المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها] - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

كثيرًا ما يتكرَّر في القرآن ذكر الإنابة والأمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر/ 54]، وقوله حكايةً عن شعيب أنَّه قال:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود/ 88]، وقوله:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق/ 8]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد/ 27]، وقوله عن نبيِّه داود:{وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص/ 24].

فالإنابة

(1)

: الرجوع إلى اللَّه، وانصراف دواعي القلب وجواذبه

(2)

إليه. وهي تتضمَّن المحبَّة والخشية

(3)

، فإنَّ المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له، خاشعٌ ذليلٌ

(4)

.

والناسُ في إناباتهم

(5)

على درجات متفاوتة: فمنهم المنيب إلى اللَّه بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي. وهذه الإنابة مصدرها: مطالعة الوعيد، والحامل عليها: العلم، والخشية، والحذر.

ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساعٍ فيها بجهده، وقد حُبِّبَ إليه فعلُ الطاعات وأنواع القربات. وهذه الإنابة

(1)

"ك، ط": "والإنابة".

(2)

"ب": "حوادثه"، تصحيف.

(3)

"ب": "وهو يتضمن الخشية والمحبة".

(4)

وانظر تفسير الإنابة في مدارج السالكين (1/ 514).

(5)

"ط": "إنابتهم".

ص: 373

مصدرها الرجاءُ، ومطالعةُ الوعد والثواب، ومحبَّة الكرامة من اللَّه. وهؤلاء أبسط نفوسًا من أهل القسم الأوَّل، وأشرح صدورًا، وجانبُ الرجاءِ ومطالعةِ الرحمة والمنَّة أغلبُ عليهم؛ وإلا فكلُّ واحدٍ من الفريقين منيبٌ بالأمرين جميعًا، ولكن خوفُ هؤلاء اندرج في رجائهم، فأنابوا بالعبادات. ورجاءُ الأوَّلين اندرجَ تحت خوفهم، فكانت إنابتهم بترك المخالفات.

ومنهم المنيب إلى اللَّه بالتضرع، والدعاء، والافتقار إليه، والرغبة، وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة: شهودُ الفضل، والمنَّة، والغنى، والكرم، والقدرة؛ فأنزلوا به حوائجهم، وعلَّقوا به آمالهم. فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكنَّ إنابتهم الخاصَّة إنَّما من هذه الجهة

(1)

. وأمَّا الأعمال فلم يُرزَقوا فيها الإنابةَ الخاصَّة.

ومنهم

(2)

المنيب إليه عند الشدائد والضراء

(3)

فقط إنابةَ اضطرار، لا إنابةَ اختيار، كحال الذين قال اللَّه فيهم

(4)

: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء/ 67]، وقوله:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت/ 65].

وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم ملتفتةً عن اللَّه سبحانه، معرضةً عنه إلى مألوف طبيعي نفساني قد حال بينها وبين إنابتها

(1)

"مع قيامهم" إلى هنا ساقط من "ب".

(2)

"ط": "أملهم"، تحريف.

(3)

"والضراء" ساقط من "ب".

(4)

"ك، ط": "في حقهم".

ص: 374

بذاتها

(1)

إلى معبودها وإلهها الحق، فهي ملتفتة إلى غيره. ولها إليه إنابةٌ ما بحسب إيمانها به، ومعرفتها له.

فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها إليه بشدة

(2)

المحبة الخالصة المفنية

(3)

لهم عمَّا سوى محبوبهم ومعبودهم. وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منهم شيءٌ عن الإنابة، فإنَّ الأعضاء كلها رعيتها، وملكها تبع للروح، فلمَّا أنابت الروح بذاتها إليه، إنابةَ محبٍّ صادقِ المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حبٌّ ساكن لمحبوبه، أنابت جميعُ القوى والجوارح. فأناب القلبُ أيضًا بالمحبة والتضرع والذل والانكسار، وأناب العقلُ بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكميه إيَّاها دون غيرها، فلم يبقَ فيه منازعة شبهة معترضة دونها.

وأنابت النفسُ بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة. وانقادت للأمر

(4)

خاضعةً له، راغبةً

(5)

فيه، مؤثرِةً إيَّاه على غيره، فلم يبقَ فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر. وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضًا إلى مولاها الحق

(6)

، ورضًى بقضائه، وتسليمًا لحكمه. وقد قيل: إنَّ تدبيرَ العبد لنفسه هو

(1)

"بذاتها" سقط من "ف" سهوًا.

(2)

"ك، ط": "لشدة".

(3)

"ك، ط": "المغنية"، تحريف.

(4)

"ط": "لأوامره".

(5)

"ك، ط": "وداعية"، تحريف. "ب":"خاضعة أو راغبة".

(6)

"الحق" ساقط من "ط".

ص: 375

آخر الصفات المذمومة في النفس.

وأنابَ الجسدُ بالأعمالِ

(1)

والقيام بها فرضِها

(2)

وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصَّة

(3)

.

فلم يبقَ من هذا العبد المنيب عرقٌ ولا مفصلٌ إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كلُّ محبَّةٍ سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عَذْبَةً

(4)

في مبادئها، فإنَّها عذاب في عواقبها. فإنابةُ العبد -ولو ساعةً من عمره- هذه الإنابة الخالصة أنفعُ له، وأعظمُ ثمرةً من إنابة سنين كثيرة من غيره. فأين إنابة هذا من إنابة من قبله؟ وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. بل هذا

(5)

روحه منيبة أبدًا، وإن توارى عنه شهودُ إنابتها باشتغالٍ، فهي كامنة فيها كمونَ النَّارِ في الزِّناد

(6)

.

وأمَّا أصحابُ الإنابات المتقدمة، فإن أناب أحدهم ساعةً بالدعاءِ والذكر والابتهال، فلنفسه وروحه وقلبه

(7)

وعقله التفاتٌ عمَّن قد أنابَ إليه. فهو ينيب ببعضه ساعةً، ثمَّ يتركُ ذلك مقبلًا على دواعي نفسه وطبعه.

واللَّه الموفق المعين، لا ربَّ غيره، ولا إله سواه.

(1)

"ك، ط": "في الأعمال".

(2)

"ب": "فروضها".

(3)

"ب": "الخاصة بها". وقد سقط من "ك": "فروضها وسننها. . ." إلى "الخاصة".

(4)

"ب": "عِذابًا".

(5)

"ط": "هذه"، خطأ.

(6)

"ف": "الرماد"، تحريف.

(7)

"وقلبه" ساقط من "ف".

ص: 376