الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه، وفي الأحاديث التي ذكرت
(1)
آنفًا أنّ ذلك في الأربعين الأولى قبل كونه علقةً ومضغةً، وفي رواية صحيحة
(2)
: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً بعث اللَّه إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها"
(3)
، وفي رواية
(4)
: أنّ ذلك يكون في بضع وأربعين ليلة
(5)
.
فصل
الجمع بين هذه الروايات أنّ للملَك ملازمةً ومراعاةً لِحال
(6)
النطفة، وأنّه يقول: ياربّ هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة، في أوقاتها. فكلّ وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر اللَّه تعالى، وهو أعلم بها منه
(7)
.
ولِكلام الملَك وتصرُّفِه أوقاتٌ: أحدها حين يخلقها
(8)
اللَّه نطفةً ثم ينقلها علقةً، وهو أول أوقات علمِ الملك بأنه ولد، لأنه ليس كلّ نطفة تصير ولدًا، وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني. ولهذا -واللَّه أعلم- وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله {اقْرَأْ
(1)
"ك، ط": "ذكرت أيضًا".
(2)
"ن": "وفي حديث صحيح".
(3)
أخرجه مسلم في القدر (2645) من حديث حذيفة بن أسيد.
(4)
في صحيح مسلم أيضًا. انظر الموضع السابق.
(5)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(6)
"ك، ط": "بحال".
(7)
"منه" ساقط من "ك، ط".
(8)
"ك، ط": "بكلام الملك، فتصرفه في أوقات. . ". "ف": "بكلام الملك، فيصرفه أوقات أخذها حتى يخلقها". والصواب ما أثبتنا من الأصل. وكذا في "ن" إلا أنَّ فيها: "حين يجعلها"، وهو تحريف.
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق/ 1 - 2] إذ خلقُه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية، وحينئذ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته.
ثمّ للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر، وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيته. وهذا إنّما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيه، لأن
(1)
نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره.
فههنا تقديران وكتابتان
(2)
:
التقدير الأول عند ابتداءِ تعلّق
(3)
التخليق في النطفة، وهو إذا مضى عليها أربعون، ودخلت في طور العلقة، ولهذا في إحدى الروايات:"إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة".
والتقدير الثاني والكتابة الثانية إذا
(4)
كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكرًا أو أُنثى.
فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين، والتقدير الثاني تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره.
ثم إذا وُلِد قُدّر مع ولادته كلَّ سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدَّر ليلة القدر من العام إلى العام. فهذا التقدير أخصّ من التقدير
(1)
"ك، ط": "فيها فإن".
(2)
"ط": "كتابان".
(3)
"ك، ط": "تعليق".
(4)
"ك، ط": "الثاني الكتابة إذا".
الثاني، والثاني أخصّ من الأول.
ونظير هذا أيضًا أنّ اللَّه سبحانه قدّر مقاديَر الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدّر مقادير هذا الخلق حين خلقه وأوجده
(1)
، ثم يقدّر كلّ سنة في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلّقها بالرحم، وبعد كمال تصوير الجنين، وقد تقدّم ذلك
(2)
تقديرُ شأنها قبل خلق السموات والأرض، فهو تقدير بعد تقدير.
ونظير هذا أيضًا رفعُ الأعمال وعرضُها على اللَّه، فإنّ عمل العام يُرفَع في شعبان، كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال:"فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم"
(3)
. ويُعرض عملُ الأسبوع يوم الاثنين والخميس، كما ثبت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(4)
. ويُعْرَض عملُ اليوم في آخره والليلة في آخرها، كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري
(5)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ اللَّه لا ينامُ ولا ينبغي له أن ينام، يخفض
(1)
"ك، ط": "خلقهم وأوجدهم".
(2)
"ط": "تقدم ذكر تقدير"، خطأ.
(3)
أخرجه أحمد (21753)، والنسائي (2357) واللفظ له، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وسنده حسن (ز).
(4)
أخرجه أحمد (21753، 21781)، وأبو داود (2436)، والنسائي في الكبرى (2781، 2782) من حديث أسامة بن زيد، وسنده لا بأس به. وله طريق آخر عن أسامة عند ابن خزيمة (2119)(ز).
(5)
وكذا في روضة المحبين (565). وفي تهذيب السنن (13/ 24) عزاه إلى الصحيحين، وهو سهو. فإنما أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (179).
القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار وعملُ النهار قبل الليل".
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرضُ فيهما
(1)
أخص من العرض في شعبان، ثمَّ إذا انقضى الأجلُ رُفِعَ العمل كله، وعُرِضَ على اللَّه، وطويت الصحف، وهذا عرضٌ آخر.
وهذه المسائل العظيمة القدرِ هي من أهم مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات اللَّه وسلامه على كاشف الغمّة وهادي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإنْ قيل: فما
(2)
تقولون في قوله: "إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً بعث اللَّه إليها ملكًا فصوَّرها وخلق سمعها وبصرها وجِلْدها ولَحْمها
(3)
وعظمها ثمَّ قال: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شَاء، ويكتب الملك، ثمَّ يقول: يا ربّ أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك". وهذه بعض ألفاظ مسلم في الحديث. وهذا يوافق الرواية الأخرى "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة
(4)
وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أشقي أم سعيد
(5)
؟ "، ويوافق الرواية الأخرى: "إنَّ النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً ثمَّ يتسور عليها الملك". وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأولى.
(1)
"ط": "فيها"، خطأ.
(2)
"ك، ط": "ما".
(3)
"ف": "ومخها"، خلاف الأصل.
(4)
كذا في الأصل وغيره، وفي "ط":"خمس".
(5)
"ط": "أو سعيد".
قيل: لا ريب أنَّ التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع في الأربعين الثالثة، لا يقع عقيب الأولى، هذا أمرٌ معلوم بالضرورة، فإمَّا أن يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة، وسمَّى المضغة فيها نطفةً اعتبارًا بأوَّل أحوالها وما كانت عليه. أو يكون المراد بها الأربعين الأولى، وسمَّى كتابةَ تصويرها وتخليقها
(1)
وتقديرَه تخليقًا اعتبارًا بما يؤول؛ فيكون قوله "صورها وخلق سمعها وبصرها" أي قدَّر ذلك وكتبه وأعلم به، ثمَّ يفعله
(2)
بعد الأربعين الثالثة.
أو يكون المراد به
(3)
الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها، فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس البشر. فإنَّ النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة، وحينئذٍ يكون أول مبدأ التخليق، فيكون مع هذا المبدأ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس. ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صُورت التصويرَ المحسوس المشاهد.
فأحد التقديرات الثلاثة متعيِّن
(4)
، ولا بُدَّ؛ ولا يجوز غير هذا البتة، إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم. وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدرة
(5)
، واللَّه أعلم بمراد رسوله. غير أنَّا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم
(1)
"ط": "تصويره وتقديره"، وفيه سقط وتحريف.
(2)
"ك، ط": "يفعله به". "ن": "ثم يكون ذلك".
(3)
"ط": "به أي الأربعين". "ك": "به أي بالأربعين المراد به الأربعين الأولى حقيقة".
(4)
"ط": "يتعين".
(5)
"ك، ط": "القدر".
واللحم إنَّما يكون بعد الأربعين الثالثة. والمقصود أنَّ كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاقٍ، عند أوَّل تخليقه.
ويحتمل وجهًا رابعًا وهو أنَّ النطفة في الأربعين الأولى لا يُتعرَّض إليها ولا يُعتنى بشأنها
(1)
، فإذا جاوزتها وقعتْ في أطوار التخليق طَورًا بعد طَور، ووقع حينئذٍ التقدير والكتابة. فحديث ابن مسعود صريحٌ بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة، وحديث حذيفة بن أُسَيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنَّما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين، ولم يوقِّت فيها البَعدية
(2)
بل أطلقها، وقد قيدها ووقَّتها في حديث ابن مسعود، والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب. فأخبر بما يكون للنطفة
(3)
بعد الطور الأوَّل من تفاصيل شأنها وتخليقها، وما يقدر لها وعليها، وذلك يقع في أوقات متعددة، وكلّه بعد الأربعين الأولى، وبعضه متقدم على بعض؛ كما أنَّ كونها علقةً متقدم
(4)
على كونها مضغةً، وكونها مضغة متقدِّم
(5)
على تصويرها، والتصوير متقدم على نفخ الروح، ومع
(6)
ذلك فيصح أن يقال: إنَّ النطفة بعد الأربعين تكون علقة ومضغة، ويصوَّر خلقُها، وتركَّب فيها العظام والجلد، ويشق لها السمع والبصر، وينفخ فيها الروح، ويكتب شقاوتها وسعادتها. وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل.
(1)
قراءة "ف": "ولا يعتبر شأنها".
(2)
"ف": "التعدية" تصحيف.
(3)
"ف، ط": "تكون النطفة"، "ك":"يكون بالنطفة".
(4)
"ف، ك، ط": "يتقدم"، والصوابُ ما أثبتنا، وهي قراءة "ن".
(5)
"وكونها مضغة" ساقط من "ن، ك". وفي "ن" هنا: "يتقدم".
(6)
سقطت الواو من "ك، ط".
وهذا وجه حسن جدًّا
(1)
.
والمقصود: أنَّ تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا، فأسكنه الجنة والنار وهو في بطن أمه.
[أحاديث أخرى في إثبات القدر]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه كتبَ على ابن آدم حظَّه من الزِّنى أدْرَكَ ذلك لا محالةَ" الحديث
(2)
.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعثَ اللَّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفة إلا كانَ له بطانتان: بطانة تأمرُه بالخيرِ وتحضُّه عليه، وبطَانةٌ تأمرُه بالشرِّ، وتحضُّه عليه. والمعصومُ من عَصَمَ
(3)
اللَّه"
(4)
.
وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنَّه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عُدَيُّ أسلِمْ تَسْلَمْ، قلتُ: وما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنِّي رسول اللَّه، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها، وحلوها ومرّها"
(5)
.
(1)
وانظر: شفاء العليل (46)، والتبيان (219).
(2)
أخرجه البخاري في القدر (6612) وغيره، ومسلم في القدر (2657).
(3)
"ط": "عصمه".
(4)
أخرجه البخاري في الأحكام (7198).
(5)
أخرجه ابن ماجه (87)، وهو حديث ضعيف جدًّا، ضعَّفه البوصيري لاتفاقهم على ضعف عبد الأعلى بن أبي المساور الزهري، كذبه ابن معين، وكذلك في سنده يحيى بن عيسى الجرَّار، ضعيف. (ز).
وفي صحيح البخاري من حديث الحسن عن
(1)
عمرو بن تغلب قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم مالٌ، فأعطى قومًا ومنع آخرين، فبلغه أنَّهم عتبوا، فقال: "إني أعطي الرجل وأدَع الرجل، والذي أدعِ أحبُّ إليَّ من الذي أُعطي. أُعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الجزع والهَلع، وأكِلُ أقوامًا إلى ما جعلَ اللَّهُ في قلوبهم من الغِنى
(2)
والخيرِ" الحديث
(3)
.
وفي الصحيحين
(4)
من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان اللَّه، ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماءِ، ثمَّ خلقَ
(5)
السماوات والأرض، وكتب في الذكر كلَّ شيء".
وفي الصحيح عن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشجِّ عبد القيس: "إنَّ فيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهما اللَّه: الحِلم والأناة". قال: يا رسول اللَّه خُلقَين تخلَّقْتُ بهما، أم جُبلتُ عليهما؟ قال:"بل جبلتَ عليهما". قال: الحمد للَّه الذي جَبَلني عَلى خلقين يحبهما اللَّه
(6)
.
وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ". رواه البخاري تعليقًا
(7)
.
(1)
"الحسن عن" ساقط من "ط".
(2)
"ك، ط": "القناعة".
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (923) وغيره.
(4)
وكذا في تهذيب السنن (12/ 315)، وهو سهو. وإنَّما أخرجه البخاري في بدء الخلق (3191).
(5)
"ط": "وخلق". وهو لفظ الحديث في الصحيح.
(6)
أخرجه مسلم في الإيمان (17).
(7)
في النكاح (5076)، وانظر: كتاب القدر، باب جف القلم على اللَّه. وقد وصله الإسماعيلي في المستخرج، والفريابي في القدر (437)، وابن وهب في =
وذكر البخاري أيضًا
(1)
عن ابن عباس في قوله عز وجل: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون/ 61] قال: سبقت لهم السعادة.
وفي سنن أبي داود وابن ماجه من حديث عبد اللَّه بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت: "أنَّ اللَّه لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم كانت رحمته
(2)
خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقتَ مثل أحدٍ ذهبًا في سبيل اللَّه ما قبله اللَّه منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متَّ على غير هذا لدخلتَ النَّار". وقاله زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وفي سنن أبي داود عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنيّ إنَّك لن تجد
(4)
طعمَ الإيمان حتَّى تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّل ما خلقَ اللَّه القلم فقال له: اكتب، قال:
= القدر (16)، والجوزقي في الجمع بين الصحيحين، كما في تغليق التعليق (4/ 396) والتعليق عليه، وسنده صحيح. (ز).
(1)
في كتاب القدر، باب جف القلم على علم اللَّه.
(2)
"ط": "رحمته لهم".
(3)
أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد (21589)، وابن حبان (727) من حديث زيد بن ثابت. وظاهر سنده حسن، ولكن وقع فيه اختلاف، وأنَّه موقوف على أبي بن كعب. انظر: القدر للفريابي (150)، والقضاء والقدر للبيهقي (199، 482، 483). (ز).
(4)
"ك، ط": "لم تجد".
ربِّ
(1)
وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". يا بني، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس منِّي"
(2)
.
وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد، فجاءَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مِخصرة، فجعل ينكُت بالمِخصَرة في الأرض، ثمَّ رفع رأسه فقال: "ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا قد كُتِبَ مكانُها من النار أو الجنَّة
(3)
، إلا قد كُتِبَت: شقيَّة أو سعيدة، قال: فقال رجل من القوم: يا نبيّ اللَّه أو لا نمكث
(4)
على كتابنا، وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونَّن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة
(5)
لَيكوننّ إلى الشقاوة؟ قال: اعملوا، فكل مُيسَّرٌ، أمَّا أهل السعادة فَيُيَسَّرون لِلسَّعَادة، وأمَّا أهل الشقاوة فيُيسَّرون لِلشَّقَاوة". ثمَّ قرأ نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 - 10]
(6)
.
وفي السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهني أنَّ عمر بن الخطاب سُئِلَ عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
(1)
"ك، ط": "يا رب".
(2)
أخرجه أبو داود (4700)، وفي سنده جهالة، وقد وقع فيه اختلاف، وروي من غير وجه عن عبادة، وفيها نظر. انظر: القدر للفريابي (31 - 33). (ز).
(3)
"ك، ط": "في النار أو في الجنة".
(4)
"ط": "نتّكل".
(5)
"ط": "الشقاوة".
(6)
تقدم تخريجه في ص (149).
ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف/ 172]
(1)
، فقال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل
(2)
عنها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خلقَ آدمَ
(3)
، ثمَّ مسحَ ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريَّة، فقال: خلقت هؤلاء للجنَّة، وبعمل أهل الجنَّة يعملون. ثمَّ مسحَ ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقتُ هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون". قال رجل: يا رسول اللَّه، ففيم العملُ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّهَ إذا خلقَ العبدَ للجنَّة استعمله بعمل أهل الجنَّة حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنَّة، فيُدخله به الجنَّة. وإذا خلقَ العبد للنَّارِ استعمله بعمل أهل النَّار حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل النَّارِ، فيدخله به النَّار"
(4)
.
وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه خلقَ آدمَ من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاءَ بنو آدمَ على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ والأبيض والأسود وبين ذلك، والسَّهْل والحَزْن، والخبيث والطيب". قال الترمذي: حديث حسن
(1)
وردت الآية في الأصل والنسخ الأخرى على قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو: "ذرِّياتهم". انظر: الإقناع (2/ 651).
(2)
كذا في الأصل و"ن". وفي "ف" وغيرها: "قد سئل".
(3)
"ك، ط": "خلق اللَّه آدم".
(4)
قول المصنف: "في السنن الأربعة" سهو، فإنَّ الحديث أخرجه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في الكبرى (1190)، قال الترمذي:"هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا". وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 6): "وجملة القول في هذا الحديث أنَّه حديث ليس إسناده بالقائم لأنَّ مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ثابتة. . . "(ز).
صحيح
(1)
.
وذكر الطبري من حديث مالك بن عبد أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "لا تُكْثِرْ
(2)
همَّكَ، ما يُقدَّرْ يَكُنْ، وما تُرْزَقْ يأتِك"
(3)
.
وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ داعيًا ومبلِّغًا، وليس إليِّ من الهدى شيءٌ، وخُلقَ إبليس مُزَيِّنًا، وليس إليه من الضلالة شيء"
(4)
.
وقال ابن وهب: أخبرنا عبد الرحمن بن سلمان
(5)
، عن عقيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمع ناسًا من أصحابه يذكرون
(6)
فقال: "إنَّكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغَور
(7)
، فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكم". ولقد أخرج يومًا كتابًا، فقال: "هذا كتابٌ من اللَّه الرحمن الرحيم فيه تسمية أهل الجنَّة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمَلٌ
(8)
على آخرهم لا يُنقصُ منهم أحدٌ: فريقٌ
(1)
الترمذي (2955)، وأخرجه أبو داود (4693)، وابن حبان (6160) وغيرهما.
(2)
"ط": "لا يكثر".
(3)
أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2806)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1080). والحديث فيه إرسال مع الاختلاف في أسانيده، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6264)(ز).
(4)
أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 471 - 472)، وابن حبان في المجروحين (1/ 281)، وهو حديث ضعيف كما في تنزيه الشريعة (1/ 315) لابن عراق. (ز).
(5)
"ف، ك، ط": "سليمان" تحريف.
(6)
زاد في "ط": "القدر".
(7)
"ف": "شعبين بعيدي الغور".
(8)
"ف، ك": "فجمل". وفي "ط" بالحاء، تصحيف. وانظر ما سلف في =
في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير"
(1)
.
وفي الترمذي عن ابن عباس قال: ردِفتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: يا غلامُ، ألَا أعلِّمُكَ كلماتٍ ينفعك اللَّه بهنَّ؟ احفظ اللَّه يحفظْك، احفظ اللَّه تجده أمامك. تعرَّفْ على اللَّه في الرَّخاءِ يعرفْك في الشدَّة. إذا سألتَ فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه. رُفِعَت الأقلامُ، وجفَّت الصحف. لَوْ جَهَدت الأُمَّة على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه لك، ولو جهدت الأمة على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه عليك. واعلم أنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرْبِ، وأنَّ مع العسر يُسْرًا"
(2)
.
وفي بعض روايات الحديث في غير الترمذي: "فلو أنَّ النَّاس اجتمعوا على أن يعطوك شيئًا لم يُعْطِه اللَّه لم يقدروا عليه، ولو أنَّ الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئًا قدَّره اللَّه لك وكتبه لك
(3)
ما استطَاعُوا، فاعبُدِ اللَّه بالصَّبْرِ مع اليقين"
(4)
.
= ص (145).
(1)
تقدم من طريق آخر في ص (145).
(2)
تقدم في ص (132).
(3)
"وكتبه لك" ساقط من "ط".
(4)
"ك، ط": "مع الصبر على اليقين".
والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 1231)(11243)، والحاكم (3/ 624) (6304) من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقد ضعفه الذهبي من هذا الطريق فقال:"عيسى -يعني ابن محمد القرشي- ليس بمعتمد". وتقدم الحديث من طريق حنش عن ابن عباس، وهو أصح الطرق عن ابن عباس كما قاله ابن منده وغيره. انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 461)(ز).
وقال علي بن الجعد: حدثنا
(1)
عبد الواحد بن سليم
(2)
البصري، عن عطاء بن أبي رباح قال: سألتُ
(3)
ابن
(4)
عبادة بن الصامت: كيفَ كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: "يا بنيّ اتّقِ اللَّه، واعلم أنَّك لن تتقيَ اللَّه ولن تبلغ العلم حتَّى تعبد اللَّه وحدَه، وتؤمنَ بالقدر خيره وشرِّه". قلت: يا أبتِ كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: "تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ فإنْ متَّ على غير هذا دخلت النَّار. سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّل ما خلقَ اللَّه القلم، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكتبُ؟ فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد"
(5)
.
وذكر الطبري من حديث بقية حدثنا
(6)
أبو بكر العنسي
(7)
عن يزيد بن أبي حبيب
(8)
ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: قالت أم سلمة: يا رسول اللَّه لا تزال نفسك في كل عام وَجِعَةً من تلك الشاة المسمومة التي أكلتها، قال: "ما أصابني من
(9)
شَيءٍ منها إلا وهو
(1)
"ط": "أنبأنا".
(2)
"بن سليم" لم يرد في "ك، ط".
(3)
"سألت" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.
(4)
سقطت كلمة "ابن" من "ط"، فزاد بين حاصرتين:"الوليد بن".
(5)
أخرجه علي بن الجعد في مسنده (3444)، وفيه عبد الواحد بن سليم، ضعيف، وقد تقدم الحديث في ص (164) من طريق آخر.
(6)
"ط": "أنبأنا".
(7)
"ن، ط": "العبسي"، تصحيف. انظر: تهذيب التهذيب (12/ 44).
(8)
"ك، ط": "زيد بن أم حبيب"، تحريف. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 318).
(9)
"من" ساقط من "ط".
مكتوبٌ على، وآدم في طينته"
(1)
.
وفي صحيح مسلم
(2)
من حديث ابن عباس في خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحمدُ للَّه نحمدُهُ ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله".
وفي صحيحه
(3)
أيضًا عن زيد بن أرقم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها".
وفي صحيحه
(4)
أيضًا عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاقِ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرِفْ عنِّي سيِّىَءَ الأخلاق، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها إلا أنت".
وفي الترمذي والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّم أباه هذا الدعاء: "اللَّهمَّ ألْهِمْني رُشدي، وقنِي شرَّ نفسي"
(5)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (3546)، والفريابي في القدر (418). قال البوصيري: هذا إسناد فيه أبو بكر العنسي وهو ضعيف. مصباح الزجاجة (3/ 142)(ز).
(2)
كتاب الجمعة (868).
(3)
كتاب الذكر والدعاء (2722).
(4)
كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771).
(5)
أخرجه أحمد (19992) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 3)، والترمذي (3483)، والطبراني في الكبير (18/ 396)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 165)، وقال الترمذي:"هذا حديث غريب". وفي سنده شبيب بن شيبة، وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (690). (ز).
وروى سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء، عن عبد اللَّه بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب بالجابية
(1)
خطيبًا فقال في خطبته: "من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له" وعنده الجاثَليقُ
(2)
يسمع ما يقول، قال: فنفَضَ ثوبَه كهيئة المنكِر، فقال عمر: ما يقول؟
(3)
قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعمُ أنَّ اللَّه لا يضل أحدًا، قال: "كذبتَ يا عدوَّ اللَّه، بل اللَّه خلقك وهو أضلَّكَ، وهو يُدخِلُك النَّارَ إن شاء اللَّه. أما واللَّه، لولا وَلْثُ عهدٍ
(4)
لك لضربتُ عنقك، إنَّ اللَّه خلقَ الخلقَ فخلَق أهل الجنَّة وما هم عاملون، وخلَقَ أهل النارِ وما هم عاملون، قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه"
(5)
.
وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال: "خلق اللَّه الخلقَ فكانوا في قبضته، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنَّة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النَّار ولا أبالي، فذهَبتْ إلى يوم القيامة"
(6)
.
وقال ابن عمر: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيتَ الزنى بقدَر اللَّه؟ فقال: نعم. قال: فإنَّ اللَّه قدَّره على ثمَّ يعذبني؟ قال: "نعم يا ابن اللَّخْناءِ، أما واللَّه لو كان عندي إنسان أمرتُ أن يجَأ
(1)
"الجابية" ساقط من "ك، ط".
(2)
رئيس الأساقفة عند النصارى. انظر: القول الأصيل (74).
(3)
"ط": "تقولون".
(4)
"ولث" ساقط من "طـ". والوَلْث: بقية العهد، وقيل: الضعيف من العهد. اللسان (ولث).
(5)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (929)، والآجري في الشريعة (417)، واللالكائي (1197) وغيرهم (ز).
(6)
أخرجه الآجري في الشريعة (415)، واللالكائي (1204)، وفي سنده انقطاع.
أنفَك"
(1)
.
وذكر عن علي رضي الله عنه أنَّه ذُكِرَ عنده القدرُ يومًا، فأدخلَ إصبعيه السبابة والوسطى في فيه، فرقَم بهما باطنَ يده، فقال: أشهد أنَّ هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب
(2)
.
وذكر عنه أيضًا أنَّه قال: "إنَّ أحدكم لن يخلُص الإيمانُ إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غيرَ ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ
(3)
ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويُقِرَّ بالقدَر كله"
(4)
.
وذكر البخاري
(5)
عن ابن مسعود أنَّه قال في خطبته: "الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من وُعِظَ بغيره".
وقال ابن مسعود: "لأنْ أعضَّ على جمرٍ
(6)
أو أقبضَ
(7)
عليها حتى تبرُدَ في يدي أحبُّ إليَّ من أن أقول لشيءِ قضاه اللَّه: ليته لم يكن"
(8)
.
(1)
أخرجه اللالكائي (1205)، وسنده ضعيف، وفيه اختلاف. انظر: اللالكائي (1293).
(2)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (955)، واللالكائي (1213) وغيرهما، وفي سنده ضعف (ز).
(3)
"أن" ساقطة من "ك، ط".
(4)
أخرجه اللالكائي (1214)، وفي سنده انقطاع، ميسرة لم يدرك عليًّا، قاله الإمام أحمد، جامع التحصيل (816). (ز).
(5)
كذا قال هنا، والصواب أنَّه في صحيح مسلم (2645)، كما ذكر المصنف في ص (148).
(6)
"ن، ط": "جمرة".
(7)
"ك، ط": "أو أن أقبض".
(8)
أخرجه الطبراني في الكبير (9171)، واللالكائي (1217) من طريقين عن ابن =
وقال: "لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنَّه ميت، وأنَّه مبعوث من بعد الموت"
(1)
.
وقال الأعمش، عن خيثمة
(2)
، عن ابن مسعود:"إنَّ العبدَ لَيهُمُّ بالأمرِ من التجارة والإمارة، حتى يتيسَّر له نظرُ اللَّه إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنِّي إن يسرتُه له أدخلته النار. قال: فيصرفه اللَّهُ عنه. قال: فيقول: من أين دُهيتُ؟ أو نحو هذا، وما هو إلا فضلُ اللَّه عز وجل"
(3)
.
وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنَّ عبد الرحمن بن عوف مرض مرضًا شديدًا، أغمي عليه فأفاق
(4)
فقال: أُغمي علي؟ قالوا: نعم، قال: إنَّه أتاني رجلان غليظان، فأخذا بيدي، فقالا: انطلِقْ نحاكِمْك إلى العزيز الأمين. فانطلقا بي، فتلقَّاهما رجل، فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكِمُه إلى العزيز الأمين. فقال: دعاه فإنَّ هذا ممن سبقت له السعادةُ وهو في بطن أمه
(5)
.
وقال ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: أشهد لَسمِعتُ ابن
= مسعود رضي الله عنه (ز).
(1)
أخرجه معمر في جامعه (20081)، والفريابي في القدر (195، 196) وغيرهما. وهو لا يثبت، فيه الحارث الأعور. متهم بالكذب، وقد اختلف عليه. (ز).
(2)
عن "خيثمة" ساقط من "ك، ط".
(3)
أخرجه اللالكائي (1219)، وفي سنده انقطاع.
(4)
"ك، طـ": "وأفاق".
(5)
أخرجه عبد الرزاق (20065)، والآجري (436)، واللالكائي (1220) وغيرهم، والأثر صحيح. (ز).
عباس يقول: "العجز والكَيْس بقدر"
(1)
.
وقال مجاهد: قيل لابن عباس: إنَّ ناسًا يقولون في القدر. قال: "يكذِّبون بالكتاب، لئن أخذتُ بشَعرِ أحدِهم لأنضُوَنَّه
(2)
. إنَّ اللَّه عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فخلَقَ القلِمَ، فكتَب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنَّما يجري النَّاسُ على أمرِ قد فُرِغ منه"
(3)
.
وقال ابن عباس أيضًا: "القدَرُ نظامُ التوحيد، فمن وحَّد اللَّه ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاءِ نقضًا
(4)
للتوحيد، ومن وحَّد اللَّه وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها"
(5)
.
وقال عطاء بن أبي رباح: كنتُ عند ابن عباس، فجاءَه رجل، فقال: "يا ابن عباس
(6)
، أرأيت من صدَّني عن الهدى، وأوردني دارَ الضلالة والردى
(7)
، ألا تراهُ قد ظلمني؟ فقال: "إن كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنَعَكَه فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلم
(1)
تقدم تخريجه في ص (147).
(2)
وردت هذه الجملة في "ط" محرَّفة، وقال في الحاشية:"بياض في الأصل، وفي الجملة تحريف،، ولا بياض في أصولنا. وقوله "لأنضونه" أي: لأنزعنَّه وأخلعنَّه.
(3)
أخرجه اللالكائي (1223). (ز).
(4)
"ط": "نقصًا" بالصاد المهملة.
(5)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (925)، والآجري (456)، واللالكائي (1224)، وفي سنده ضعف (ز).
(6)
في الأصل: "يا با عباس" سهو، وكذا في "ف".
(7)
"ط": "الضلالة واردًا" تحريف.
يظلمك
(1)
. قُمْ، لا تجالسْني
(2)
"
(3)
.
وقال عكرمة عن ابن عباس: "كان الهدهد يدلُّ سليمان على الماء". فقلتُ له: وكيف ذاك والهدهدُ
(4)
يُنصَب له الفخُّ عليه التراب؟ فقال: "أَعضك اللَّهُ بِهَن أبيك، إذا جاء القضاءُ ذهبَ البصرُ"
(5)
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا
(6)
إسماعيل، أنبأنا أبو هارون
(7)
الغنوي، حدثنا
(8)
أبو سليمان
(9)
الأزدي، عن أبي يحيى مولى بني عفراء
(10)
قال: أتيتُ ابن عباس، ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر، أو ينكرونه، فقلتُ: يا ابن عباس، ما تقول في القدر؟ فإنَّ هؤلاء يسألونك عن القدر، إن زنَى وإن سرق
(11)
وإن شرب، قال
(12)
: فحسَرَ قميصَه حتى أخرج منكبيه وقال: "يا أبا يحيى
(13)
لعلَّك من الذين ينكرون
(1)
"ط": "فلا يظلمك".
(2)
"ك، ط": "فلا تجالسني".
(3)
أخرجه اللالكائي (1227). (ز).
(4)
"ك، ط": "فكيف ذاك؟ الهدهد".
(5)
أخرجه اللالكائي (1228) وسنده صحيح (ز).
(6)
"ط": "أنبأنا".
(7)
"ن": "أبو إبراهيم"، خطأ.
(8)
"ط": "أنبأنا".
(9)
سقط "أبو" من "ط".
(10)
في الأصل: "غفراء" بالمعجمة، ولعله سهو، وكذا في "ف".
(11)
"ك، ط": "وإن شرب وان سرق".
(12)
"قال" ساقط من "ك، ط".
(13)
"ك، ط": "يايحي".
القدر
(1)
ويكذِّبون به. واللَّه لو أعلم أنَّك منهم أو
(2)
هذين معك لجاهدكم. إن زنَى فبقدَر، وإن سرقَ فبقدَر، وإن شرِب الخمرَ فبقدَر"
(3)
.
وصحَّ عن ابن عمر أنَّ يحيى بن يعمر قال له: إنَّ ناسًا يقولون: لا قدر، وإنَّ الأمر أُنُف
(4)
. فقال: "إذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنَّ ابن عمر منهم بريء
(5)
، وأنَّهم بُرَآءُ منه"
(6)
.
وقد تقدم قول أبيّ بن كعب، وحذيفة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت: "لو أنفقت مثلَ أحُد
(7)
ذهبًا في سبيل اللَّه ما قُبلَ منك حتَّى تؤمنَ بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ
(8)
ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وإن متَّ على غير ذلك دخلت النار"
(9)
.
وتقدَّم قول عبادة بن الصامت: "لن تؤمن حتَّى تؤمنَ بالقدرِ خيرِه وشرِّه، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطاك لم يكن ليصيبك"
(10)
.
(1)
"القدر" سقط من "ك"، وزيد في "ط" بين حاصرتين.
(2)
"ط": "وهذين".
(3)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (937)، واللالكائي (1230). (ز).
(4)
أي مستأنف، من غير أن يكون سبق به قضاء. النهاية (1/ 7).
(5)
"ك، ط": "بريء منهم".
(6)
أخرجه مسلم في الإيمان (8).
(7)
"ط": "مثل جبل أحد".
(8)
"أن" ساقطة من "ط".
(9)
انظر: ص (164).
(10)
انظر: ص (164، 169).
وقال قتادة، عن أبي السوَّار، عن الحسن بن علي قال: "قُضي القضاءُ، وجفَّ القلم، وأمور تُقْضى
(1)
في كتابٍ قد خَلا"
(2)
.
وقال عمرو بن العاص: "انتهى عجبي إلى ثلاث: المرءُ يفِرُّ من القدَر وهو لاقيه. ويرى في عين أخيه القذاة فيعيبُها، ويكون في عينه مثلُ الجذع فلا يعيبها. ويكون في دابته الضِّغْنُ
(3)
فيقوِّمها جهدَه، ويكون في نفسَه الضِّغْن فلا يقوِّمها"
(4)
.
وقال أبو الدرداء: "ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب"
(5)
.
وقال الحجَّاج الأزدي: سألنا سلمانَ ما الإيمان بالقدر؟ فقال: "أن تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطاكَ لم يكن ليصيبك"
(6)
.
وقال سلمان أيضًا: "إنَّ اللَّه لمَّا خلقَ آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو
(1)
"ن، ك، ط": "بقضاء"، تصحيف.
(2)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (875، 881)، واللالكائي (1234)(ز).
(3)
رسمها في الأصل بالظاء (انظر ما سبق في رسم "أضالع" في 131) والغين مع إهمالهما، فتقرأ:"الطعن"، كما في "ف، ن". وكذا في "ط" وفسّرت فيها بالوثوب والاندفاع. وفي كتاب اللالكائي: "الصعر". والصواب ما أثبتنا. و"الضغن" في الدابّة أن تكون عسرة الانقياد. قاله الخطابي في غريب الحديث (2/ 482). وانظر: الفائق (2/ 342). والنهاية (3/ 92).
(4)
أخرجه اللالكائي (1235)، والبيهقي في القضاء والقدر (501). (ز).
(5)
أخرجه اللالكائي (1238)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 216). (ز).
(6)
أخرجه معمر في جامعه (20083)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (923)، وسنده لا بأس به. (ز).
ذارئٌ
(1)
إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال
(2)
والشقوة
(3)
والسعادة. فمِن علَمِ السعادة فعل الخير ومجالس الخير، ومِن علَمِ الشقاوة فعلُ الشر
(4)
ومجالس الشر"
(5)
.
وقال جابر بن عبد اللَّه: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كلِّه خيره وشرّه
(6)
، ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه"
(7)
.
وقال هشام
(8)
عن أبيه عن عائشة: "إنَّ العبدَ ليعمل الزمانَ بعمل أهل الجنَّة، وإنَّهُ عند اللَّه لمكتوبٌ من أهل النَّار"
(9)
.
والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر، وإنَّما أشرنا إلى بعضها إشارة.
فصل
فالجوابُ
(10)
أنَّ ههنا مقامَين: مقامَ إيمان وهدى ونجاة، ومقامَ ضلال وردى وهلاك، زلَّت فيه أقدام، فهوَتْ بأصحابها إلى دار الشقاء.
(1)
"ك، ط": "منه ذراري إلى".
(2)
"ك، ط": "وكتب الآجال والأعمال والأرزاق".
(3)
"ط": "الشقاوة".
(4)
"ك، ط": "عمل الشر".
(5)
أخرجه اللالكائي (1241)، وسنده صحيح (ز).
(6)
زاد في "ط" بعده بين حاصرتين: "وأن".
(7)
أخرجه اللالكائي (1242)، وسنده ضعيف (ز).
(8)
زاد في "ط" بين حاصرتين: "بن عروة بن الزبير".
(9)
أخرجه اللالكائي (1243)، وسنده ضعيف. (ز).
(10)
وهو جواب قوله: "فإن أصررت على اتهام القدر. . . " الذي سبق في ص (137). وبدأ المؤلف من هذا الفصل بالرد على الاحتجاج بالقدر، والإجابة عن الإشكال الوارد بسببه.
فأمَّا مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأنَّه
(1)
ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه
(2)
الناس. وهذه الآثار التي ذكرت
(3)
كلها تُحقِّق هذا المقام، وتبيِّن أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن باللَّه ولم يعرفه، وهذا في كل كتابِ أنزله اللَّه على كلِّ رسولٍ أرسله
(4)
.
وأمَّا المقام الثاني -وهو مقام الضلال والردى والهلاك- فهو الاحتجاجُ به على اللَّه
(5)
، وحملُ العبدِ ذنبَه على ربه، وتنزيهُ نفسه الجاهلة الظالمة الأمَّارة بالسوء، وجعلُ أرحمِ الراحمين وأعدلِ العادلين وأحكمِ الحاكمين وأغنى الأغنياء أضرَّ على العباد من إبليس؛ كما صرَّح به بعضهم، واحتجَّ عليه بما خصَمه فيه من لا تدحَض حجَّتُه ولا تطاق مغالبتُه، حتَّى يقول قائلُ هؤلاء:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له
…
إيَّاكَ إيَّاكَ أن تبتلَّ بالماءِ
(6)
(1)
"ك، ط": "وأنّ".
(2)
"ك، ط": "شاء".
(3)
"التي ذكرت": ساقط من "ط".
(4)
"ط": "على رسله".
(5)
"ط": "على ذنبه على اللَّه".
(6)
أنشده المؤلف في مدارج السالكين (1/ 262)، وشفاء العليل (20)، وهو منسوب إلى الحلاج في وفيات الأعيان (2/ 143). وأثبت في "طـ" بيتًا آخر قبله:
ما حيلة العبد والأقدارُ جاريةٌ
…
عليه في كلِّ حال أيها الرائي
وهما في ديوانه (26).
ويقول قائلهم:
دعَاني وسدّ البابَ دوني فهل إلى
…
دخولي سبيلٌ؟ بيِّنوا لِيَ قِصَّتي
(1)
ويقول الآخر:
وضعوا اللحمَ لِلبُزا
…
ةِ على ذِروتَي عَدَنْ
ثُمَّ لاموا البُزاة إذ
…
خلَعوا عنهم الرَّسَنْ
لو أرادوا صِيانتي
…
سَتروا وَجْهَك الحسَنْ
(2)
وقال بعضهم -وقد ذكر له مَن
(3)
يخاف من إفساده- فقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهِنّ غيره!
وصعد رجل يومًا على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجُر بجاريته، فنزل، وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدَعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لَعِلمُك بالقضاء والقدر أحبُّ إليَّ من كلِّ
(1)
أنشده المؤلف في المدارج (1/ 264). "قصتي": كذا في الأصول. وفي أعيان العصر (3/ 292) وفي المدارج وغيره: "قضيتي". والبيت من قصيدة شاعت في الشام في ذلك العهد، وذكر ابن حجر أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عملها على لسان ذمي (الدرر الكامنة 1/ 156). ويقال إن ناظمها ابن البقَقي المتهم بالزندقة، فانبرى للرد عليها نظفا كبار علماء مصر والشام. منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 8/ 245 - 255) والعلاء الباجي، والعلاء القونوي وغيرهم. انظر قصائدهم في طبقات الشافعية (10/ 352 - 366).
(2)
ذكرها المؤلف في المدارج (1/ 262)، وهي للشبلي في تاريخ بغداد (12/ 95)، مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3)
"ط": "ما".
شيء، أنت حرٌّ لوجه اللَّه
(1)
.
ورأى آخر رجلًا
(2)
يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرَب، فأقبل يضرب المرأة، وهي تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوّةَ اللَّه أتزني وتعتذري
(3)
بمثل هذا؟ فقالت: أوَّهْ تركتَ السنّة، وأخذت بمذهب ابن عبَّاد
(4)
! فتنبَّهَ ورمى السوط
(5)
من يده، واعتذر إليها، وقال: لولاكِ لَضلَلْتُ!
ورأى آخر رجلًا آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ اللَّه وقدره. فقال: الخِيرة فيما قضى اللَّه! فلُقِّب بـ "الخيرة فيما قضى اللَّه"، وكان إذا دعي به غضب!
وقيل لبعض هؤلاء: أليس اللَّه عز وجل
(6)
يقول: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر/ 7] فقال: دعنا من هذا، رضيَه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيرُه!
(1)
نقل ابن النديم حكاية تشبه هذه عن سلام القارئ من متكلمة الجبرية. انظر الفهرست (235).
(2)
"رجلًا" ساقط من "ك، ط".
(3)
كذا في الأصل و"ف، ن". وفي "ك، ط": "تزنين وتعتذرين" حسب القاعدة.
(4)
كذا في الأصل و"ف، ن". وفي "ك، ط": "ابن عباس"، وهو خطأ، فإن المقصود بمذهب ابن عباد هنا إنكار القدر. والمشهور بابن عباد هو الصاحب المتوفى سنة 325. وقد يكون المراد محمد بن عباد بن كاسب صديق ثمامة بن الأشرس (213 هـ). ذكره الجاحظ في البيان (1/ 44) والحيوان (1/ 265).
(5)
"ط": "بالسوط".
(6)
"ك، ط": "أليس هو يقول".
ولقد بالغَ بعضهم في ذلك حتى قال: القدرُ عذر لجميع العصاة، وإنَّما مثلنا في ذلك كما قيل:
إذا مرِضنا أتيناكم نعودُكُمُ
…
وتُذنبون فنأتيكم فنعتذرُ
(1)
وبلغ بعضَ هؤلاء أنَّ عليًّا مرَّ بقتلى النهروان فقال: "بؤسًا لكم، لقد ضرَّكم من غرَّكم". فقيل: من غرَّهم؟ فقال: "الشيطان، والنَّفس الأمَّارة بالسوء، والأماني". فقال هذا القائل: كان علي قدريًّا، وإلا فاللَّهُ غرَّهم، وفعل بهم ما فعل، وأوردَهم تلك الموارد.
واجتمع جماعة من هؤلاء يومًا، فتذاكروا القدر، فجرى ذكرُ الهدهد وقولِهِ:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل/ 24]
(2)
، فقال: كان الهدهد قدريًّا، أضاف العملَ إليهم والتزيينَ إلى الشيطان، وجميعُ ذلك فعلُ اللَّه
(3)
.
وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص/ 75]: أيمنعه، ثمَّ يسأله ما منعَه؟ فقال
(4)
: نعم، قضَى عليه في السرِّ ما منعه منه
(5)
في العلانية، ولعَنه عليه! قال له: فما معنى قوله:
(1)
أنشده المؤلف في المدارج (2/ 396)، وهو من قصيدة مشهورة للمؤمَّل بن أمَيل المحاربي من مخضرمي شعراء الدولتين، توفي نحو 190 هـ. معجم المرزباني (298)، معجم الأدباء (2733).
(2)
في الأصل و"ف": {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} وهو جزء من الآية (43) من سورة الأنعام، ولكن المقصود هنا آية النمل كما أثبتنا من "ك، ط".
(3)
"ف": "قول اللَّه"، غلط من الناسخ.
(4)
"ط": "قال".
(5)
"منه" ساقط من "ك، ط".
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النساء/ 39]
(1)
إذا كان هو الذي منعهم؟ قال: استهزاءً بهم! قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء/ 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جَنَوه، بل ابتدأهم بالكفر ثمَّ عذبهم عليه، وليس للآية معنى!
وقال بعض هؤلاء -وقد عوتب على ارتكابه معاصي اللَّه فقال-: إن كنتُ عاصيًا لأمره فأنا مطيع لإرادته
(2)
.
وجرى عند بعض هؤلاء ذكرُ إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعةُ يلعنونه ويذمّونه، فقال: إلى متى هذا
(3)
اللّوم؟ ولو خُلِّيَ لَسَجَدَ، ولكن مُنِعَ. وأخذ يقيم عذره، فقال له
(4)
بعض الحاضرين: تبَّا لك سائر اليوم، أتذبُّ عن الشيطان، وتلوم الرحمن؟
وجاءَ جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء، فلم يجدوه، فلمَّا رجع قال: كنتُ أصلح بين قوم. فقيل له: وأصلحتَ بينهم؟ قال: أصلحتُ، إن لم يُفسِد اللَّه. فقيل له: بؤسًا لك، أتُحسِن الثناء على نفسك، وتسيء الثناء على ربِّك؟
(5)
ومُرَّ بلصٍّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبرَه على السرقة، ثمَّ قطع يده عليها!
(1)
"ك، ط": {. . . آمنوا باللَّه} .
(2)
سبق في ص (55).
(3)
سقط "هذا" من "ط"، واستدرك في القطرية.
(4)
"له" سقط من "ك، طـ".
(5)
انظر ترجمة عبد اللَّه بن داود من المجبرة في الفهرست (230).
وقيل لبعضهم: أترى اللَّهَ كلَّف عبادَه ما لا يطيقون، ثمَّ يعذبهم عليه؟ قال: واللَّهِ قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم!
(1)
وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودَّع أهلَه وبكى. فقيل له
(2)
: استودِعْهم اللَّه، واستحفظهم إيَّاه. فقال: ما أخاف عليهم غيرَه!
وقال بعض هؤلاء: زَنيةٌ أزنيها
(3)
أحبُّ إليَّ من عبادة الملائكة. قيل؟ ولم؟ قال: لعلمي بأنَّ اللَّه قضاها عليَّ وقدَّرها، ولم يقضها إلا والخِيرةُ لي فيها.
وقال بعضُ هؤلاء: العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسرِّ اللَّهِ في القدر
(4)
.
ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدًا، فأوَّلُ ما بدأ به من المزارات
(5)
زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم في قدر اللَّه؟ كيف أنتم في قدر اللَّه؟
(6)
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبتُ بعضَ شيوخ هؤلاءِ فقال لي: المحبة نارٌ تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكونُ
(1)
نقل ابن قتيبة نحوه عن هشام بن الحكم شيخ الإمامية. انظر: تأويل مختلف الحديث (98).
(2)
"له" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "ذنبة أذنبها"، تصحيف.
(4)
نقله المصنف في شفاء العليل (39) من إشارات ابن سينا، وسيأتي مرَّة أخرى في ص (735).
(5)
"ط": "الزيارات".
(6)
وردت هذه الجملة في "ك، ط" مرَّة واحدة.
كله مراد، فأيِّ شيءٍ أُبغِضُ منه؟ قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغضَ بعضَ من في الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتَهم أنت وواليتهم، أكنتَ وليًّا للمحبوب أو عدوًا له؟ قال: فكأنَّما أُلْقِمَ حجَرًا
(1)
.
وقرأ قارئ بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص/ 75] فقال: هو واللَّهِ منعه! ولو قال إبليس ذلك كان
(2)
صادقًا، وقد أخطأ إبليس الحجَّة، ولو كنتُ حاضرًا لقلتُ
(3)
: أنتَ منعته!
وسمع بعض هؤلاء قارئًا يقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت/ 17] فقال: ليس من هذا شيء، بل أضلَّهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مَخْرَقةٌ يُمَخْرِقُ بها
(4)
.
فيقال: اللَّه أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء اللَّه حقًّا الذين ما قدروا اللَّه حقَّ قدره، ولا عرفوه حقَّ معرفته، ولا عظَّموه حقَّ تعظيمه، ولا نزِّهوه عمَّا يليق به، وبغِّضوه إلى عباده وبغِّضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناءَ عليه جهدَهم وطاقتهم.
وهؤلاء خصماءُ اللَّه حقًّا الذين جاءَ فيهم الحديثُ: "يُقال يومَ القيامة: أين خصماء اللَّه؟ فيؤمرُ بهم إلى النَّارِ"
(5)
.
(1)
نقله المؤلف عن شيخ الإسلام في المدارج (2/ 594)، وشفاء العليل (19)، وسينقله مرَّة أخرى في هذا الكتاب (658)، وانظر مجموع الفتاوى (10/ 210، 486).
(2)
"ط": "لكان".
(3)
"ك، ط": "لقلت له".
(4)
المخرقة: الخداع، والشعوذة.
(5)
أخرجه اللالكائي (1232) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
(1)
ويُدعَى خصومُ اللَّه يومَ معادِهم
…
إلى النَّارِ طُرًّا فرقةُ القدريةِ
سواءٌ نفَوه أو سعَوا لِيخاصِمُوا
…
به اللَّهَ أو مارَوا به للشريعةِ
(2)
وسمعته يقول: القدرية المذمومون في السنة، وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة
(3)
: نفاته، وهم القدرية المجوسية. والمعارضون به للشريعة الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام/ 148] وهم القدرية المشركية
(4)
. والمخاصمون به للربِّ، وهم أعداءُ اللَّه وخصومه، وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أوَّل من احتجَّ على اللَّه بالقدر فقال:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف/ 16] ولم يعترف بالذنب وَيُبؤْ به، كما اعترف به آدم. فمن أقرَّ بالذنب، وباءَ به، ونزِّه ربَّه، فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم
(5)
. ومن برَّأ نفسَه واحتجَّ على ربِّه بالقدر فقد أشبَه إبليس
(6)
.
ولا ريبَ أنَّ هؤلاء القدريِّة الإبليسية والمشركية
(7)
شرٌّ من القدريَّة
(1)
وهي التي ردَّ بها على أبيات "الذمي" التي سبق ذكرها في ص (178).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 246).
(3)
"ط": "الثلاث". والذي في الأصل وغيره صحيح لا غبار عليه.
(4)
"ط": "الشركية". والصواب ما في الأصل وغيره. وسماهم "المشركية" لكونهم قد تشبهوا بالمشركين في قولهم. انظر: مجموع الفتاوى (3/ 111)، (8/ 256).
(5)
انظر: المثل في مجمع الأمثال (3/ 312).
(6)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 256 - 261).
(7)
"ط": "الشركية" هنا وفيما يأتي، تحريف. وانظر ما سلف آنفًا في الحاشية الرابعة.
النفاة، لأنَّ النفاة إنَّما نفوه تنزيهًا للرب تعالى وتعظيمًا له أن يقدّر الذنب ثمَّ يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقِبَ العبد على ما لا صُنعَ للعبد فيه البتة، بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوَله
(1)
ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية أنَّه حضرَ مجلسَ بعض الولاة فأتيَ بطرَّار
(2)
أحوَل، فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر سوطًا
(3)
. فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر: بل ينبغي أن يُضْرَب ثلاثين سوطًا: خمسة عشر لِطرِّه، ومثلها لِحَوَله. فقال الجبري: كيف يُضْرَب على الحَوَل، ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطرّ، ولا صنع له فيه عندك، فبُهِتَ الجبري.
وأمَّا القدرية الإبليسية والمشركية فكثيرٌ منهم منسلخ من
(4)
الشرع، عدوٌّ للَّه ورسله، لا يُقِرّ بأمرٍ ولا نهي. وتلك وراثة عن شيوخه
(5)
الذين قال اللَّه فيهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام/ 148].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى
(1)
"وحوله" لم يرد في: "ك، ط".
(2)
الطرّار: النشّال يشن ثوب الرجل ويسُلّ ما فيه.
(3)
"ك، ط": "يعني سوطًا".
(4)
"ك، ط": "عن".
(5)
"ك، ط": "شيوخهم".
الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل/ 35].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف/ 20].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا في ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} [يس/ 47].
فهذه أربعة مواضع في القرآن بيّن سبحانه فيها أنَّ الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.
وقد افترق النَّاسُ في الكلام على هذه الآيات أربعَ
(1)
فرق:
الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجَّة حجة صحيحة، وأنَّ للمحتجِّ بها الحجَّةَ على اللَّه. ثمَّ افترق هؤلاء فرقتين:
فرقةً كذَّبتْ بالأمرِ والوعد والوعيد، وزعمت أنَّ الأمرَ والنهي والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلمًا، واللَّه لا يظلم من خلقه أحدًا.
وفرقةً صدَّقت بالأمر والنَّهي والوعد والوعيد، وقالت: ليس ذلك بظلم، واللَّه يتصرَّف في ملكه كما
(2)
يشاء، ويعذِّب
(3)
العبدَ على ما لا صنع له فيه، بل يعذِّبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ
(1)
في الأصل و"ف": "أربعة"، ولعله سهو. وذلك أنّ المؤلف كتب في الأصل أوّلًا:"فرقًا أربعة"، ثم ضرب على "فرقًا"، وترك العدد على حاله، وكتب بعده:"فرق". والمثبت من "ك، ط".
(2)
"ك، ط": "كيف".
(3)
"ف": "تعذيب"، تحريف.
العبد لا فعلَ له، والملكُ ملكُه، ولا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون. فإنَّ هؤلاء الكفَّار إنَّما قالوا هذه المقالة التي حكاها اللَّه عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقادًا للقضاء والقدر وإسنادًا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم يُنكَر ذلك
(1)
عليهم! ومضمون قول هذه الفرقة أنَّ هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء، فيكون للمشركين على اللَّه الحجة. وكفى بهذا القول فسادًا وبطلانًا.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجَّةً لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة، إذ لو صحَّت المشيئة العامة، وكان اللَّه عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان، لكانوا قد قالوا الحقَّ، وكان اللَّه عز وجل يصدِّقهم عليه، ولم ينكر عليهم. فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دلَّ على أنَّ هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنَّهم كاذبون فيه. إذ لو كان علمًا لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم:{هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} [الأنعام/ 148].
وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجَّةً لها على التكذيب بالقضاءِ والقدر، وزعمت بها أنَّه
(2)
يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاءُ ما لا يكون، وأنَّه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة، بل
(3)
ولا على أفعال الحيوانات، وأنَّه لا يقدر أن يُضلَّ أحدًا ولا يهديه، ولا يوفقه
(4)
أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر،
(1)
"ذلك" ساقط من "ط".
(2)
"ك، ط": "أن".
(3)
"بل" لم يرد في "ك، ط".
(4)
"ف": "يؤتيه". تحريف.
ولا يُلهِمه رُشْدَه، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلي مصلّيًا، والبر برًّا، والفاجر فاجرًا، والمؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك.
فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيَّزت إلى القدر، وحاربت الشرع. والثانية تحيَّزت إلى الشرع، وكذَّبت بالقدر.
والطائفتان ضالَّتان، وإحداهما أضلّ من الأُخرى.
الفرقة
(1)
الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرَّت بالأمر والنَّهي، ونزَّلوا كلَّ واحدٍ منزلته. فالقضاءُ والقدرُ يؤمَن به ولا يُحْتَجّ به، والأمر والنهي يُمتثل ويُطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادةِ أن لا إله إلا اللَّه، والقيامُ بالأمر والنهي موجَبُ شهادةِ أن محمدًا رسول اللَّه. وقالوا: من لم يُقِرَّ بالقضاء والقدر ويَقُمْ
(2)
بالأمر والنهي فقد كذَّب بالشهادتين، وإن نطق بهما بلسانه.
ثمَّ افترقوا في وجه هذه الآيات فرقَتين:
فرقة قالت: إنَّما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلًا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه
(3)
، فإنَّ الحكيم إذا كان قادرًا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفَعه ومنَع من وقوعه.
(1)
"ك، ط": "والفرقة".
(2)
في الأصل: "ويقوم"، وكذا في "ف، ن"، والصواب ما أثبتنا من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "بينه وبينهم".
وإذا
(1)
لم يمنع من وقوعه لزم إمَّا عدم قدرته وإمَّا عدم حكمته، وكلاهما ممتنع في حقِّ اللَّه، فعُلِم محبتُه لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به!
وقد وافق هؤلاء من قال: إنَّ اللَّه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم في أنَّه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم، وخالفهم في الشطر الآخر.
وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأنَّ مشيئة اللَّه تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلُّوا بمشيئته على محبته ورضاه كذَّبهم، وأنكر عليهم، وأخبر أنَّه لا علم لهم بذلك وأنَّهم خارصون مفترون، فإنَّ محبة اللَّه تعالى للشيء ورضاه به إنَّما يُعلَم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرَّد خلقِه له
(2)
. فإنَّه خلق إبليسَ وجنودَه، وهم أعداؤه، وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم، وهم خَلْقُه. فهكذا في الأفعال خلَق خيرَها وشرَّها، وهو يُحبُّ خيرَها ويأمر به ويثيب عليه، ويبغض شرَّها وينهى عنه ويعاقب عليه، وكلاهما خلقُه. وللَّه تعالى الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كلٌّ صادرٌ عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته.
وقالت الفرقة الثانية: إنَّما أنكر عليهم معارضةَ الشرع بالقدر، ودفعَ الأمر بالمشيئة. فلما قامت عليهم حجةُ اللَّه، ولزمهم أمرُه ونهيُه دفعوه
(1)
"ك": "وإذ".
(2)
"له" ساقط من "ك، ط".
بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالًا لدعوة الرسل ودفعًا لما جاؤوا به. وشاركهم في ذلك إخوانهم وورثتهم
(1)
الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم، وخالفوهم في النصف الآخر، وهو إقرارهم بالأمر والنهي.
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم إمَّا في جميع تركتهم، وإمَّا في كثير منها، وإمَّا في جزءٍ منها.
وهدى اللَّه بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء اللَّه وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنَّه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّه مقلِّب القلوب ومصرّفها كيف أراد. وأنَّه هو الذي جعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصلِّيًا، والمتقي متقيًا. وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار. وأنَّه ألهمَ كلَّ نفس فجورها وتقواها، وأنَّه يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. وأنَّه هو الذي وفَّق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه، ولو شاءَ لخذلَهم فعصَوه؛ وأنَّهُ حال بين الكفار وقلوبهم، فإنَّه يحول بين المرءِ وقلبه، فكفروا به، ولو شاءَ لوفَّقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنَّه من يهده
(2)
اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأنَّهُ لو شاءَ لآمن من في الأرضِ كلهم جميعًا إيمانًا يُثابون عليه، ويقبل منهم، ويرضى به عنهم. وأنَّه لو شاء ما اقتتلوا، ولكنَّ اللَّه يفعل ما يريد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
(1)
"ك، ط": "ذريتهم".
(2)
"ط": "يهد اللَّه".
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام/ 112].
والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب
(1)
جاء بها نبيهم، وأخبربها عن ربه:
الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.
الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.
الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.
الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنَّه لا خالق إلا اللَّه، واللَّه خالق كل شيء، فالخالق عندهم واحد، وما سواه فمخلوق، ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق.
ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنَّه حكيم في كل ما فعَله وخلَقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامَّة هي التي اقتضت صدورَ ذلك وخلقَه، وأنَّ حكمته حكمةُ حقٍّ عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارةً عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرّون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك. وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلَّق محبته وحمدِه، ولأجلها خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأماتَ فأحيا، وأسعد وأشقى، وأضلَّ وهدى، ومنع وأعطى.
وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثباتُ الفعل مع نفيها إثباتٌ للوسائل ونفيٌ للغايات وهو محال، إذ نفيُ الغاية مستلزِم
(1)
انظر: شفاء العليل (65).
لنفي الوسيلة، فنفيُ الوسيلة -وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفيُ قيام الفعل والحكمة به نفيٌ لهما في الحقيقة، إذ فعلٌ لا يقوم بفاعله وحكمةٌ لا تقوم بالحكيم شيء لا يُعقل. وذلك يستلزم إنكارَ ربوبيته وإلهيته. وهذا لازمٌ لمن نفى ذلك، لا محيدَ
(1)
له عنه وإن أبى التزامَه.
وأمَّا من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حقٌّ، ولازم الحق حق كائنًا ما كان.
والمقصود: أنَّ ورثة الرسل وخلفاءهم -لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاءِ والقدر والحِكَمِ والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمرِ والنهي، وصدَّقوا بالوعد والوعيد. فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثباتُ القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمانُ بالوعد
(2)
والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب. فصدَّقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما -كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر
(3)
فكانوا
(4)
أسعدَ النَّاس بالحقِّ
(5)
وأقربَهم عصبةً في هذا الميراث النبوي. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل
(1)
"ك، ط": "ولا محيد".
(2)
"ن": "إثبات الوعد".
(3)
"وبالقدر" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.
(4)
"ك، ط": "وكانوا".
(5)
"ط": "بالخلق"، تحريف.
العظيم.
واعلم أنَّ الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواصّ الخلق ولبّ العالم. وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسمّيات وجحدِ حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإنَّ القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني
(1)
، ويجعل قضاءَه وقدرَه هو نفسَ أمره ونهيه، ويفسر
(2)
مشيئة اللَّه لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك الحكمة، فإنَّ الجبرية تؤمن بلفظها وتجحد
(3)
حقيقتها، فإنَّهم يجعلونها مطابقةَ علمه تعالى لمعلومه، وإرادته لمراده. فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقةً، ويثبتون حكمةً زائدةً على ذلك، لكنَّهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقًا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقرُّوا بلفظ الحكمة، وجحدوا معناها وحقيقتها.
وكذلك الأمرُ والشرع، فإنَّ من أنكر كلام اللَّه وقال: إنَّ اللَّه لم يتكلَّم ولا يتكلَّم، ولا قال ولا يقول، ولا يحبُّ شيئًا ولا يبغض شيئًا؛ وجميعُ الكائنات محبوبةٌ له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحِبّ، ولا يحَبّ
(4)
، ولا يرضى، ولا يغضب؛ ولا فرق في نفس الأمر بين
(1)
"ف": "والنهي"، تحريف.
(2)
"ط": "نفس"، تحريف.
(3)
"ك، ط": "يجحدون".
(4)
"ولا يحَبّ" ساقط من "ك، ط".
الصدق والكذب، والبرّ والفجور
(1)
، والسجود للأصنام والشمس والقمر والنجوم وبين
(2)
السجود له. ولم يكلف أحدًا ما يقدر عليه، بل كلُّ تكاليفه
(3)
تكليفُ ما لا يطاق، ولا قدرة للمكلَّف عليه البتة. ويجوز أن يعذِّب رجالًا إذ لم يكونوا نساء، ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالًا، وسودًا حيث لم يكونوا بيضًا، وعكسه
(4)
. ويجوزُ أن يُظهر المعجزةَ على أيدي الكذَّابين، ويُرسل رسولًا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور.
ولا ريبَ
(5)
أنَّ هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية، ولو لا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحالُ بعضَ المشي بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقولِ بموجبها.
والمقصود: أنَّه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقةَ الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتُهم.
والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد:"القدر قدرة اللَّه"
(6)
. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد
(1)
"ط": "الصدق والفجور والكذب والفجور"، وحذفت "الفجور" الأولى من القطرية، والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره.
(2)
"النجوم وبين" ساقط من "ط".
(3)
"ط": "تكليفه".
(4)
مكان "عكسه" في "ط": "وبيضًا حيث لم يكونوا سودًا".
(5)
كذا في الأصل وغيره، وهو في المعنى خبر "فإنّ" الواردة في أول الفقرة السابقة.
(6)
مسائل ابن هانئ (2/ 155)، مجموع الفتاوى (8/ 308).
غايةَ الاستحسان، وقال: إنَّه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر
(1)
.
ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذَّبت بالعلم السابق ونفَتْه، وهم غلاتهم الذين كفِّرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورةً للَّه تعالى، وصرَّحت بأنَّ اللَّه لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء كمالَ قدرة الرب تعالى، وأنكرت الأخرى كمالَ علمه. وقابلتهم الجبرية، فحافظت
(2)
على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة.
ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين
(3)
من هذه الثلاث
(4)
كثيرًا كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل/ 6]، وقال:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر/ 1]. وقال: {حمَ} [غافر/ 1 - 2].
وقال في حم فصلت
(5)
بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت/ 12]. وذكر نظير هذا في الأنعام، فقال: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
(1)
وانظر شفاء العليل (63).
(2)
"ط": "فجاءت".
(3)
"والصفتين" ساقط من القطرية.
(4)
"ك، ط": "الثلاثة". وانظر في افتران الأسماء المذكورة ما سيأتي في ص (230).
(5)
"فصلت" ساقط من القطربة.
الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام/ 96]
(1)
.
فارتباطُ الخلق بقدرته التامَّة يقتضي أن لا يخرج موجودٌ عن قدرته، وارتباطُه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطُه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب تعالى. وكذلك ارتباط
(2)
أمره بعلمه وحكمته وعزَّته، فهو عليمٌ بخلقه وأمره، حكيمٌ في خلقه
(3)
وأمره، عزيزٌ في خلقه وأمره
(4)
.
ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة
(5)
من صفاته العلى. والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والخبر عنه، والأمر به؛ فكل
(6)
هذا يسمَّى "حكمة". وفي الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن"
(7)
. وفي
(1)
هذه قراءة عاصم وغيره من الكوفيين، والوارد في الأصل وغيره قراءة الباقين، ومنهم أبو عمرو، ويظهر أنَّ قراءته هي المعتمدة فيها، وهي:"وجاعلُ الليلِ". انظر: الإقناع (2/ 641).
(2)
سقط "ارتباط" من "ط".
(3)
"ف": "بخلقه"، سهو.
(4)
"عزيز في خلقه وأمره" سقط من "ط". وأمَّا القطرية فأسقطت ما قبله أيضًا، وهو:"حكيم في خلقه وأمره".
(5)
"ف": "فالحكمة"، خلافًا للأصل. وكذا في "ك، ط".
(6)
"ف": "وكل"، وهي قراءة محتملة.
(7)
أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه. وأخرجه البيهقي في =
الحديث: "إنَّ من الشعر حكمة"
(1)
.
فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو
(2)
محمود على جميع ما في الكون من خيرٍ وشر حمدًا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقُه وأمرُه. فمصدرُ ذلك كله عن الحكمة، فإنكارُ الحكمة إنكارٌ لحمده في الحقيقة
(3)
.
فصل
وإنَّما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة في كلِّ ما خلقه اللَّه وأمرَ به، وبيان أنَّه كلّه خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنَّه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأنَّ جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال النبيّ
(4)
صلى الله عليه وسلم في دعاءِ الاستفتاح: "لبَّيك وسعديك، الخيرُ في يديك، والشرُّ ليس إليك"
(5)
.
فهذا النفي يقتضي امتناعَ إضافةِ الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضافُ إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله. فإنَّ ذاته تعالى منزَّهة عن كلِّ شرٍّ، وصفاته كذلك، إذ كلّها صفات كمال ونعوتُ جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب،
= المدخل (844) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وجاء عن معاوية، وزيد بن أسلم، وعبد اللَّه بن عبيد بن عمير. انظر: تبييض الصحيفة لمحمد عمرو عبد اللطيف (1/ 67). (ز).
(1)
أخرجه البخاري عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه في كتاب الأدب (6145).
(2)
"ف": "فهو" خلافًا للأصل.
(3)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(4)
"النبي" لم يرد في "ك، ط".
(5)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة؛ وهو المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه.
وتحقيق ذلك أنَّ الشرَّ ليس هو إلا الذنوب وعقوبتها، كما في خطبته صلى الله عليه وسلم:"الحمدُ للَّه، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا"
(1)
. فتضمّن ذلك الاستعاذةَ من شرور النفوس، ومن سيئات الأعمال وهي عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى "اللام" من باب
(2)
إضافة المتغايرين. أو يقال: المرادُ السيئاتُ من الأعمال، فعلى هذا الإضافةُ بمعنى "من"، وهي من باب إضافة النوع إلى جنسه.
ويدلُّ على الأوَّل قوله تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر/ 9]. قال شيخنا رحمه الله
(3)
: وهذا أشبه، لأنَّه
(4)
إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنَّما تكون من عقوباتها، إذ الواقع لا يمكن رفعُه؛ وإن استعاذ منها قبل وقوعها لئلا يقع، فهذا هو الاستعاذة
(5)
من شرِّ النفس.
وأيضًا فلا يقال في هذه التي لم توجد بعدُ: "سيئات أعمالنا"، فإنها
(1)
أخرجه أحمد (3721، 4116)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، وابن ماجه (1892) بإسناد صحيح.
(2)
"ن": "وهي من باب".
(3)
يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وانظر قوله في مجموع الفتاوى (18/ 289).
(4)
"لأنَّه" ساقط من "ط".
(5)
"لا يمكن رفعه. . . الاستعاذة" ساقط من "ط".
لم تكن بعدُ أعمالًا فضلًا عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضي وجودها، إذ ما
(1)
لم يوجد بعدُ ليس هو من أعمالنا، إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التي إذا عملناها كانت سيئات.
ولمن رجَّح التقدير الثاني أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرَّمات منها، والأعمال أعم، وحملُها على المحرمات خاضَةً خلافُ ظاهر اللفظ. بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى "من"، فتكون الأعمال على عمومها، والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها، والأعمال على عمومها
(2)
.
ويترجَّح أيضًا بأن
(3)
الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشرّ كله، وهي
(4)
شرّ النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل، وشرّ العمل الخارج الذي سوَّلته النفس. فالأوَّل شر الطبيعة والصفة التي في النفس، والثاني شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة. ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاةُ من موجَبهما، وهو العقوبة؛ فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم. وهذا هو اللائق بمن أوتي جوامع الكلم، فإنَّ هذا من جوامع كلمه البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرَها إلا أهلُ العلم والإيمان
(5)
.
(1)
"ما" سقط من "ط" واستدرك في القطرية.
(2)
"والأعمال على عمومها" ساقط من "ط".
(3)
"ك، ط": "أنَّ".
(4)
"ط": "هو".
(5)
وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 151)، وبدائع الفوائد (716)، والداء والدواء (178).
وإذا عُرِفَ هذا، وأنَّه
(1)
ليس في الوجود شرٌّ إلا الذنوب وموجباتها، وكونُها ذنوبا ناشئ
(2)
من نفس العبد، فإنَّ سبَب الذنب الظلمُ والجهلُ، وهما من نفس العبد؛ كما أنَّ سببَ الخير والحمَدِ العلم
(3)
والحكمة والغنى، وهي أمور ذاتية للرب تعالى.
فذاتُ
(4)
الرب تعالى مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذاتُ العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنَّما حصل له بفضل اللَّه عليه، وهو أمرٌ خارجٌ عن نفسه. فمن أراد اللَّه به خيرًا أعطاه هذا الفضل، فصدرَ منه موجَبه
(5)
من الإحسان والبر والطاعة. ومن أراد به شرًا أمسكه عنه، وخلَّاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجبُ الجهل والظلم من كلِّ شرٍّ وقبيح. وليس منعه لذلك ظلمًا منه تعالى، فإنَّه فضلُه، وليس من منع فضله ظالمًا، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به.
وأيضًا فإنَّ هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده، ويوفقَه، ويعينَه، ولا يخليَ بينه وبين نفسه؛ وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلمُ بالمحلِّ الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر فيه
(6)
، ويزكو به.
(1)
قراءة "ف": "فإنَّه".
(2)
"ك، ط": "تأتي"، ولعله تصحيف.
(3)
"ط": "الخير الحمد والعلم".
(4)
"ك، ط": "وذات".
(5)
"موجبه من" ساقط من "ط".
(6)
"ك، ط": "به".
وقد أشارَ تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام/ 53] فأخبر سبحانه أنَّه أعلمُ بمن يعرف قدرَ هذه النعمة ويشكره عليها. فإنَّ أصلَ الشكر هو الاعترافُ بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلًا بها لم يشكرها؛ ومن عرفها ولم يعرف
(1)
المنعمَ بها لم يشكرها أيضًا؛ ومن عرفَ النعمة والمنعم لكن جحَدها كما يجحد المنكِر لنعمة المنعِم عليه
(2)
فقد كفرها. ومن عرف النعمةَ والمنعِمَ، وأقرَّ بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له، ويحبَّه، ويرضَ به
(3)
وعنه، لم يشكرها أيضًا. ومن عرفها، وعرف المنعِم بها، وأقرّ بها
(4)
، وخضعَ للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها.
فلا بُدَّ في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، كما في صحيح البخاري
(5)
عن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنًا
(1)
قوله: "النعمة بل" إلى هنا سقط من "ك" لانتقال النظر.
(2)
"ك، ط": "عليه بها".
(3)
"ف": "يرضى". قراءة محتملة. وإثبات حرف العلّة في موقع الجزم لغة لبعض العرب. انظر: شواهد التوضيح (21).
(4)
"وأقرَّ بها" ساقط من "ط".
(5)
كتاب الدعوات (6306، 6323)، وسيأتي مرة أخرى مع تفسيره في (352).
بها فماتَ من يومه دخل الجنَّة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنَّة".
فقوله: "أبوءُ لك بنعمتك عليَّ" يتضمن الإقرار والإنابة إلى اللَّه بعبوديته، فإنَّ المباءة هي التي يبوء إليها الشخص، أي يرجع إليها رجوع استقرار، والمباءَة هي المستقر. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"من كذبَ عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقعدَه من النَّار"
(1)
أي لِيتَّخِذْ مقعدَه من النَّار مباءَةً يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذي ينزله ثم يرحل عنه.
فالعبدُ يبوءُ إلى اللَّه عز وجل بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، فيرجع
(2)
إليه بالاعتراف بهذا وبهذا، رجوعَ مطمئن إلى ربَّه منيبٍ إليه، ليس رجوعَ من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوعَ من لا يُعرض عن ربه، بل لا يزال مقبلًا عليه، إذ
(3)
كان لا بد له منه
(4)
. فهو معبوده، وهو مستعانه
(5)
، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبودَه هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. وفي الحديث: "مثل المؤمن مثل الفرس في آخيّته
(6)
: يجولُ ثمَّ يرجع إلى آخيته. كذلك المؤمن يجولُ ثمَّ يرجع
(1)
أخرجه البخاري في العلم (110) وغيره، ومسلم في المقدمة (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
"ن": "فرجع". "ك، ط": "ويرجع".
(3)
"ط": "إذا"، خطأ.
(4)
"ليس رجوع من أقبل. . . " إلى هنا ساقط من "ن".
(5)
"ك، ط": "مستغاثه"، تصحيف.
(6)
الآخيَّة بالمد والتشديد، ويجوز بالتخفيف: العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرضِ. قاله أبو عبيد. اللسان (أخا).
إلى الإيمان"
(1)
.
فقوله: "أبوءُ" يتضمن أني وإن جُلْتُ كما يجول الفرس -إمَّا بالذنب وإمَّا بالتقصير في الشكر- فإنِّي راجع منيب أوَّاب إليك، رجوعَ من لا غنى له عنك.
وذكر النعمةَ والذنبَ لأنَّ
(2)
العبد دائمًا يتقلب بينهما، فهو بين نعمةٍ من ربِّه وذنبٍ منه هو، كما في الأثر الإلهي:"ابنَ آدم خيري إليك نازل، وشرُّك إليَّ صاعد. كم أتحبَّب إليك بالنعم، وأنا غني عنك! وكم تتبغض إليَّ بالمعاصي، وأنت فقير إلي! ولا يزال الملك الكريم يعرُج إليَّ منك بعمل قبيح"
(3)
.
وكان في زمن الحسن البصري شابّ لا يُرى إلا وحده، فسأله الحسن عن ذلك فقال: إنِّي أجدني بين نعمةٍ في اللَّه وذنبٍ منِّي، فأريد أن أحدِثَ
(1)
أخرجه أحمد (1526)، وابن حبان (616)، وأبو الشيخ في الأمثال (352) وغيرهم. وفي سنده ضعف. تفرَّد به أبو سليمان الليثي عن أبي سعيد الخدري. وأبو سليمان مجهول. وفيه عبد اللَّه بن الوليد، فيه ضعف. قال ابن طاهر المقدسي: حديث غريب لا يذكر إلا بهذا الإسناد. انظر: تعجيل المنفعة (2/ 473). (ز).
(2)
"ف": "أنّ"، خلافًا للأصل.
(3)
نقله المصنف في المدارج (1/ 545)، والزاد (2/ 409)، وشفاء العليل (364)، وسيأتي مرّة أخرى في ص (687). أخرجه نعيم في الحلية (4/ 31) عن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت اللَّه تعالى يقول. . . (ص).
وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (43) عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب: إن اللَّه عز وجل يقول. . . فذكره. (ز).
للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، فذلك الذي شغلني عن النَّاس، أو كما قال. فقال له: "أنت أفقه عندي
(1)
من الحسن"
(2)
.
فالخيرُ كله من اللَّه كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل/ 53]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ} [الحجرات/ 7 - 8].
وقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات/ 17].
وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة/ 6 - 7]. وهؤلاء المنعَم عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء/ 69].
فالنعم كلُّها -من
(3)
نعم الدِّين والدنيا، وثواب الأعمال في الدنيا والآخرة
(4)
- من نِعَمِ اللَّه ومنِّه
(5)
وفضله على عبده. وهو تعالى، وإن
(1)
لم يرد "عندي"، في "ك، ط".
(2)
نقله المصنف في عدة الصابرين (243)، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (196).
(3)
"من" ساقط من "ك".
(4)
قوله "من نعم الدين. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(5)
"ومنّه" ساقط من "ط".
كان أجودَ الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإنَّه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياءَ إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جودُه ورحمتُه وفضلُه حكمتَه وعدلَه.
ولو رأى العقلاءُ أحدًا منهم قد وضع المِسك في الحشوش والأخلية، ووضَع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة لاشتدَّ نكيرهم عليه والقدحُ في عقله، ونسبوه إلى السفَه وخلاف الحكمة. وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، والإحسانَ موضع العقوبة لسفَّهوه، وقدحوا في عقله، كما قال القائل:
ووضعُ النَّدى في موضع السَّيف بالعلا
…
مُضِرٌّ كوضع السَّيفِ في موضعِ النَّدى
(1)
وكذلك لو وضع الدواءَ موضع الغذاء، والغذاءَ موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه، والإمساكَ حيث يليق الاستفراغ. وكذلك وضع الماء موضعَ الطعام، ووضع
(2)
الطعام موضعَ الماء، وأمثال ذلك مما يخل بالحكمة، بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه ما لم يُخلق له من العلوم والصنائع. فمن بهرت حكمتُه العقول والألباب كيف ينبغي له أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها؟
ومن المعلوم أنَّ أجلَّ نعمِه على عبده نعمةُ الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وطاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتزام عبوديته. ومن المعلوم أيضًا أنَّ الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث
(1)
للمتنبي في ديوانه (533).
(2)
"وضع" ساقط من "ط".
منه، ومنها الطيب، وبين ذلك؛ وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي، والقلب الخسيس الخبيث. وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار، والبر والبحر
(1)
، والحر والبرد
(2)
، والداءَ والدواء، والعلو والسفل؛ وهو أعلمُ بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها
(3)
فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم
(4)
كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذرِ بالبذرِ. فليس من الحكمة أن يبذرَ البُرُّ في الصخور والرمال والسِّباخ
(5)
، وفاعل ذلك غير حكيم، فما الظنُّ ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحالّ التي هي أخبث المحالّ.
فاللَّه عز وجل أعلم حيث يجعل رسالاته أصلًا وميراثًا، فهو أعلمُ بمن يصلح لتحمّلِ رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة، والنصيحة، وتعظيم المرسِل، والقيامِ بحقه، والصبر على أوامره، والشكر لنعمه، والتقرب إليه؛ ومن لا يصلح لذلك. وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رُسله، والقيام بخلافتهم، وحمل ما بلَّغوه عن ربِّهم.
قال عبد اللَّه بن مسعود: "إنَّ اللَّه تعالى نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته. ثمَّ نظر في
(1)
"والبر والبحر" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ك، ط": "البرد والحر".
(3)
"ط": "بذورها"، وصحح في القطرية.
(4)
"ط": "النعمة".
(5)
جمع سَبَخَة، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
قلوب العباد، فرأى قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فاختارهم لصحبته"
(1)
. وفي أثر إسرائيلي
(2)
: أنَّ اللَّه تعالى قال لموسى: أتدري لمَ اخترتُك لكلامي؟ قال: لا يا رب. قال: لأنِّي
(3)
نظرتُ في قلوب العباد، فلم أرَ فيها أخضعَ من قلبك لي. أو نحو هذا
(4)
.
فالربُّ سبحانه إذا علمَ من المحلّ
(5)
أهليَّةً لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبَّبَ إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، ووفَّقه له، وأعانه عليه، ويسَّرَ له طرقَه، وأغلق دونه الأبوابَ التي تحول بينه وبين ذلك. ثمَّ تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أعظمَ
(6)
من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسِن لولده الذي هو أحب شيء إليه. فلا يزال يعامله بلطفه، ويختصه بفضله، ويؤثره برحمته، ويمده بمعونته، ويؤيده بتوفيقه، ويُريه مواقع إحسانه إليه وبرّه به؛ فيزداد العبدُ به معرفةً، وله محبَّةً، وإليه إنابةً، وعليه توكلًا؛ ولا يتولى معه غيره، ولا يعبد
(7)
سواه. وهذا هو الذي عرفَ قدرَ النعمة، وعرف المنعم، وأقرَّ بنعمته، وصرفها في مرضاته؛ فاقتضت
(8)
حكمة الرب تعالى وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر
(1)
أخرجه أحمد (3600)، والبزار كما في كشف الأستار (130)، وسنده حسن. (ز).
(2)
"ط": "أثر بني إسرائيل". وكذا كان في "ك" ثمَّ عدّل في المتن.
(3)
"ط": "إني".
(4)
نقل الذهبي نحو هذا عن وهب بن منبه في سير أعلام النبلاء (15/ 498).
(5)
"ك، ط": "محل".
(6)
"ط": "أحسن".
(7)
"ك، ط": "ولا يعبد معه".
(8)
"ك، ط": "واقتضت".
في هذا القلب بذر الإيمان والمعرفة، وسقاه ماءَ العلم النافع والعمل الصالح، وأطَلع عليه من نوره شمسَ الهداية، وصرف عنه الآفاتِ المانعة من حصولِ الثمرة، فأنبتت أرضُه الزاكية من كل زوجٍ كريم، كما في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مثلُ ما بعثني اللَّه به
(1)
من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكان منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماءَ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها طائفة أجادبُ أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا. وأصاب منها طائفةً أخرى إنَّما هي قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقُه في دين اللَّه ونفعه بما بعثني اللَّه به، ومثل من لم يرفع في بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللَّه الذي أُرسِلتُ به"
(2)
.
فمثَّل القلوب بالأرضِ التي هي محل النبات والثمار، ومثَّل الوحيَ الذي وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماءِ الذي ينزله على الأرضِ. فمن الأرضِ أرضٌ طيبة قابلةٌ للماءِ والنبات، فلمَّا أصابها الماءُ أنبتت ما انتفع به الآدميون والبهائم: أقواتَ
(3)
المكلفين وغيرهم. وهذه بمنزلة القلبِ القابل لهدى اللَّه ووحيه، المستعدّ لزكائه
(4)
وثمرته ونمائه، وهذا خير قلوب العالمين.
ومن الأرضِ أرضٌ صلبةٌ منخفضةٌ غيرُ مرتفعة ولا رابية، قابلةٌ لحفظ الماءِ واستقراره فيها، ففيها قوَّة الحفظ وليس فيها قوَّة النبات؛ فلمَّا
(1)
لم يرد "به" في "ك، ط".
(2)
أخرجه البخاري في كتاب العلم (79)، ومسلم في كتاب الفضائل (2282).
(3)
"ط": "وأقوات" بزيادة الواو.
(4)
"ف": "لزكاته".
حصلَ فيها الماءُ أمسكته وحفظته، فورده الناس لشربهم وشرب مواشيهم، وسقوا منه زروعهم
(1)
. وهذا بمنزلة القلب الَّذي حفظ الوحيَ، وضبَطَه، وأدَّاه إلى من هو أفهمُ له منه، وأفقه منه فيه
(2)
، وأعرف بمراده؛ وهذا في الدرجة الثانية.
ومن الأرضِ أرضٌ قيعانٌ -وهي المستوية التي لا تنبت إمَّا لكونها سَبَخةً
(3)
أو رمالًا، ولا يستقر فيها الماء- فإذا وقع عليها الماءُ ذهبَ ضائعًا لم تمسكه لشرب الناس، ولم تُنبت به كلأ، لأنَّها غير قابلة لحفظ الماءِ ولا لنبات الكلأ والعشب. وهذَا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى اللَّه ولم يرفعوا به رأسًا، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين. بل لابد لكلِّ مسلم أن يزكو الوحيُ في قلبه، فينبت من العمل الصالح، والكلم الطيب، ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته. فمن لم ينبت قلبُه شيئًا من الخيرِ البتة، فهذا من أشقى الأشقياء. فصلوات اللَّه وسلامه على مَن الهدى والبيانُ والشفاءُ والعصمةُ في كلامه وفي أمثاله
(4)
.
والمقصود: أنَّ اللَّه سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ممن
(5)
لا يصلح، وأنَّ حكمته تأبى أن تضع
(6)
ذلك عند
(1)
"ك": "زرعهم".
(2)
"فيه" ساقط من "ك، ط".
(3)
في الأصل: "صبخة"، ولعله سبق قلم، وكذا في "ف، ن".
(4)
وانظر شرح الحديث المذكور في مفتاح دار السعادة (1/ 246)، والرسالة التبوكية (61).
(5)
"ط": "ومن".
(6)
"ط": "يضع".
غير أهله، كما تأبى أن تمنعه
(1)
من يصلح له. وهو سبحانه الَّذي جعل المحلّ صالحًا وجعله أهلًا وقابلًا، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبَّب.
ومن اعترض بقوله: فهلَّا جعل المحالّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد! فهو من أجهل الناس وأضلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأضداد، وهلَّا جعلها كلَّها شيئًا
(2)
واحدًا! فلم خلق الليل والنهار، والفوق والتحت، والحر والبرد، والداءَ والدواء
(3)
، والشياطين والملائكة، والروائح الطيبة والكريهة، والحلو والمر، والحسن والقبيح؟ وهل يسمح خاطرُ من له أدنى مُسْكةٍ من عقل بمثل هذا السؤال الدَّال على حمق سائله وفساد عقله؟ وهل ذلك إلا موجَب
(4)
ربوبيته وإلهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها.
وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء وإهانة الأَعداءِ؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها إليه؛ وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالمِ إلا من لوازم ربوبيته وملكه؛ فهل يكون رزَّاقًا وغفَّارًا وعفوًّا
(5)
ورحيمًا وحليمًا
(6)
، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له،
(1)
"ط": "يمنعه".
(2)
"ط": "سببًا"، تصحيف.
(3)
"ك، ط": "الداء والدواء".
(4)
"ط": "بموجب"، وصحح في القطرية.
(5)
"ك": "غفورًا"، تحريف.
(6)
"ط": "حليمًا رحيمًا"، وسقط "رحيمًا" من القطرية.
ويعفو عنه، ويحلم عنه، ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويُري أولياءَه كمال نعمتِه واختصاصه إيَّاهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟
وهل في الحكمة الإلهية تعطيلُ الخير الكثير لأجل شرٍّ جزئي يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الَّذي يحيى اللَّه به
(1)
البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصَّار
(2)
، ويهدم من بناء، ويعوق عن مصلحة
(3)
؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل
(4)
هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتَفلةٍ في بحر؟ وهل تعطيلُه لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجِبًا
(5)
لأعظم المفاسد والهلاكِ؟
وهذه الشمس التي سخَّرها اللَّه لمنافع عباده
(6)
وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها = كم تؤذي مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبةً وكم تُعطِش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تنشِف من مورد، وتحرق من زرع! ولكن أين يقع هذا في جنبِ ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية، والمُكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجلِ الشر
(1)
"ك، ط": "يحيى به اللَّه".
(2)
"ط": "قصاد" بالدال، تحريف. والقصار: الَّذي يدُق الثياب بالقَصَرة -قطعة من الخشب- ويبيضها.
(3)
"ك، ط": "من مصلحة".
(4)
في "ن": "فهل".
(5)
كذا بالنصب في الأصل وغيره، وموضعه الرفع لكونه خبر المبتدأ.
(6)
"ك": "العباد".
اليسير شرٌّ كبير
(1)
، وهو خلافُ موجب الحكمة الَّذي تنزَّه اللَّه سبحانه عنه.
قلتُ لشيخ الإسلام
(2)
: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجرَّدةً عن المفاسد، مشتملةً على المصلحة الخالصة. فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإنَّ وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خُلِقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالمًا آخر غير هذا.
قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمةً لنوع من الأمور لا ينفك عنه، كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى. فإذا قيل: لم لم تخلق الحركةُ المعيّنةُ باقيةً؟ قيل: لأنَّ ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفس الإنسان هي في ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل/ 78] وإنَّما يأتيها العلم والقدرة والغنى من اللَّه بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمن اللَّه، وماحصلَ لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدمية، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال. والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو خلقت
(3)
على غير ذلك لم تكن هي هذه النفس الإنسانية بل مخلوقًا آخر.
فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشرُّ الَّذي يحصل لها نوعان: عدم، ووجود.
(1)
هذه قراءة "ف، ن". وفي "ك، ط": "كثير".
(2)
يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما في نسخة "ف" تحت السطر.
(3)
"ك، ط": "جعلت".
فالأَوَّل كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات، وعدم العمل بها. وهذا العدم ليس له فاعل، إذ العدم المحض لا يكون له فاعل؛ لأنَّ تأثير الفاعل إنَّما هو في أمر وجودي. وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل، فإنَّ العدم ليس بشيءٍ
(1)
أصلًا، وما ليس بشيءٍ لا يقال إنَّه مفعول لفاعل، فلا يقال إنَّه من اللَّه، إنَّما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية. ولهذا من قول المسلمين كلهم:"ما شاءَ اللَّهُ كان، وما لم يشأ لم يكن"، فكلُّ كائن فبمشيئته كان، وما لم يكن فلعدم مشيئته
(2)
.
والعدمُ يعلَّل بعدم السبب أو الشرط تارة، وبوجود المانع أخرى. وقد يقال: علَّة العدم عدمُ العلة. وبعضُ الناسِ يقول: الممكن لا يترجح أحدُ طرفيه على الآخر
(3)
إلا بمرجِّح، فلا يوجد إلا بسبب، ولا يعدم إلا بسبب. قال
(4)
: والتحقيق في هذا أنَّ العدم ليس له فاعل ولا علَّة فاعلة أصلًا، بل
(5)
إذا أضيف إلى عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه الملازمة، أي عدمُ العلة استلزمَ عدمَ المعلول، وعدمُ الشرط استلزم عدمَ المشروط، فإذا قيل: عُدِمَ لِعدم علَّته
(6)
، أي عدمُ علَّته
(7)
(1)
في الأصل: "لشيء" باللام هنا وفي الجملة التالية. وكذا في "ف"، ولعله سهو.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (14/ 16).
(3)
"على الآخر" ساقط من "ط".
(4)
يعني شيخ الإسلام
(5)
"بل" ساقطة من "ك". وفي "ط": "أصلا وإذا".
(6)
"ط": "علَّة".
(7)
"أي عدم علَّته" ساقط من "ف، ط".
مستلزم
(1)
لعدمه. والنفس تطلب سببَ العدم، فتقول: لِمَ لَمْ يوجَد كذا؟ فيقال: لعدم كذا، فيضاف عدم المعلول
(2)
إلى عدم علَّته، لا إضافة تأثير، ولكن إضافة استلزام وتعريف. وأمَّا التعليل بالمانع فلا يكون إلا مع قيام السبب إذا جعل المانع مقتضيًا للعدم، وأمَّا إذا أُريد قياس الدلالة فوجود المانع يستلزم عدمَ الحكم سواءٌ كان المقتضى موجودًا أو لم يكن.
والمقصود أنَّ ما عدمته النفس من كمالها فمنها، فإنَّها لا تقتضي إلا العدم، أي عدمُ استعداد نفسه
(3)
وقوَّتَها هو السبب في عدم هذا الكمال. فإنَّه كما يكون أحد الوجودين سببًا للآخر، فكذلك أحد العدمين يكون سببًا لعدم الآخر. والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضي لإيجاده، وأمَّا المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يُحدث العدم، بل يكفي في استمراره عدمُ مشيئة الفاعل المختار له. فما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن لانتفاء مشيئته، فانتفاءُ مشيئةِ كونه سببُ عدمه.
وهذا معنى قولهم: "عدمُ علَّة الوجود علَّةُ العدم". وبهذا الاعتبار الممكنُ القابلُ للوجود والعدم لا يترجَّح أحدُ طرفيه
(4)
إلا بمرجِّح، فمرجِّح عدمه عدمُ مرجِّحه، ومعنى الترجيح والسببية ههنا الاستلزام لا التأثير، كما تقدم. فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى اللَّه عز وجل.
(1)
في الأصل: "مستلزمة" ولعله سهو، وكذا في "ف، ك، ط"، والصواب ما أثبتنا من "ن"؛ لأنَّ الخبر للعدم لا للعلَّة.
(2)
"ط": " المعلوم"، تحريف.
(3)
"ط": "نفسها"، خطأ.
(4)
زاد في "ك، ط": "على الآخر".
وأمَّا الشر الثاني، وهو الشر الوجودي -كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة- فهو من لوازم ذلك العدم. فإنَّه متى عُدِمَ العلم
(1)
النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشرُّ والجهلُ وموجبُهما، ولا بدَّ، لأنَّ النفس لا بدَّ لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد.
وهذا الشرُّ الوجودي هو من خلقه تعالى، إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كلُّ ما خلقه اللَّه فلا بد أن يكون له في خلقه حكمةٌ لأجلها خلَقَه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة.
وليس في الحكمة تفويتُ هذه الحكمة التي هي أحبُّ إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإنَّ في وجودها من الحكمة
(2)
والغايات التي يُحمد عليها سبحانه أضعافَ ما في عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع. وليس في الحكمة تفويتُ هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر، مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء
(3)
لا يكون إلا مع وجود لوازمه وأنتفاءِ أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعًا لغيره، وحينئذٍ فقد يكون هدي هذه النفوس الفاجرة وسعادتها
(4)
مشروطًا بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضدادٍ لم تنتفِ.
فإن قيل: فهلَّا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد؟ فهذا هو
(1)
"ك": "ذلك العلم".
(2)
"ن": "الحكم".
(3)
"ووجود الشيء" ساقط من "ف".
(4)
"ك، ط": "شهادتها، تحريف.
السؤال الأوَّل، وقد بينَّا أنَّ لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالَم لا بدَّ منها، فلو قُدِّرَ عدمُها لم يكن هذا العالم بل عالمًا آخر ونشأةً أخرى وخلقًا آخر.
وبينَّا أنَّ هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلَّا تجرد الغيث والأنهار عمَّا يحصل به من تغريق وتعويق
(1)
وتخريب وأذى؟ وهلَّا تجردت الشمس عمَّا يحصل منها من حرّ وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عمَّا يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلَّا تجردت الولادة عن
(2)
مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟ وهلَّا تجرَّد بدن الإنسان
(3)
عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغيّر أحواله؟ وهلَّا تجردت فصول العام عمَّا يحدث
(4)
فيها من البرد الشديد القاتل، والحر الشديد المؤذي؟
فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لمَ كان المخلوق فقيرًا محتاجًا، والفقرُ والحاجةُ صفةُ نقص، فهلَّا تجرد منها وخُلِعت عليه خلعةُ الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيًّا غنًى مطلقًا، ومعلوم أنَّ لوازم الخلق لا بدَّ منها فيه؟
ولا بدَّ للعلو من سفل، وللسفل
(5)
من مركز. ولوازمُ العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات، وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها، وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوَّة
(1)
"وتعويق" ساقط من "ط".
(2)
"ط": "من"، وأصلح في القطرية.
(3)
"ك": "الحيوان".
(4)
"يحدث" ساقط من "ك، ط". وفي "ن": "يحصل".
(5)
"ط": "والسفل".
والتجرد من علائق المواد السفلية
(1)
لا بدَّ منها. ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر، ولوازم ذلك من الظلمة والغلظ والشر، وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشرِّيرة وأعمالها وآثارها لا بدَّ منها
(2)
.
فهما عالمان علوي وسفلي، ومحلَّان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خُلِقَ كلٌّ
(3)
من المحلّين معمورًا بأهليه وساكنيه، حكمةً بالغةً وقدرةً قاهرةً. وكلٌّ من هذه الأرواح لا يليق بها غيرُ ما خُلِقَتْ له ممَّا يناسبها ويشاكلها. قال تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء/ 84] أي على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول النَّاس:"كل إناءٍ بالذي فيه ينضَح"
(4)
.
فمن أرادَ
(5)
من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورةً للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأَعلى فقد أراد ما تأباه حكمةُ أحكم الحاكمين. ولو أنَّ ملِكًا من ملوك الدنيا جعل خاصَّته وحاشيته سِفْلةَ النَّاس وسَقَطَهم وغَرَثَهم
(6)
الذين
(1)
"ط": "العلية"، تحريف، وكذا كان في "ك"، فأصلح في المتن.
(2)
"ك": "منه".
(3)
"ك، ط": "كلًّا".
(4)
ويروى "يرشح". انظر: مجمع الأمثال (3/ 58)، وعلى الوجهين روي قول كشاجم (ديوانه: 92):
ويأبى الذي في القلب إلّا تبيّنًا
…
وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينضَحُ
(5)
"ط": "أرادت".
(6)
كذا في الأصل وغيره. وفي ط: "غِرَّتهم". لم تثبت كتب اللغة ما ورد في الأصل، وقد اقتبسه المؤلف من قول الجنّة في حديث المحاجّة بينها وبين النار:"ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وغرثهم وسقطهم". أخرجه مسلم (2846). وضبطه القاضي عياض في إكمال المعلم (8/ 377) بفتح الغين =
تناسبت
(1)
أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة لقدَحَ النَّاسُ في ملكه وقالوا: لا يصلُح للمُلك. فما الظن بمجاوري الملك الأعظم مالكِ الملوك في داره وتمتُّعِهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيبُ خلقه وأزكاهم وأشرفهم؟
أفَيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روحٌ سفليةٌ أرضيةٌ قد أخلدت إلى الأرضِ، وعكفت على ما تقتضيه طباعها
(2)
مما يشاركها
(3)
فيه بل قد يزيد عليها
(4)
الحيوانُ البهيم، وقصرت همتها عليه، وأقبلت بكليتها عليه، لا ترى نعيمًا
(5)
ولا لذَّة ولا سرورًا إلا ما وافق طباعها من مأكل
(6)
ومشربٍ ومنكح من أين كان وكيف اتَّفق. فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلبُ والطبعُ على قلوب
(7)
هذه الحيوانات
= المعجمة وفتح الراء وثاء بعدها مثلّثة، وقال: هذه رواية الأكثرين من شيوخنا، وفسّرها بمعنى أهل الفاقة والجوع. وقال في مشارق الأنوار (2/ 130):"كذا في حديث عبد الرزاق عند كافة الرواة". وقد رويت الكلمة على وجهين آخرين: "عجزتهم" جمع عاجز، و"غِرّتهم" أي البله الغافلون. قال النووي: وهو الأشهر في نسخ بلادنا. انظر شرحه لصحيح مسلم (17/ 187 - 188).
(1)
"ك، ط": "تتناسب".
(2)
"ك، ط": "طبائعها".
(3)
"ط": "تشارك فيه".
(4)
"ك، ط": "تزيد على الحيوان".
(5)
"ن": "مغنما"، تحريف.
(6)
"ط": "كل مأكل".
(7)
"ط": "على [شاكلة] قلوب" والزيادة التي بين الحاصرتين لا حاجة إليها. انظر ما سبق في ص (212): "وجعل القلوب على قلب واحد".
وطباعها، وربما كانت طباعُ الحيوانات خيرًا من طباع هؤلاء وأسلمَ وأقبلَ للخير. ولهذا جعلهم سبحانه شرَّ الدواب، فقال:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال/ 22، 23].
فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شرِّ البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حالٍ واحدة من النعيم أو العذاب؛ قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم/ 35 - 36]. فأنكر عليهم الحكم بهذا، وأخرجه مخرجَ الإنكارِ لا مخرجَ الإخبار، لينبه العقول على أنَّ هذا ممَّا تحيله الفطَر وتأباه العقول السليمة. وقال تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر/ 20]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص/ 28]. وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر/ 9].
بل الواحد من الخلق لا تستوي أعاليه وأسافله، فلا يستوي عقِبُه وعينُه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر. واللَّه
(1)
عز وجل قد خلق الخبيث والطيب، والسهل والحزن، والضار والنافع. وهذه أجزء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين، ومنها ما يصلح للأتُّون
(2)
والنار.
وبهذا ونحوه يُعرَف كمال القدرة وكمال الحكمة. فكمال القدرة
(1)
"ك، ط": "فاللَّه".
(2)
وهو الموقد الكبير.
بخلق الأضداد، وكمالُ الحكمة بتنزيلها
(1)
منازلها ووضع كلٍّ منها في موضعه. والعالِمُ من لا يُلقي الحربَ بين قدرة اللَّه وحكمَته، فإن آمن بالقدرة قدَحَ في الحكمة وعطَّلها، وإن آمن بالحكمة قدَح في القدرة ونقَضها
(2)
؛ بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولهما لجميع ما خلقه اللَّه ويخلقه، فكما أنَّه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته، فكذلك لا يكون إلا بحكمته.
وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلًا، فيكفيها الإيمانُ بما تعلَم وتشاهد منه، ثمَّ تستدل على الغائب بالشاهد، وتعتبر ما علمت بما لم تعلم
(3)
. وقد ضربَ اللَّه سبحانه الأمثال لعباده في كتابه، وبيَّن لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الَّذي به حياتهم وأقواتهم وحياةُ الأرضِ والدوابّ، وما خلقه لهم من النار
(4)
التي بها صلاحُ أبدانِهم وأقواتِهم وصنائعهم، من الشر الجزِئي
(5)
المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك، فقال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد/ 17].
فأخبر سبحانه أنَّ الماءَ بسبب مخالطته الأرض
(6)
إذا سال فلا بد من
(1)
"ك، ط": "تنزيلها".
(2)
الأصل غير منقوط، والمثبت من "ف" وغيرها.
(3)
كذا في الأصل وغيره، ولعل الصواب:"وتعتبر بما علمت ما لم تعلم".
(4)
في الأصل: "النار" وهو الصواب هنا، ولكن كأنَّه مضروب عليه، وفي "ف":"المعارف"، وفي "ك، ط": "المعادن "ويشبهه رسمه في "ن".
(5)
"ك، ط": "الشر والخير وبين المغمور"، تحريف.
(6)
"ك": "الأرض". "ط": "الماء بمخالطته سبسب الأرض"، تحريف.
أن يحمل السيل من الغثاء والوسخ وغيره زبدًا عاليًا على وجه السيل. فالذي لا يعرف ما تحت الزبد يقصرُ نظرَه عليه، ولا يرى إلا غثاءً ووسخًا ونحو ذلك، ولا يرى ما تحته من مادة الحياة. وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس
(1)
وغيرها، إذا أُوقِد عليها في النار لتتهيأ للانتفاع
(2)
بها خرَج منها خَبَثٌ ليس من جوهرها ولا يُنتفَع به. وهذا لا بدَّ منه في هذا وهذا
(3)
.
وقد ذمّ تعالى من ضعفت بصيرتُه من المنافقين، وعميَ عمّا في القرآن ممّا به يُنال كل سعادة وعلم وهدىً وصلاح وخير في الدنيا والآخرة، ولم يجاوز
(4)
بصرُه وسمعُه رعودَ وعيده وبروقَها وصواعقَها، وما أعدّ اللَّه لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه، الَّذي هو -بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب والأرواح، ومن
(5)
المعارف الإلهية، وتبيين
(6)
طريق العبودية التي هي غاية كمال العبد- يسيرٌ
(7)
، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه.
قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ
(1)
"ف": "النحاس والحديد" خلافًا للأصل وغيره.
(2)
"ك، ط": "ليتهيأ الانتفاع".
(3)
في "ط" زيادة: "يجاوزه بصره"، ولعلها من آثار مجاوزة البصر!
(4)
"ط": "لمن لم يجاوز".
(5)
"من" ساقط من "ك".
(6)
ك": "وتبين"، "ط": "يبين".
(7)
"يسير" سقط من "ك، ط"، فاختلَّ معنى الجملة مع إصلاحها في "ط".
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة/ 17 - 20]. فهكذا حال كل من قصَر نظرَه في بعض مخلوقات الربِّ تعالى على ما لابدّ منه من شرٍّ جزئيّ جدًّا بالإضافة إلى الخير الكثير.
ولو لم يكن
(1)
في هذه النشأة الإنسانية إلا خاصّته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيرًا ومصلحة، ومَن عداهم
(2)
-وإن كانوا أضعافَ أضعافِهم- فهم كالقَشّ والزبالة وغثاء السيل، لا يُعْبَأ بكثرتهم، ولا يقدح في الحكمة الإلهية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفَر معه آلاف
(3)
مؤلَّفة من النوع الآخر. فإنّه إذا وُجد واحدٌ يوازن البريّةَ ويرجَح عليها كان الخيرُ الحاصلُ بوجوده والحكَمة والمصلحة أضعافَ الشرّ الحاصل من وجود أضداده، وأثبتَ وأنفعَ وأحبَّ إلى اللَّه من فواته
(4)
، بتفويت ذلك الشرِّ المقابل له.
وهذا كالشمس، فإنّ الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشرّ المقابل له بها. وأين نفعُ الشمس وصلاحُ النبات والحيوان بها مِن نفع الرسلِ وصلاحِ الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفعِ سيّدِ ولدِ آدم، وصلاحِ القلوب و
(5)
الأبدان والدنيا والآخرة به؟
وقد ضُرب للنفس الإنسانية وما فيها من الخير والشرّ مثَلٌ بدولاب أو
(1)
"ط": "تكن".
(2)
"ط": "عاداهم"، وكذا كان في "ك" ثمَّ أصلح في المتن.
(3)
"ك، ط": "لآلاف".
(4)
"ط": "فوته"، وأصلح في القطرية.
(5)
"ك، ط": "صلاح الأبدان والدين والدنيا".
طاحونٍ شديدِ الدوران، أيّ شيء خطَفه ألقاه تحتَه وأفسده، وعنده قيِّمُه الَّذي يديره
(1)
، وقد أحكمَ أمرَه لينتفع به ولا يضرَّ أحدًا. فربّما جاءَ الغِرّ الَّذي لا يعرف فيتقرّب منه
(2)
، فيخرق ثوبه أو بدنه، أو يؤذيه. فإذا قيل لصاحبه: لِمَ لَمْ تجعله ساكنًا لا يؤذي من اقترب منه؟ قال: هذه صفته اللازمة التي كان بها دولابًا وطاحونًا، ولو جُعِلَ
(3)
على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه.
وكذلك إذا قدَّرنا
(4)
نار الأتُّون التي تُحرق ما وقع فيها، وعندها وقَّاد حاذق يحُشها
(5)
، فإذا غفل عنها أفسدت. وإذا أرادَ أحد أن يقرب منها نهاه وحذَّره، فإذا استغفله مَن قرب منها حتَّى أحرقته لم يقل لصاحب النَّار: هلَّا قلَّلتَ حرَّها لئلا تفسد من يقرب
(6)
منها وتُحرقه؟ فإنَّه يقول: هذه صفتها التي لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تُحرق أحجارَ الكِلْس
(7)
، ولم تطبخ الآجُرّ، ولم تُنضِج الأطعمة الغليظة ونحو ذلك.
فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النَّارِ من نفعها هو من فضل اللَّه ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خُلِقَت عليها، التي
(8)
لا تكون نارًا إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن نارًا،
(1)
"ك": " يدبره".
(2)
"ك، ط": "فيقترب"، وأصلح في القطرية.
(3)
"جعل" سقط من القطرية.
(4)
كذا في الأصل و"ف". وفي "ك": "أوقد". وفي "ط": "أوقدنا".
(5)
أي يوقدها. وفي "ك": "يحشيها"، تحريف، وفي "ط":"يحشوها".
(6)
قراءة: "ف": "تقرب"، وهي غير منقوطة في الأصل.
(7)
الكِلس: الجير.
(8)
"ط": "والتي".
وكذلك النفس، ما
(1)
يحصل لها من شرٍّ فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها، وما حصل لها من خيرٍ فهو من فضل اللَّه ورحمته. واللَّه خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك.
فأمَّا
(2)
الأمور العدمية فهي باقية على ما كانت عليه من العدم، والإنسان جاهل ظالم بالضرورة، كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب/ 72]، فإنَّ اللَّه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا. والظلم هو النقص، كما قال تعالى:{آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف/ 33]، أي لم تنقص منه شيئًا
(3)
، وهي ظالمة نفسها فهي الظالمة المظلومة، إذ كانت منقوصةً من كمالها بعدم بعض الكمالات أو أكثرها منها
(4)
. وتلك الكمالات التي عدمت كان وجودها سببًا لكمالات أخر، فصار عدمها مستلزمًا لعدم تلك الكمالات، فعَظُمَ النقص، واشتدَّ العيب بحسبه، وفقدت من لذَّاتها وسرورها ونعيمها
(5)
وبهجتها وروحها بحسب ما فقدت من تلك الكمالات
(6)
التي لا سعادة لها بدونها، فإنَّ أحد الموجودين قد يكون مشروطًا بالآخر فيستحيلُ وجوده بدونه، لأنَّ عدم الشرط يستلزمُ عدمَ المشروط. فإذا عدمت النفسُ هذا الكمالَ المستلزم لكمالٍ آخر مثلِه أو أعلى منه، وهي موصوفة بالنقص الَّذي هو
(1)
"ك، ط": "فما".
(2)
"ك": "وأمَّا".
(3)
العبارة "والظلم هو النقص" إلى هنا ساقطة من "ط".
(4)
"ك، ط": "بها".
(5)
"ف": "ونعيمها وسرورها" خلافًا للأصل.
(6)
العبارة "فعظم النقص. . . " إلى هنا ساقطة من "ك، ط" لانتقال النظر، وقد استدركت فيما بعد في حاشية "ك".
الظلم والجهل ولوازمها من أصل الخلقة = صارت مستلزمة للشر، وقوَّةُ شرها وضعفُه بحسب قوتها وضعفها في ذاتها.
وتأمَّلْ أَوَّلَ نقص دخَلَ على أبي البشر وسرى إلى أولاده كيف كان من عدم العلم والعزمِ. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه/ 115]. والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أو عدم الصبر كما فُسِّر بهما ههنا فهو أمر عدمي، ولهذا قال آدم لما رأى ما دخل عليه من ذلك:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. فإنه
(1)
اعترف بنقص حظِّ نفسِه
(2)
-بما حصل لها من عدم العلم والصبر- بالنسيان الَّذي أوجبَ فواتَ حظِّه من الجنَّة. ثمّ قال: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23] فإنّه سبحانه إن لم يغفر السيئات الوجودية، فيمنعْ أثرها وعقابها، ويقي
(3)
العبدَ ذلك
(4)
وإلّا ضرَّتْه آثارُها ولا بدّ، كآثار الطعام المسموم إن لم يتداركه المداوي بشرب التِّرياق ونحوه وإلّا
(5)
ضرّه ولا بدّ. وإن لم يرحمه سبحانه بإيجاد ما به تصلُح
(6)
النفس وتصير عالمة بالحق عاملة به وإلَّا خسِر، فالمغفرةُ
(7)
تمنع الشرّ، والرحمةُ توجب الخير، والربّ
(1)
"ك، ط": "فإنَّه إذا".
(2)
"ط": "بنقصه خص نفسه" تحريف.
(3)
كذا في الأصل وغيره، وهي لغة، انظر ما سبق في ص (203). وفي "ط""يقِ" على الجادة.
(4)
كذا في الأصل. وفي "ف" فوق العبد: "صح". وفي "ك، ط": "من ذلك".
(5)
"إلَّا" في هذه الجملة، وفي الجملة السابقة وفي الجمل الآتية واقعة في غير موقعها. انظر ما سلف في ص (44).
(6)
"ك، ط": "يصلح به".
(7)
"ط": "والمغفرة".
سبحانه إن لم يغفره للإنسان فيقيه السيئاتِ، ويرحمْه فيؤتيه
(1)
الحسناتِ وإلّا هلك ولا بدّ، إذ كان ظالمًا لنفسه ظلومًا بنفسه. فإنّ نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهي متحرّكة بالذات، فإن لم تتحرّك إلى الخير تحرّكت إلى الشرّ فضرّت صاحبَها. وكونُها متحرّكةً بالذات من لوازم كونها نفسًا لأنّ ما ليس حسّاسًا متحرّكًا بالإرادة فليس نفسًا.
وفي
(2)
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء حارث وهمام"
(3)
فالحارث: الكاسب العامل، والهمّام: الكثير الهمّ، والهمّ مبدأ الإرادة، فالنفس لا تكون إلّا مريدةً عاملةً؛ فإن لم توفَّق للإرادة الصالحة وإلَّا وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضارّ
(4)
.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج/ 19 - 22] فأخبر تعالى أنّ الإنسان خُلِق على هذه الصفة، وإنّ من كان على غيرها فلأجل ما زكّاه اللَّه به من فضله وإحسانه.
وقال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء/ 28] قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساءِ
(5)
. وقال الحسن: هو خلقه من
(1)
"فيقيه. . فيؤتيه" كذا ورد الفعلان بثبوت حرف العلة، انظر ما علقناه آنفًا.
(2)
"ط": "ففي"، "ك":"في".
(3)
أخرجه أحمد (19032)، وأبو داود (4950)، والبخاري في الأدب المفرد (814) وغيرهم عن أبي وهب الجشمي. وهو معلول. أعلَّه أبو حاتم الرازي بالإرسال. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 312 - 313). (ز).
(4)
وانظر إغاثة اللهفان (69)، ومجموع الفتاوى (14/ 294)، (20/ 122).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 926)(5176، 5177). (ز)، وانظر: معالم التنزيل (2/ 199)، زاد المسير (2/ 60).
ماءٍ مهينٍ
(1)
. وقال الزجّاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى
(2)
. والصواب أنّ ضعفه يعمُّ هذا كلّه، وضعفه أعظم من هذا وأكثر، فإنّه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر. والآفات إليه مع هذا الضعف أسرعُ من السيل في الحَدور
(3)
. فبالاضطرار لا بدّ له من حافظ معين يقوّيه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخفى عنه هذا المسعِد
(4)
المعين فالهلاكُ أقرب إليه من نفسه.
وخلقُه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الربُّ جل جلاله ويثنى عليه بها، وهو موجَب حكمته وعزَّته. فكل ما يحدث من هذه الخلقة وما
(5)
يلزمُ عنها فهو بالنسبة إلى الخالق سبحانه خيرٌ وعدلٌ وحكمة، إذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته. وبالنسبة إلى العبدِ ينقسمُ
(6)
إلى خير وشر وحسن
(1)
معالم التنزيل (2/ 199)، زاد المسير (2/ 60).
(2)
زاد المسير (2/ 60). وفي معاني الزجاج (2/ 44): "أي يستميله هواه".
(3)
الحَدور: الموضع المنحدر. وفي "ك، ط": "صيب الحدور" وهو تصحيف وغلط. وصواب الكلمة الأُولى: "صَبَب" وهو بمعنى الحدور. ولعلّ سبب الغلط أن في الأصل: "الصبب الحدور" وضرب على الكلمة الأُولى، ولكن خط الضرب لم يشملها كفها، فظن بعض الناسخين أن المضروب عليه لام التعريف فقط. وأنّ المقصود:"صبب الحدور"، ثم صحفت الموحدة بالمثناة. وسيأتي المثل مرة أخرى في ص (644) وقد ذكره حمزة الأصفهاني في أمثاله (189) بلفظ ". . . إلى الحدور"
(4)
من أسعَدَ: أعانَ. وكتب فوقه في (ك): "صح". وفي الحاشية: "ظ المساعد". وفي "ط": "المساعد"، ولعلّه تغيير من الناشر.
(5)
"ما" ساقط من "ك، ط". وفي "ن": "أو يلزم".
(6)
"ك، ط": "تنقسم"، والمثبت من "ف".
وقبيح، كما يكون
(1)
بالنسبة إليه طاعةً ومعصيةً وبرًّا وفجورًا، بل أخص من ذلك، مثل كونه
(2)
صلاةً وصيامًا وحجًّا وزنًى وسرقةً وأكلًا وشربًا، إذ ذلك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجَب أمر اللَّه له ونهيه. فللَّه
(3)
سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى ما لم يخلقه ممَّا لو شاء
(4)
لخلقه، وعلى توفيقه الموجِب لطاعته، وعلى خِذلانَّه الموقع في معصيته.
وهو سبحانه سبقت رحمتُه غضبَه، وكتب على نفسه الرحمة، وأحسنَ كل شيء خلقه، وأتقن كل ما صنع، وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله سبحانه في ذلك أعظم حكمة مطلوبة، وتلك الحكمة إنَّما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأسباب التي لا تُنال غاياتُها إلا بها، فوجود هذه الأسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة.
ولهذا يقرُن سبحانه في كتابه بين اسمه "الحكيم" واسمه "العليم" تارةً، وبينه
(5)
وبين اسمه "العزيز" تارةُ
(6)
، كقوله:{وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيمٌ} [النساء/ 26، الأنفال/ 71]، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة/ 245، المائدة/ 38]، وقوله:{وكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء/ 158، 165، الفتح/ 7، 19]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح/ 4]، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ
(1)
"ط": "تكون".
(2)
"ط": "كونها".
(3)
"ك، ط": "وللَّه".
(4)
"ك، ط": "شاءه".
(5)
"وبينه" ساقط من "ط".
(6)
انظر ما سبق في ص (197).