المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

(1)

الناس

(2)

في البلوى التي تجري عليهم أحكامُها بإراداتهم

(3)

وشهواتهم متفاوتون -بحسب شهودهم لأسبابها وغايتها- أعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد

(4)

:

(1)

كتب في الأصل أولًا كلمة "قاعدة" فقط، ثم أضيف في الحاشية بخط مختلف هذا العنوان:"قاعدة. . . الذنوب" مع علامة "صح". وفيه "مشاهدة" بدلًا من "مشاهد". ولكن ناسخ "ف" نقل العنوان كما أثبتنا، وكذا في غيرها. وهو الذي يؤيده كلام المصنف في هذا الفصل، وفي مفتاح دار السعادة ومدارج السالكين.

(2)

"ط": "والناس"، وصحح في القطرية.

(3)

"ب، ك، ط": "بإرادتهم".

(4)

كتب في الأصل أوَّلًا: "ويجمع ذلك أربعة أقسام أحدها. . . القسم الثاني" ثمَّ استبدل به ما في المتن. وقد أشار المؤلف في مفتاح دار السعادة (2/ 254) إلى أنَّه ذكر في كتابه "الفتوحات القدسية" مشاهد الخلق في مواقعة الذنب وأنَّها تنتهي إلى ثمانية مشاهد ثمَّ أوردها بالاختصار، والكتابان (المفتاح والفتوحات) أُلِّفا قبل طريق الهجرتين. وقد عقد المؤلف فصلًا في كتاب مدارج السالكين (1/ 479)، وذكر فيه ثلاثة عشر مشهدًا أربعة منها للمنحرفين والبواقي لأهل الاستقامة، ثم قال: إن هذا الفصل لا تظفر به في كتاب إلا ما ذكره في كتابه "سفر الهجرتين في طريق السعادتين" يعني هذا الكتاب. وقد ذكر هنا أولًا أربعة مشاهد، وقسَّم المشهد الرابع إلى قسمين، ثمَّ زاد عليه في الحاشية:"فهذه ستة مشاهد. المشهد السابع مشهد الحكمة. . . " وأضيفت إلى الأصل "وريقة" ليست بين أيدينا. والجدير بالذكر أنَّ المشهد الثامن لم يذكر هنا، ثمَّ المشاهد السبعة المذكورة تختلف بعض الاختلاف عما ذكر في مفتاح دار السعادة.

ص: 350

أحدها

(1)

: شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إذ لا تشهد إلّا طريق قضاء

(2)

وطَرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم في ذلك فرق إلّا تدقيق

(3)

الحيلة في الوصول إليها، وربّما زاد غيره من الحيوانات عليه في تناولها ولذّته بها

(4)

.

المشهد الثاني

(5)

: من يشهد مع ذلك مجرّدَ الحكم القدري وجريانه عليه، ولا يتجاوز

(6)

شهوده ذلك. وربما رأى أنّ الحقيقة هي توفية هذا المشهد حقَّه، ولا يتمّ له ذلك إلّا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعلَ فيه غيرَه والمحرّكَ له

(7)

سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلًا، ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد.

وربّما زاد على ذلك أنّه يشهد نفسه مطيعًا من وجه، وإن كان عاصيًا من وجه آخر، فيقول: "أنا مطيع للإرادة

(8)

والمشيئة، وإن كنت عاصيًا للأمر"

(9)

. فإن

(10)

كان ممَّن يرى الأمر تلبيسًا وضبطًا لِلرَّعاع عن الخبطِ

(1)

سقاه في المفتاح: "المشهد الحيواني البهيمي".

(2)

"قضاء" ساقط من "ك، ط".

(3)

"ك، ط": "بدقيق"، تصحيح.

(4)

"ك": "مع تناولها ولذّتها". "ط": "مع. . . لذاتها".

(5)

سمّاه في المفتاح: "مشهد الجبر". وانظر: المدارج (1/ 485).

(6)

"ب، ك": "يجاوز". "ط": "يجوز".

(7)

"له" ساقط من "ك، ط".

(8)

"ك، ط": "الإرادة".

(9)

سبق في ص (55).

(10)

"ك، ط": "وإن".

ص: 351

والجريانِ

(1)

مع حكم الطبيعة الحيوانية فقط

(2)

، رأى نفسه مطيعًا لا عاصيًا، كما قال قائلهم في هذا المعنى:

أصبحتُ منفعلًا لما يختاره

منّي ففعلي كلُّه طاعاتُ

(3)

وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي شهده

(4)

المشركون عبّاد الأصنام، ووقفوا عنده، كما قالوا:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}

(5)

[الأنعام/ 148]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}

(6)

[يس/ 47] فهذا مشهد من أشرك باللَّه وردّ أمِرَه، وهو مشهد إبليس الذي انتهي إليه إذ يقول لربه:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} [الحجر/ 39]

(7)

.

المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبيّ القائم بالعبد فقط

(8)

،

(1)

"ك، ط": "الحرمان"، تحريف.

(2)

"ط": "فقد"، تحريف.

(3)

سبق في ص (55).

(4)

"ط": "يشهده".

(5)

في النسخ كلها: {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وهو جزء من الآية (35) من سورة النحل.

(6)

في "ب" أكمل الآية: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} .

(7)

في "ك، ط" زيادة: "واللَّه أعلم".

(8)

سمّاه في المفتاح: "مشهد القدر" وفي المدارج: "مشهد القدرية النفاة". ولكن ذكر تحت هذا المشهد هنا منكر القدر، ومن ليس منكرًا ولكنه مغلوب مع نفسه.

ص: 352

ولا يشهد إلّا صدورَه عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئةَ الربّ له، ولا جريانَ حكمه القدريّ به، ولا عزّةَ الربّ تعالى في قضائه ونفوذ أمره. بل قد فني بشهود معصيته وذنبه

(1)

وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق، إمّا لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين، فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله، مع أنّه مؤمن بقضاءِ الربّ وقدره، وأنّ العبد أقلّ قدرًا

(2)

من أن يُحدِث في نفسه ما لم يسبق به مشيئةُ بارئه وخالقه. وإمّا لإنكاره القضاءَ والقدر جملةَ، وتنزيهه للرب تعالى أن يُقدِّر على العبد شيئًا ثمّ يلومه عليه.

فأما الأول وإن

(3)

كان مشهده صحيحًا نافعًا له موجِبًا له أن لا يزال لائمًا لنفسه، مُزريًا عليها

(4)

، ناسبًا للذنب والعيب إليها، معترفًا بأنّه يستحقّ العقوبة والنكال، وأنّ اللَّه تعالى إن عاقبه فهو العادل فيه وأنّه هو الظالم لنفسه، وهذا كلّه حقّ لا ريب فيه؛ لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غيرُ مُعانٍ عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإنّه لم يشهد عزّةَ الربّ تعالى في قضائه ونفوذ أمره الكوني ومشيئته، وأنّه لو شاءَ لعصمه وحفظه، وأنّه لا معصوم إلّا من عصمه، ولا محفوظ إلّا من حفظه، وأنّه هو محلّ لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها في سلسلة إرادته وشهوته، وأنَّ تلك السلسلة طرفها بيد غيره، فهو القادرُ على سَوقه بها

(5)

إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه.

(1)

"ط": "بذنبه"، خطأ.

(2)

"ف": "أمرًا"، خلافًا للأصل.

(3)

"ب": "فإن".

(4)

"ب": "لنفسه لائمًا، عليها مزريًا".

(5)

"ط": "فيها".

ص: 353

فهو لغَيبته عن هذا المشهد، وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه، لا يعطي التوحيدَ حقَّه، ولا الاستعانة

(1)

بربِّه والاستغاثة به واللجأ

(2)

إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقَّه، بحيث يشهد سرَّ قوله صلى الله عليه وسلم:"أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك"

(3)

. فإنَّه سبحانه ربُّ كل شيء وخالقُ كل شيء، فالمستعاذُ

(4)

منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاء لم يكن، فالفرار منه إليه، والاستعاذة منه به، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

وأمَّا الثاني -وهو منكر القضاء والقدر- فمخذول، محجوب عن شهود التوحيد، مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه، ممنوع عن شهود عزَّة الرب تعالى في قضائه وكمال مشيئته ونفوذ

(5)

حكمه، وعن شهود عجزه هو وفقره، وأنَّه لا توفيق له إلا باللَّه، وأنَّه إن لم يُعِنْه اللَّه فهو مخذول، وإن لم يوفقه ويخلقْ له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع. فحجابه عن اللَّه غليظ، فإنَّه "لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريقَ إلى اللَّه أقرب من دوام الافتقار إليه"

(6)

.

(1)

"ط": "الاستعاذة".

(2)

"ب، ك، ط": "الالتجاء".

(3)

سبق تخريجه (57).

(4)

في "ف" وغيرها: "والمستعاذ"، قراءة محتملة.

(5)

"ب": "نفاذ".

(6)

من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري. انظر صفة الصفوة (2/ 234)، ومجموع الفتاوى (7/ 20). وانظر الوابل الصيب (12)، والمدارج (1/ 511). وسيأتي مرة أخرى في ص (366).

ص: 354

المشهد الرَّابع: مشهد التوحيد والأمر

(1)

، فيشهد انفرادَ الرب تعالى بالخلق، ونفوذَ مشيئته، وتعلقَ الموجودات

(2)

بأسرها بها

(3)

، وجريانَ حكمه على الخليقة، وانتهاءها إلى ما سبق

(4)

في علمه، وجرى به قلمه. ويشهد مع ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباطَ الجزاء بالأعمال واقتضاءها له، ارتباطَ المسبَّبات بأسبابها، التي جُعِلَت أسبابًا مقتضيةَ له

(5)

شرعًا وقدرًا وحكمة.

فشهودُه توحيدَ الرب تعالى وانفرادَه بالخلقِ ونفوذَ مشيئته وجريانَ قضائه وقدره يفتحُ له بابَ الاستعانة به

(6)

ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه. وذلك يُدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيرًا عاجزًا مسكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. وشهودُه أمرَه تعالى ونهيَه وثوابَه وعقابَه يُوجبُ له الجِدَّ

(7)

والتشمير، وبذلَ الوسع، والقيامَ بالأمر، والرجوع علَى نفسه باللّوم والاعتراف بالتقصير. فيكون سيرُه بينَ شهودِ العزَّةِ والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنَّة العظيمة، وبينَ شهودِ التقصير والإساءةِ منه وتطلّب عيوبِ

(1)

سمّى المشهد الرابع في المفتاح: "مشهد أهل العلم والايمان، وهو مشهد القدر والشرع"، ثم سمّى المشهد السادس:"مشهد التوحيد". وانظر المدارج (1/ 491).

(2)

يحتمل قراءة "الوجودات".

(3)

"بها" يعني: بمشيئته. وفي "ط": "به".

(4)

"ط": "سبق لها".

(5)

كذا في الأصل وغيره، والضمير راجع إلى الجزاء. وفي "ط":"لها".

(6)

"ك، ط": "الاستعاذة ودوام".

(7)

"ك، ط": "الحمد"، تحريف.

ص: 355

نفسه وأعمالها. فهذا هو العبدُ الموفق المعان، الملطوف به، المصنوع له، الذي أقيم في مقام

(1)

العبودية، وضُمِنَ له التوفيق.

وهذا هو مشهد الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فهو مشهد أبيهم آدم، إذ يقول:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23].

ومشهد أوَّل الرسل نوح، إذ يقول:{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود/ 47].

ومشهد إمام الحنفاءِ وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين، إذ يقول:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء/ 78 - 82].

وقال في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم/ 35] فعلِمَ صلى الله عليه وسلم أنَّ الذي يحول بين العبدِ وبين الشرك وعبادة الأصنام هو اللَّه لا ربَّ غيره، فسأله أن يجنِّبَه وبنيه عبادةَ الأصنام.

وهذا هو مشهد موسى إذ يقول في خطابه لربِّه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف/ 155] أي إنْ ذلك إلا امتحانُك واختبارُك، كما يقال: فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من

(1)

"ك، ط": "أقيم مقام".

ص: 356

الفتنة التي هي الفعل السيء

(1)

كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج/ 10]، وكما في قوله:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة/ 193]، فإنَّ تلك فتنة المخلوق. وموسى

(2)

أعلم باللَّه تعالى أن يضيف إليه هذه الفتنة. وإنَّما هي كالفتنة في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه/40] أي ابتليناك، واختبرناك، وصرَّفناك في الأحوال التي قصَّها اللَّه سبحانه علينا من لدن ولادته إلى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابَه

(3)

.

والمقصود أنَّ موسى صلى الله عليه وسلم شهد توحيدَ الرب وانفرادَه بالخلق والحكم، وفعلَ السفهاء ومباشرتَهم الشرك، فتضرع إليه بعزَّته وسلطانه وأضافَ الذنب إلى فاعله وجانيه. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص/ 16].

وهذا مشهد ذي النون، إذ يقول:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء/ 87] فوحَّد ربَّه تعالى، ونزَّهه عن كلِّ عيبٍ، وأضافَ الظلم إلى نفسه.

وهذا مشهد صاحب سيِّد الاستغفار، حين

(4)

يقول في دعائه: "اللَّهم أنت ربِّي لا إلهَ إلا أنتَ، خَلَقْتَني وأنا عبدُكَ، وأنا على عَهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لَكَ بنعمتك

(1)

"ط": "المسيء".

(2)

"ك، ط": "فإنَّ موسى".

(3)

"ف": "كلماته"، سهو.

(4)

"ك، ط": "إذ".

ص: 357

عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفرُ الذنوب إلا أنتَ"

(1)

.

فأقرَّ بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلقِ وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له، والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه.

ثمَّ قال: "وأنا على عهدك ووعدك"، فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه -وهو العهد الذي عهِدَه إلى عباده- وتصديقَ وعده، وهو جزاؤه وثوابه

(2)

. فتضمن التزام الأمر، والتصديق بالموعود، وهو الإيمان والاحتساب.

ثمَّ لمَّا علم أنَّ العبدَ لا يوفي هذا المقام حقَّه الذي يصلح له تعالى علَّق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعدَّاها، فقال:"ما استطعتُ" أي ملتزم

(3)

ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي.

ثمَّ شهد المشهدين المذكورين، وهما مشهد القدرة والعزَّة

(4)

. ومشهد التقصير من نفسه، فقال:"أعوذُ بكَ من شرِّ ما صنعتُ"، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معًا.

ثمَّ أضافَ النعم كلها إلى وليِّها وأهلها والمبتدئ بها، والذنبَ إلى نفسه وعمله، فقال: أبوءُ لك بنعمتك على، وأبوءُ بذنبي". فأنتَ

(1)

تقدم تخريجه (253).

(2)

"ط": "من ثوابه".

(3)

"ط": "ألتزم".

(4)

"ك، ط": "القوَّة".

ص: 358

المحمود المشكور

(1)

الذي له الثناءُ كلُّه، والإحسان كلّه، ومنه النعم كلّها. فلك الحمد كلّه، ولك الثناء كله، ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء، المعترف بذنبه، المقِرُّ بخطائه

(2)

، كما قال بعض العارفين

(3)

: "العارفُ يسير بين مشاهدة المنَّة من اللَّه، ومطالعة عيب النفس والعمل". فشهودُ المنَّة تُوجبُ

(4)

له المحبة لربِّه سبحانه وحمدَه والثناء عليه، ومطالعةُ عيب النفس والعمل يوجب استغفارَه ودوامَ توبته وتضرعه واستكانته لربِّه سبحانه.

ثمَّ لمَّا قامَ هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال: "فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت"

(5)

.

فصل

(6)

ثمَّ أصحاب هذا المشهد فيه قسمان:

أحدهما

(7)

: من يشهد تسلّط

(8)

عدوه عليه، وقياده

(9)

إيَّاه بسلسلة

(1)

"ب، ت، ط": "والمشكور".

(2)

"ط": "بخطئه".

(3)

هو صاحب منازل السائرين. انظر: المنازل (11)، والمدارج (1/ 296). وقد أورد المصنف قوله في الوابل الصيب (10)، وشفاء العليل (41) أيضًا.

(4)

كذا في الأصل و"ف". وفي "ك، ط": "يوجب".

(5)

وانظر في تفسير سيد الاستغفار: ما سبق في ص (203)، والوابل الصيب (11)، والمدارج (1/ 5296).

(6)

"فصل" ساقط من "ب، ط".

(7)

وهو المشهد الخامس.

(8)

"ك، ط": "تسليط".

(9)

"ك، ط": "فساده إياه وسلسلة" تحريف.

ص: 359

الهوى، وكبحَه إيَّاه بلجام الشهوة. فهو أسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه، وهو مع ذلك ملتفت إلى ربِّه وناصره ووليه، عالم بأنَّ نجاته في يديه، وأنَّ ناصية عدوه بيده

(1)

، وأنَّه لو شاءَ طرده عنه وخلّصه من يديه. فكلَّما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفاتَ إلى وليِّه وناصره، والتضرع إليه، والتذلل بين يديه. وكلَّما زاد

(2)

اغترابُه وبعدُه عن بابه تذكر عطفَه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأفته ورحمته، فانجذبت دواعي قلبه هاربةً إليه، متراميةً

(3)

على بابه، منطرحةً على فنائه؛ كعبد قد شُدَّتْ يداه إلى عنقه، وقُدِّمَ لتضرب عنقُه، وقد استسلمٍ للقتل، فنظرَ إلى سيِّده أمامه، وتذكر عطفه ورأفته به، ووجدَ فُرجةً، فوثب إليه منها. فهَبْه

(4)

طرَحَ نفسه بين يديه، ومدّ له عنقَه، وقال: أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتي بين يديك، ولا خلاص لي من هذا العدوّ إلّا بك، وإني مغلوب فانتصر. فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف.

وفوقه مشهد أجلُّ منه وأعظم وأخصّ

(5)

، تجفو

(6)

عنه العبارة، وإن

(1)

في الأصل: "به"، "مكان "بيده"، وكذا في "ف، ك". وكتب فوقه في "ف":"كذا". والمثبت من "ب". وفي "ط": "بين يديه". وقد كتب أوَّلًا في الأصل: "وأنَّ عدوَّه" ثم ضرب على "عدوه" فوصل خط الضرب إلى حرف النون في "أنَّ". ومن ثم حذف "أنَّ" في "ب، ك". وقد تحرف "عدوه" في "ك" إلى "هدوه" فكتب بعضهم فوقه: "بين يديه"، كما في "ط".

(2)

"ك، ط": "أراد"، تحريف.

(3)

"ط": "بتراميه"، تحريف.

(4)

"ب، ك، ط": "وثبة"، ولعله تحريف.

(5)

وهو المشهد السادس.

(6)

"ف": "وهو تجفو"، والظاهر أنَّ "وهو" مضروب عليه في الأصل.

ص: 360

أشارت

(1)

إليه بعضَ الإشارة. وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل يعبر

(2)

منه إليه، وذلك مثَلُ عبدٍ أخذه سيّده بيده، وقدّمه ليضرب عنقَه بيده، فهو قد أحكم ربطَه، وشدّ عينيه، وقد أيقن العبد أنَّه في قبضته، وأنّه هو قاتله لا غيره. وقد علم مع ذلك برَّه به ولطفه، ورحمته ورأفته، وجوده وكرمه؛ فهو يناشده بأوصافه، ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كلُّ سبب

(3)

، وانقطع

(4)

تعلّقه بشيء سواه، فهو معرِض عن عدوه الذي كان سببَ غضب سيّده عليه، قد محا شهودَه من قلبه، فهو مقصورُ النظر إلى سيّده وكونه في قبضته، ناظرٌ إلى ما يصنعه به

(5)

، منتظرٌ منه ما يقتضيه عطفه وبرّه وكرمه.

ومثَلُ الأوّل مثلُ عبدٍ أمسكه عدوّه وهو يخنقه للموت، وذلك العبد يشهد خنقَ

(6)

عدوّه له، ويستغيث بسيّده، وسيّدُه يغيثه ويرحمه.

ولكنّ ما يحصل للثاني في مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبُه، فهو يخنقه خنقةً، وهو لا يشهد إلَّا خنقه له، فهو يقول: اخنُقْ خنقَك، فأنت تعلم أنّ قلبي يحبّك!

(1)

"ك، ط": "الإشارة"، تحريف.

(2)

"ب، ك، ط": "تعبر".

(3)

"ك، ط": "نسب"، تحريف.

(4)

"ط": "فانقطع".

(5)

"به" ساقط من "ب، ك، ط".

(6)

"ب، ك، ط": "دنوّ"، تحريف.

ص: 361

وفي هذا المثلِ إشارةٌ وكفاية، ومن غلُظَ حجابُه وكثفت طباعُه لا ينفعه التصريحُ، فضلًا عن ضرب الأمثالِ. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا قوَّة إلا باللَّهِ.

فهذه ستَّة مشاهد.

المشهد السابع: مشهد الحكمة، وهو أن يشهد حكمةَ اللَّه في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئة

(1)

أسبابه له، وأنَّه لو شاءَ لعصمه وحالَ بينه وبينه، ولكنَّه خلَّى بينه وبينه لحِكَم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا اللَّه

(2)

:

أحدها: أنَّه سبحانه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثمَّ إذا كان ممَّن سبقت له العنايةُ قضى له بالتوبة.

الثاني: تعريف العبد عزَّةَ الرب تعالى

(3)

في قضائه، ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه.

الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنَّه إن لم يحفظه ويصنه

(1)

"ط": "تهيئته".

(2)

أشار المصنف في المفتاح (2/ 255) إلى أنَّه ذكر قريبًا من أربعين حكمة في كتابه الفتوحات القدسية، ثمَّ ذكر نحو (34) حكمة. أمَّا هنا فقد ذكر (31) حكمة لخصها وفرَّعها مما ذكره في المفتاح (2/ 257 - 301)، وانظر: المدارج (1/ 487).

(3)

من هنا إلى آخر الفصل اعتمدنا على "ف" وغيرها، لأنَّ "الوريقة" التي أضيفت إلى الأصل وكانت مشتملة على هذه الزيادة التي بدأت في الحاشية من قوله:"فهذه ستة. . ." لم توجد في المصورة. ولعلها ضاعت من النسخة الأصلية.

ص: 362

فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدَّت أيديها إليه تمزّقه كلَّ ممزَّق.

الرابع: استجلابه من العبد استغاثته

(1)

به، واستعاذته

(2)

به من عدوّه وشرّ نفسه، ودعاءه، والتضرع إليه، والابتهال بين يديه.

الخامس: إرادته من عبده تكميلَ مقام الذل والانكسار، فإنَّه متى شهد صلاحه واستقامته شمَخ بأنفه، وظنَّ أنَّه. . . وأنَّه. . .! فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسُه وذلَّت، وتيقن

(3)

أنَّه. . . وأنَّه. . .!

السادس: تعريفه بحقيقة نفسه، وأنَّها الظالمة

(4)

الجاهلة، وأنَّ كلَّ ما فيها من علم أو عدلٍ

(5)

أو خير فمن اللَّه، منَّ به عليه، لا من نفسه.

السابع: تعريفه عبدَه سعةَ حلمه تعالى وكرمَه في ستره عليه، فإنَّه لو شاءَ لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يصفُ له معهم عيش.

الثامن: تعريفه أنَّه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.

التاسع: تعريفه كرمَه في قبول توبته، ومغفرتَه له على ظلمه وإساءته.

العاشر: إقامة الحجة على عبده، وأنَّه

(6)

له عليه الحجة البالغة، فإن عذَّبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل اليسير منه.

(1)

"ب، ك، ط": "استعانته".

(2)

"ب": "استغاثته".

(3)

"ك، ب، ط": "تيقن وتمنَّى". وانظر نحو هذه العبارة في المفتاح (2/ 268).

(4)

"ط": "الخطالة"، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 270).

(5)

"ط": "عمل"، تحريف.

(6)

"ب، ك، ط": "فإن".

ص: 363

الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلَّاتهم معه بما يُحِب أن يعامله اللَّهُ به، فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل؛ فيعتمد

(1)

في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه اللَّه بذنوبه.

الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق، وتتسع رحمتُه لهم، مع إقامة أمر اللَّه فيهم

(2)

. فيقيم أمر اللَّه فيهم

(3)

رحمةً لهم، لا قسوةً وفظاظةً عليهم.

الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدَّل برقَّة

(4)

ورأفة ورحمة.

الرابع عشر: أن يُعرّيه من رداءِ

(5)

العُجْب بعمله، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو لَمْ تُذْنِبُوا لَخِفْتُ عليكم ما هو أشدُّ منه: العُجْبَ"

(6)

، أو كما قال.

الخامس عشر: أن يعرِّيه من لباس الإدلال الذي يصلح

(7)

للملوك، ويُلبِسه لباسَ الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.

(1)

كذا في "ف، ب". أي يقصد. وفي "ك، ط": "يعمل".

(2)

"فيهم" لم يرد في "ب".

(3)

"فيقيم أمر اللَّه فيهم" من "ب، ك، ط"، ولم يرد في "ف".

(4)

"ب": "من قلبه رقَّةً".

(5)

"ب": "داء"، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 278).

(6)

أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3633)، وابن عدي في الكامل (3/ 306)، وابن عدي في الكامل (3/ 306) من حديث أنس. قال الهيثمي:"وإسناده جيد". والحديث جعله ابن عدي من منكرات سلَّام أبي المنذر لتفرده به عن ثابت البناني عن أنس (ز).

(7)

"ف": "التي تصلح". ولعله سهو في النقل.

ص: 364

السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاءِ والإشفاق والندم.

السابع عشر: أن يُعرّفه

(1)

مقدار نعمة معافاته

(2)

، وفضله في توفيقه وعصمته؛ فإنَّ من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار نعمة

(3)

العافية.

الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكرَه لربِّه إذا تابَ إليه ورجعَ إليه، فإنَّ اللَّه يحبه ويُوجب له بهذه التوبة مزيدَ محبَّة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة، وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكنَّ هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.

التاسع عشر: أنَّه إذا شهد إساءَته وظلمَه، استكثر

(4)

القليلَ من نعمة ربِّه

(5)

، لِعلمه بأنَّ الواصلَ إليه منها كثيرٌ على مسيء مثله؛ واستقل

(6)

الكثيرَ من عمله، لعلمه بأنَّ الذي يصلح له أن يغسل به نجاسَتَه وَوضَرَ ذنوبه

(7)

أضعافُ أضعافِ ما يفعله، فهو دائمًا مستقل لعمله كائنًا ما كان. ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيًا.

(1)

"ك، ط": "يعرف".

(2)

"ب": "نعمة العافية في معافاته". "ط": "مقداره مع معافاته". وانظر: المفتاح (2/ 281).

(3)

"نعمة" ساقط من "ك، ط".

(4)

"ك، ط": "واستكثر".

(5)

"ك، ط": "نعمة اللَّه".

(6)

"ك، ط": "فاستقل". وانظر: المفتاح (2/ 284).

(7)

"وضر" ساقط من "ب، ك، ط". وفي "ب": "نجاسة ذنوبه".

ص: 365

العشرون: أنَّه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدوّ ومكايده، ويُعرِّفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاقَ المرضَ والدواءَ.

الحادي والعشرون: أنَّ مثلَ هذا ينتفع به المرضى، لمعرفته بأمراضهم ودوائها

(1)

.

الثاني والعشرون

(2)

: أنَّه يرفع عنه حجابَ الدعوى، ويفتح له طريقَ الفاقة، فإنَّه لا حجابَ أغلَظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية

(3)

، فإنَّ دوام الفقر إلى اللَّه مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب

(4)

.

الثالث والعشرون: أن يكون

(5)

في القلب أمراض مُزْمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها، فيمُنُّ عليه اللطيفُ الخبيرُ، ويقضي عليه بذنب ظاهر، فيجد ألم مرضه، فيحتمي، ويشرب الدواء النافع، فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها. ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فَلِغلظِ

(6)

حجابه، كما قيل:

(1)

في "ف" وغيرها: "وأدوائها"، والظاهر أنَّه سهو. وانظر المفتاح (2/ 288).

(2)

في الأصل (ف): "الثالث والعشرون"، ولعله سهو، وقد استمر عليه، فوصل العدد إلى الثاني والثلاثين.

(3)

قوله: "لا حجاب. . ." من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري. وقد سبق في ص (354).

(4)

من كلام ذي النون المصري. وقد تقدم في ص (105).

(5)

"ط": "تكون". "ك": "أنَّه يكون".

(6)

"ك، ط": "فغلظ"، تحريف.

ص: 366

لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه

وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ

(1)

الرابع والعشرون: أن

(2)

يذيقه ألم الحجاب والبعد

(3)

بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته

(4)

وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وجمَعه عليه

(5)

، وأقامه في طاعته، فيكون التذاذه بذلك

(6)

-بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن

(7)

بالماءِ العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه. وإنَّ لطفَ الربِّ تعالى وبرَّه وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربِّه ومحبته!

الخامس والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنَّه إذا واقع

(8)

الذنبَ، سُلِبَ حلاوةَ الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذَّة تلك المعاملة، فحنَّت، وأنَّت، وتضرَّعت، واستغاثت

(9)

بربِّها، ليردَّها إلى

(1)

للمتنبي في ديوانه (494) وفيه: "فربّما". وسيأتي مرَّة أخرى في ص (508، 602). وانظر: المفتاح (2/ 269)، والمدارج (1/ 370، 375)، والفوائد (67)، والوابل الصيب (25).

(2)

"ب": "أنَّه".

(3)

"ب": "والتهديد"، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 290).

(4)

"ب": "نعيمه".

(5)

"ب": "عليه وجمعه إليه".

(6)

"ك، ط": "في ذلك".

(7)

"ب": "الظمآن الشديد الظمأ".

(8)

"ك، ط": "وقع".

(9)

"ك، ط": "واستعانت".

ص: 367

ما عوَّدها من بره ولطفه. وإن ركبتْ غيَّها

(1)

، واستمرَّ إعراضها، ولم تحِنَّ إلى معهدها

(2)

الأوَّل ومألفها، ولم تحسّ بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها = علم أنَّها لا تصلح للَّه. وقد جاءَ هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.

السادس والعشرون: أنَّ الحكمة الإلهية اقتضت تركيبَ الشهوة والغضب في الإنسان، وفي ذلك حِكَمٌ

(3)

عظيمة لصانعه تبارك وتعالى. ولا ريبَ أنَّهما داعيان إلى أثريهما وموجَبيهما

(4)

، فلا بُدَّ من ترتب أثر داعي

(5)

الشهوة والغضب في الإنسان

(6)

، أو بعضها، ولو لم تُخلق

(7)

فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانًا بل ملكًا. فالذنبُ من موجَبات البشرية، كما أنَّ النسيان من موجَباتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائين التوابون"

(8)

، ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك

(9)

.

السابع والعشرون: أن يُنسيه رؤيةَ طاعته، ويشغله برؤية ذنبه، فلا

(1)

"ك، ط": "ركنت عنها"، تصحيف.

(2)

"ط": "عهدها".

(3)

"ك": "حكمة".

(4)

"ب، ك": "أثرها وموجبها".

(5)

في حاشية "ك": "دواعي"، ولعله تصحيح من قارئ لما سيأتي من قول المصنف:"أو بعضها"، و"هذه الدواعي".

(6)

"وفي ذلك حكم عظيمة. . ." إلى هنا ساقط من "ط".

(7)

"ك، ط": "يخلق".

(8)

أخرجه أحمد (13049)، وابن ماجه (4251)، والترمذي (2499) من حديث أنس. قال الترمذي:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث علي بن مسعدة، عن قتادة". (ز).

(9)

زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".

ص: 368

يزال نصب عينيه. فإنَّ اللَّه إذا أراد بعبدٍ خيرًا سلب رؤيةَ أعماله الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزالُ نصب عينيه حتَّى يدخله

(1)

الجنَّة. فإنَّ ما يُقبل

(2)

من الأعمال رُفِع من القلبِ رؤيتُه، ومن اللسان ذكرُه.

وقال بعض السلف: إنَّ العبدَ ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنَّة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال

(3)

: يعمل الخطيئة، فلا تزالُ نصب عينيه: إذا ذكرها ندم، واستقال، وتضرَّع إلى اللَّهِ، وبادرَ إلى محوها، وانكسر، وذلَّ لربِّه، وزال عنه عُجبه وكِبْره. ويعملُ الحسنة فلا تزال نصب عينيه: يراها، ويمنّ بها، ويعتدُّ بها، ويتكبر بها

(4)

، حتَّى تدخله

(5)

النار

(6)

.

الثامن والعشرون: أنَّ شهودَ ذنبه وخطيئته يُوجِب له أن لا يرى له على أحد فضلًا، ولا له على أحدٍ حقًّا؟ فإنَّه يشهد عيبَ نفسه وخطأها وذنوبها فلا يظن

(7)

أنَّه خير من مسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر. وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على النَّاس حقوقًا من الإكرام يتقاضاهم إيَّاها، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنَّها عنده. أخسّ قدرًا وأقل قيمةً من أن

(1)

"ب، ك، ط": "يدخل".

(2)

"ك، ط": "تقبل".

(3)

"ب": "فقال".

(4)

"ب": "يغتر بها ويتكثر بها".

(5)

"ك، ط": "يدخل".

(6)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (162) مرفوعًا من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلًا. وأخرجه فيه (164) من كلام الحسن (ز).

(7)

"ط": "إذا شهد عيب نفسه بفاحشة. . . لا يظن"!

ص: 369

يكون لها على عباد اللَّه حقوقٌ يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضلٌ يستحق أن يكرموه

(1)

لأجله. فيرى أنَّ من سلَّم عليه أو لقيه

(2)

بوجه منبسط قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من تعتّبه

(3)

وشكايته. فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ بالَه! وما أقرَّ عينه!

وأين هذا ممَّن لا يزال عاتبًا على الخلق، شاكيًا ترك قيامهم بحقِّه، ساخطًا عليهم، وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقولَ العالمين

(4)

.

التاسع والعشرون: أنَّه يُوجِب له الإمساكَ عن عيوب الناس والفكرِ فيها، فإنَّه في شغلٍ بعيبه ونفسه. و"طوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب النَّاس"

(5)

، وويلٌ لمن نسيَ عيبَه وتفرَّغ لعيوب النَّاس! فالأوَّل علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة

(6)

.

الثلاثون: أنَّه يُوجِب له الإحسان إلى الناس، والاستغفار لإخوانه المؤمنين الخطائين

(7)

فيصيرُ هِجِّيراه: "ربِّ اغفر لي ولوالديّ وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات". فإنَّه يشهد أن إخوته

(1)

"ك، ط": "يلزموه"، تحريف.

(2)

"ب": "ولقيه".

(3)

"ط": "عتبه".

(4)

"عقول" ساقط من "ب". وانظر: المفتاح (2/ 296).

(5)

قطعة من خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجها البزار وابن عدي في الكامل (1/ 384)، والبيهقي في الشعب (10089) كلهم عن أنس مرفوعًا، وفيه النصر بن محرز وغيره من الضعفاء. قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 229). (ز).

(6)

وانظر المفتاح (2/ 297).

(7)

"ك، ب، ط": "الخاطئين من المؤمنين".

ص: 370

الخطَّائين

(1)

مصابون

(2)

بمثل ما أصيبَ به، محتاجون

(3)

إلى مثل ما هو محتاج إليه. فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يجب

(4)

أن يستغفر هو لأخيه المسلم.

وقد قال بعض السلف: إنَّ اللَّه لمَّا عتَب على الملائكة في قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة/ 30] وامتحن منهم

(5)

هاروتَ وماروتَ جعلت الملائكةُ بعد ذلك تستغفر لبني آدم ويدعون اللَّه لهم

(6)

.

الحادي والثلاثون: أنَّه يوجب له سعةَ بطانِه

(7)

وحلمه ومغفرته لمن أساءَ إليه. فإنَّه إذا شهد نفسه مع ربِّه سبحانه مسيئًا خاطئًا مذنبًا -مع فرط إحسانه إليه وبرّه به

(8)

، وشدَّة حاجته إلى ربِّه- فكيف يطمع أن يستقيم له

(1)

"ط": "إخوانه الخاطئين".

(2)

"ك، ط": "يصابون".

(3)

"ط": "ويحتاجون".

(4)

كذا في "ف، ك". وفي "ب": "يُحَب" مضبوطًا بالمهملة المفتوحة.

(5)

"منهم" ساقط من "ك، ط".

(6)

انظر نحوه في المفتاح (2/ 298). وقصة هاروت وماروت على الوجه الذي أشير إليه من امتحانهما هنا وفي المدارج (1/ 490) وشفاء العليل (340) رويت عن جماعة من التابعين، وقصّها خلق من المفسرين، وهي راجعة في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل وخرافاتهم التي لا يعوّل عليها، كما قال ابن كثير رحمه الله في التفسير (1/ 135) والبداية والنهاية (1/ 84).

(7)

"ب": "عطائه"، "ك، ط": "إبطائه" وكلاهما تحريف. والبِطان: حزام يُشد على البطن، وسعة البطان كناية عن سعة الصدر.

(8)

"به": "ساقط من "ك، ط".

ص: 371

الخلقُ، ويعاملوه

(1)

بمحض الإحسان، وهو لم يعامل ربَّه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكُه وولدُه وزوجتُه في كلِّ ما يريد، وهو مع ربِّه ليس كذلك؟ وهذا يُوجِبُ له

(2)

أنْ يغفرَ لهمِ، ويسامحهم، ويعفو عنهم، ويغضي عن الاستقصاءِ

(3)

في طلب حقه قِبَلهم

(4)

.

(1)

"ف، ك": "يعاملونه".

(2)

"له" ساقط من "ط".

(3)

"ب": "طلب الاستقصاء"، خطأ.

(4)

هذه آخر الزيادة التي كتبت في "الوريقة" الملحقة بالأصل.

ص: 372