المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الظالم لنفسه - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌ الظالم لنفسه

من أي التجار هو:

فأمَّا‌

‌ الظالم لنفسه

فإنَّه إذا استقبل مرحلةَ يومه وليلته استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحرَّكت جوارحَه طالبةً لها ساعيةً فيها

(1)

. فإذا زاحمتها

(2)

حقوق ربِّه فتارةً وتارةً: فمرَّةً يأخذ بالرخصة، ومرَّةً بالعزيمة، ومرَّةً يقدم على الذنب وتركِ الحقِّ تهاونًا ووعدًا بالتوبة. فهذا حالُ الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد، والإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب. فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران، وهو للأغلب

(3)

منهما. فإذا وردَ القيامةَ مُيِّزَ ربحُه من خسرانه، وحُصِّل ربحُه وحده، وخسرانُه وحده، وكان الحكم للرَّاجح منهما. وحكم اللَّه عز وجل من وراءِ ذلك، لا يعدم عباده

(4)

منه

(5)

فضلَه وعدلَه.

فصل

(6)

وأمَّا المقتصدون: فأدوا وظيفةَ تلك المرحلة، ولم يزيدوا عليها، ولم ينقصوا

(7)

منها. فلا حصلوا على أرباح التجار، ولا بخسوا الحقَّ الذي عليهم.

(1)

"ساعية فيها" ساقط من "ط".

(2)

"ك، ط": "زاحمها".

(3)

"ب، ك": "الأغلب"، وفي حاشية "ك":"لعله للأغلب"، وهو الثابت في الأصل و"ف".

(4)

"عباده" ساقط من "ك، ط".

(5)

"ك": "فيه" تحريف.

(6)

"فصل" ساقط من "ب، ط".

(7)

"ك، ط": "ولا نقصوا".

ص: 406

فإذا استقبلَ أحدهم مرحلةَ يومه استقبلها بالطهور التامّ والصلاة التامّة في وقتها، بأركانها وواجباتها وشرائطها؛ ثُمَّ ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذنَ اللَّه له

(1)

فيها مشتغلًا بها، قائمًا بأعبائها

(2)

، مؤديًا واجبَ الربِّ فيها، غير متفرِّغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكارِ والتوجه.

فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأوَّل، فهو كذلك سائر يومه.

فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، يأخذ

(3)

مضجعه حتَّى ينشقّ الفجر، فيقوم إلى عَدَّانه

(4)

ووظيفته.

فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقِّه، وكذلك الزكاة الواجبة، والحج الواجب.

وكذلك المعاملة مع الخلق، يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم، ولا يترك حقَّه لهم.

فصل

(5)

وأمَّا السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقرَّبون. وهؤلاءِ

(1)

"له": ساقط من "ط".

(2)

"ط": "بأعيانها"، تصحيف، وسقط من "ف":"بها قائمًا".

(3)

"ب": "فيأخذ".

(4)

أي إلى عهده. وقد ضبط في "ب" بفتح أوله، ويجوز بكسره، وفي "ك، ط": "غذائه"، تصحيف. وانظر ص (446).

(5)

"فصل" ساقط من "ب، ط".

ص: 407

الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين، وهم المقتصدون، والأبرار، والمقرَّبون. وأمَّا الظالم لنفسه فليسَ من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنَّه لا يسمَّى مؤمنًا عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.

وقد اختُلِف في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر/ 33] الآية، هل ذلك راجعٌ إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات؛ أو يختص بالقسمَين الأخيرين، وهما: المقتصد، والسابق، دون الظالم = على قولين:

فذهبت طائفة إلى أنَّ الأصناف الثلاثة كلهم في الجنَّة، وهذا يروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وعائشة أم المؤمنين.

قال أبو إسحاق السَّبيعي: "أمَّا الذي سمعتُ مذ ستون

(1)

سنة فكلهم ناجٍ"

(2)

.

قال أبو داود الطيالسي

(3)

: حدثنا الصَّلْت بن دينار، حدثنا عُقبة بن صُهبان الهُنائي قال: سألتُ عائشة عن قول اللَّه تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] فقالت لي: "يا بني، كلُّ هؤلاء في الجنَّة، فأمَّا السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يشهد له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحياة

(4)

والرزق. وأمَّا

(1)

"ب": "مذ ستين"، "ك، ط": "منذ ستين".

(2)

تفسير الطبري (22/ 134).

(3)

"ك، ط": "الطائي"، تحريف.

(4)

"ط": "الخيرة"، تحريف.

ص: 408

المقتصد، فمن تبع أثره من أصحابه حتَّى لحق به. وأمَّا الظالم لنفسه، فمثلي ومثلك". قال: فجعلت نفسها معنا

(1)

.

وقال ابن مسعود: "هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنَّة بغير حساب، وثلث يحاسَبون حسابًا يسيرًا، ثُمَّ يدخلون الجنَّة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول اللَّه: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنَّهم لم يشركوا، فيقول عز وجل: أدخلوهم في سعة رحمتي"

(2)

.

وقال كعب: "تحاكَّتْ

(3)

مناكبهم وربِّ الكعبة، وتفاضلوا بأعمالهم".

وقال الحسن: "السابق من رجحت حسناته

(4)

، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفَّت موازينه"

(5)

.

واحتجت هذه الفرقة بأنَّه سبحانه سمّى الكلَّ "مصطفين"، وأخبر أنَّه

(1)

أخرجه الطيالسي في مسنده (1592) والحاكم (2/ 462)(3593). قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي بقوله:"الصلت، قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي"(ز).

(2)

تفسير الطبري (22/ 134).

(3)

كذا في الأصل، وهو الصواب. انظر: زاد المسير (6/ 491)، وقرأ ناسخ "ف":"تحاذت"، وهو تحريف. ومثله في "ب، ك، ط". وفي تفسير الطبري (22/ 134): "تماسّت". وفي المحرر الوجيز (4/ 439): "استوت".

(4)

"ك، ط": "السابقون. . حسناتهم".

(5)

زاد المسير (6/ 489). (ص). أخرجه الطبري (22/ 135)، والبيهقيُّ في البعث (75، 76) بمعناه، وسنده صحيح. (ز).

ص: 409

اصطفاهم من جملة العباد. ومحال أن يكون الكافر والمشرك من المصطفَين؛ لأنَّ الاصطفاء هو الاختيار، وهو افتعال

(1)

من صفوة الشيء، وهو خياره. فعُلِمَ أنَّ هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق، وبعضُهم خيرٌ من بعض: فسابقُهم مصطفى عليهم، ثُمَّ مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثُمَّ ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك.

واحتجت أيضًا بآثار روتها تؤيد ما ذهبت إليه: فمنها ما رواه سليمان

(2)

الشاذكوني، حدثنا حصين بن نُمير

(3)

، عن ابن أبي ليلى

(4)

، عن أخيه، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال:"كلهم في الجنة"

(5)

.

ومنها ما رواه الطبراني

(6)

، حدَّثنا أحمد بن حمَّاد ابن زُغبة

(7)

، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة، عن أحمد بن حازم

(1)

"ط": "الافتعال".

(2)

"ف": "سلمان"، خطأ، وقد سقط من "ب".

(3)

"ف": "نَهْر" كذا مضبوطًا. "ك": "بهر"، "ب، ط": "بهز". والصواب ما أثبتنا من الأصل وكتب الرجال. وهو حصين بن نمير الواسطي أبو محصن الضرير، كوفي الأصل. انظر: تهذيب التهذيب (2/ 391).

(4)

"ط": "عن أبي يعلى"، خطأ.

(5)

أخرجه الطبراني في الكبير (410) والبيهقي في البعث (63، 64). قال الهيثمي في المجمع: "وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ". (ز).

(6)

لعله في الكبير في القسم المفقود. وسنده ضعيف. فيه ابن لهيعة. وصالح مولى التوأمة لم يسمع من أبي الدرداء. والحديث له طرق أخرى ستأتي. (ز).

(7)

لم يضبط في "ب، ك". وفي "ط": "رعية"، تصحيف. و"زغبة" لقب حمَّاد. انظر ترجمة عيسى بن حماد في تهذيب التهذيب (8/ 209).

ص: 410

المعافري

(1)

، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي الدرداء قال: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32] فقال: "أمَّا السابق فيدخل الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسَب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالم فيُحبس

(2)

في طول المحبس، ثمَّ يتجاوز اللَّه عنه".

ومنها ما رواه زكريا الساجي، عن الحسن بن علي الواسطي، عن أبي سعد

(3)

الخزاعي، عن الحسن بن سالم، عن سعد بن طريف، عن أبي هاشم الطائي قال: "قدمتُ المدينة، فدخلتُ مسجدها، فجلستُ إلى سارية، فجاء حذيفة فقال: لأحدثنَّك

(4)

بحديث سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، سمعته

(5)

يقول: "يبعث اللَّه تبارك وتعالى هذه الأمة -أو كما قال- ثلاثة أصناف، وذلك في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32]، فالسابق بالخيرات يدخل الجنَّة بلا حساب، والمقتصد يحاسب حسابًا يسيرًا، والظالم لنفسه يدخل الجنَّة برحمة اللَّه"

(6)

.

(1)

"ط": "المعارفي"، تحريف.

(2)

"ط": "فيجلس"، تحريف.

(3)

في الأصل نقطة على الحرف الثاني، ويحتمل قراءة "سفيان". وقراءة "ف":"أبي نصر". وفي "ب، ك، ط": "أبي سعيد". ولعلَّ الصواب ما أثبتنا.

(4)

"ك": "ألا أحدثكم". "ط": "ألا أحدث".

(5)

"سمعته"ساقط من "ط".

(6)

أخرجه الديلمي في مسند الفردوس زهر الفردوس (466)(8774) من طريق أبي الشيخ الأصفهاني عن زكريا الساجي به مثله. وهو ضعيف جدًّا. فيه سعد ابن طريف، وهو متروك، وقد رُمي بوضع الحديث. (ز).

ص: 411

ومنها ما رواه الطبراني عن محمد بن إسحاق

(1)

بن راهويه، حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن رجلٍ سمَّاه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] الآية، قال:"السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنَّة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرا ثمَّ يدخل الجنَّة"

(2)

.

ومنها ما رواه ابن لهيعة عن ابن أبي جعفر

(3)

، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في

(4)

هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قوله: {سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] قال: "فأمَّا السَّابقون فيدخلون الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالمون فيحاسبون، فيصيبهم عناءٌ وكرب، ثمَّ يدخلون الجنَّة، ثم يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر/ 34] ".

ومنها ما رواه الحميدي، حدَّثنا سفيان، حدثنا طُعْمة

(5)

بن عمرو

(1)

"ف": "الحسن"، تحريف.

(2)

أخرجه الحاكم (2/ 462)، والبيهقي في البعث (62) من طريق جرير عن الأعمش به. وجاء هذا الحديث من طرق أخرى عن الأعمش وغيره عند أحمد (21697) والطبري في تفسيره (22/ 137)، والبخاري في تاريخه (8/ 17 - 18). ولعلَّ أصح الطرق الطريق المرسلة. انظر تفصيل الخلاف في التاريخ الكبير. فالحديث ضعيف الإسناد لجهالة حال الراوي عن أبي الدرداء. (ز).

(3)

"ك، ط": "عن أبي جعفر".

(4)

"في": ساقطة من "ط".

(5)

"ب، ك": "طعيمة"، تحريف.

ص: 412

الجعفري، عن رجلٍ قال: قال أبوالدرداءِ لرجل: ألا أحدثك بحديث أخصُّك به، لم أحدث به أحدًا؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32]. قال: "جنَّات عدن"

(1)

قال: "دخلوا الجنَّة جميعًا"

(2)

.

واحتجت أيضًا بالآيات والأحاديث التي تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنَّة.

واحتجت أيضًا بأنَّ "ظلم النفس" إنَّما يُرادَ به

(3)

ظلمُها بالذنوب والمعاصي، فإن الظلم ثلاثة أنواع: ظلم في حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها، وظلم في حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم في حق الرب بالشرك به. فظلم النفس إنَّما هو بالمعاصي، وقد تواترت النصوص بأنَّ العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنّة، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية

(4)

[آل عمران/ 135].

وقالت طائفة: بل الوعد بالجنَّات إنَّما هو للمقتصد والسابق، دون الظالم لنفسه. فإنَّ الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق، والظالم لنفسه هنا هو: الكافر، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: المؤمن التقي.

(1)

كذا في الأصل وغيره، وقارن بما في "ط".

(2)

انظر تاريخ البخاري، الموضع السابق.

(3)

"ك، ط": "بها".

(4)

"كقوله تعالى. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط"، وهو ثابت في حاشية الأصل.

ص: 413

وهذا يروى عن عكرمة

(1)

، والحسن

(2)

، وقتادة

(3)

. وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشَّاف

(4)

، ومنذر

(5)

بن سعيد في تفسيره، والرماني

(6)

، وغيرهم.

قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم. وهي نظير آية: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة/ 7 - 10]. قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون، وأصحاب المشأمة هم

(7)

الظالمون لأنفسهم، والسابقون

(8)

هم السابقون بالخيرات.

قالوا: ولم يصطفِ اللَّه من خلقه ظالمًا لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم، والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين ويتناولهم فعل الاصطفاء؟

(1)

أخرجه الطبري (22/ 125). (ز).

(2)

أخرجه الطبري (22/ 135)، والبيهقي في البعث (76،75) وهو ثابت عنه (ز).

(3)

أخرجه الطبري (22/ 135)، وهو ثابت عنه (ز).

(4)

الكشاف (3/ 612).

(5)

"ب": "رزين". تحريف. وهو أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي (355 هـ) كان فقيهًا محققًا ونحويًا وعالمًا بالتفسير. سير أعلام النبلاء (16/ 173).

(6)

أبو الحسن علي بن عيسى الرماني، (384 هـ)، المعتزلي، من كبار النحاة، صاحب التصانيف في التفسير والنحو واللغة. إنباه الرواة (2/ 294)، السير (16/ 533).

(7)

"هم" ساقط من "ك، ط".

(8)

"ك، ط": "والسابقون السابقون".

ص: 414

قالوا: وأيضًا فصفوة اللَّه

(1)

هم أحباؤه، واللَّه لا يحب الظالمين، فلا يكونون

(2)

مصطفين.

قالوا: ولأنَّ الظالم لنفسه، وإن كان ممن أُورث الكتاب، فهو بتركه العمل

(3)

بما فيه قد ظلم نفسَه، واللَّه سبحانه إنِّما اصطفى من عباده من أورثه كتابَه ليعمل بما فيه. فأمَّا من نبذه وراءَ ظهره فليس من المصطفين من عباده.

قالوا: ولأنَّ الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء، وهو خلاصته ولبّه، وأصله اصتفى، فأبُدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه. والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبّهم، فلا يكون مصطفى.

قالوا: ولأنَّ اللَّه سبحانه سلَّم على المصطفين من عباده فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل/ 59]. وهذا يقتضي سلامتهم من كلِّ شرٍّ ومن

(4)

كلِّ عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا، فكيف يكون من المصطفين؟

قالوا: وأيضًا فطريقة القرآن أنَّ الوعدَ المطلق بالثواب إنَّما يكون للمتقين لا للظالمين، كقوله تعالى:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم/ 63] فأين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ

(1)

"ط": "صفوة اللَّه".

(2)

"ك": "فلا يكونوا".

(3)

"ب": "للعمل".

(4)

"من" ساقطة من "ك، ط".

ص: 415

جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان/ 15]، وقوله:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران/ 133]، وقوله:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ/ 31 - 36]. والقرآن مملوءٌ من هذا، ولم يجئ فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلًا.

قالوا: وأيضًا فلم يجيء في القرآن ذكر الظالم لنفسه إلا في معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 74 - 76]، وقوله تعالى:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ/ 19]

(1)

، وقوله:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} [البقرة/ 57]

(2)

. وقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة/ 124]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس/ 44]

(3)

.

قالوا: وأيضًا فالظالم لنفسه هو الذي خفَّت موازينه، ورجحت سيئاته، والقرآن كلُّه يدلُّ على خساره

(4)

وأنَّه غير ناج، كقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ

(1)

وقع في الأصل وغيره من النسخ: "قالوا ربنا. . . " وهو سهو.

(2)

"ب، ك، ط": "وما ظلمناهم. . . "، وهي آية أخرى في سورة النحل (118).

(3)

سقطت هذه الآية والتي قبلها من "ب، ك، ط".

(4)

"ب، ط": "خسارته".

ص: 416

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف/ 8 - 9]، وقوله:{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)}

(1)

[القارعة/ 8 - 9]. فكيف يذكر وعده بجنَّاته وكرامته للظالمين أنفسَهم، الخفيفة موازينُهم؟

قالوا: وأيضًا فقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر/ 33]

(2)

مرفوع، لأنَّه بدل من قوله:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/ 32]، وهو بدل نكرة من معرفة، كقوله:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق/ 15 - 16] وحسَّن وقوعَه مجيءُ النكرة موصوفةً لِتخصُّصها

(3)

بالوصفِ وقربها من المعرفة. ومعلومٌ أنَّ المبدل منه وهو "الفضل الكبير" مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أنَّ سبقَهم بالخيرات بإذنه

(4)

هو

(5)

الفضل الكبير، وهو جنَّات عدن يدخلونها؛ وجعل السبق بالخيرات نفسَ الجنَّات لأنَّه سببها وموجبها.

قالوا: وأيضًا فإنَّه وصفَ حليتَهم فيها بأنَّها أساور من ذهبٍ ولؤلؤ، وهذه جنَّات السابقين لا جنَّات المقتصدين. فإنَّ جنَّات الفردوس أربع، كما ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "جنَّتان من ذهبٍ آنيتُهما وحِليتُهما وما فيهما. وجنَّتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنَّة

(1)

وقع في الأصل وغيره من النسخ: "ومن خفت. . . "، وهو سهو.

(2)

"يدخلونها" ساقط من "ك، ط".

(3)

كذا في الأصلِ، وفي غيره:"لتخصيصها".

(4)

أشار في حاشية "ط" إلى أن في الأصل بياضًا بعد "بإذنه". ولكن لا بياض في النسخ التي بين أيدينا.

(5)

"ك، ط": "ذلك هو".

ص: 417

عدن"

(1)

، ومعلوم أنَّ الجنتين الذهبيتين أعلى وأفضل من الفضيتين، فإذا كانت الجنَّتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنَّتين الفضيتين؟ فعُلِمَ أنَّ هذه الجنَّات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم.

قالوا: وأيضًا فإنَّ أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات، فوجبَ اختصاصهم بالدخول إلى الجنَّاتِ المذكورة

(2)

.

قالوا: وفي اختصاصهم -بعد ذكر الأقسام- بذكر ثوابهم، والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن، إذ يصرِّح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين والمحسنين ومن رجحت حسناتهم، وبذكر

(3)

عقاب الكفَّار والفجَّار والظالمين لأنفسهم ومن خفَّت موازينهم، ويسكت عن القسم الذي فيه شائبتان وله مادَّتان. هذه طريقة القرآن، كقوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار/ 13 - 14]، وقوله:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات/ 37 - 41] وهذا كثير في القرآن.

قالوا: وفي السكوت عن شأن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له، فإنَّ

(4)

أمره مرجأٌ إلى اللَّه، وليس له

(5)

عليه ضمان، ولا له

(1)

أخرجه البخاري في التفسير (4878) وغيره، ومسلم في الإيمان (180) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

"ب، ك، ط": "المذكورات".

(3)

معطوف على "بذكر ثوابهم"، وفي "ف" وغيرها:"يذكر".

(4)

"ط": "بأنَّ".

(5)

"له": ساقط من "ك، ط".

ص: 418

عنده وعد، فَلْيحذر

(1)

كلَّ الحذرِ، ولْيبادر بالتوبة النصوح التي تُلِحقُه بالمضمون لهم النجاةُ والفلاحُ.

قالوا: وأيضًا فمن المحال أن يقع على أحدٍ من المصطفين اسمُ الظلم مطلقًا، وإنَّما يقع اسم الظلم مطلقًا على الكافر، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة/ 254]. وقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} [الشورى/ 8] مع قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة/ 257]. والظالم لا ولى له فلا يكون

(2)

من المؤمنين.

قالوا: وأيضًا فمن تدبَّر الآيات وتأمَّل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلَّت على مراتبهم في الجزاء. فذكر سبحانه فيها

(3)

أنَّ النَّاس نوعان: ظالمٌ، ومحسنٌ. ثمَّ قسم المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق. ثمَّ ذكر جزاءَ المحسن. فلمَّا فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر/ 36]

(4)

.

وقد قال

(5)

تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء/ 29]، فذكر أنواع العباد

(1)

"ك، ط": "ليحذر".

(2)

قراءة "ف": "ولا يكون".

(3)

"فيها" ساقط من "ب، ك، ط".

(4)

في "ب" ضبطت الآية على قراءة أبي عمرو البصري، فقد قرأ:"كذلك يُجزَى كلُّ كفور". انظر: الإقناع (2/ 741). ولم تضبط في الأصل وغيره.

(5)

"ب، ك، ط": "وقال".

ص: 419

وجزاءهم.

وقالوا: وأيضًا فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة، كما ذكرهم تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان

(1)

.

فأمَّا سورة الواقعة، فذكرهم في أولها وفي آخرها، فقال في أولها:{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة/ 7 - 12] فأصحاب المشأمة هم الظالمون. وأمَّا أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون.

وقال

(2)

في آخرها: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} .

فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أوَّل السورة، ثمَّ ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة. ولهذا قدَّم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح

(3)

، فقال:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} ، ثمَّ قال:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)} إلى آخرها.

وأمَّا في أوَّلها فذكر أقسام الخلق عقب

(4)

قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)

(1)

"ب": "الواقعة وسورة الإنسان والمطففين".

(2)

"قال" ساقط من "ك، ط".

(3)

"في آخر السورة. . . " إلى هنا ساقط من "ب".

(4)

"ف": "عقيب" خلاف الأصل.

ص: 420

لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} [الواقعة/ 2 - 7].

وأمَّا سورة الإنسان فقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)} ، فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة. ثمَّ قال:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} ، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين. ثمَّ قال:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} ، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصَّهم بالإضافة إليه، وأخبرَ أنَّهم يشربون بتلك العين صِرفًا محضًا

(1)

، وأنَّها تُمزَج للأبرار مزجًا، كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار:{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} .

وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} ولم يقل: "منها"، إشعارًا بأنَّ رِيَّهم

(2)

بالعينِ نفسِها خالصةً لا بها وبغيرها. فضمّن "يشرب" معنى "يروى"، فعدَّى بالباء. وهذا ألطف مأخذًا وأحسن معنى من أن تُجعل الباءُ بمعنى"من"، ولكن

(3)

يُشرَب الفعلُ معنى فعل آخرَ فيعدَّى

(4)

تعديته. وهذه طريقة الحذَّاق من النحاة، وهي طريقة سيبويه وأئمة أصحابه

(5)

. وقال في الأبرار: {مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}

(1)

"ب، ك": "محضة".

(2)

"ط": "شربهم".

(3)

"ط": "ويضمن"، خطأ.

(4)

"ك": "فتعدَّى"، "ط":"فيتعدى".

(5)

انظر نحو هذا الكلام في بدائع الفوائد (424)، وحادي الأرواح (264)، وانظر: مقدمة في أصول التفسير (52)، ومجموع الفتاوى (11/ 178)، والتبيان في أقسام القرآن (95)، والخصائص لابن جني (2/ 308 - 311)، =

ص: 421

[الإنسان/ 5]، لأنَّ شرب المقربين لمَّا كان أكمل استعير له الباء الدَّالّة على شرب الري بالعينِ خالصةً. ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر.

وقال تعالى في سورة المطففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} إلى قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} ، فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال.

ثمَّ قال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)} ، فهؤلاء الأبرار المقتصدون. وأخبر أنَّ المقرَّبين يشهدون كتابَهم، أو يُكتَب بحضرتهم ومشهدهم، لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهارًا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربِّه.

ثمَّ ذكرَ سبحانه نعيم

(1)

الأبرار، ومجالسهم

(2)

، ونظرهم إلى ربِّهم، وظهورَ نضرة النعيم في وجوههم. ثمَّ ذكرَ شرابهم فقال:{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} . ثمَّ قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} ، والتسنيم أعلى أشربة الجنَّة. فأخبر سبحانه أنَّ مزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقرَّبين يشربون منه بلا مزاج. ولهذا قال:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} كما قال في سورة الإنسان سواءً.

قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا،

= وإعراب القرآن للنحاس (5/ 98).

(1)

"ب": "معين".

(2)

"ب، ك، ط": "مجالستهم".

ص: 422

وتمزج

(1)

لأصحاب اليمين مزجًا

(2)

. وهذا لأنَّ الجزاء وفاقُ العملِ، فكما خلصت أعمالُ المقربين كلُّها للَّه، خلص شرابهم؛ وكما مزَجَ الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات، مُزِجَ لهم شرابُهم. فمن أخلصَ أُخلِصَ شرابُه، ومن مزَج مُزِج شرابُه.

فيا لاهيًا في غمرة الجهلِ والهوى

صريعًا على فُرْشِ الرَّدى يتقلبُ

(3)

تأمَّلْ -هداك اللَّه- ما ثمَّ وانتبِهْ

فهذا شرابُ القومِ حقًّا يركَّبُ

وتركيبُه في هذه الدار إن يفُتْ

فليسَ له بعد المنية مطلبُ

(4)

فيا عجبًا من مُعرضٍ عن حياته

وعن حظِّه العالي ويلهو ويلعبُ

(5)

ولو علم المحرومُ أيَّ بضاعةٍ

أضاعَ لأمسى قلبُه يتلهَّبُ

فإنْ كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإنْ كان يدري فالمصيبةُ أصعبُ

بلى سوف يدري حين ينكشفُ الغطا

ويصبحُ مسلوبًا ينوحُ ويندُبُ

(6)

ويعجَبُ ممَّن باعَ شيئًا بدون ما

يُساوي بلا علمٍ وأمرُك أعجَبُ

(7)

(1)

"ب، ك، ط": "يمزج".

(2)

تفسير الطبري (30/ 109).

(3)

"ب، ك": "أيا لاهيًا"."ط": "يا لاهيا".والظاهر أنَّ هذه الأبيات للمؤلف رحمه الله. وقد زيدت في الأصل في حاشيته.

(4)

"ط": "إن تفت"، خطأ.

(5)

"ب": "عن جنابه"، تصحيف.

(6)

"ط": "مصلوبًا"، تحريف.

(7)

"ب": "وتعجب".

ص: 423

لأنَّك قد بعتَ الحياة وطيبَها

بلذَّة حُلْمٍ عن قليلٍ ستذهَبُ

(1)

فهلَّا عكستَ الأمر إن كنتَ حازمًا

ولكن أضعتَ الحزمَ والحكمُ يغلِبُ

تصدُّ وتنأى عن حبيبك دائمًا

فأينَ عن الأحباب ويحَكَ تذهبُ

ستعلَمُ يومَ الحشرِ أيَّ تجارةٍ

أضعتَ إذا تلك الموازينُ تُنصَبُ

قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة، ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون.

قالوا: وليسَ في الآيةِ ما يدلُّ على اختصاص الكتاب بالقرآن، والمصطفين بهذه الأمة، بل الكتاب اسم جنس للكتب

(2)

التي أنزلها على رسُله، فإنَّه أورثها المصطفَين من عباده من كل أمة، وهم

(3)

الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم. هم الذين أُورثوه أوَّلًا، ثمَّ أُورثَه المصطفون

(4)

من أممهم بعدهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)} [غافر/ 53 - 54]، فأخبرَ أنَّه إنَّما يكون هدًى وذكرى لمن له لبٌّ عقَلَ به الكتابَ وعمل بما فيه، والعامل بما فيه هو الذي أورثه اللَّه علمَه.

وتأمَّل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ

(1)

"ك، ط": "سيذهب".

(2)

"ب": "لكتبه".

(3)

"هم": ساقط من "ط".

(4)

"ط": "أورثوه المصطفين".

ص: 424

مُرِيبٍ (14)} [الشورى/ 14] كيف حذف الفاعلَ هنا، وبنى الفعلَ للمفعول، لما كان في معرض الذمِّ لهم ونفيِ العلمِ عنهم. ولمَّا كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومننه

(1)

عليهم قال: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)} [غافر/ 53]. ونظيره هذه

(2)

الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32].

ومن ذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف/ 169] فإنَّه

(3)

لمَّا كان الكلام في سياق ذمّهم على اتباعهم

(4)

شهواتهم، وإيثارهم العرضَ الفاني على حظّهم من الآخرة، وتماديهم في ذلك؛ لم ينسب التوريثَ إليه، بل نسبه إلى المحلّ، فقال:"ورثوا الكتاب"، ولم يقل:"أورثناهم الكتاب".

وقد ذكرتُ نظير هذا في قوله: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة/ 121] أنَّه للمدح، و {أُوتُوا الْكِتَابَ}

(5)

إمَّا في سياق الذمِّ، وإمَّا منقسم، في كتاب "التحفة المكية"

(6)

.

(1)

"ط": "منته".

(2)

"ط": "ونظير هذه".

(3)

"ب، ك، ط": "وأنَّه".

(4)

"ب": "اتباع".

(5)

: "أورثوا"، "ك، ط": "أورثوا الكتاب"، تحريف.

(6)

سمَّاه في بدائع الفوائد (1597)"التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية". وقد تكلَّم المؤلف في هذا الموضوع في بدائع الفوائد (725) أيضًا، ولكنَّه أحال هناك في بيان الفرق بين {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} على كتاب "الفوائد المكية".

ص: 425

والمقصودُ أنَّ الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أوَّلًا وآخرًا.

قالوا: وأمَّا

(1)

قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} لا يرجع إلى المصطفين، بل إمَّا أن يكون الكلام قد تمَّ عند قوله:{مِنْ عِبَادِنَا} ، ثمَّ استأنف جملةً أخرى، ذكر

(2)

فيها أقسام العباد، وأنَّ

(3)

منهم ظالم، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق. ويكون الكلام جملتين مستقلتين، بيَّن في إحداهما أنَّه أورثَ كتابَه مَن اصطفاه من عباده، وبيَّن في الأُخرى أنَّ من عباده ظالم، ومقتصد، وسابق

(4)

. وإمَّا أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب، وأنَّ منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قَبِلَه مقتصدًا فيه، ومنهم من قَبِله سابقًا بالخيرات بإذن ربِّه

(5)

.

قالوا: والذي يدل على هذا الوجه أنَّه سبحانه ذكر إرساله في كلِّ أمة نذيرًا ممَّن تقدم هذه الأمة، فقال:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24]. ثمَّ ذكر أنَّ رسلهم جاءَتهم بالبينات وبالزبُر وبالكتاب المنير. فالبينات

(6)

: الآيات الدَّالّة على صدقهم وصحَّة رسالتهم

(7)

. والزبر: الكتب

(8)

، واحدها زبور بمعنى مزبور أي

(1)

"أمَّا" ساقط من "ط".

(2)

"ب، ك، ط": "وذكر".

(3)

كذا في الأصل وغيره على أنّ اسم أن محذوف، وفي "ط":"أنَّهم".

(4)

كذا في الأصل وغيره، وفي "ط":"ظالمًا ومقتصدًا وسابقًا".

(5)

"ب، ك، ط": "بإذن اللَّه".

(6)

"فالبينات" ساقط من "ط"، وفي "ك":"والبينات".

(7)

"ط": "رسالاتهم".

(8)

"ط": "الكتاب".

ص: 426

مكتوب. و"الكتاب المنير"

(1)

. من باب عطفِ الخاصِّ على العام، لتميزه

(2)

عن المسمَّى العام بفضيلة وشرف

(3)

امتاز بها واختص بها

(4)

عن غيره. وهو كعطف جبريل وميكائل على الملائكة

(5)

، وكعطف أولي العزم

(6)

على النبيين من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب/ 7]. والكتاب المنير هاهنا هو

(7)

التوراة والإنجيل.

ثمَّ ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله، فقال:{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)} [فاطر/ 26]. ثمَّ ذكر التالين لكتابه، وهم المتبعون له العاملون بشرائعه، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} إلى قوله: {غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر/ 29 - 30]

(8)

.

ثمَّ ذكر الكتاب الذي خصَّ به خاتمَ أنبيائه ورسله محمدًا صلى الله عليه وسلم فقال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)} [فاطر/ 31]. ثمَّ ذكر سبحانه من أورثهم سبحانه الكتابَ بعد أولئك، وأنَّه اصطفاهم لتوريث كتابه، إذ ردَّه المكذبون ولم يقبلوا

(1)

"ف، ك": "المبين"، تحريف.

(2)

"ف، ك، ب": "ليميزه"، وقد ضبط في الأصل بالتاء.

(3)

"ط": "بفضله وشرفه".

(4)

"بها" كذا هنا ومن قبل في الأصل وغيره، والضمير عائد إلى "الفضيلة".

(5)

"ميكائل": كذا في الأصل و"ف". وهي قراءة نافع المدني، وفي "ب":"ميكائيل". وفي "ك": "ميكال".

(6)

في الأصل: "أولو العزم" بالرفع، سهو.

(7)

"هو" ساقط من "ط".

(8)

كذا في الأصل وغيره. وفي "ط" أكملت الآية.

ص: 427

توريثه.

قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الاصطفاء افتعال من الصفوة، وهي الخيار، وهي إنَّما تكون في السعداء، فهذا بعينه حجة لنا في أنَّ الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه اللَّه من عباده، وقد تقدم

(1)

تقريره.

قالوا: وأمَّا الآثارُ التي رويتموها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد أو منقطعة

(2)

لا تثبت، كيف وهي معارَضةٌ بآثار مثلها أو أقوى منها.

قال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا الحسن بن عبيد اللَّه بن الحسن

(3)

، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن المعلَّى الأدمي، حدثنا حفص بن عمار، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد اللَّه ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] قال: "الكافر"

(4)

.

قالوا: وأمَّا النصوص الدالّة على أنَّ أهل التوحيد يدخلون الجنَّة فصحيحة لا ننازعكم فيها، غير أنَّها مطلقة، ولها شروط وموانع. كما أنَّ النصوص الدَّالّة على عذاب أهل الكبائر

(5)

صحيحة متواترة، ولكن

(6)

لها شروط

(7)

وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها، فكذلك نصوص

(1)

"ب": "سبق".

(2)

"ب، ك، ط": "ومنقطعة".

(3)

"ط": "الحسن بن عبد اللَّه".

(4)

سنده ضعيف فيه حفص بن عمار المعلم. قال الذهبي: "مجهول". وله أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل (2/ 391 - 392). (ز).

(5)

"ف": "أهل النار" تحريف.

(6)

"لكن" ساقط من "ط".

(7)

"ب": "شروطًا".

ص: 428

الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها.

قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ "ظلم النفس" إنَّما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح، فقد ذكرنا من

(1)

القرآن ما يدل على أنَّ ظلم النفس يكون بالكفر والشرك، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه

(2)

: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة/ 54] وقوله: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ/ 19]، ونظائره كثيرة.

قالت الطائفة الأولى: لو تدبرتم القرآن حقَّ تدبره، وأعطيتم الآيات حقَّها من الفهم، وراعيتم وجوهَ الدلالة

(3)

وسياق الكلام، لعلمتم أنَّ الصوابَ معنا، وأنَّ هذه الأقسام الثلاثة هي الأقسام التي خلقت للجنَّة، وهم درجات عند اللَّه

(4)

؛ وأنّ هذا التقسيم الذي دلّت عليه أخصُّ من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطفّفين. فإنّ ذلك تقسيمٌ للناس إلى شقيّ وسعيد، وتقسيمٌ للسعداء

(5)

إلى أبرار ومقرّبين، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه. وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأُمّة إلى محسن ومسيء، فالمسيء

(6)

هو الظالم لنفسه، والمحسن نوعان: مقتصد، وسابق بالخيرات. فإنّ الوجود شامل لهذا

(1)

"ط": "ذكر في". "ك": "ذكرنا في القرآن ما دلَّ".

(2)

"لقومه" ساقط من "ك، ط".

(3)

"ط": "وجوهه الدالة".

(4)

"وأنَّ هذه الأقسام. . . " إلى هنا ساقط من "ط".

(5)

"ك، ط": "السعداء".

(6)

قراءة "ف": "والمسيء".

ص: 429

القسم، بل هو أغلب أقسام الأمة، فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه؟ ثمّ لمّا استوفى أقسام الأُمة ذكر الخارجين عنهم، وهم الذين كفروا، فعمّت الآية أقسامَ الخلق كلِّهم. وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملَتْ ذِكرَ القسمِ الأغلب الأكثر، وكرّرت ذكر حكم الكافر أوَّلًا وآخرًا. ولا ريبَ أنَّ ما ذكرناه أولى لبيان حكم

(1)

هذا القسم، وعموم الفائدة.

أيضًا فإنَّ قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] صريح في أنَّ الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده. وقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] إمَّا أن يرجع إلى الذين اصطفاهم، وإمَّا أن يرجع إلى العباد. ورجوعُه إلى "الذين اصطفينا"

(2)

أولى

(3)

لوجهين:

أحدهما: أنَّ قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ}

(4)

[فاطر/ 32] إنَّما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد، فكذلك قوله:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32]. ولا يقال: بل الضمائر كلّها تعود على العباد، لأنَّ سياق الآية والإتيان بالفاءِ والتقسيم المذكور كلَّه يدلّ على أنَّ المراد بيانُ أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العباد، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يُزيل الوهمَ، ولا يلتبس به المراد بغيره، وكان وجهُ الكلام

(5)

على

(1)

"حكم" ساقط من "ط".

(2)

"ك": "اصطفيناهم". "اصطفاهم".

(3)

"أولى" ساقط من "ط".

(4)

"ف": "سابق بالخيرات"، خلاف الأصل.

(5)

"ك": "وجه الكلام عندهم".

ص: 430

هذا أن يقال: "ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات ثمَّ أورثنا الكتابَ الذين اصطفينا منهم"، وهذا هو

(1)

معنى الكلام عندكم، ولا ريب أنَّ سياق الآية لا يدلّ عليه. إنَّما يدلّ على أنَّه أورث الكتابَ طائفةً من عباده، وأنَّ تلك الطائفة ثلاثةُ أقسام. هذا وجه الكلام الذي يدلُّ عليه ظاهره.

الثاني: أنَّك إذا قلت: "أعطيتُ مالي للبالغين

(2)

من أولادي، فمنهم تاجرٌ

(3)

، ومنهم خازن، ومنهم مبذِّر مسرفٌ

(4)

". هل يفهم من هذا أحد قطّ

(5)

هذا التقسيم لجملة أولاده؟ بل لا يفهم منه إلا أنَّ أولاده كانوا في أخذهم المال أقسامًا ثلاثةً، ولهذا أتى فيها بالفاءِ الدالّة على تفصيل ما أجمله أوَّلًا، كما إذا قلت:"خذ هذا المال فأعطِ فلانًا كذا، وأعطِ فلانًا كذا"، ونظائره متعددة. ولا وجه للإتيان بالفاءِ ههنا إلا تفصيل المذكور أولًا، لا تفصيل المسكوت عنه. والآيةُ قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب، فالتفصيل للمذكور

(6)

ليس إلا. فتأمّله فإنَّه واضح.

قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ اللَّه لا يصطفي من عباده ظالمًا لنفسه، لأنَّ الاصطفاءَ هو الاختيار من الشيء صفوتَه وخيارَه إلى آخر ما ذكرتم،

(1)

"هو" ساقط من "ب، ك، ط".

(2)

كذا في "الأصل ف، ب". وفي "ك، ط": "البالغين".

(3)

"ب": "فاجر"، تحريف.

(4)

"ك، ط": "مبذِّر ومسرف".

(5)

"قط" ظرف مختص بالزمان الماضي، وقد أوقعه المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه موقع "أبدًا". وانظر ما يأتي في ص (519، 576).

(6)

"ف": "بالتفصيل المذكور". "ك": "فالتفصيل المذكور". وكلاهما خطأ.

ص: 431

فجوابُه أنّ كون العبد مصطفًى للَّه

(1)

وليًّا له محبوبًا له

(2)

ونحو ذلك من الأسماء الدالّة على شرف منزلة العبد وتقريب اللَّه له لا ينافي ظلمَ العبدِ نفسه أحيانًا بالذنوب والمعاصي. بل أبلغُ من ذلك أن صدّيقيّته لا تُنافي ظلمه لنفسه، ولهذا قال صدِّيق الأمة وخيارها للنَّبي صلى الله عليه وسلم: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال:"قل: اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فأغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم"

(3)

.

وقد قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران/ 133 - 135]. فأخبر

(4)

سبحانه عن صفات المتّقين، وأنَّهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة، لكن لا يصرّون على ذلك.

وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر/ 33 - 35]. فهؤلاء الصدِّيقون المتّقون قد أخبر سبحانه أنَّ لهم أعمالًا

(1)

"ف": "مصطفى ربّه".

(2)

"ط": "مصطفى ووليًّا للَّه ومحبوبًا للَّه".

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان (834) وغيره، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2705).

(4)

"ط": "وأخبر".

ص: 432

سيئة يكفِّرها، ولا ريبَ أنَّها للنفس

(1)

.

وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص/ 16]. وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. وقال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء/ 87]. وقال تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)} [النمل/ 10 - 11].

وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصدِّيقيّة والولاية، ولا يُخرِج العبد عن كونه من المتّقين، بل يجتمع فيه الأمران: يكون وليًّا للَّه صدِّيقًا متّقيًا، وهو مسيء ظالم لنفسه = عُلِمَ أنَّ ظلمَه لنفسه لا يُخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم اللَّه من عباده وأورثَهم كتابَه، إذ هو مصطفًى من جهة كونه من ورثة الكتاب علمًا وعملًا، ظالمٌ لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما

(2)

أُمر به وتعدِّيه بعضَ ما نهي عنه. كما يكون الرجل وليًّا للَّه محبوبًا له من جهة، ومبغوضًا له من جهة أخرى. وهذا عبد اللَّه حمار

(3)

كان يُكثر شربَ الخمر، واللَّه يبغضه من هذه الجهة؛ ويحبُّ اللَّه ورسولَه، واللَّهُ يحبُّه ويواليه من هذه الجهة. ولهذا نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم من لعنته

(4)

، وقال:"إنَّه يحبُّ اللَّه ورسوله"

(5)

.

(1)

"ب": "ظلم النفس".

(2)

"ط": "ممّا".

(3)

"حمار" لقب عبد اللَّه كما في صحيح البخاري. وكان يضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وانظر: الإصابة (2/ 117).

(4)

"ف": "لعنه"، خلاف الأصل.

(5)

من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب =

ص: 433

ونكتةُ المسألة أنَّ الاصطفاء والولاية والصديقيّة وكون الرجل من الأبرار والمتّقين

(1)

ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزّي

(2)

والانقسام والكمال والنقصان، كما هو ثابتٌ باتفاق السلف

(3)

في أصل الإيمان. وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفًى من وجه، ظالمًا لنفسه من وجه آخر.

وظلم النفس نوعان: نوعٌ لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية

(4)

والاصطفاء، وهو ظلمها بالشرك والكفرِ. ونوع يبقى معه حصَّةٌ

(5)

من الإيمان والاصطفاء والولاية، وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدرِ والوصف.

فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل إشكالها بحمد اللَّه.

قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [فاطر/ 33] مرفوع، لأنَّه بدل من قوله:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/ 32]، وهو مختصٌّ بالسابقين، وذكرُ

(6)

حليتِهم فيها من أساور من ذهبٍ يدلُّ

= الحدود (6780).

(1)

"ك، ط": "ومن المتقين".

(2)

كذا وردَ في الأصلِ وغيره، وهو مصدر تجزّى بتسهيل الهمزة.

(3)

"ك، ط": "المسلمين".

(4)

زاد بعدها في "ب، ك، ط": "والصديقية".

(5)

كذا في الأصل و"ف". والحصّة: النصبب. وفي "ب، ك، ط": "حظّه". ولا يستبعد كتابة الظاء ضادًا، ولكنِّي رأيت ناسخ الأصل تعود العكس، فهو يكتب الضاد ظاءً، فكتب "الظن" مكان "الضن"(103/ أ)، و"الحظ" مكان. "الحض"(106/ ب).

(6)

"ذكر" ساقط من "ب".

ص: 434

على ذلك إلى آخره، فجوابه من وجهين:

أحدهما: أنَّ هذا بعينه وارد عليكم، فإنَّ المقتصد من أهل الجنَّات، ومعلوم أنَّ جنَّات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جنَّاته

(1)

. فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإنَّ التفاوت حاصل بين جنَّات الأصناف الثلاثة، ويختصُّ كلُّ صنفٍ بما يليق بهم

(2)

ويقتضيه مقامُهم وعلمهم.

الجواب الثاني: أنَّه سبحانه ذكر جزاءَ السابقين بالخيرات هنا مشوِّقًا لعباده إليه منبِّهًا لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاءِ الظالمين لأنفسهم والمقتصدين، ليحذر الظالمون ويجدَّ

(3)

المقتصدون.

وذكر في سورة الإنسان جزاءَ الأبرار منبِّهًا به

(4)

على ما هو أعلى وأجل منه، وهو جزاءُ المقرَّبين السابقين، ليدلّ على أنَّ هذا

(5)

إذا كان جزاء الأبرار

(6)

المقتصدين فما الظنّ بجزاءِ المقربين السابقين؟ فقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} إلى قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} إلى قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان/ 5 - 21].

(1)

"ب": "جنات الظالم"، خطأ.

(2)

"ف": "به" سهو.

(3)

"ب": "يحذر"، تحريف.

(4)

"به" ساقط من "ط".

(5)

"ب": "أنَّه".

(6)

"ط": "للأبرار".

ص: 435

فذكر هنا الأساور من الفضّة والأكواب من الفضّة في جزاءِ الأبرار، وذكر في سورة الملائكة

(1)

الأساور من الذهبِ في جزاءِ السابقين بالخيرات، فعُلِمَ جزاءُ المقتصدين من سورة الإنسان، وعلِمَ جزاءُ السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاءَ المقرَّبين على أتمّ الوجوه. واللَّه أعلم بأسرار كلامه وحكمه.

قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إنَّ الضمير يختصّ به أقربُ مذكور إليه.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الظالم لنفسه إنَّما هو الكافر، فقد تقدَّم جوابه، وذكرنا

(2)

ما يُبطله.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ هذه الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقرّبون؛ فلا ريب أنَّ هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر، وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد، فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة.

قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الآثار الدالّة على أنَّ الأصناف الثلاثة هم السعداءُ أهل الجنَّة ضعيفة لا تقوم بها حجّة، فجوابه أنَّها قد بلغت في الكثرة إلى حدّ يشدُّ بعضُها بعضًا ويشهد بعضها لبعض، ونحن نسوق منها آثارًا غيرَ ما ذكرناه

(3)

تعلم

(4)

به كثرتَها وتعدّد طرقها.

(1)

يعني سورة فاطر.

(2)

"ط": "وذكر".

(3)

"ب": "ذكرنا".

(4)

"ك، ط": "يعلم".

ص: 436

فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت أنَّ رجلًا دخل المسجد، فقال: اللَّهم ارحمْ غربتي، وآنسْ وحشتي، وسُقْ لي جليسًا صالحًا، فقال أبو الدرداء: إنْ كنت صادقًا أنا

(1)

أسعد بذلك منك، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] قال: "أمَّا السابق بالخيرات فيدخل

(2)

الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسَب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالم لنفسه فيحاسب

(3)

في المقام حتى يدخله الهمّ والحزن، ثمَّ يدخل الجنَّة". ثمَّ قرأ هذه الآية:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}

(4)

[فاطر/ 34].

وقد ذكرنا فيما تقدّم حديث ابن أبي ليلى

(5)

، عن أخيه عيسى، عن أبيه، عن أسامة بن زيد في قوله:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر/ 32] قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كلُّهم من هذه الأمة"

(6)

.

وروى ابن مردويه أيضًا من حديث الفضل بن عميرة القيسي

(7)

، عن ميمون بن سِياه، عن أبي عثمان النهدي قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "سابقنا سابقٌ،

(1)

"ط": "لأنا". "ب": "لئن. . . لأنا".

(2)

"ك، ط": "فيدخله".

(3)

"ب، ط": "فيحبَس".

(4)

تفسير الطبري (22/ 137).

(5)

"ط": "حديث أبي ليلى".

(6)

تقدم في ص (410).

(7)

"ب، ك، ط": "عمرة العبسي"، تحريف.

ص: 437

ومقتصدنا ناج، وظالمُنا مغفور له" وقرأ عمر:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}

(1)

[فاطر/ 32].

وروى أيضًا من حديث أبي داود عن شعبة، عن الوليد بن العيزار، قال: سمعتُ رجلًا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] قال: "كلُّهم في الجنَّة". أو قال؛ "كلُّهمْ بمنزلةٍ واحدة" قال شعبة أحدهما. ورواه داود بن إبراهيم عن شعبة به، وقال

(2)

: "دخلوا الجنَّة كلّهم". أو "كلّهم

(3)

بمنزلة واحدة". فهذا حديث صحيح إلى شعبة، وإذا كان شعبة في حديث لم يُطرَح، بل شُدَّ يديك به. ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار، فذكره بمثله

(4)

. وروى محمد بن سعد

(5)

، عن أبيه، عن عمِّه، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ

(1)

أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 443)، والبيهقي في البعث (65)، والواحدي في الوسيط (3/ 505). قال العقيلي:"ولا يتابع على حديثه -يعني الفضل بن عميرة"، وقال أيضًا:"وهذا يروى من غير هذا اللفظ بإسناد أصلح من هذا". وروي موقوفًا على عمر عند البيهقي في البعث (66) وقال: غير قوي. (ز).

(2)

"ك، ط": "وقالوا".

(3)

"أو كلّهم" ساقط من "ك، ط".

(4)

أخرجه الطيالسي (2236) والطبري (22/ 137) والترمذي (3225) وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه". والبيهقي في البعث والنشور (61) وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 563): "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده من لم يسمّ"(ز).

(5)

"ف": "ورواه محمد بن سعيد" خلاف الأصل.

ص: 438

عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] الآية قال: "جعل اللَّه أهل الإيمان على ثلاث منازل، كقوله:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة/ 41]{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة/ 27]{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة/ 10 - 11]

(1)

، فهم على هذا المثال"

(2)

.

قلتُ: يريد ابن عباس أنَّ اللَّه قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل، كما قسم الخلقَ في الواقعة إلى ثلاث منازل، فإنَّ أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفّار المنكرون للبعث، فكيف تكون هذه منزلةً من منازل أهل الإيمان؟ ويجوزُ أن يريد أنَّ الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال، ولكنَّ إيمانَهم يجعلهم آخرًا من أهل اليمين.

وروي من حديث معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة

(3)

، عن ابن عباس في هذه الآية قال:"هم أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ورَّثهم اللَّه سبحانه كلَّ كتاب أنزله، فظالمهم يُغفَرُ له، ومقتصدهم يُحاسَب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنَّة بغير حساب"

(4)

.

وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا الحسن بن عبد الرحمن

(1)

في "ب" وردت مكانها هذه الآيات: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة/ 8 - 11].

(2)

تفسير الطبري (22/ 135).

(3)

"ب، ك، ط": "أبي طالب"، تحريف. وقال ناشر "ط" أن في أصله بياضًا بعد "أبي طالب". ولا بياض في أصولنا.

(4)

تفسير الطبري (22/ 134).

ص: 439

ابن أبي ليلى، حدَّثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى

(1)

، حدثنا أبي، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب -أو عن رجل عن البراءِ

(2)

- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32]. قال: "كُلُّهُمْ نَاجٍ، وهي هذه الأُمَّة".

ورواه الفريابي، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى

(3)

، عن الحكم، عن رجل، حدَّثه عن البراء قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] قال: "كلٌّ ناجٍ"

(4)

.

وقال آدم بن أبي إياس: حدَّثنا أبو فضالة، عن الأزهر بن عبد اللَّه الحَرَازي

(5)

، حدثنا من سمع عثمان بن عفَّان يقول:"ألا إنَّ سابقنا أهل جهادنا، ألا وإنَّ مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإنَّ ظالمنا أهل بدونا"

(6)

.

(1)

"ف": "محمد بن إسرائيل"، تحريف.

(2)

"ك، ط": "البراء بن عازب".

(3)

"ط": "عن أبي ليلى" خطأ.

(4)

أخرجهما الفريابي وابن مردويه كما في الدر المنثور (5/ 474). وسنده ضعيف. فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. وقد روي موقوفًا في البعث (67) للبيهقي وسنده ضعيف (ز).

(5)

"ف": "الخرازي"، وفي "ب، ك": "الأزهري عبد اللَّه الخراز" ومثله في "ط"، إلّا أن فيها "الخزاز" بزايين، والصواب ما أثبتنا من الأصل. وانظر: تهذيب التهذيب (1/ 204).

(6)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2308)، والبيهقي في البعث (66)، وسنده ضعيف لإبهام الرجل الذي لم يسمّ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 473) لابن أبي شيبة. وابن المنذر وابن مردويه.

ص: 440