما جاءَت به الرسل ولِمَا دلَّ عليه صريح العقل والفطرة.
والفريقان متفقون على أنَّ مصدرَ
(5)
الكائنات بأسرها خيرٌ محضٌ من جميع الوجوه وكمالٌ صِرْف. ووجود الشرِّ في العالم مشهود، والخير لا يصدر عنه إلا خير، فلا جَرَمَ اختلفت طرقُهم في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي، وتنوعت إلى أربعة طرق
(6)
.
الطريق الأولى
(7)
: طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب، فإنَّهم سدُّوا على أنفسهم هذا الباب، وأثبتوا مشيئةً محضةً لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة يفعل
(8)
لأجلها، ولا يتوقف فعلُ المختار بها على مصلحة
(1)
"ك، ط": "وللفريق".
(2)
"ك": "صدور العلم"."ط": "صدر العلم"، تحريف.
(3)
"ك، ط": "موجبات الذات"، تحريف.
(4)
يعني الفخر الرَّازي صاحب التفسير الكبير، المتوفى سنة 656 هـ.
(5)
"ف": "ضبط"، تحريف.
(6)
"ب": "أربع طرق".
(7)
"ط": "الأوَّل".
(8)
"ط": "تفعل".
ولا حكمة، ولا غاية لها يُفعل
(1)
، بل كلُّ مقدورٍ يحسن منه فعلُه، ولا حقيقة عندهم للقبيح إلا
(2)
المستحيل لذاته الذي لا يوصف بالقدرة عليه. وهؤلاءِ نفوا مسمَّى الرحمة والحكمة، وإن أقرُّوا بلفظ لا حقيقة له. وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذَّمين
(3)
، وهم يتقلَّبون في بلائهم، فيقول لهم
(4)
: أرحمُ الرَّاحمين يفعل مثل هذا! يعني أنَّه ليس في الحقيقة رحمة، وإنَّما هو محضُ مشيئة وصِرْفُ إرادة مجرَّدةٍ عن الحكمة والرحمة.
وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثاني، وهم الذين أثبتوا له حكمة وغايةً، وقالوا: لا يفعل شيئًا إلا لحكمة وغاية مطلوبة
(5)
، ولكن حجروا عليه سبحانه في ذلك، وشرعوا له شريعةً وضعوها بعقولهم، وظنُّوا أنَّ ما يحسن من خلقه تعالى يحسن منه، وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق. ولهذا كانوا "مشبِّهة الأفعال"، كما أنَّ من شبَّهه بخلقه في صفاته فهو "مشبِّه الصفات"، فاقتسموا التشبيه
(6)
نصفين: هؤلاء في أفعاله، وإخوانهم في صفاته.
وقالوا: إنَّه تعالى لو خصَّ بعض عبيده عن بعض بإعطائه توفيقًا
(1)
"ط": "تفعل".
(2)
"ط": "لولا"، خطأ.
(3)
"ب، ط": "المجذومين".
(4)
"لهم" ساقط من "ك، ط".
(5)
"ب": "لغاية وحكمة مطلوبة".
(6)
في "ف" مكان "التشبيه": "إلى مشبهة"، تحريف.
وقدرةً وإرادةً، ولم يعطها الآخرَ، لكان ظلمًا للذي منعه.
وقالوا: لو شاءَ من عباده أفعال المعاصي لكان سفهًا
(1)
ينزَّه عنه، كما في الشاهد
(2)
؛ ولو شاءَ منهم الكفر والفسوق والعصيان ثمَّ عذبهم عليه لكان ظلمًا، كما
(3)
في الشاهد أيضًا. فإنَّ السيد إذا أراد من عبده شيئًا، ففعل العبد ما أراد سيده، فإنَّه إذا عذبه عدَّه الناس ظالمًا له.
وجعلوا العدل في حقِّه من جنس العدل في حقِّ عباده، والظلم الذي تنزَّه
(4)
عنه كالظلم الذي يتنزهون
(5)
عنه. وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم، وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم. وقالوا: لو أرادَ الشرَّ لكان شرِّيرًا كما في الشاهد، فإنَّ مريدَ الشرِّ شرِّير
(6)
.
وقالوا: لو ختم على قلوب أعدائه وأسماعهم، وحال بينهم وبين قلوبهم، وأضلهم عن الإيمان، وجعل على أبصارهم غشاوةً، وجعل من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا، ثمَّ عذَّبهم، لكان ذلك ظالمًا لهم؛ لأنَّ أحدنا لو فعل ذلك بعبده، ثمَّ عذَّبه، لكان ظالمًا له.
فهؤلاءِ هم
(7)
المشبِّهة حقًّا في الأفعال، فعدلُهم تشبيه، وتوحيدُهم تعطيل، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
(1)
"سفهًا" ساقط من "ط"، ومستدرك في حاشية "ك" بخط مختلف.
(2)
تحرفت هذه الكلمة في "ط" هنا وفي المواضع الآتية كلها إلى "المشاهد".
(3)
سقط "كما" من "ك، ط".
(4)
"ب، ك": "ينزه".
(5)
"ك": "ينزهون".
(6)
في الأصل: "شريرًا"، سهو.
(7)
"هم" ساقط من "ب، ك، ط".
وهؤلاء قسموا الشرَّ الواقعَ في العالم إلى قسمين:
أحدهما: شرورٌ هي أفعال العباد وما تولّد منها، فهذه لا تدخل عندهم في القضاءِ الإلهي تنزيهًا للرب تعالى عن نسبتها إليه، ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته
(1)
ولا تكوينه.
والثاني: الشرور التي لا تتعلق بأفعال العباد، كالسموم والأمراض وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده، وغير ذلك من شرور المخلوقات، كإيلام الأطفال وذبح الحيوان. فهذا النوع هو الذي كدَّر على القدرية أصولَهم، وشوَّش عليهم قواعدهم، وقالوا: ذلك كلُّه حسنٌ لما فيه من اللطف والمصلحة العاجلة والآجلة.
قالوا: أمَّا الآلام والأمراض فمفعولة لغرض صحيح، وهو ما ضمن الربُّ سبحانه لمن أصابه بها من العوض الوافي. قالوا: وذلك يجري مجرى استئجار أجير في فعل شاقّ، فإنَّه بغرض
(2)
الاستئجار أخرَجَ الاستئجار عن كونه عبثًا، وبالأجرة أخرجه
(3)
عن كونه ظلمًا، فكان حسنًا.
قالوا: فإن قيل: إذا كان اللَّه قادرًا على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم، فأي حاجة إلى توسطه؛ وأيضًا فإذا حسُن الألمُ لأجل العوض، فهل يحسن منَّا أن نؤلم
(4)
أحدَنا بغير إذنه لِعوضٍ يصل إليه؟.
(1)
"ف": "قدرته ومشيئته"، خلاف الأصل.
(2)
"ط": "بفرض". "ب": "لغرض".
(3)
"أخرجه" ساقط من "ط".
(4)
"ك، ط": "يؤلم"، تصحيف، وزاد في "ط" بعد "أحدنا" بين حاصرتين:"غيره".
فالجوابُ أنَّ اللَّه سبحانه لا يُمرِض ولا يُؤلم
(1)
إلا مَن يعلم من حاله أنَّه لو أطلعه على الأعواض التي تصل إليه لرضيَ بالألم، ولرغب فيه، لوفور الأعواض وعظمها، وليس كذلك في الشاهد استئجار الأجير من غير اختياره.
قالوا: وليس كذلك إيلام أحدنا لغيره لأجل التعويض، فإنَّ مَن قطَع يدَ غيرِه أو رجلَه ليعوضه عنها لم يحسن ذلك منه؛ لأنَّ العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقلاء من يختارُ مُلكَ الدنيا مع ذلك؛ واللَّه يوصل الأعواض في الآخرة إلى الأحياء، وهم أكملُ شيء خلقًا وأتمه أعضاءً، فلذلك افترق الشاهد والغائب في هذا.
قالوا: فإن فرضتموه في ضربٍ وجلدٍ مع سلامة الأعضاء قَبُح لأنَّه عبث
(2)
، فإن فُرِضَ فيه مصلحة، ورضي المضروبُ بذلك، وعظمت الأعواض عنه، فهو حسن في العقل لا محالة. قالوا: وسرُّ الأمرِ أنَّ بالعوض يخرج الألم عن كونه ظلمًا لأنَّه نفع عظيم
(3)
مُوفٍ
(4)
على مضرَّة الألم؛ وباعتبار كونه لطفًا في الدين يخرج عن كونه عبثًا.
قالوا: وقد رأينا في الشاهد حسنَ الألم للنفع، فإنَّه يحسن في الشاهد إيلام أنفسنا وإتعابها في طلب العلوم والأرباح التي لا يُعبر
(5)
إليها إلا على جسرٍ
(6)
من التعب والمشقة.
(1)
"ولا يؤلم" ساقط من "ب".
(2)
"ب، ك، ط": "عيب" تصحيف.
(3)
"عظيم" ساقطة من "ط".
(4)
"ب، ك، ط": "موقوف".
(5)
"ب": "نصير". "ك": "يصل". "ط": "نصل".
(6)
"ب": "حُسْن". "ك، ط": "جنس"، وكلاهما تحريف. وهي عبارة مألوفة في =
قالوا: وهذا الوجه هو الذي
(1)
حسُن لأجله إيلامُ الأطفال والبهائم فإنَّه إيلامٌ للنفع، فإنَّ أبدان الأطفال لا تستقيمُ إلا على الأسباب الجالبة للآلام، وكذلك نفوسهم إنَّما تكمل بذلك، وإيلامُ الحيوان لنفع الآدمي به غير قبيح.
قالوا: وأمَّا الألمُ المستحَق للعقوبة، فإنَّه حسنٌ في الشاهد ولكنَّه غير متحقق في الغائب بالنسبة إلى الأطفال والبهائم لعدم تكليفها، ولكن لا بدَّ في إيلامها من مصلحة ترجع إليها، وهي ما يحصل لهم من العوض في الآخرة. قالوا: ويجب إعادتها لاستيفاءِ ذلك الحق الذي لها، وهو العوض على الآلام التي حصلت لها.
قالوا: وبقاؤها بعد الإعادة موقوف على مقدارٍ معلوم. . . لانقطاعه
(2)
، ونعيم الأطفال والمجانين دائم. واختلفوا في البهائم فقال
= كتب المؤلف، منها قوله في مفتاح دار السعادة (1/ 363):"والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة"، وفيه أيضًا (2/ 347)"والكمالات كلها لا تنال إلا بحظٍّ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب". وأنشد فيه (2/ 307) قول بعضهم:
كذا المعالي إذا ما رُمْتَ تدركها
…
فاعبُر إليها على جسرٍ من التعب
والأصل قول أبي تمام في بائيته:
بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها
…
تُنال إلا على جسرٍ من التعب
(1)
"الذي" سقط من "ط" فاستدرك في القطرية.
(2)
كتب ناسخ "ف" فوق كلمة "معلوم": "ينظر"، وترك بياضًا بقدر نصف سطر أو يزيد. والعبارة من لحق طويل بدأ في حاشية الأصل اليمنى ثمَّ استمر إلى أعلى الصفحة ويسارها وأسفلها عائدًا إلى يمينها، ومكان البياض في السطر الأوَّل في أعلاها، وقد ذهب هذا السطر كله لتأكل الورقة، فاعتمدنا في إثبات العبارة "على مقدار. . . واختلفوا في" على "ف". وفي "ك": "موقوف ونعيم =
بعضهم: يدوم عوضهم، وقال آخرون بانقطاعه وإنَّهم
(1)
يصيرون ترابًا. قالوا: فإن لم يكن للبهائم عوض يجب لأجله أن تعاد لم تجب إعادتها عقلًا، وتحسن إعادتها، وما يحسن قد يفعله اللَّه وقد لا يفعله.
وهل تجوزُ الآلام للتعويض المجرَّد؟ فيه قولان لهم
(2)
مبنيان على أصل اختلفوا فيه، وهو أنَّه هل يحسن منه تعالى التفضل بمثل العوض ابتداءً؟ فصار بعضهم إلى امتناعه، كما يمتنع التفضل بمثل الثواب ابتداءً عندهم، وهم مجمعون على امتناعه لئلا يسوَّى بين العامل وغيره. وصارَ مَن ينتمي إلى التحصيل منهم إلى أنَّ التفضل بمقدار الأعواض ممكن غير ممتنع. فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض جوَّز وقوعَ الآلام للتعويض المجرد. ومن جوَّز التفضل بأمثال الأعواض لم تحسُن عنده الآلام
(3)
لمجرَّد
(4)
التعويض، بل قالوا: إنَّما تحسن لوجهين لا بد من اقترانهما: أحدهما التزامُ التعويض، والثاني اعتبار غيرِ المؤلَم بتلك الآلام، وكونُها ألطافًا في زجرِ غاوٍ عن غوايته إذا شاهدها في غيره.
وذهب عماد الضَّيْمَري
(5)
…
منهم إلى أنَّ الآلام تحسن
= الأطفال. . . " ولم يُترك بياض، ولكن في الحاشية: "كذا سقط من الأصل نصف سطر قطعه المجلد"، ثمَّ استدرك بعضهم الكلمات التي لم ترد في غير "ت" وهي "على مقدار معلوم. . . لانقطاعه". وفي "ب، ط" بياض بقدر كلمتين بين "موقوف" و"نعيم".
(1)
"ب، ك، ط": "فإنَّهم".
(2)
"لهم" ساقط من "ب".
(3)
العبارة "للتعويض المجرد. . " إلى هنا سقطت من "ط"، واستدركت في القطرية.
(4)
"ب، ك، ط": "بمجرد".
(5)
أبو سهل عبَّاد بن سلمان، من كبار المعتزلة، كان في أيام المأمون، وكان =
لمجرد
(1)
الاعتبار من غير تعويض لمن أصابته، وردَّ عليه جماهيرُ القدَرية ذلك. قالوا: والآلام التي يفعلها سبحانه إمَّا أن تكون مستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب الآخرة، وإمَّا للتعويض، وإمَّا للمصلحة الرَّاجحة، قالوا: وما يفعله في الآخرة منها فكله للاستحقاق
(2)
، وما يفعله في الدنيا فللعوض والمصلحة، وقد يفعله عقوبة، وأمَّا ما شرعه من أسباب الألم فعقوبات محضة.
وأمَّا مشايخ القوم فقالوا: إنَّما يحسن منه تبارك وتعالى الإيلام لأنَّه المنعم
(3)
بالصحة والحياة، ولأنَّه في حكم من أعار تلك المنفعة لمن لا يملكها، فله قطعُها إذا شاءَ، ولأنَّه قادرٌ على التعويض عالم بقدره، وليس كذلك الواحد منَّا
(4)
. قالوا: فإذا استرجع عاريَّة الصحة والحياة خلَفَها الألم
(5)
، ولا بد.
وأطالوا الكلام في الآلام وأسبابها، وما يحسن منها وما يقبح، وعلى أي وجه يقع؛ وحصروا أنفسهم غاية الحصر، فاستطالت عليهم الجبرية بالأسولة والمضايقات، وألجأوهم إلى مضايق "تضايَقُ عنها أن تَوَلَّجَها الأبَرُ"
(6)
، وأضحكوا العقلاءَ منهم بإبداءِ تناقضهم، وألزموهم إلزاماتٍ
= أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام ثم يقول: "لولا جنونه! ". الفهرست (215)، لسان الميزان (3/ 229).
(1)
"ب، ك": "بمجرد".
(2)
"ب ": "وكل ما يفعل. . فهو للاستحقاق".
(3)
"ب": "الآلام لأنه منعم".
(4)
"ط": "من الخلق".
(5)
"ب": "الألم والموت".
(6)
عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره: =
لا بدَّ من التزامها أو ترك المذهب.
وسأل أبو الحسن الأشعري أبا علي الجُبائي عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيرًا، وبلغ الآخر فاختار الإسلام، وبلغ الآخر فاختارَ الكفر، فاجتمعوا عند ربِّ العالمين، فرفع درجة البالغ المسلم، فقال أخوه الصغير: يا ربِّ، ارفع درجتي حتى أبلغ منزلة أخي، فقال: إنَّك لا تستحق، إنَّ أخاكَ بلغ، فعمل أعمالًا استحق بها تلك الدرجة، فقال: يا ربِّ، فهلَّا أحييتني حتى أبلغ، فأعمل عمله؟ فقال: كانت المصلحة
(1)
تقتضي اخترامك قبل البلوغ، لأنِّي علمتُ أنَّك لو بلغتَ لاخترتَ الكفر، فكانت المصلحة في قبضك صغيرًا. قال: فصاح الثالث من أطباق النَّار
(2)
وقال: يا ربِّ هلَّا فعلتَ معي هذا الأصلح، وقبضتني صغيرًا، كما قبضت أخي صغيرًا؟
(3)
فما جوابُ هذا أيها الشيخ؟ فلم يُحِرْ
(4)
إليه جوابًا
(5)
.
قالوا: وإذا علم اللَّه سبحانه من بعض العبيد أنَّه لا يختار الإسلام وأنَّه لا يكون إلا كافرًا مفسدًا في الأرضِ، فأي مصلحةٍ لهذا العبدِ في إيجاده؟
= رأيتُ القوافى يَتَّلِجْنَ مَوالجًا.
انظر: البيان والتبين (1/ 158).
(1)
"ك، ط": "تلك المصلحة".
(2)
"ك، ط": "بين أطباق النار". "ب": "من بين أطباق النيران".
(3)
"ط": "يا رب لم لم تمتني صغيرًا؟ " مكان "هلَّا فعلت. . . أخي صغيرًا".
(4)
أحار الجوابَ: ردَّه. وفي "ط": "فلم يرد".
(5)
أورد المؤلف هذه الحكاية في مفتاح دار السعادة (2/ 430)، وشفاء العليل (332). وذكرها شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/ 198)، وقال إنَّها مشهورة. وانظر: سير أعلام النبلاء (15/ 88).
قالوا: وأي مصلحة لإبليس وذريته الكفار
(1)
في إيجادهم؟ فإن قلتم: عرضهم للثواب، قيل لكم: كيف يعرضهم لأمر قد علم
(2)
أنَّهم لا يفعلونه وأنَّه
(3)
لا يقع منهم البتَّة؟
ومن هنا أنكرَ غُلاتُهم العلم القديم، وكفَّرهمِ السلف على ذلك، ومن أقرَّ به منهم فإقراره به يبطل مذهبَه
(4)
وأصله في وجوب مراعاة الصلاح والأصلح. وهذا معنى قول السلف: ناظِروا القدَريَّةَ بالعلم، فإن جحدوه كفروا، وإن أقرُّوا به خُصِمُوا
(5)
.
قالوا: وأمَّا حديث العوض على الآلام، فالرب تبارك وتعالى قادرٌ على إيصال تلك المنافع بدون توسط الآلام. قالوا: وهذا بخلاف المستأجر، فإنَّ له منفعةً وحاجةً في توسط تعب الأجيرِ واستيفاء منفعته. فأمَّا من يتعالى
(6)
عن الانتفاع بخلقه، ولا يحتاج إلى أحدٍ منهم البتة، فلا يعقل في حقِّه ذلك.
قالوا: وأمَّا وقوع الآلام على وجه العقوبات، فذلك إنَّما يحسن في الشاهد لحصول التشفي من الجناة
(7)
وإطفاء نار الغيظِ والغضب بالانتقام منهم، وذلك لحاجة المعاقب إلى العقاب وانتفاعه به؛ وقياس
(1)
"الكفار" ساقط من "ب".
(2)
"ك، ط": "يعلم".
(3)
"أنَّهُ" ساقط من "ط". وفي "ك": "ولأنه"، خطأ.
(4)
"ك": "مبطل مذهبه"، "ط":"مبطل لمذهبه".
(5)
نسبه ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية (247) إلى الإمام الشافعي رحمه الله.
(6)
"ط": "تعالى".
(7)
"ف": "في الحياة"، تحريف.
الغائب على الشاهد في ذلك ممتنع.
قالوا: وأمَّا الإيلام للاعتبار بأن يعتبر الغيرُ بالألم الواقع بغيره، فيكون ذلك أدعى له إلى الإذعان والانقياد؛ فلا ريبَ أنَّ الصبي إذا شاهدَ المعلِّم يضرب غيره على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحةً واعتبارًا له، ولعلَّه أن ينتفع بضرب ذلك الغير أكثرَ من انتفاع المضروب، أو حيث لا ينتفع المضروب. ولكن إنَّما يحسن ذلك إذا كان المضروبُ مستحقًّا للضرب، فأين استحقاق الأطفال والبهائم؟
قالوا: وكذلك تمكينُه تعالى عبادَه أن يؤلم بعضُهم بعضًا ويضرَّ بعضهم
(1)
بعضًا -مع قدرته على منعِ المؤلِم المضِر- أيُّ مصلحة لمن مُكِّنَ من ذلك وأُقدر عليه؟ وهل كانت مصلحته إلا تعجيزه وأن يحالَ بينه وبين القدرة على الأذى وضرر العباد
(2)
؟
قالوا: فهذه الشريعةُ التي وضعتموها لربِّ العباد تعالى، وأوجبتم عليه ما أوجبتم، وحرَّمتم عليه ما حرَّمتم، وحجرتم
(3)
عليه في تصرفه في مُلكه بغير ما أصَّلتم وفرَّعتم بعقولكم وآرائكم، تشبيهًا له وتمثيلًا بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح؛ مع أنَّها شريعةٌ باطلة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فإنَّكم لم تطردوها، بل أنتم متناقضون فيها غاية التناقض، خارجون فيها عمَّا يُوجبه كلُّ عقلٍ صحيح وفطرة سليمة. فلا للتشبيه والتمثيل طردتم، ولا بالتعويض قلتم، ولا على حقيقة الحكمة والحمدِ
(1)
"ويضر بعضهم بعضًا" ساقط من "ب".
(2)
"ك، ط": "الأداء وصون العباد" تحريف.
(3)
"ك، ط": "جحدتم"، تصحيف.
وقفتم. بل أثبتم له تعالى نوعَ حكمةٍ لا تقوم به، ولا ترجع إليه، بل هي قائمةٌ بالخلق فقط؛ وقد حتم بها في تمام ملكه. كما أثبتَ له إخوانكم من الجبرية قدرةً مجرَّدةً عن حكمة وحمدٍ وغاية يفعل لأجلها، بل جعلوا حمده وحكمته اقتران أفعاله بما اقترنت به من المصالح عادة، ووقوعَها مطابقةً لمشيئته وعلمه فقط، فقدحوا بذلك في
(1)
تمام حمده.
وقامَ حزبُ اللَّهِ وحزب رسوله وأنصار الحقِّ بـ "لا إلهَ إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير" حقَّ القيام، ورَعَوا
(2)
هذه الكلمة
(3)
حقَّ رعايتها علمًا ومعرفةً وبصيرةً، ولم يُلقُوا بالحرب بين حمده ومُلكه، بل أثبتوا له الملكَ التامَّ الذي لا يخرج عنه شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالها، والحمدَ التامَّ الذي وسع كلَّ معلوم، وشمِلَ كلَّ مقدور.
وقالوا: إنَّ له تعالى في كلِّ ما خلقه وشرعه حكمةً بالغةً ونعمةً سابغةً لأجلها خلَقَ وأمرَ، ويستحقُّ أن يُثنى عليه ويُحمد لأجلها، كما يُثنى عليه ويحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العلى
(4)
. فهو المحمود على ذلك كله أتمَّ حمد وأكمله، لما اشتملت عليه صفاتُه من الكمالِ، وأسماؤه من الحسن، وأفعالُه من الحِكَم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمته، الموافقةِ لمحابِّه. فإنَّه سبحانه كامل الذات، كامل
(1)
"في" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.
(2)
"ك، ط": "راعوا".
(3)
"الكلمة حق" تحرفت في "ف" إلى "طريق".
(4)
"ط": "العليا". "ب": "وصفاته العلى".
الأسماء والصفات، لا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ
(1)
كريمٍ مطابقٍ للحكمة، موجبٍ للحمد، مرتَّبٍ
(2)
عليه من محابِّه ما فعل لأجله.
وهذا أمرٌ ذهب عن طائفتي الجبرية والقدرية، وحال بينهم وبينه أصول فاسدة أصَّلوها، وقواعد باطلة أسَّسوها، من تعطيل بعض صفات كماله، كما عطَّل الفريقان حقيقة محبته، وقالوا: إنَّه
(3)
لا يحِبُّ ولا يُحَبُّ، بل حقيقة محبته
(4)
عند الجبرية: مشيئته وإرادته؛ ومحبةُ العباد له: إرادتهم لما يخلقه من النعيم في دار الثواب، فالمحبة عندهم إنَّما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته. وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية: أمره ونهيه؛ ومحبة العباد له: محبتهم لثوابه المنفصل.
وأصَّل الفريقان أنّه لا يقوم
(5)
بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأجلها، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلًا. وتكايست القدريّةُ بعضَ التكايُس فقالت: يفعل لغاية وحكمة لا ترجع
(6)
إليه، ولا تقوم به، ولا يعود إليه منها وصف.
وأصَّل الفريقان أيضًا أنَّه لا يقوم بذاته فعلٌ البتة، بل فعلُه عينُ
(7)
مفعوله. فعطَّلو أفعاله القائمة به، وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة
(1)
"كل" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.
(2)
"ب، ك، ط": "يترتب".
(3)
"ك": "إنَّ اللَّه".
(4)
"وقالوا. . " إلى هنا ساقط من "ط".
(5)
"ط": "لا تقوم".
(6)
"ف": "لا ترفع"، تحريف.
(7)
"ب": "غير" تحريف.
التي لا تقوم به. فلم يقم به عندهم فعلٌ البتة.
كما عطَّل غلاةُ الجهمية صفاتِه فلم يثبتوا له صفةً تقوم به، وإن تناقضوا. وكما عطَّلت "السينائية" أتباعُ ابن سينا ذاتَه فلم يُثبتوا له ذاتًا زائدة على وجودٍ مجرَّدٍ لا يقارِنُ
(1)
ماهيةً ولا حقيقةً.
وأصَّلت الجبرية أنَّه تعالى لا ينزّه عن فعل مقدور يكون قبيحًا بالنسبة إليه، بل كل مقدور فهو جائزٌ عليه؟ وإن عُلِمَ عدمُ فعله فبالسمع، وإلا فالعقل يقضي بجوازه عليه. فلا ينزه عن ممكن مقدور إلا ما دلَّ عليه السمعُ
(2)
، فيكون تنزيهه عنه، لا لقبحه في نفسه، بل لأنَّ وقوعه يتضمن الخلفَ في خبره وخبر رسوله، ووقوع الأمر على خلاف علمه ومشيئته، فهذا
(3)
حقيقة التنزيه عند القوم.
وأصّلت القدرية أنَّ ما يحسن من عباده يحسن منه، وما يقبح منهم يقبح منه؛ مع تناقضهم في ذلك غاية التناقض.
فاقتضت هذه
(4)
الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعًا ولوازمَ كثيرٌ
(5)
منها مخالفٌ لصريح العقل ولسليم الفِطَر
(6)
، كما هو مخالف لما أخبرت به الرسلُ عن اللَّه؛ فجعل أرباب هذه القواعد والأصول قواعدهم وأصولهم محكمة، وما جاءَ به الرسول متشابهًا!
(1)
"ب ": "لا تقارن".
(2)
"ك، ط": "بالسمع".
(3)
"ف": "وهذا"، قراءة مرجوحة.
(4)
"ف": "تلك".
(5)
"ط": "كثيرة"، خطأ.
(6)
"ط": "الفطرة".
ثمَّ أصَّلوا أصلًا في ردِّ هذا المتشابه إلى المحكم، وقالوا: الواجبُ فيما خالف هذه القواطع العقلية -بزعمهم- من الظواهر الشرعية أحدُ أمرين: إمَّا تخريجها
(1)
على ما يعلم العقلاءُ أنَّ المتكلم لم يُرِدْه بكلامه من المجازات البعيدة، والألغاز المعقَّدة، ووحشي اللغات
(2)
، والمعاني المهجورة التي لا يُعرَف أحد من العرب عبَّرَ عنها بهذه العبارة، ولا تحتملها لغة القوم البتة، وإنَّما هي محامل أنشأوها هم، ثمَّ قالوا: نحمل
(3)
اللفظ عليها! فأنشأوا مَحاملَ من تلقاءِ أنفسهم وحكموا على اللَّه ورسوله
(4)
بإرادتها بكلامه، فأنشأوا منكرًا وقالوا زورًا.
فإذا ضاقَ عليهم المجالُ، وغلبتهم النصوصُ، وبهرتهم شواهدُ الحقيقة من اطِّرادهِا، وعدم فهمِ العقلاءِ سواها، ومجيئها على طريقة واحدة، وتنوع الألفاظ الدالّةَ على الحقيقة، واحتفافِها بقرائن من السياق والتأكيد وغير ذلك، يقطع
(5)
كل سامع بأنَّ المراد حقيقتُها وما دلَّتْ عليه = قالوا: الواجب ردُّها، وأن لا يُشتغَل
(6)
بها!
وإن أحسنوا العبارةَ والظن قالوا: الواجب تفويضها، وأن نكِلَ علمَها إلى اللَّه من غير أن يحصل لنا بها هدًى أو علم أو معرفة باللَّه وأسمائه
(1)
"ك": "نخرجها". "ط": "يخرجها".
(2)
في "ب": "واللغات"، وبعدها بياض بقدر كلمة.
(3)
"ب": "يحمل".
(4)
"ط": "أو رسله"، وفي القطرية:"أو رسوله".
(5)
"ط": "مما يقطع".
(6)
"ب ": "نشتغل".
وصفاته، أو ننتفع
(1)
بها في باب واحد من أبواب الإيمان باللَّه وما يُوصَف به وما يُنزَّه عنه، بل نُجري ألفاظَها على ألسنتا، ولا نعتقد حقيقتها، لمخالفتها للقواطع العقلية!
فسمَّوا أصولهم الفاسدة وشُبَههم الباطلة التي هي كبيت العنكبوت، وكما قال فيها القائل
(2)
:
شُبَهٌ تَهَافَتُ كالزجاج تَخالُها
…
حقًّا وكلٌّ كاسِرٌ مكسورُ
(3)
= "قواطع عقلية"، مع اختلافهم فيها، وتناقضهم فيها، ومناقضتها لصريح المعقول وصحيح المنقول. وسمَّوا
(4)
كلام اللَّه ورسوله "ظواهر سمعية"
(1)
"ب ": "ينتفع".
(2)
"ك": "القائل شعر". "ط": "القائل شعرًا".
(3)
تمثّل به المصنف في الصواعق (1277)، وقبله تمثل به شيخ الإسلام في درء التعارض (7: 314)، وبيان تلبيس الجهمية (2: 253)، وقال في مجموع الفتاوى (4: 28): "أنشده الخطّابي". وتمثل به السمعاني في الأنساب (3/ 388) بلفظ "حجج تكاسَر". وقد ضمّن المصنّف معظم البيت في قوله في النونية:
شُبَه تهافت كالزجاج تخالها
…
حقًا، وقد سقطت على صفوانِ
ونظم المعنى في بيت آخر:
شُبَهٌ يكسِّر بعضُها بعضًا كَبَيْـ
…
ـيْتٍ من زُجاجٍ خرَّ للأركانِ
انظر: الكافية الشافية (833، 846). ولم أعرف قائل البيت، غير أنّ ابن الرومي له أبيات في المعنى مشهورة:
لِذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
…
حُجَجٌ تضِل عن الهدى وتجورُ
وهنّ كآنية الزجاج تصادمتْ
…
فهوَتْ وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ
فالقاتلُ المقتولُ ثَمّ لِضَعفِه
…
ولِوَهيِه والآسرُ المأسورُ
انظر: ديوانه (3/ 1139).
(4)
"ط": "فسمّوا".
إزالةً لحرمته من القلوب، ومنعًا للتعلق به والتمسك بحقيقته في باب الإيمان والمعرفة باللَّه وأسمائه وصفاته. فعبَّروا عن كلامهم بأنَّه "قواطع عقلية"، فيظن الجاهل بحقيقته أنَّه إذا خالفه فقد خالف صريحَ المعقول، وخرجَ عن حدِّ العقلاءِ، وخالفَ القاطع
(1)
! وعبَّروا عن كلام اللَّه ورسوله بأنَّه "ظواهر"، فلا جناح على من صرفه عن ظاهره، وكذَّب بحقيقته، واعتقدَ بطلان الحقيقة؛ بل هذا عندهم هو الواجب!
وقد أشهد اللَّه سبحانه عباده الذين أوتوا العلم والإيمان أنَّ الأمر بعكس ما قالوه، وأنَّ كلامه وكلام رسوله هو الشفاء والعصمة والنور الهادي والعلم المطابق لمعلومه
(2)
، وأنَّه هو المشتمل على القواطع العقلية السمعية والبراهين اليقينية، وأنَّ كلامَ هؤلاء المتهوّكين الحيارى المتضمّن لخلافِ
(3)
ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله هو الشبهات الفاسدة والخيالات الباطلة، وأنَّه كالسراب الذي يحسَبه الظمآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَه لم يجده شيئًا، ووجد اللَّه عنده فوفَّاهُ حسابَه واللَّه سريع الحساب
(4)
.
وهؤلاء هم أهلِ العلم حقًّا الذين شهد اللَّه سبحانه لهم به فقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ/ 6]
(5)
.
(1)
في حاشية "ب": "خ القواطع".
(2)
"ط": "لعلومه".
(3)
"ط": "خلاف".
(4)
ضمّن المؤلف هنا جزءا من الآية (39) من سورة النور.
(5)
وقع سهو في نقل الآية في الأصل، فسقط "هو" ثم جاء "ويهدي إلى صراط =
ومَن سواهم
(1)
من الصم والبُكم الذين قال اللَّه فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك/ 10]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد/ 19].
وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة، لا بمجرد الخبر؛ بل جاءَ إخبارُ الربِّ تعالى وإخبار رسوله مطابقًا لما في فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة. فتظافرَ
(2)
على إيمانهم به الشريعةُ المنزَّلة، والفطرة المكمَّلة، والعقل الصريح. فكانوا هم العقلاء حقًّا، وعقولهم هي المعيار، فمن خالفها فقد خالفَ صريحَ المعقول والقواطعَ العقلية.
ومن أراد معرفةَ صحّة
(3)
هذا فليقرأْ كتاب شيخنا وهو "بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح
(4)
"، فإنّه كتاب لم يطرق العالمَ له نظيرٌ في بابه، فإنّه هدم فيه قواعدَ أهل الباطل من أُسِّها، فخرّت عليهم سقوفه من فوقهم؛ وشيّد فيه قواعدَ أهل السنّة والحديث، وأحكمها، ورفع أعلامها، وقرّرها بمجامع الطرق التي تقرّر
(5)
بها الحق من العقل والنقل والفطرة والاعتبار. فجاءَ كتابًا لا يستغني مَن نصح نفسَه من أهل العلم
= مستقيم"، وقد صحح الخطأ في الحاشية بخط مجوّد.
(1)
"ط": "سواه". "ب": "ما سواه".
(2)
"ط": "فتضافر".
(3)
"ك، ط": "معرفة هذا". "ب": "أراد صحة هذا".
(4)
وهو الكتاب المطبوع بعنوان "درء تعارض العقل والنقل".
(5)
"ف": "يقرر"، والأصل غير منقوط.
عنه
(1)
، فجزاه اللَّه عن أهل العلم والإيمان أفضل الجزاءِ، وجزى العلم والإيمان عنه كذلك.
فصل
عدنا إلى تمام الكلام في كيفية دخول الشرّ في القضاءِ الإلهي، وبيان طرق الناس في ذلك، واختلافهم في إيلام الأطفال والبهائم.
وقالت "البكريّة" وهم أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد البصري
(2)
: إنّ البهائم والأطفال لا تألمُ البتّة. والذي حملهم على هذا موجَب التعليل والحكمة، ولم يرتضوا ما قالت الجبريّة من نفي ذلك، ولا ما قالت المعتزلة من حديث الأعواض وما فزعوه عليه، ولم يمكنهم القول بمذهب "التناسخية" القائلين بأنّ الأرواح الفاجرة الظالمة تُودَع في الحيوانات التي تناسبها، فينالها من ألم الضرب والعذاب بحسبها، ولا بمذاهب "المجوس" من إسناد الشرّ والخير إلى إلهين مستقلّين كلّ منهما يذهب
(3)
بخلقه، ولا بقول من يقول: إنّ البهائم مكلَّفة مأْمورة
(1)
في "ط" وضع "عنه" بعد الفعل "لا يستغني".
(2)
"ب": "ابن أخت زيد البصري" وفيه سقط. انظر ترجمته في لسان الميزان (2/ 60). وخاله عبد الواحد المتوفى سنة 177 هـ زاهدٌ مشهور، متروك الحديث. العبر (1/ 27)، لسان الميزان (4/ 80). وقول بكر في الأطفال ذكره الأشعري في المقالات (286)، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (96)، ونسبه ابن حزم إلى عبد اللَّه بن عيسى تلميذ بكر. انظر: الفصل (3/ 110).
(3)
"ب": "يذهب كل منها".
منهيّة مُثابة مُعاقبة، وإنّ
(1)
في كلّ أمّة منها رسول ونبيّ
(2)
منها، وهذه الآلام والعقوبات الدنياوية جزاءٌ على مخالفتها لرسولها ونبيّها = فلم يجدوا بدًّا من التزام ما ذهبوا إليه من إنكار وقوع الآلام بها ووصولها إليها.
وقد ردَّ عليهم الناس بأنّهم كابروا الحسَّ، وجحدوا الضرورة، وأنّ العلم بخلاف ما ذهبوا إليه ضروريّ. وقال من أنصف القوم: لا سبيل إلى نسبة هؤلاءِ إلى جحد الضرورة مع كثرتهم، ولكنّهم ربمّا رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ. فإنّ العاقل إذا أدرك تألُمَ جوارحِه وأحسَّ به تألّمَ قلبُه، وطال حزنه، وكثر همُّ روحه وغمُّها، واشتدت فكرتُه في ذلك وفي الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له؛ وهذه الآلام زائدة على مجرّد ألم
(3)
الطبيعة، ولا ريب أنّ البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما تحصل
(4)
للعاقل الممّيز. فإن أراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنّه
(5)
لا شعور لها بالآلام
(6)
البتة وأنَّها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإنَّ الواحد منَّا يعلم باضطرار أنَّه كان يتألَّم في طفوليته
(7)
بمسِّ النار له، وبالضرب، وغير ذلك.
(1)
"ط": "أنَّه".
(2)
كذا بالرفع في الأصل على حذف اسم إنّ. وكذا في "ف، ك، ط". وفي "ب": "رسولًا ونبيًّا".
(3)
"ألم" ساقط من "ب".
(4)
"ط": "يحصل"، وكذا في "ب، ك" هنا وقبل.
(5)
"ط": "أنها".
(6)
"ب": "أنَّه لا يتصور لها الآلام"، تحريف.
(7)
"ب": "كان سالمًا في طفوليته من النار بمس"، تحريف.
وقالت طائفة: كلُّ ما يتألم به الطفل والبهيمة ليس من قِبَل اللَّه سبحانه، ولا فعَل اللَّهُ فيه الألم، لما ثبت من حكمته. وهذا يشبه
(1)
قولهم في أفعال الحيوان أنَّها ليست من خلقِ اللَّه، ولا كانت بمشيئته. لكن هذا أشد فسادًا من ذلك، فإنَّ هذه الآلام حوادث لا تتعلَّق باختيار من قامت به ولا بإرادته، فلا بُدَّ لها من مُحدِث، إذ وجودُ حادثٍ بلا محدث محالٌ، واللَّه سبحانه خالقها بأسبابها المفضية إليها، فخالق السبَب خالق للمسيَّب. فإن أرادَ هؤلاء نفيَ فعلها عن اللَّه مباشرةً من غيرِ توسط سبب
(2)
أصلًا فهذا قد يكون حقًّا، وإن أرادوا أنَّها غير منسوبة إلى قدرته ومشيئته البتَّة فباطل.
وذهبت طائفة إلى أنَّ في كلِّ نوعٍ من أنواع الحيوانات أنبياء ورسل
(3)
، وأنَّها مستحقة للثوابِ والعقاب، وأنَّ ما ينزل بها من الآلام فجزاءٌ لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها. واحتجوا بقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام/ 38]، وقال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24].
وقالت طائفة من التناسخية: إنَّ اللَّه تعالى خلق خلقَه كلَّهم جملةً واحدةً بصفة واحدة، ثمَّ أمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة تُبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإبل والبقر والبراغيث والقمل، فما يُسلَّط
(4)
على هذه البهائم من الآلام فهو
(1)
"ك": "شبه".
(2)
"ك، ط": "بسبب".
(3)
كذا في الأصل و"ف"، وله وجه كما سبق آنفًا. وفي غيرهما:"رسلًا".
(4)
"ب، ك، ط": "سلط".
للأرواح الآدميَّة التي أودعتْ هذه الأجسادَ. فمن كان منهم زانيًا أو زانيةً كوفئ بأن جُعِل في بدن حيوان لا يمكنه
(1)
الجماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفًا عن الزنا مع ظلمه وغشمه
(2)
كوفئ بأن جعل في بدن تيس أو عصفور أو ديك، ومن كان منهم جبَّارًا عنيدًا كوفئ بأن جعل في بدن قملة أو قُرادة
(3)
ونحوهما، إلى أن يُقتصَّ منهم ثم يُردّون، فمن عصى منهم بعد كرَّته
(4)
كُرِّر أيضًا عليه ذلك التناسخ هكذا أبدًا حتى يطيع طاعةً لا معصية بعدها أبدًا، فينتقل إلى الجنَّة من وقته؛ أو يعصي معصيةً لا طاعة معها، فينتقل إلى جهنَّم من وقته
(5)
. وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإسلام رجلٌ يقال له أحمد بن حابط
(6)
طردًا لأصول
(7)
القدرية وشريعتهم التي شرعوها للَّه، فأوجبوا بها عليه وحرّموا.
وذهب المجوس إلى أنَّ هذه الآلام والشرور من الإله الشرِّير المظلم، فلا تضاف إلى الإله الخير العادل، ولا تدخل تحت قدرته. ولهذا كان أشبهَ أهلِ البدع بهم القدريةُ النفاة.
وقالت الزنادقة والدهرية: كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها،
(1)
"ط": "ما يمكنه".
(2)
"ف": "طلبه وتجشمه".
(3)
"ط": "جرادة".
(4)
"ب": "كونه". "ك": "كذبه". "ط": "ردّه"، تحريفات.
(5)
"أو يعصي. . . " إلى هنا سقط من "ط".
(6)
معتزلي، من أصحاب النظام، وطائفته تسمى الحابطية. انظر: لسان الميزان (1/ 148)، الملل والنحل (63).
(7)
"ط": "طرد أصول".
وليس لذلك فاعل مختار مدبّر بمشيئته وقدرته، ولا بدَّ في النار من إحراق ونفع، وفي الماءِ من إغراق ونفع، وليس وراء ذلك شيء.
فهذه مذاهب أهل الأرض في هذا المقام.
ولمَّا انتهى أبو عيسى الورَّاق
(1)
إلى حيث انتهتْ إليه أربابُ المقالات، طاش
(2)
عقله، ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه، صنَّف
(3)
كتابًا سمَّاه "النوح على البهائم"
(4)
، فأقام عليها المآتم وناح، وباخ بالزندقة الصُّراح.
وممن كان على هذا
(5)
المذهب أعمى البصر والبصيرة كلبُ معرّةِ النُّعمان المكنيّ بأبي العلاء المعزي، فإنَّه امتنع من أكل الحيوان، زعمَ لظلمه بالإيلام والذبح
(6)
.
وأمَّا ابن خطيب الرَّي
(7)
فإنَّه سلك في ذلك طريقة مركبةً من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشّائين، وهذَّبها ونقَّحها، واعترف في
(1)
اسمه محمد بن هارون، كان معتزليًّا ثمَّ خلَّط وانتهى به التخليط إلى أن صار يرمى بمذهب الثنوية، وعنه أخذ ابن الراوندي. توفي ببغداد سنة 247 هـ. الفهرست (216)، مروج الذهب (4/ 105)، لسان الميزان (5/ 412).
(2)
"ط": "فطاش".
(3)
في "ب": "فصنّف"، ولعله إصلاح، كما أصلح في "ط" بإدخال الفاء على "طاش".
(4)
ذكره ابن النديم بعنوان "الغريب المشرقي في النوح على البهائم".
(5)
"هذا" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.
(6)
انظر فصل "القول الفصل في القضية" في كتاب "أبو العلاء وما إليه" للأستاذ عبد العزيز الميمني رحمه الله.
(7)
هو الفخر الرازي.
آخرها بأنَّه لا سبيل إلى الخلاص عن المطالبات
(1)
التي أوردها على نفسه إلا بالتزام أنَّه تعالى موجِب بالذات، لا فاعل بالقصد والاختيار! فأقرَّ على نفسه بالعجز عن أجوبة تلك المطالبات إلا بإنكار قدرة اللَّه ومشيئته وفعله الاختياري، وذلك بجحد ربوبيته. ونحن نذكر كلامه بألفاظه. قال في مباحثه المشرقية:
"الفصل السَّادس في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي. وقبل الخوض فيه لا بدَّ من تقديم مقدمتين:
المقدمة الأولى: الأمور التي يُقال لها
(2)
إنَّها شر إمَّا أن تكون أمورًا عدمية، أو أمورًا وجودية. فإن كانت أمورًا عدمية فهي على أقسام ثلاثة، لأنَّها إمَّا أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء في وجوده مثل عدم الحياة، وإمَّا أن تكون عدمًا لأمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى
(3)
، وإمَّا أن
(4)
لا تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأمَّا الأمور الوجودية التي يُقال إنَّها شرور فهي
(5)
كالحرارة المفرّقة لاتصال العضو.
واعلم أنَّ الشرَّ بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإن الموت والعمى لا حقيقة لهما إلا أنَّهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك
(1)
"ك": "عن التي". "ط": "من الشبه التي".
(2)
"لها" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "كالأعمى"، تحريف.
(4)
"إمَّا" ساقط من "ك"، وفي "ط":"أوأن".
(5)
"ف": "يقال لها شرور وهي"، أخطأ في القراءة.
شر
(1)
، فإذن ليس لهما أعتبار آخر بحسبه يكونان شرين.
وأمَّا عدم الفضائل المستغنى عنها -مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أنَّ ذلك ليس بشر. وأمَّا الأمور الوجودية فإنَّها ليست شرورًا بالذات بل بالعرض، من حيث إنَّها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئًا من الأفعال التي يُقال لها شرّ إلا وهو كمال
(2)
بالنسبة إلى الفاعل، وأمَّا شريته فبالقياس إلى شيء آخر.
فالظلم مثلًا يصدر عن قوَّة طلَّابة
(3)
للغلبة وهي القوة الغضبية، والغلبة هي كمالها وفائدة خلقتها. فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنَّها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر، وإنَّما كان شرًّا للمظلوم لفوات المال وغيره عنه. والنَّفس الناطقة
(4)
كمالها الاستيلاء على هذه القوَّة، فعند قهر
(5)
القوة الغضبية يفوت النفسَ ذلك الاستيلاء، فلا جرم
(6)
كان شرًّا لها. وكذلك النَّار إذا أحرقت فإنَّ الإحراق كمالها، ولكنَّه
(7)
شر بالنسبة إلى من زالت سلامته بسببها. وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطَّاعة في قطع رقبة إنسان، فإنَّ كون الإنسان قويًّا على استعمال الآلة ليس شرًّا له بل خير
(8)
، وكذلك كون الآلة قطَّاعةً هو خير لها، وكذلك
(1)
كذا في الأصل وغيره، وفي المباحث المشرقية:"شرّان"، كما جاء فيما بعد.
(2)
"ب، ك، ط": "وهو كما قال"، تحريف.
(3)
"ك، ط": "ظلَّامة"، تحريف.
(4)
"ف": "الباطنة"، تحريف.
(5)
في المباحث: "فوات"، وهو الصواب.
(6)
"ك، ط": "ولا جرم".
(7)
"ك، ط": "ولكنها".
(8)
في الأصل وغيره: "خيرًا" ولعله سهو. والمثبت من المباحث و"ط".
كون الرقبة قابلة للانقطاع، كل ذلك خيرات، ولكنَّ القتل شرٌّ من حيث إنَّه متضمن لزوال الحياة. فثبت بما ذكرنا أنَّ الأمور الوجودية ليست شرورًا
(1)
بالذَّات بل بالعرض
(2)
.
المقدمة الثانية
(3)
: أنَّ الأشياء إمَّا أن تكون مادية، أو لا تكون. فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوَّة، فلا يكون فيها شر أصلًا. وإن كانت مادية كانت في معرض الشر، وعروض الشر لها إمَّا أن يكون في ابتداء تكونها أو بعد تكونها.
أمَّا الأوَّل فهو
(4)
أن تكون المادة التي يتكون منه إنسان أو فرس
(5)
يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة. فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأنَّ الفاعل حرَمَ بل لأنَّ المنفعل
(6)
لم يقبل.
وأمَّا الثاني وهو أن يعرض الشر للشيء بطروء
(7)
طارئ عليه بعد تكونه، فذلك
(8)
الطارئ إما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم
(1)
"ب، ك، ط": "شرًّا".
(2)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(3)
من هنا إلى آخر كلام الرازي مكتوب في الأصل بخط مغاير ضعيف.
(4)
"ب، ك، ط": "فهو إما".
(5)
"ك، ط": "تتكون إنسانا أو فرسًا".
(6)
"ب، ك، ط": "المنفعل له"، وكذا في المباحث.
(7)
في الأصل: "يعرض الشيء للشيء وطروء" وكذا في غيره، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من المباحث. وفي "ط":"يعرض الشر" فصحح التحريف الأوَّل.
(8)
في الأصل و"ف": "فكذلك"، تحريف.
السحب وإظلال الجبال الشاهقات إذا صارَ مانعًا من تأثير الشمس في النبات، وإمَّا شيء مفسد مضاد
(1)
مثل البرد الذي يصل الى النبات فيفسد بسبب ذلك استعداده للنشوء والنمو.
وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بيّنَّا أنَّ الشرَّ بالحقيقة إمَّا عدم ضروريات الشيء، وإمَّا عدم منافعه. فنقول: الموجود إمَّا أن يكون خيرًا من كل الوجوه، أو شرًّا من كل الوجوه، أو خيرًا من وجه وشرًّا من وجه. وهذا على ثلاثة أقسام
(2)
: فإنَّه إمَّا أن يكون خيره غالبًا على شرِّه، أو يكون شرُّه غالبًا على خيره، أو يتساويا
(3)
خيره وشره، فهذه أقسامٌ خمسة.
أمَّا الذي يكون خيرًا من كلِّ الوجوه فهو موجود، وأمَّا الذي
(4)
يكون كذلك لذاته فهو اللَّه تبارك وتعالى. وأمَّا الذي يكون
(5)
لغيره فهو العقول والأفلاك، لأنَّ هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من كمالاتها.
وأمَّا
(6)
الذي كله شر أو الغالب فيه أوالمساوي فهو غير موجود، لأنَّ كلامنا في الشر
(7)
بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم
(1)
"ف، ب، ك": "يفسد وصار"، ويشبهه رسم الأصل، وهو تحريف صوابه ما أثبتنا من المباحث.
(2)
"ك، ط": "تقدير أقسام"، تحريف.
(3)
كذا في الأصل و"ف". وفي "ب، ك": "متساويًا". وفي المباحث: "يتساوى".
(4)
"ط": "وهو موجود أي الذي"، تحريف.
(5)
زاد في "ط" هنا بين حاصرتين: "خيره".
(6)
"أمَّا" ساقطة من "ط".
(7)
في الأصل وغيره: "الشيء"، تحريف صوابه ما أثبتنا من المباحث.
الكمال الزائد. وإذا عنينا بالشر ذلك
(1)
فلا شكَّ أنَّ ذلك مغلوب والخير غالب. لأنَّ الأمراض وإن كثرت إلا أنَّ الصحة أكثر منها، والحرق
(2)
والغرق والخسف وإن كانت قد تكثر إلا أنَّ السلامة أكثر منها.
فأمَّا الذي يكون خيره غالبًا
(3)
على شرِّه، فالأولى فيه أن يكون موجودًا لوجهين:
الأوَّل: أنَّه إن لم يوجد فلا بدَّ وأن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإذن في عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفي وجوده يكون الخير أغلب من الشر، ويكون
(4)
وجود هذا القسم أولى. مثاله: النار في وجودها منافع كثيرة، وأيضًا مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكنَّا إذا قابلنا منافعها
(5)
بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، فكانت
(6)
مفاسد عدمها أكثر من مصالحه
(7)
، فلا جرم وجب إيجادها وخلقها.
الثاني -وهو الذي يكون خيره ممزوجًا بالشر- ليس إلا الأمور التي تحت كرة القمر، ولا شك أنَّها معلولات العلل العالية
(8)
، فلو لم يوجد
(1)
"وإذا عنينا بالشر ذلك" ساقط من "ط".
(2)
"ك، ط": "فالحرق".
(3)
في الأصل: "غالب"، والمثبت من "ف" وغيرها.
(4)
في المباحث: "فيكون"، وهو مقتضى السياق.
(5)
المباحث: "مصالحها".
(6)
"ك، ط": "وكانت".
(7)
"ط": "مصالحها".
(8)
"ف، ب": "الغالية"، تصحيف.
هذا القسم لكان يلزم من عدمها
(1)
عدم عللها الموجبة لها، وهي خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة، وذلك شر محض، فإذن لا بدَّ من وجود هذا القسم.
فإن قيل
(2)
: فَلِمَ لم يخلق الخالق هذه الأشياء عريَّة عن
(3)
كلِّ الشرور؟ فنقول: لأنَّه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأوَّل، وذلك مما قد فرغ منه.
وبقيَ في العقل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبًا على شرِّه. وقد بينَّا أنَّ الأولى بهذا القسم أن يكون موجودًا".
قال: "وهذا الجواب لا يعجبني لأنَّ لقائل أن يقول: إنَّ جميع هذه الخيرات والشرور إنَّما توجد باختيار اللَّه تعالى وإرادته، مثلًا الاحتراق
(4)
الحاصل عقيب النار ليس موجَبًا عن
(5)
النار، بل اللَّه تعالى اختار خلقه عقيب مماسَّة النار، وإذا كان حصول الاحتراق عقيبَ مماسة النار
(6)
باختيار اللَّه وإرادته فكان
(7)
يمكنه أن يختار خلقَ الإحراق عندما يكون خيرًا ولا يختار خلقه عندما يكون شرًّا. ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه سبحانه وتعالى فاعلًا بالذات، لا بالقصد
(1)
"عدمها" سقط من "ط"، فاستدرك في القطرية.
(2)
نقل المؤلِّف كلام الرَّازي من هنا إلى آخره في شفاء العليل (290) أيضًا وعقب عليه.
(3)
"ف": "من" خلاف الأصل.
(4)
"ب": "الإحراق".
(5)
"ك، ط": "من".
(6)
"وإذا كان. . " إلى هنا ساقط من "ب".
(7)
"ف، ب": " وكان".
والاختيار. ويرجع حاصل
(1)
الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث".
قلتُ: لمَّا لم يكن عند الرَّازي إلا مذهبُ الفلاسفة المشائين القائلين بالموجِب بالذات، أومذهب القدرية المعتزلة
(2)
القائلين بوجوب رعاية الصلاح أو الأصلح، أو مذهبُ الجبرية نفاة الأسباب والعلل والحِكَم؛ وكان الحقُّ عنده مترددًا بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارةً يرجح مذهبَ المتكلمين، وتارةً مذهب المشائين، وتارةً يلقي الحرب بين الطائفتين ويقف في النظارة، وتارةً يتردد بين
(3)
الطائفتين؛ وانتهى إلى هذا المضيق ورأى أنَّه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريقِ الجبرية -وهي غير مرضية
(4)
عنده، وإن كان في كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع في مباحثه إليها- أو طريقِ
(5)
المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهي متناقضة غير مطردة = لم يجد بدًّا من تحيزه إلى أعداءِ الملَّة القائلين بأنَّ اللَّه لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به، ومعلومٌ أنَّ هذه المذاهب بأسرها باطلة متناقضة، وإن كان بعضها أبطل من بعض. وإنَّما ألجأه إلى التزام القول بإنكار الفاعل المختار في هذا المقام تسليمُه لهم الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي قادت إلى التزام بعض أنواع الباطل.
(1)
"حاصل" ساقط من "ط".
(2)
"القائلين بالموجب. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(3)
"هذه المذاهب .. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(4)
"ب": "وهي مرضية"، خطأ.
(5)
"ك، ط": "وطريق".
ولو أعطى الدليل حقَّه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إلى حق الطائفة الأخرى، وتحيز إلى ما جاءت به الرسل، على علم وبصيرةٍ، وتقريرٍ
(1)
لما جاؤوا به بجميع طرق الحق، لخلص
(2)
من تلك المطالبات مع إقراره بأنَّ ربَّ العالمين فعَّال لما يريد، يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته
(3)
، وأنَّ له المشيئة النَّافذة والحكمة البالغة، وأنَّ تقدير تجريد النَّار عمَّا خُلِقَت عليه من الإحراق، والماءِ عمَّا خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عمَّا هُيِّئت له وخلقت عليه = منافٍ
(4)
للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب سبحانه؛ وأنَّ هذا تقدير لِعَالمٍ آخر غير هذا العالم، وتعطيلٌ للأسباب التي نَصَبَهَا
(5)
اللَّه مقتضياتٍ لمسبَّباتها، وأنَّ
تلك الأسباب مظهر حكمته وحمده، وموضع تصرفه بخلقه
(6)
وأمره. فتقديرُ تعطيلها تعطيلٌ للخلق والأمر، وهو أشدُّ منافاةً للحكمة وإبطالًا لها؛ واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبباتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلُها عنها
(7)
قدحٌ في الحكمة، وتفويتٌ لمصلحة العالم التي عليها نظامه وبها قوامه.
ولكن الرب سبحانه قد يخرق العائدة
(8)
، ويعطِّلها عن مقتضياتها
(1)
"ط": "وهو تقرير"، خطأ.
(2)
"ك": "تخلص"، "ط":"التخلص".
(3)
"ف": "كلمته"، تحريف.
(4)
"ف": "سان" كذا دون نقط، فإنَّه لم يتمكن من قراءة الأصل.
(5)
"سبحانه، وأنَّ هذا. . " إلى هنا سقط من "ط"، فاستدرك في القطرية، ولكن بقي في هذه سقط،. وهو:"غير هذا العالم".
(6)
"ك، ط": "لخلقه".
(7)
"ك، ط": "منها".
(8)
أي العادة كما في "ب، ط".
أحيانًا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطَّل النار التي أُلقيَ فيها إبراهيم وجعلها عليه بردًا وسلامًا عن الإحراق لما في ذلك من المصالح
(1)
العظيمة. وكذلك تعطيلُ الماءِ عن إغراق موسى وقومه وعمَّا خُلِقَ عليه من الإسالة والتقاءِ أجزائه بعضها ببعض = هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التَّامة التي ظهرت في الوجود، وترتَّب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب.
وهكذا -سبحانه- سائر أفعاله
(2)
، مع أنَّه شهد
(3)
عبادُه بذلك أنَّه هم
(4)
مسبِّب الأسباب، وأنَّ الأسباب خَلقُه وملكه
(5)
، وأنَّه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأنَّ جعلها
(6)
كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذي جعلها كذلك، وأودعَ فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، وأنَّه إن شاءَ أن يسلبها إيَّاها سلبها، لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين
(7)
وزنادقة الأطباءِ إنَّه ليس في الإمكان
(8)
تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها، ويقولون:
(1)
"النار التي. . . " إلى هنا سقط من "ب".
(2)
"ك، ب": "فهكذا سائر أفعاله سبحانه". "ب": "فهكذا سبحانه وتعالى. . .".
(3)
"ط": "أشهد".
(4)
"هو": ساقط من "ب، ك، ط".
(5)
"وملكه".
(6)
كذا في الأصل وغيره. وفي حاشية "ك": "ظ كونها"، وهو أشبه، وكذا في "ط".
(7)
"ف": "الطبائعية". والكلمة غير واضحة في الأصل لانشار الحبر ولكنَّها أقرب إلى ما أثبتنا، وبعد فالكلمتان كلتاهما شائعتان في كتب المصنف.
(8)
"ب": "الإنسان"، تحريف.
لا تعطيل في الطبيعة. وليست الطبيعة عندهم مربوبةً مقهورةً تحت قهر قاهر وتسخير مسخِّر يصرِّفها كيف يشاءُ، بل هي المتصرفة المدبِّرة. ولا كما يقول من نقص
(1)
علمُه ومعرفتُه بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقَه وأمرَه وثوابَه وعقابَه؛ فجحد ذلك كلَّه، وردَّ الأمرَ إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباطَ الأسباب بمسبباتها، والقوى بمحالّها.
ثمَّ المحذورُ اللازمُ من إنكارِ الفاعل المختار الفعَّال
(2)
لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإنَّ القائل بذلك يجعل هذه الشرورَ بأسرها لازمةً له لزومَ الظلِّ
(3)
لحامله والحرارةِ للنار، لا يمكنه
(4)
دفعُها ولا تخليص الخيرات منها
(5)
. فهم فرُّوا من إضافة الشر إلى خلقه ومشيئته واختياره، ثمَّ ألزموه إيَّاه، وأضافوه إليه إضافةً لا يمكن إزالتها، مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه وعلمه بتفاصيل أحوال عباده؛ وفي ذلك تعطيل ربوبيته للعالمين. ففرُّوا من محذور بالتزام عدَّةِ محاذير، واستجاروا من الرَّمْضاءِ بالنَّارِ!
(6)
وهذا كما نزَّهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوه على مخلوقاته
(1)
"ب": "يقضي"، تحريف،
(2)
"ف": "والفعال"، سهو.
(3)
"ك، ب، ط": "الطفل"، تحريف.
(4)
"ك، ط": "ولا يمكنه".
(5)
"منها" أي من الشرور. وفي "ك، ط": "الحرارة" بدل "الخيرات"، تحريف.
(6)
انظر المثل في فصل المقال (377).
فرارًا
(1)
من التحيز والجهة، ثمَّ جعلوه سبحانه في كلِّ مكان مخالطًا للقاذورات والأماكن المكروهات وكلِّ مكان يأنف العاقلُ من مجاورته. ففرُّوا من تخصصه بالعلو، فعمَّموا به كلَّ مكان!
ولمَّا علمت الفرعونيةُ بطلانَ هذا المذهبِ فرُّوا إلى شرٍّ منه، فأخلَوا داخل العالم وخارجه منه البتة، وقالوا: ليس فوق العرشِ ربٌّ يُعبَد، ولا إلهٌ يُصلَّى له ويُسجَد، ولا تُرفَع إليه الأيدي، ولا يصعَد إليه الكلِم الطيِّب والعمل الصالح، ولا عُرِجَ بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه بل عرج به إلى عَدَمٍ صِرْف، ولا فرق بالنسبة إليه بين العرش وبين أسفل سافلين
(2)
. ومن المعلوم أنَّه ليس موجودًا في أسفل سافلين، فإذا لم يكن موجودًا فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده.
فلمَّا رأت الحلولية وإخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما في ذلك من الإحالةِ قالوا: بل هو هذا الوجود الساري في الوجودات
(3)
، الظاهرُ فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسبها
(4)
. فهو في الماءِ ماءٌ، وفي الخمر خمر، وفي النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته. فنزَّهوه عن استوائه على عرشه، وجعلوه وجودَ كلِّ موجود خسيس أو شريف، صغير أو كبير، طيِّب أو غيره، تعالى اللَّه عمَّا يقول أعداؤه علوًّا كبيرًا.
(1)
"ك، ط": "فإنَّه فرار".
(2)
"ف": "السافلين" سهو.
(3)
كذا في الأصل بلا شك. وفي "ف" المنقولة عنه وغيرها: "الموجودات". وما ورد في الأصلِ صحيح لا غبار عليه. انظر: درء التعارض (2/ 347).
(4)
"ك، ط": "بحسنها"، تصحيف.
وكذلك القائلون بقدم العالم نزَّهوه عن قيام الإرادات والأفعالِ المتجدِّدة به، ثمَّ جعلوا جميعَ الحوادث لازمةً له لا ينفك عنها. ونزَّهوه عن إرادته
(1)
لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته، وجعلوه لازمًا لذاته كالمضطرِّ إلى صدوره عنه.
وكذلك المعتزلة الجهمية نزَّهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا في تشبيه
(2)
، ثمّ شبَّهوه بخلقه في أفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيهه بها
(3)
في سلبِ صفات كماله بالجمادات والناقصات. فإنَّ
(4)
من فرَّ من إثبات السمعَ والبصرِ والكلام والحياة له
(5)
لئلا يشبهه، فقد شبَّهه بالأحجارِ التي لَا تسمع ولا تبصر ولا تتكلَّم. ومن عطَّله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه يزعمه
(6)
، فقد شبَّهه بأصحاب الخرَس والآفات الممتنع منهم الكلام
(7)
.
ومن نزّهه عن نزوله كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوّه عشيةَ عرفة من أهل الموقف، ومجيئه يوم القيامة للقضاءِ بين عباده، فرارًا من تشبيهه بالأجسام، فقد شبّهه بالجماد الذي لا يتصرّف ولا يفعل ولا يجيء
(1)
"ب": "إعادته"، تحريف.
(2)
"ف": "تشبيهه"، خلاف الأصل.
(3)
"بها" كذا في "ف" وغيرها، وحذفت في "ط". ومن هنا إلى "لئلا يشبهه" لم يظهر في مصورة الأصل، وهو جزء من السطر الأوَّل من لحق طويل كتب في الحاشية اليمنى من أسفلها إلى أعلاها.
(4)
"ك، ط": "وإن".
(5)
"له" لم ترد في "ف".
(6)
"ب، ط": "بزعمه".
(7)
"ب": "بأصحاب الدنيا الممتنع منهم الكلام بالآفات"!
ولا يأتي ولا ينزل.
ومن نزّهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل، حذرًا من تشبيهه بالفاعلين لذلك، فقد شبّهه بأهل السفه والعبث الذين لا يقصدون بأفعالهم غايةً محمودةً ولا غرضًا مطلوبًا محبوبًا.
ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرّفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاءَ، حذرًا من الظلم بزعمه، فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلّد في أطباق النيران من استنفد عمره كلّه في طاعته، إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة، فإنّها تُحْبِط جميع تلك الطاعات، وتجعلها هباءً منثورًا، ويخلّد في جهنّم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة.
فهذا وأمثالُه فرّوا منه
(1)
، وهدى
(2)
اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(1)
"فهذا وأمثاله" لم يظهر في مصورة الأصل لوقوع الحبر عليه، وقد أثبتناه من "ف"، هو ساقط من "ك، ب". وفي "ب": "فرارًا من الحقِّ"، ولعلَّه إصلاح للنص المبتور. والعبارة بكاملها حذفت من "ط".
(2)
كذا في الأصل و"ف". ولم يقصد المؤلف نقل الآية (213) من البقرة، وإنَّما أراد الاقتباس منها في كلامه. وفي "ب، ك": "فهدى".
قاعدة كمال العبد وصلاحه يتخلّف عنه من أحد
(1)
جهتين:
إمّا أن تكون طبيعته يابسةً قاسيةً غيرَ ليّنة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالُها وفلاحُها
(2)
.
وإمّا أن تكون ليّنة منقادة سلسة القياد، لكنّها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلّب.
فمتى رُزق العبدُ انقيادًا للحقّ وثباتًا عليه فَلْيُبْشِرْ، فقد يُسِّر لِكلّ خير
(3)
، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
(1)
كذا في الأصل وغيره. وانظر ما سبق في ص (79). وفي "ط": "إحدى".
(2)
"ب": "فلاحها وكمالها".
(3)
"ك، ط": "بشر بكل خير"، تصحيف.
قاعدة
إذا ابتلى اللَّه عبدَه بشيء من أنواع البلايا
(1)
والمحن فإنْ ردّه ذلك الابتلاءُ والامتحان
(2)
إلى ربّه، وجمعه عليه، وطرحه ببابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدّة بَتْراءُ لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع، وقد عُوِّض منها أجل عوض وأفضلَه، وهو رجوعُه إلى اللَّه بعد أن كان شاردًا عنه، وإقبالُه عليه بعد أن كان نائيًا عنه، وانطراحُه على بابه وقد كان عنه معرضًا
(3)
، وللوقوف على أبواب غيره متعرّضًا.
وكانت البلية في حقّ هذا عين النعمة، وإن ساءَته، وجمرهها طبعه، ونفرت منها نفسه.
فربّما كان مكروهُ النفوسِ إلى
…
محبوبِها سببًا ما مثله سببُ
(4)
وقوله تعالى في ذلك هو الشفاءُ والعصمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة/ 216].
وإن لم يردَّه ذلك البلاءُ إليه، بل شرّد قلبَه عنه، وردّه إلى الخلق، وأنساه ذكرَ ربِّه، والضراعةَ إليه، والتذلّلَ بين يديه، والتوبةَ والرجوع
(1)
"ب": "عبده بأنواع البلايا".
(2)
"ك، ط": "المحن".
(3)
"ب، ك، ط": "بابه بعد أن كان معرضًا".
(4)
أثبت هذا البيت في "ف، ك، ط" نثرًا. وقد أنشده المؤلف في زاد المعاد (3/ 310) وإغاثة اللهفان (2/ 803)، وشفاء العليل (344)، ومدارج السالكين (1/ 501). وهو من أبيات أوردها ابن العديم في بغية الطلب (3792).
إليه؛ فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به. فهذا إذا أقلع عنه البلاءُ ردّه إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه؛ فجاءَت طبيعتُه عند القدرة بأنواع الأشَر والبطَر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسرّاء، كما أعرض عن ذكره والتضرّع إليه في الضرّاءِ. فبليةُ هذا وبالٌ عليه وعقوبة ونقص في حقّه، وبليةُ الأوّل تطهير له ورحمة وتكميل. وباللَّه التوفيق
(1)
.
(1)
"ب": "والعصمة".