المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قاعدة شريفة [الطريق إلى الله واحد] - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى الله واحد]

‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

الناس قسمان: عِلْية، وسِفْلة، فالعلية من عرف الطريق إلى ربِّه، وسلكها قاصدًا للوصول

(1)

إليه، وهذا هو الكريم على ربِّه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربِّه، ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال اللَّه تعالى فيه:{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج/ 18].

والطريق إلى اللَّه في الحقيقة واحد لا تعدُّدَ فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلًا لمن سلكه إليه

(2)

، قال اللَّه تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام/ 153]. فوحَّد سبيلَه لأنَّه في نفسه واحد لا تعدُّدَ فيه، وجمع السُّبُل المخالفة لأنَّها كثيرة متعدِّدة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه

(3)

خطَّ خطًّا، ثُمَّ قال:"هذا سبيل اللَّه". ثُمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثُمَّ قال:"هذه سُبُل، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه"، ثُمَّ قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام/ 153]

(4)

.

ومن هذا قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى

(1)

"ط": "الوصول".

(2)

"إليه" ساقط من "ط".

(3)

"ب، ك، ط": "ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خط".

(4)

أخرجه أحمد (4142)، والنسائي في الكبرى (1174)، وابن حبان (6، 7)، والحاكم (2/ 239) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. وأصله عند البخاري (6054، 6055) عن ابن مسعود وأنس دون ذكر الآية. (ز).

ص: 383

الظُّلُمَاتِ} [البقرة/ 257]. فوحَّد النورَ الذي هو سبيلُه، وجمع الظلمات التي هي سُبُل الشيطان

(1)

.

ومن فهم هذا فَهِمَ السرَّ في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام/ 1]، مع أنَّ فيه سرًّا ألطفَ من هذا، يعرفه من عرف

(2)

منبع النور كلّه

(3)

، ومن أين فاضَ، وعمَّاذا حصل، وأنَّ أصلَه كله واحد. وأمَّا الظلمات فهي متعددة بتعدُّدِ الحُجُب المقتضية لها، وهي كثيرةٌ جدًّا، لكلِّ حجاب ظلمة خاصَّة. ولا ترجع الظلماتُ إلى النورِ الهادي جل جلاله أصلًا، لا وصفًا ولا ذاتًا، ولا اسمًا ولا فعلًا، وإنَّما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعلُ الظلمات، ومفعولاتُه

(4)

متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنَّه يرجع إلى اسمه وصفته جل جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيءٌ، فهو

(5)

نور السماواتِ والأرضِ.

قال ابن مسعود: "ليس عندَ ربِّكم ليلٌ ولا نهار، نور السماوات والأرضِ من نور وجهه". ذكره الدارمي عنه

(6)

. وفي صحيح مسلم

(7)

عن أبي ذرٍّ، قلتُ: يا رسول اللَّه هل رأيت ربَّك؟ قال: "نورٌ، أنَّى أراهُ! ".

(1)

وانظر: بدائع الفوائد (1/ 208).

(2)

"ك، ط": "يعرف".

(3)

"كله": ساقط من "ط".

(4)

"ط": "مفعولاتها".

(5)

"ك، ط": "وهو".

(6)

تقدم في ص (262).

(7)

في كتاب الإيمان (178).

ص: 384

والمقصودُ أنَّ الطريقَ إلى اللَّه واحد، فإنَّه هو

(1)

الحقُّ المبين، والحق واحد، مرجعه إلى واحد، وأمَّا الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل

(2)

، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل. فالباطل متعدِّد، وطرقه متعددة.

وأمَّا ما يقع في كلام بعض العلماءِ أنَّ الطرق

(3)

إلى اللَّهِ متعددة متنوعة، جعلها اللَّه كذلك لتنوع الاستعدادت واختلافها، رحمةً منه وفضلًا فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق.

وكشف ذلك وإيضاحه أنَّ الطريقَ

(4)

واحدة جامعة لكلِّ ما يرضي اللَّه. وما يرضيه سبحانه متعدِّدٌ متنوعٌ، فجميعُ ما يُرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، فكلُّها

(5)

طرُق مرضاته. فهذه هي

(6)

التي جعلها اللَّه سبحانه برحمته

(7)

وحكمته كثيرةً متنوعةً جدًّا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم. ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوَّة الاستعدادت وضعفها لم يسلكها إلا واحدٌ بعد واحدٍ. ولكن لمَّا اختلفت الاستعدادت تنوعت الطرق ليسلك كلّ امرئٍ إلى ربِّه طريقًا يقتضيها استعدادُه وقوتُه وقبولُه.

(1)

"هو" ساقط من "ك، ب، ط".

(2)

"باطل" ساقط من "ف".

(3)

"ب، ك، ط": "الطريق".

(4)

"ب، ك، ط": "الطريق هي".

(5)

"ب، ك، ط": "وكلها".

(6)

"هي" ساقط من "ط".

(7)

"ط": "لرحمته".

ص: 385

ومن هنا يُعلَم تنوُّعُ الشرائع واختلافُها مع رجوعها كلِّها إلى دينٍ واحد، بل تنوعُ الشريعة الواحدة

(1)

، مع وحدة المعبود ودينه. ومنه الحديث المشهور:"الأنبياءُ أولادُ عَلَّات، دينُهم واحد"

(2)

. فأولادُ العلَّات أن يكون الأبُ واحدًا والأُمَّهاتُ متعدِّدة، فشبَّه دينَ الأنبياءِ بالأب الواحد، وشرائعهم بالأُمَّهاتِ المتعددة. فإنَّها وإن تعددت فمرجعها كلها

(3)

إلى أب واحد.

وإذا عُلِمَ هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي تعبَّد بسلوكه

(4)

إلى اللَّه طريق العلم والتعليم، وقد وفَّرَ عليه زمانَه مبتغيًا به وجه اللَّه. فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتَّى يصل من تلك

(5)

الطريق إلى اللَّهِ، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء/ 100]. وقد حكي عن جماعة كثيرة ممَّن أدركه الأجل، وهو حريص طالب للقرآن، أنَّه رُئي بعد موته، وأخبرَ أنَّه في تكميل مطلوبه وأنَّه يتعلَّم في البرزخ؛ فإنَّ العبد يموت على ما عاش عليه.

ومن الناس من يكون سيّد عمله الذكر، وقد جعله زادَه لمعاده،

(1)

"بل تنوع الشريعة الواحدة" ساقط من "ط". أمَّا في "ب" فقد سقط منها من "مع رجوعها" إلى "الواحدة".

(2)

زاد في "ب": "وأمهاتهم شتَّى". والحديث أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3442)، ومسلم في كتاب الفضائل (2365) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

"ك، ط": "فمرجعها إلى أب واحد كلها".

(4)

"ط": "بعد سلوكه".

(5)

"ب": "ذلك".

ص: 386

ورأسَ ماله لمآله، فمتى فتَر عنه أو قصّر فيه

(1)

رأى أنَّه قد غُبِن وخَسِر.

ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصّر في وِرْده

(2)

منها، أو مضى عليه وقت، وهو غير مشغولٍ بها أو مستعدٍّ لها، أظلم عليه وقتُه، وضاق صدُره.

ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدّي، كقضاءِ الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات

(3)

، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقًا إلى ربّه.

ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، فهي

(4)

الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.

ومنهم من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر عليه قلبُه، وساءَت حاله

(5)

.

ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فُتِح

(6)

له فيه، ونفذ منه إلى ربّه.

ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحجّ والاعتمار.

(1)

"فيه" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "عنه".

(2)

"ف": "ورد منها"، خلافًا للأصل.

(3)

"ف": "اللهفان" خلاف الأصل.

(4)

"ب، ك، ط": "وهي".

(5)

العبارة "ومن الناس من يكون طريقه الصوم. . ساءت حاله" مقدمة على العبارة السابقة المتعلقة بالقرآن في "ك، ط".

(6)

"ك، ط": "فتح اللَّه".

ص: 387

ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمّة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

ومنهم الجامع الفَذّ

(1)

، السالك إلى اللَّه في كلِّ واد، الواصل إليه من كلّ طريق. فهو قد جعل

(2)

وظائفَ عبوديته قِبلةَ قلبه ونصبَ عينه، يؤمّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كلّ فريق بسهم. فأين كانت العبوديةُ وجدتَه هناك: إن كان علمٌ وجدتَه مع أهله، أو جهاد وجدتَه في صفّ المجاهدين، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكر وجدتَه في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدتَه في زمرة المحسنين، أو مراقبة ومحبّة

(3)

وإنابة إلى اللَّه وجدتَه في زمرة المحبّين المنيبين. يدين بدين العبوديّة أنَّى استقلَّتْ ركائبُها، ويتوجّه إليها حيث استقرّت مضاربُها. لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفّذ أوامرَ ربّي حيث كانت، وأين

(4)

كانت، جالبةً ما جلبَتْ، مقتضيةً ما اقتضتْ، جمعتني أو فرّقتني؛ ليس لي مراد إلَّا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن والسرّ. قد سلّمتُ إليه المبيعَ منتظرًا منه تسليمَ الثمن. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة/ 111].

فهذا هو العبد السالك إلى ربّه، النافذ إليه حقيقة. ومعنى النفوذ إليه

(1)

"ط": "جامع المنفذ"، تحريف.

(2)

"ك، ط": "فهو جعل".

(3)

"ب، ك، ط": "محبة ومراقبة".

(4)

"ف": "وإن".

ص: 388

أن يتّصل به قلبه ويعلق

(1)

به تعلّقَ المحبِّ التامِّ المحبّة لمحبوبه

(2)

، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلَّا اللَّه

(3)

وأمره وطلب التقرّب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربُّه، فقرَّبه، واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه، وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه، وتولّى تربيته أحسن وأبلغ مما يربّي الوالدُ الشفيقُ ولدَه. فإنَّه سبحانه القيّوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميّته بمن أحبّه، وتولاه، وآثره على ما

(4)

سواه؛ ورضي به من الناس حبيبًا وربًّا، ووكيلًا وناصرًا ومعينًا وهاديًا؟ فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه به

(5)

وبرّه وصنعه له، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، لذاب قلبُه حبًّا

(6)

له وشوقًا إليه، وتقطّع

(7)

شكرًا له. ولكن حجب القلوبَ عن مشاهدة ذلك إخلادُها إلى عالم الشهوات والتعلّق بالأسباب، فصُدّت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العلم. وإلّا فأيّ قلب يذوق حلاوةَ معرفة اللَّه ومحبّته، ثمَّ يركن إلى غيره، ويسكن إلى سواه

(8)

؟ هذا ما لا يكون أبدًا.

ومن ذاق شيئًا من ذلك، وعرف طريقًا

(9)

موصلةً إلى اللَّه، ثمّ تركها،

(1)

"ب": "يتعلّق".

(2)

"ب، ك، ط": "بمحبوبه".

(3)

"ك، ط": "محبة اللَّه".

(4)

"ف": "عليها"، تحريف.

(5)

"به": ساقط من "ك، ط".

(6)

"ك، ط": "محبة".

(7)

"ف": "يقطع". وفي "ط": "يقع"، تحريف.

(8)

"ك، ط": "ما سواه".

(9)

"ف": "طريقة"، خلاف الأصل.

ص: 389

وأقبل على إراداته

(1)

وراحاته وشهواته ولذّاته، وقع في آبار

(2)

المعاطب، وأودع قلبَه سجونَ المضايق، وعُذِّب في حياته عذابًا لم يعذَّبْه

(3)

أحدٌ من العالمين. فحياته عجز وغمّ وحزن، وموته كمد

(4)

وحسرة، ومعاده أسف وندامة. قد فرط عليه أمرُه، وشُتِّت عليه شملُه، وأحضِرتْ

(5)

نفسُه الغمومَ والأحزان. فلا لذّة الجاهلين، ولا راحة العارفين

(6)

. يستغيث فلا يُغاث، ويشتكي فلا يُشكَى. قد

(7)

ترحّلت أفراحُه وسروره مدبرةً، وأقبلت آلامُه وأحزانُه وحسراته مقبلةً

(8)

. قد

(9)

أبدل بأُنسه وحشةً، وبعزّه ذلًّا، وبغناه فقرًا، وبجمعيته تشتّتًا

(10)

.

وأبعدوه فلم يظفَرْ بقربهِمُ

وأبدلوه مكانَ الأنسِ إيحاشا

(11)

ذلك بأنّه عرف طريقه إلى اللَّه، ثمّ تركها ناكبًا عنها مكِبًّا

(12)

على

(1)

"ك، ط": "إرادته".

(2)

"ب، ك، ط": "آثار"، تصحيف.

(3)

كذا في الأصل و"ف" وهو صواب محض، وفي غيرهما:"لم يعذب به".

(4)

"ك، ط": "كدر"، تحريف.

(5)

"ط": "أحضر".

(6)

"ف": "الغافلين"، خلاف الأصل.

(7)

"ط": "فقد".

(8)

"مقبلة" سقط من "ب، ك، ط". ولعله حذف لأجل الفعل "أقبلت".

(9)

"ط": "فقد".

(10)

"ط": " تشتيتًا".

(11)

أثبت البيت في "ط" منثورًا. وهو من ثلاثة أبيات ذكرها المؤلف في بدائع الفوائد (3/ 847). وهي من قصيدة في ديوان الحلَّاج (50) مع خلاف في الرواية. وفي "ب": "فكان الأنس"، تحريف.

(12)

"مكبًّا" ساقط من "ك". وفي "ب": "منكبًّا".

ص: 390

وجهه، فأبصر ثمّ عمي، وعرف ثمّ أنكر، وأقبل ثمّ أدبر، ودُعي فما أجاب، وفُتِح له فولّى ظهرَه الباب! قد ترك طريق مولاه، وأقبل بكلّيّته على هواه. فلو نال بعض حظوظه، وتلذّذ براحاته وشهواته

(1)

، فهو مقيّد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد، وميادين الأُنس، ورياض المحبّة، وموائد القرب.

قد انحطّ بسبب إعراضه عن إلهه الحقّ إلى أسفل سافلين، وحصل في عداد الهالكين. فنارُ الحجاب تطّلِع كلّ وقت على فؤاده، وإعراضُ الكون عنه -إذ أعرض ربّه

(2)

- حائلٌ بينه وبين مراده. قبرٌ

(3)

يمشي على وجه الأرض، فروحُه

(4)

في وحشةٍ في جسمه

(5)

، وقلبُه في مَلالٍ

(6)

من حياته. يتمنّى الموت ويشتهيه، ولو كان فيه ما فيه؛ حتّى إذا جاءَه الموت على تلك الحال -والعياذ باللَّه- فلا تسأل عمّا يحِلّ به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحقّ

(7)

، وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه، وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيّته.

(1)

في "ف" وغيرها: "شؤونه"، ولا معنى له في هذا السياق. ثُمَّ رسمه في الأصل:"شووته" بواوين ونقطتي التاء. وكلمة "الشؤون" في الإملاء القديم تكتب بواو واحدة. ولعلَّ الصواب ما أثبتنا استئناسًا باقتران الشهوات بالراحات قبل أسطر.

(2)

كذا في الأصل. وفي حاشية "ف": "عنه" مع علامة لم تتضح في الصورة. وفي غيرهما: "عن ربه".

(3)

تحرف "قبر" في "ك" إلى "فهو". وفي "ط": "فهو قبر".

(4)

"ك، ط": "وروحه".

(5)

"ط": "من جسمه". "ب": "وجسمه".

(6)

"ب، ك": "هلاك"، تحريف.

(7)

"الحق" ساقط من "ب".

ص: 391

فلو توهّم العبد المسكين هذه الحالَ، وصوّرَتْها له نفسُه، وأرته إيّاها على حقيقتها، لتقطع واللَّهِ قلبُه، ولم يلتذَّ بطعام ولا شراب؛ ولخرج إلى الصُّعُدات

(1)

يجأَر إلى اللَّه، ويستغيث به، ويستعتبه

(2)

في زمن الاستعتاب. هذا مع أنَّه إذا آثر شهواته ولذّاته الفانية التي هي كخيال طَيف أو مُزنة صَيف نُغِّصت عليه لذّتُها أحوجَ ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أقدرَ ما كان عليها!

وتلك سنّة اللَّه في خلقه، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس/ 24].

وهذا هو غِبّ إعراضه وإيثاره شهوتَه

(3)

على مرضاة ربّه، فيعوّق

(4)

القدرُ عليه أسبابَ مراده، فيخسر الأمرين جميعًا. فيكون معذَّبًا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له، وإن قُسِم له منه شيء فحشوه الخوفُ والحزن

(5)

والنكد والألم. فهمٌّ لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذلّ لا ينتهي، وطمع لا يُقلِع!

(1)

الصعدات: الطرق أو البراري والصحاري وبكليهما فسرت الكلمة في حديث أبي ذر: "ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه". أخرجه الترمذي في الزهد (2414). انظر: تحفة الأحوذي (6/ 496).

(2)

"ب": "يستعينه".

(3)

"ك، ط": "إيثار شهوته".

(4)

"ط": "يعوق".

(5)

"ك": "الحزن والخوف".

ص: 392

هذا في هذه الدار، وأمَّا في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك! قد حيل بينه وبين ما يشتهي، وفاته ما كان يتمنّاه من قُرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضِرَ جميعَ غمومه وأحزانه. وأمَّا في دار الجزاءِ فسجن أمثاله من المبعودين

(1)

المطرودين. فواغوثاه ثمّ واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين!

فمن أعرض عن اللَّه بالكلّية أعرض اللَّهُ عنه بالكلّية. ومن

(2)

أعرض اللَّه عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس في أحواله وأعماله، وقارنه

(3)

سوءُ الحال وفسادُه في دينه ومآله. فإنّ الربّ تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وانكسفت أنوارها، وظهر

(4)

عليها وحشة الإعراض، وصارت مأوى للشياطين، وهدفًا للشرور، ومصبًّا للبلاءِ.

فالمحروم كلّ المحروم من عرف طريقًا إليه، ثمَّ أعرضَ عنها؛ أو وجد بارقةً من حبه ثمَّ سُلِبَها، لم ينفذ إلى ربِّه منها، خصوصًا إذا مالَ بتلك الإرادة إلى شيءٍ من اللذات، أو انصرفَ

(5)

بجملته إلى تحصيل الأعراض

(6)

والشهوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى.

(1)

كذا وردت الكلمة في الأصل وغيره، وهي من الألفاظ الدارجة في زمن المصنف وبعده. والفصيح:"المبعدون".

(2)

"ب": "وإذا".

(3)

"ب": "قام به"، تحريف.

(4)

"ط": "ظهرت".

(5)

"ك، ط": "وانصرف".

(6)

"ف، ب، ط": "الأغراض".

ص: 393

قد مضت عليه برهةٌ من أوقاته، وكان همه اللَّه، وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كلِّ ما سواه، على ذلك يصبح ويمسي، ويظل ويضحي، وكان اللَّه في تلك الحال وليَّه

(1)

، لأنَّه وليُّ من تولاه، وحبيب من أحبَّه ووالاه. فأصبحَ في سجن الهوى ثاويًا، وفي أسر العدو مقيمًا، وفي بئر المعصية ساقطًا، وفي أودية الحيرة والتفرقة هائمًا، معرضًا عن المطالب العالية إلى الأغراض

(2)

الخسيسة الفانية. كان قلبه يجول

(3)

حول العرش، فأصبحَ محبوسًا في أسفلِ الحُشِّ.

فأصبحَ كالبازي المنتَّفِ ريشُه

يرى حسراتٍ كلَّما طارَ طائرُ

وقد كان دهرًا في الرياضِ منعَّمًا

على كلِّ ما يهوى من الصيدِ قادرُ

إلى أن أصابته من الدهرِ نَكبةٌ

إذا هو مقصوصُ الجناحين حاسِرُ

(4)

فيا من ذاقَ شيئًا من معرفة ربِّه ومحبته، ثُمَّ أعرضَ عنها، واستبدل بغيرها منها، يا عجبًا له بأي شيءٍ

(5)

تعوَّضَ! وكيف قرَّ قرارُه، فما طلبَ الرجوعَ إلى أحبّته

(6)

وما تعرَّض! وكيف اتخذَ سوى أحبّته

(7)

سكنًا،

(1)

"وكان اللَّه. . ." إلى هنا ساقط من "ب".

(2)

ضبط بالغين المعجمة في الأصل خلافًا لما سبق قبل أسطر. وفي "ك": "الأعراض".

(3)

"ط": "يحوم".

(4)

من أربعة أبيات وردت دون عزو في المدهش (458) مفتوحة القافية، والبيت الأوَّل مع آخر أوردهما الثعالبي في ثمار القلوب (455)، والتمثيل والمحاضرة (366).

(5)

"ب": "بأي عوض".

(6)

"ط": "أحنيته"، تصحيف، ويشبهه ما في "ك".

(7)

"ط": "أحنيته".

ص: 394

وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله موطنًا! أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار، ووافقه على مساكنة الأغيار!

فيا معرضًا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعًا سعادته العظمى بالعذاب الأليم. ويا مُسْخِطًا مَن حياتُه وراحتُه وفوزُه في رضاه، وطالبًا رضى مَن سعادتُه في إرضاءِ سواه. إنَّما هي لذَّةٌ فانية، وشهوة منقضية، تذهب لذَّاتها، وتبقى تبعاتها. فرحُ ساعةٍ لا شهر، وغمُّ سنة بل دهر. طعامٌ لذيذ مسموم، أوَّلهُ لذَّة وآخره هلاك. فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القزّ، يسدُّ على نفسه

(1)

المذاهب، بما نسجَ عليها من المعاطب. فيندم حين لا تنفع الندامة، ويستقيل حين لا تُقبَل الاستقالة.

فطوبى لمن أقبل على اللَّه بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإنَّ اللَّه يُقبِل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته. وإنَّ اللَّه سبحانه إذا أقبلَ على عبدٍ

(2)

استنارت جهاتُه، وأشرقت ساحتُها

(3)

، وتنورت ظلماتُها

(4)

، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجَّه إليه أهلُ الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنَّهم تبع لمولاهم. فإذا أحب عبدًا أحبوه، وإذا والى وليًّا والَوه. "إذا أحبَّ اللَّه العبد نادى: يا جبريلُ إنِّي أحبُّ فلانًا فأحِبَّه، فينادي جبريل في السماء: إنَّ اللَّهَ يحب فلانًا فأحِبُّوه. فيحبه أهلُ السَّماءِ ثُمَّ يحبه أهلُ الأرضِ، فيوضع له القبول

(1)

"ك": "تسد على نفسها".

(2)

في حاشية "ب": "خ العبد".

(3)

كذا في الأصل و"ب". وفي "ف، ك": "ساحاتها"، وفي "ط":"ساحاته".

(4)

"ط": "ظلماته".

ص: 395

بينهم"

(1)

، ويجعل اللَّه قلوب أوليائه تفِدُ إليه بالود والمحبَّة والرحمة. وناهيك بمن يتوجَّه إليه مالك الملك ذو الجلالِ والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرضِ بالتبجيل والتكريم. وذلك فضلُ اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3209) وغيره، ومسلم في كتاب البر والصلة (2637) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 396