المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

وُجِدَ منها وما

(1)

يوجَد هو حمدٌ يتضمن الثَّناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته. وأمَّا ما لا وجود له فلا محامد فيه

(2)

ولا مذامّ، فجعلُ الحمدِ مالئًا له جعلُه مالئًا

(3)

لما لا حقيقة له.

وقد اختلف النَّاس في‌

‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

، فقالت طائفة: هذا

(4)

على جهة التمثيل، أي لو كان أجسامًا لملأ السماوات والأرضِ وما بينهما

(5)

. قالوا: فإنَّ الحمد من قبيل المعاني والأعراض التي لا تُملأ بها الأجسام، ولا تُملأ الأجسام إلا بالأجسام.

والصواب أنَّه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد، فإنَّ ملء كل شيء يكون بحسب المالئ والمملوءِ، فإذا قيل: امتلأ الإناءُ ماءً، وامتلأت الجفنةُ طعامًا، فهذا الامتلاء نوع. وإذا قيل: امتلأت الدَّارُ رجالًا، وامتلأت المدينةُ خيلًا ورجالًا، فهذا نوع آخر. وإذا قيل: امتلأَ الكتابُ سطورًا، فهذا نوع آخر.

وإذا قيل: امتلأت مسامع الناس حمدًا أو ذمًّا لفلان، فهذا نوع آخر، كما في أثر معروف

(6)

: "أهل الجنَّة من امتلأت مسامعه من ثناء الناس

(1)

"ما" ساقطة من "ط".

(2)

"فيه" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.

(3)

"جعله مالئا" سقط من "ط"، واستدرك في القطرية.

(4)

لم يرد "هذا" في "ك، ط".

(5)

هنا عبارة مضروب عليها، نثبتها للفائدة:"وكان شيخنا رحمه الله يرى أنَّه لا يحتاج إلى هذا التكلف، بل الحمد يملؤها حقيقة".

(6)

أخرجه ابن ماجة (4224) من حديث ابن عباس مرفوعًا. قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (ز).

ص: 242

عليه، وأهل النَّارِ من امتلأت مسامعه من ذمِّ النَّاس له".

وقال عمر بن الخطاب في عبد اللَّه بن مسعود: "كُنَيفٌ مُلئ عِلمًا"

(1)

. ويقال: فلان علمه قد ملأ الدنيا، وكان يقال:"ملأ ابنُ أبي الدنيا الدنيا علمًا"

(2)

. ويقال: صيتُ فلانٍ قد ملأ الدنيا فطبق

(3)

الآفاقَ، وحبُّه قد ملأ القلوب، وبغضُ فلانٍ قد ملأ القلوب، وامتلأ قلبُه رعبًا.

وهذا أكثر من أن تستوعب شواهدُه، وهو حقيقة في بابه. وجعلُ الملء والامتلاء حقيقةً للأجسام خاصَّة تحكمٌ باطلٌ ودعوى لا دليل عليها البتة. والأصلُ الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوي هو الغالب على اللغة والأفهام والاستعمال، فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك اللفظي

(4)

.

وليس هذا موضع تقرير هذه المسألة

(5)

، إذ

(6)

المقصود أنَّ الرب تعالى أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خالٍ عن الحكمة والمصلحة، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز

(1)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 297)، وسنده صحيح. (ز)، والكُنَيف تصغير تعظيم للكِنْف، وهو الوعاء الَّذي يضع فيه الراعي أداته ومتاعه. انظر: اللسان (كنف).

(2)

"ن": "ابن أبي الدنيا ملأ الدنيا علمًا".

(3)

"ك، ط": "وضيق"، تحريف.

(4)

"اللفظي": ساقط من "ط".

(5)

"ك، ط": "تقرير المسألة".

(6)

"ك، ط": "والمقصود".

ص: 243

الحكيم. موصوف بصفات

(1)

الكمال، مذكور بنعوت الجلال، منزَّه عن الشبيه والمثال، ومنزَّه عمَّا يضاد صفاتِ كماله: فمنزَّه عن الموت المضاد للحياة، وعن السِّنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية. وموصوف بالعلم، منزَه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيءٍ عن علمه. موصوف بالقدرة التامة، منزَّه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء. موصوف بالعدل، منزَّه عن الظلم. موصوف بالحكمة، منزَّه عن العبث والسفه

(2)

. موصوف بالسمع والبصر، منزَّه عن أضدادهما من الصمَم والبكَم. موصوف بالعلو والفوقية، منزَّه عن ضد

(3)

ذلك. موصوف بالغنى التام، منزَّه عمَّا يضاده بوجه من الوجوه. ومستحق للحمد كلُّه، فيستحيل أن يكون غيرَ محمود، كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي. بل

(4)

الحمد كلُّه واجب له

(5)

لذاته، فلا يكون إلا محمودًا، كما لا يكون إلا إلهًا وربًّا وقادرًا.

فإذا قيل: "الحمدُ كلُّه للَّه"، فهذا له معنيان:

أحدهما: أنَّه محمود على كل شيء، وبكلِّ ما يُحمَد به المحمودُ الحمدَ

(6)

التامّ. وإن كان بعضُ خلقه يُحمَد أيضًا، كما تُحمَد

(7)

رسلُه وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده تبارك وتعالى، بل هو المحمود

(1)

"ك، ط": "بصفة".

(2)

"والسفه" ساقط من "ك، ط".

(3)

"ط": "أضداد".

(4)

"ك، ط": "وله" مكان "بل".

(5)

"له" ساقط من "ك، ط".

(6)

"الحمد" ساقط من "ط".

(7)

"ك، ط": "يحمد".

ص: 244

بالقصد الأوَّل وبالذَّات، وما نالوه من الحمد فإنَّما نالوه بحمده، فهو المحمود أَوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. وهذا كما أنَّه بكلِّ شيءٍ عليم، وقد علم غيرُه من علمه ما لم يكن يعلَمه بدون تعليمه.

وفي الدعاء المأثور: "اللَّهم لك الحمدُ كلُه، ولك الملكُ كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه، أسألك من الخير كلِّه وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّه"

(1)

.

وهو سبحانه له المُلك، وقد آتى من مُلكه

(2)

بعضَ خلقه؛ وله الحمد، وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أنَّ مُلك المخلوق داخلٌ في ملكه، فحمدُه أيضًا داخلٌ في حمده، فما من محمود يحمَد على شيء ما

(3)

-دقَّ أو جلَّ- إلا واللَّه المحمودُ عليه بالذَّات، والأولية

(4)

، والأولوية أيضًا. وإذا قال الحامد

(5)

: "اللهم لك الحمد" فالمراد به: أنت المستحقُّ لكلِّ حمد، ليس المراد به الحمد الخارجي فقط.

المعنى الثاني: أن يقال: "لك الحمد كلُّه" أي الحمد التام الكامل، فهذا مختص باللَّه عز وجل، ليس لغيره فيه شركة.

(1)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4088). وفي سنده خالد بن يزيد العمري المكي. قال البخاري فيه: ذاهب الحديث. التاريخ الكبير (3/ 184). وجاء أوله عن حذيفة في مسند أحمد (23355) وسنده ضعيف. (ز).

(2)

"ك": "المملكة"، "ط":"الملكة".

(3)

"ط": "ممَّا"

(4)

"والأولية" ساقط من "ك، ط".

(5)

"الحامد، ساقط من "ط".

ص: 245

والتحقيق أنَّ له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه. فهو المحمود على كل حال، وعلى كلِّ شيء، أكملَ حمدٍ وأعظمه؛ كما أنَّ له الملك التامّ العامّ، فلا يملك كلَّ شيء إلا هو، وليس الملك التام الكامل إلا له. وأتباع الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد، فإنَّهم يقولون: إنَّه خالق كلِّ شيء وربّه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة، فله الملك كلُّه.

والقدرية المجوسية يُخرجون من ملكه

(1)

أفعالَ العباد، فيخرجون طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمؤمنين من ملكه، كما

(2)

يخرجون سائر حركات الملائكة والجن والإنس عن ملكه. وأتباعُ الرسل يجعلون ذلك كلَّه داخلًا تحت

(3)

ملكه وقدرته، ويثبتون له

(4)

كمال الحمد أيضًا، وأنَّه المحمود على جميع ذلك، وعلى كلِّ ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحِكَم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل.

وأمَّا نفاةُ الحكمة والأسباب من مثبتي القدر، فهم في الحقيقة لا يثبتون له حمدًا، كما لا يثبتون له الحكمة؛ فإنَّ الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنَّما تكون في حقِّ من يفعل شيئًا لشيء، فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله. فأمَّا من لا يفعل شيئًا لشيء البتة،

(1)

في "ف" هنا وفي السطر التالي: "عن ملكه"، خلافًا لأصلها.

(2)

العبارة "فيخرجون. . . " إلى هنا ساقطة من "ط"، ومستدركة في حاشية "ك"، بخط متأخر.

(3)

"ك، ط": "في ملكه".

(4)

"له" سقط من "ط"، وكتب في "ك" فوق السطر بخط مختلف.

ص: 246

فلا يُتصوَّر في حقه الحكمة. وهؤلاء يقولون: ليس في أفعاله وأحكامه لام تعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإنَّما اقترنت بها اقترانًا عاديًّا، لا أنَّ هذا كان لأجل هذا؛ ولا شاءَ

(1)

السببَ لأجل المسبَّب، بل لا سببَ عندهم ولا مسببَ البتة، إنْ هو إلا محض المشيئة وصِرف الإرادة التي ترجِّح مِثلًا على مِثلٍ، بلا مرجِّح

(2)

أصلًا. وليس عندهم في الأجسام طبائع وقوًى تكون أسبابًا لحركاتها، ولا في العين قوَّةٌ امتازت بها على الرِّجْل تبصر بها

(3)

، ولا في القلب قوَّة يعقل بها امتاز بها على الظهر

(4)

؛ بل خصَّ سبحانه أحد الجسمَين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصًا لمثل على مثل، بلا سبب أصلًا ولا حكمة.

فهؤلاء لم يُثبِتوا له كمال الحمد، كما لم يُثبِت له أولئك كمالَ الملك، وكلا القولين منكَر عند السلف وجمهور الأُمَّة. ولهذا كان منكرو الأسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية، كما قاله القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفرَّاء وأتباعهما. وقد نصَّ أحمدُ على أنَّه غريزة، وكذلك الحارث المحاسِبي وغيرهما

(5)

. وأولئك

(6)

لا يثبتون غريزةً ولا قوَّة ولا طبيعةً ولا سببًا،

(1)

"ك، ط": "نشأ"، تحريف.

(2)

"ك، ط": "بل لا مرجح".

(3)

"ط": "يبصر بها". وفي "ف": "بصيرتها" كذا، وهو تصحيف.

(4)

"ك، ط": "عن الظهر".

(5)

انظر: ذم الهوى (5). والعقل غريزة، أو نوع من العلوم الضرورية، كلا القولين حكاهما شيخ الإسلام وصوّبهما في الاستقامة (2/ 161)، ومجموع الفتاوى (9/ 287).

(6)

"ط": "فأولئك"، خطأ.

ص: 247

وأبطلوا مسمَّيات هذه الأسماء جملةً، وقالوا: إنَّ ما في الشريعة من المصالح والحِكَم لم يشرع الربُّ سبحانه ما شرع من الأحكام لأجلها، بل اتفق اقترانُها بها أمرًا اتفاقيًّا، كما قالوا نظيرَ ذلك في المخلوقات سواءً، والعلل عندهم أمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقي.

وهم فريقان: أحدهما لا يعرّجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإنَّما يعتمدون على تأثير العلة بنص أو إجماع، فإن فقدوا فزِعوا إلى الأقيسة الشبَهية.

والفريق الثاني أصلحوا المذهبَ بعض الإصلاح، وقرّبوه بعض الشيء، وأزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأحكامَ بالعلل، والعللَ بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم

(1)

الكلامُ في الفقه إلا بذلك، ولكن جعلوا اقترانَ أحكام تلك العلل والمناسبات بها اقترانًا عاديًّا غيرَ مقصود في نفسه، والعللَ وَالمناسبات أماراتِ ذلك الاقتران.

وهؤلاء يستدلون على إثبات علم الرب تعالى بما في مخلوقاته من الإحكام والإتقان والمصالح، وهذا تناقضٌ بيِّن

(2)

منهم، فإنَّ ذلك إنَّما يدلُّ إذا كان الفاعل يقصد أن يفعلَ الفعلَ على وجهٍ مخصوص لأجل الحكمة المطلوبة منه. وأمَّا من لم يفعل لأجل ذلك الإحكام والإتقان، وإنَّما اتفق اقترانُه بمفعولاته عادةً، فإنَّ ذلك الفعل لا يدلُّ على العلم. ففي أفعال الحيوانات من الإحكام والإتقانِ والحِكَم ما هو معروفٌ لمن تأمله، ولكن لمَّا لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودةً لها لم تدل على

(1)

"ن": "لم يلتئم"، تحريف.

(2)

"ف": "من مذهبهم"، كذا، وهو تحريف.

ص: 248

علمها. والمقصود أنَّ هؤلاء إذا قالوا: إنَّه تعالى لا يفعل لحكمةٍ امتنع عندهم أن يكون الإحكام دليلًا على العلم.

وأيضًا فعلى قولهم يمتنع أن يُحمَد على ما فعله؛ لأنَّ

(1)

ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم، ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنَّما أرادَ مجرد وجوده، لا لأجل كذا، ولا لنفع أحد ولا لضره؛ فكيف يتصوَّر في حق من يكون فعله كذلك

(2)

حَمْدٌ؟ فلا يُحمَد على فعل عدلٍ، ولا على ترك ظلم؛ لأنَّ الظلم عندهم هو الممتنع الَّذي لا يدخل في المقدور، وذلك لا يُمدَح أحدٌ على تركه. وكل ما أمكن وجودُه فهو عندهم عدل، فالظلم

(3)

مستحيل عندهم، إذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الَّذي لا يدخل تحت المقدور، ولا يتصوَّر فيه ترك اختياري، فلا يتعلَّق به حمدٌ. وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقتُه عندهم مجرَّد كونِه فاعلًا لا أنَّ هناكَ شيئًا هو قسط في نفسه يمكن وجودُ ضدِّه.

وكذلك قولُه: {وَمَا رَبُّك بِظَلَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت/ 46] نفيٌ عندهم لما هو مستحيل في نفسه لا حقيقه له، كجعل الجسم في مكانين في آنٍ واحدٍ، وجعله موجودًا معدومًا في آنٍ واحدٍ، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الَّذي تنزَّه

(4)

عنه. وكذلك قوله: "يا عِبَادِي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ

(1)

"ك، ط": "لأمر"، تحريف.

(2)

"ك": "ذلك حمدًا"، "ط":"ذلك حمد".

(3)

"ف": "والظلم"، قراءة محتملة.

(4)

"ن، ك": "ينزه".

ص: 249

على نفسي، وجعلتُه محرَّمًا بينكم

(1)

، فلا تظالموا"

(2)

، فالذي حرَّمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين، وليس هناك ممكن يكون ظلمًا في نفسه وقد حرَّمه على نفسه، ومعلومٌ أنَّه لا يُمدح الممدوحُ بترك ما لو أراده لم يقدر عليه، وأيضًا فإنّه قال:"وجعلته محرَّمًا بينكم"، فالذي حرَّمه على نفسه هو الَّذي جعله محرَّمًا بين عباده، وهو الظلم المقدور الَّذي يستحق تاركُه الحمدَ والثَّناءَ.

والذي أوجبَ لهم هذا مناقضةُ القدرية المجوسية وردُّ أصولهم وهدمُ قواعدِهم، ولكن ردُّوا باطلًا بباطل، وقابلوا بدعةً ببدعة، وسلَّطوا عليهم خصومَهم بما التزموه من الباطل. فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سِجَالًا: مرَّة يغلِبون، ومرَّةً يُغلَبون، لم تستقر

(3)

لهم نصرة. وإنَّما النصرة التامَّة

(4)

لأهل السنَّة المحضة الذين لم يتحيزوا إلى فئةٍ غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا شيئًا

(5)

غير ما جاءَ به، ولم يؤصِّلوا أصلًا ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلُهم ما دلَّ عليه كتابُ اللَّه، وكلامُ رسوله، وشهدت به الفِطرَ والعقول.

فصل

والمقصودُ بيانُ شمولِ حمدِه تعالى وحكمتِه لكلِّ ما يحدثه من

(1)

"ك، ط": "بينكم محرَّمًا".

(2)

من الحديث القدسي الَّذي أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه في كتاب البر والصلة والآداب (2577).

(3)

"ط": "لم يستقر".

(4)

"ك، ط": "الثابتة".

(5)

"شيئا": ساقط من "ك، ط".

ص: 250

إحسانٍ ونعمة، وامتحانٍ وبلية، وما يقضيه من طاعة ومعصية، وأنَّه سبحانه

(1)

محمودٌ على ذلك مشكور حمدَ المدح وحمدَ الشكر. أمَّا حمد المدح فإنَّه محمود

(2)

على كلِّ ما خلق، إذ هو رب العالمين، والحمدُ للَّه ربِّ العالمين. وأمَّا حمد الشكر فلأنَّ

(3)

ذلك كلَّه نعمة في حقِّ المؤمن إذا اقترن بواجبه.

والإحسانُ

(4)

والنعمةُ إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة، والامتحان والبليةُ إذا اقترن

(5)

بالصبر كان

(6)

نعمة. والطاعةُ فمن

(7)

أجلّ نعمه، وأمَّا المعصيةُ فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع، فقد ترتَّب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضًا، وإن كان سببُها مسخوطًا مبغوضًا للربِّ تعالى، ولكنَّه يحب ما ترتب

(8)

عليها من التوبة والاستغفار.

وهو سبحانه أفرَح بتوبة عبده من الرجل إذا أضلَّ راحلته بأرضٍ

(1)

"ط": "واللَّه تعالى".

(2)

"ط": "فاللَّه محمود".

(3)

"ف": "فإنَّ"، خلاف الأصل.

(4)

"ك، ط": "من الإحسان"، كأنَّهُ كان للواجب، والصواب ما ورد في الأصل. وقراءة "ن":"فالإحسان".

(5)

كذا في الأصلِ بصيغة الإفراد، والضمير راجع إلى الامتحان دون البلية، كما رجع الضمير في "اقترنت" في الجملة السابقة إلى النعمة، وكان الأُولى أن يرجع إلى الإحسان. وفي "ك، ط": "اقترنا". ولعلَّه مغير في "ك" لأنَّ الجواب فيها "كان" بالإفراد كما في الأصل.

(6)

"ط": "كان". "ف": "صار"، خلاف الأصل.

(7)

"ط": "من".

(8)

"ط": "يترتب".

ص: 251

دوِّيَّةٍ

(1)

مهلكةٍ عليها طعامه وشرابه، فأيس منها ومن الحياة، فنام، ثمَّ استيقظ، فإذا بها قد تعلَّق خطامُها في أصلِ شجرةٍ، فجاءَ حتَّى أخذها = فاللَّهُ أفرحُ بتوبة العبد حين يتوب إليه من هذا براحلته

(2)

.

فهذا الفرحُ العظيم الَّذي لا يشبهه شيء أحبُّ إليه سبحانه من عدمه، وله أسباب ولوازم لا بدَّ منها. وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإن كان محبوبًا له، فهذا الفرح أحبُّ إليه بكثير، ووجوده بدون لازمه ممتنع. فله من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة.

هذا بالإضافة إلى الرب جل جلاله، وأمَّا بالإضافة إلى العبد فإنَّه قد يكون كمالُ عبوديته وخضوعه موقوفًا على أسباب لا يحصل

(3)

بدونها. فتقديرُ الذنب عليه إذا اتصل به التوبةُ والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يُعقِبه، وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه؛ والربُّ تعالى محمود على الأمرين. فإن اتصل بالذنب الآثارُ المحبوبةُ

(4)

للرب سبحانه من التوبة والإنابة والذل والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.

وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خُبث نفسه، وشرّه، وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ

(1)

الدوية: الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها.

(2)

يشير إلى حديث الصحيحين، وسيأتي في ص (512).

(3)

"ط": "تحصل"، خطأ.

(4)

"ف": "المحمودة"، خلاف الأصل.

ص: 252

الأعلى. ومعلوم أنَّ هذه النفس فيها من الشرِّ والخبث ما فيها، فلا بدَّ من خروج ذلك منها من القوَّة إلى الفعل، ليترتَّب على ذلك الآثارُ المناسبة لها ومساكنةُ من تليق مساكنتُه ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحلِّ الأسفل. فإنَّ هذه النفوس إذا كانت مهيَّأةً لذلك فمن الحكمة أن تُستخرَج منها الأسبابُ التي تُوصِلها إلى ما هي مهيأة له، ولا يليق بها سواه.

والرب تعالى محمود على ذلك أيضًا، كما هو محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والإنعام القابلين له، فما كل أحد قابلًا لنعمته تعالى، فحمده وحكمته يقتضي

(1)

أن لا يُودِعَ نعمَه وإحسانَه وكنوزَه في محل غير قابل لها.

ولا يبقى إلا أن يقال: فما الحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غيرُ قابلةٍ لنعمته؟ فقد تقدَّم من الجوابِ عن ذلك ما فيه كفاية

(2)

، وأنَّ خلق الأضداد والمتقابلات

(3)

وترتيب آثارها عليها هو

(4)

موجَب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزَّته، وأنَّ تقدير عدمِ ذلك هضمٌ من جانب الربوبية.

وأيضًا فإنَّ هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنَّها إذا وقعت فهو مأمور أن يُنكِرَها بقلبه ويده ولسانه، أو بقلبه ولسانه فقط، أو بقلبه فقط؛

(1)

لم ينقط حرف المضارعة في الأصل، ولا في "ف، ن". وفي "ط": "تقتضي" أي الحكمة، ولعل الأُولى ما أثبتناه من "ك"، ليرجع الضمير إلى الأول وهو الحمد.

(2)

انظر ما سلف في ص (212).

(3)

"ك، ط": "المقابلات".

(4)

"هو" ساقط من "ك، ط". وفي "ف، ن": "من" تحريف.

ص: 253

ومأمور أن يجاهد أربابَها بحسب الإمكان، فيترتَّبُ له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك.

والمقصود بالقصد الأَوَّل إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمالُ أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غايةُ الحكمة، وكان في تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أوليائه

(1)

إلى الكمال الَّذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء، وجهادِهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له. فإنَّ تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنَّما تكون المحبة صادقةً إذا بذل فيها المحبُّ ما يملكه من مال ورئاسة وقوَّة في مرضاة محبوبه والتقرب إليه، فإن بذل له روحَه كان هذا أعلى درجات المحبة.

ومن المعلوم أنَّ من لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها أن يخلق ذواتٍ

(2)

وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداةَ من يحبه ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها. فكل أحد يحبُّ الإحسان والرَّاحة والدَّعَة واللذّة، ويحب من يوصل إليه ذلك ويُحصّله له، ولكن الشأن في أمرٍ وراءَ هذا، وهو محبتُه سبحانه ومحبةُ ما يحبه ممَّا هو أكرهُ شيءٍ إلى النفوس، وأشقُّ شيء عليها ممَّا لا يلائمها. فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب اللَّه لذاته ويحب ما يحب، ممن يحبُّه لأجل مخلوقاته فقط من المأكل والمشرب والمنكح

(1)

"أوليائه" ساقط من "ك، ط".

(2)

في الأصل: "ذواتًا"، ولعله سهو. وكذا في غيره.

ص: 254

والرئاسة، فإن أعطي منها رضي، كان مُنِعها سخط، وعتب على ربه، وربما شكاه، وربما ترك عبادته.

فلولا خلقُ الأضداد، وتسليط أعدائه، وامتحان أوليائه بهم

(1)

لم يستخرَج خالصُ

(2)

العبودية من عَبيده الذين هم عَبيدُه، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه، والمعاداة فيهَ، والحب فيه، وَالبغض فيه، والعطاء له، والمنع له؛ ولا عبوديةُ بذلِ الأرواح والأموال والأولاد والقوى في جهاد

(3)

أعدائه ونصرته

(4)

، ولا عبودية مفارقة الناس أحوجَ ما يكون إليهم عبده

(5)

لأجله و

(6)

في مرضاته. فلا يتحيز

(7)

إليهم، وهو يرى محابَّ نفسه وملاذَّها بأيديهم، فيرضى بمفارقتهم، ومشاققتهم

(8)

، وإيثار موالاة الحق عليهم. فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار.

وأيضًا فلولا تسليطُ الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر، وجهاد النفس، ومنعها من حظوظها

(9)

وشهواتها محبَّةً للَّه، وإيثارًا لمرضاته، وطلبًا للزلفى لديه والقرب منه.

(1)

"بهم" ساقط من "ك، ط".

(2)

"ك، ط": "خاص"، تحريف.

(3)

"ك": "وجهاد".

(4)

" ط": "مضرته" تحريف.

(5)

"ك، ط": "عنده"، تصحيف.

(6)

الواو ساقطة من "ك، ط".

(7)

"ك، ط": "ولا يتحيز".

(8)

كذا في الأصل وغيره بفكّ الإدغام.

(9)

"ك، ط": "خوضها"، تحريف.

ص: 255

وأيضًا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانيَّةً، بل كانت ملكيةً، فإنَّ اللَّه سبحانه خلق خلقَه أطوارًا فخلق الملائكة عقولًا لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلافَ ما يراد منها

(1)

، من مادة نورية لا تقتضي شيئًا من الآثار والطبائع المذمومة. وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها. وخلق الثقلين -الجن والإنس- وركَّب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة المقتضية

(2)

لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أهل الامتحان والابتلاء، وهم

(3)

المعرضون للثواب والعقاب. ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة

(4)

وخلق واحد، ولم يُفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية.

ولو كان الخلق كله طبيعةً واحدةً ونمطًا واحدًا لوجد الملحد مقالًا وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلًا بالاختيار لتنوعت أفعالُه ومفعولاتُه، ولفَعَل الشيءَ وضدَّه، والشيء وخلافه. وكذلك لولا شهودُ هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أيضًا مقالًا وقال: لو كان لهذا العالم خالق مختار

(5)

لوجدت فيه الحوادثُ على حسب إرادته واختياره، كما رُوِي عن

(6)

الحسن أو غيره قال: "كان أصحاب محمد

(1)

سقط "منها" من "ط".

(2)

"المقتضية" ساقط من "ط"، ومستدرك في حاشية "ك".

(3)

"وهم" ساقط من "ك".

(4)

"واحدة" ساقط من "ك، ط".

(5)

في الأصل: "خالقًا مختارًا"، وكذا في "ف، ك، ط". ولعله سهو، والمثبت من "ن".

(6)

"عن" ساقط من "ك، ط".

ص: 256

-صلى الله عليه وسلم يقولون: جلَّ ربنا القديم، [لو]

(1)

لم يتغيَّر هذا الخلق لقال الشاكُّ في اللَّه

(2)

: لو كان لهذا العالم خالق لَحادثَه

(3)

: بينا هو ليل إذ جاء نهار، وبينا

(4)

هو نهارٌ إذ جاء ليل، وبينا هو صحو إذا جاء غيم، وبينا هو غيم إذ جاءَ صحو"

(5)

أو نحو

(6)

هذا من الكلام

(7)

.

ولهذا يستدل سبحانه في كتابه بالحوادث تارةً وباختلافها تارةً، إذ هذا وهذا مستلزمٌ لربوبيته

(8)

، وقدرته، واختياره، ووقوع الكائنات

(9)

على وفق مشيئته؛ فتنوعُ أفعالهِ ومفعولاته من أعظم الأدلةَ على ربوبيته وحكمته وعلمه.

ولهذا -سبحانه- خلق

(10)

النوع الإنساني أربعةَ أقسام: أحدها: لا من ذكر ولا أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم. الثاني: خلَقه من ذكر بلا أنثى، كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أنثى أو يشتمل عليها بطن. الثالث: خلقَه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح

(1)

زيادة يقتضيها السياق، وقد أثبتناها من "ف، ن". وفي "ك، ط": "إنَّه لو".

(2)

"ط": "الشاك فيه إنَّه".

(3)

أي لم يتركه على صفة واحدة، بل تعاهده بالتغيير والإصلاح، من حادث السيفَ: تعاهده بالجلاء والصقال. وفي "ط": "لأحدثه"، ولعلَّه تغيير في النص.

(4)

في هذه الجملة والتي بعدها في "ط": "بينا" دون الواو.

(5)

لم أجده.

(6)

"ك، ط": "ونحو".

(7)

"ط": "هذا الكلام"، واستدركت "من" في القطرية.

(8)

"ك، ط": "يستلزم ربوبيته".

(9)

"ك، ط": "كل الكائنات".

(10)

"ك، ط": "خلق سبحانه".

ص: 257

عيسى ابن مريم صلى اللَّه على نبينا وعليه. الرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى.

وكلُّ هذا ليدلَّ عباده على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته، وأنَّ الأمرَ ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أن ذلك أمرٌ طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنَّه ليس للنوع أبٌ ولا أمٌّ، وأنَّه ليس إلا أرحامٌ تدفَع، وأرضٌ تبلع، وطبيعةٌ تفعل ما يُرى ويشاهَد. ولم يعلم هؤلاء الجهَّال الضلَّال أنَّ الطبيعة قوَّة وصفة فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى حامل لها، وأنَّها من أدل الدلائل على وجود من

(1)

طبَعها، وخلَقَها، وأودعها الأجسامَ، وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة. فالطبيعةُ مخلوقٌ من مخلوقاته، ومملوكٌ من مماليكه وعبيده، مسخَّرةٌ لأمره، منقادةٌ لمشيئته. ودلائلُ الصنعة، وأماراتُ الخلق والحدوث، وشواهدُ الفقر والحاجة شاهدٌ

(2)

عليها بأنّها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق، ولا تفعل، ولا تتصرّف في ذاتها ونفسها، فضلًا عن إسناد الكائنات إليها.

والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبيّة والملك، وهو أيضًا من موجبات الحمد، فله الحمد على ذلك كلُّه أكمل حمد وأتمّه.

وأيضًا

(3)

فإنَّ مخلوقاته هي موجَباتُ أسمائه وصفاته، فلكلِّ اسمٍ وصفةٍ أثرٌ لا بُدَّ من ظهوره فيه

(4)

واقتضائه له، فيمتنع تعطيلُ

(1)

"ط": "وجود أمره"!.

(2)

كذا في الأصل وغيره. وفي ط: "شاهدة".

(3)

"ط": "وأتمه أيضًا"، فاختل السياق.

(4)

"فيه" سقط من "ف".

ص: 258

آثار أسمائه وصفاته، كما يمتنع تعطيلُ ذاته عنها. وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أن لا توجد، كما تقدم التنبيه عليه.

وأيضًا فإن تنويع أسباب الحمد أمرٌ مطلوب للرب محبوب له، فكلما

(1)

تنوعت أسبابُ الحمد تنوع الحمدُ بتنوعها، وكثر بكثرتها. ومعلومٌ أنَّه سبحانه محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة، كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان. فهو محمود

(2)

على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمدِه على حلمه وعفوه ومغفرته، وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها، والعفو عن كثير من جنايات العبيد. فنبّهَهم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثيرِ الَّذي عفا عنه، وأنَّه لو عاجلهم بعقوبته، وأخذهم بحقه، لقُضِيَ إليهم أجلُهم، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولكنَّه سبقت رحمتُه غضبَه، وعفوُه انتقامَه، ومغفرته عقابَه. فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإحسانه، ولا سبيل إلى تعطيل أسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيبُ هذا الموضع حقَّ التدبر، وليعطه حقَّه يُطْلِعْه على أبوابٍ عظيمةٍ من أسرار القدر، ويهبطْ به

(3)

على رياضِ منه مُعْشِبةٍ وحدائقَ مُؤْنِقة، واللَّه الموفِّق الهادي للصواب.

وأيضًا فإنَّ اللَّه سبحانه نوَّع الأدلَّة الدَّالّة عليه والتي تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرَّف الآيات، وضرب الأمثال، ليقيمَ عليهم حجَّته البالغة، ويتمَّ بذلك عليهم

(4)

نعمته السابغة، ولا يكون لأحدٍ بعد ذلك

(1)

"ط": "فكما".

(2)

"ط": "محمول"، خطأ.

(3)

"ن": "يهبطه".

(4)

"ك، ط": "عليهم بذلك".

ص: 259

حجةٌ عليه سبحانه، بل الحجَّةُ كلها له، والنعمةُ كلها له

(1)

، والقدرةُ كلها له. فأقام عليهم حجته، ولو شاء لسوَّى بينهم في الهداية، كما قال تعالى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149]، فأخبر أنَّ له الحجَّة البالغة، وهي التي بلغت إلى صميم القلب، وخالطت العقل، واتحدت به، فلا يمكن العقلَ دفعُها ولا جحدُها. ثمَّ أخبر أنَّه سبحانه قادر على هداية خلقه كلِّهم، ولو شاء ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكنَّ حكمته تأبى ذلك وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة، فأقام الحجة، وصرف الآيات، وضرب الأمثال، ونوَّع الأدلة. ولو كان الخلقُ كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأمور، ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال، ولا ظهرت عزَّتُه سبحانه في انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم، ولا حججه التي أقامها على صدق أنبيائه ورسله، ولا كان للناس {آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران/ 13]، ولا كان للخق آيةٌ باقيةٌ

(2)

ما بقيت الدنيا في شأن موسى وقومه، وفرعون وقومه، وفلقِ البحر لهم، ودخولهم جميعًا فيه. ثم أنجى

(3)

موسى وقومه لم يغرَق منهم أحد

(4)

، وأغرقَ فرعونَ وقومَه لم ينجُ منهم أحد. فهذا التعرف إلى عباده، وهذه الآيات، وهذه العزَّة والحكمة لا سبيل إلى تعطيلها البتة، ولا توجد بدون لوازمها.

(1)

"والنعمة كلها له" ساقط من "ط".

(2)

من هنا تبدأ المقابلة على النسخة "ب" أيضًا.

(3)

"ط": "إنجاء".

(4)

"ط": "ولم يغرق أحد منهم".

ص: 260

وأيضًا فإنَّ حقيقة المُلْك إنَّما تتم

(1)

بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز

(2)

وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران/ 26، 27].

وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن/ 29]، يغفر ذنبًا، ويفرِّج كَرْبًا، ويكشف غمًّا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفُكّ عانيًا، ويُغني فقيرًا، ويجبُر كسيرًا، ويشفي مريضًا، ويُقيل عَثرةً، ويستر عورةً، ويُعزّ ذليلًا، ويُذلّ عزيزًا، ويعطي سائلًا، ويذهب بدولة، ويأتي بأخرى، ويداول الأيّامَ بين الناس، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين. يسوق

(3)

المقادير التي قدّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدّم شيء منها عن وقته

(4)

ولا يتأخّر، بل كلّ منها قد أحصاه كتابه

(5)

، وجرى به قلمُه، ونفذ فيه حكمُه، وسبق به علمُه. فهو المتصرّف في الممالك كلّها وحده تصرُّفَ ملكٍ قادر قاهر عادل رحيم تامّ الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض. فتصرّفُه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان

(1)

الأصل غير منقوط، وفي غيره:"يتم"، وهو جائز، ولكن رجحت قراءة "ط".

(2)

"ب": "تليق به العزة".

(3)

"ن": "فيسوق".

(4)

"ب": "على وقته".

(5)

"ب، ك، ط": "قد أحصاه كما أحصاه كتابه".

ص: 261

والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك.

وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحِمّاني: حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن معاوية بن يحيى، عن يونس بن ميسرة، عن أبي أدريس، عن أبي الدرداءِ أنّه

(1)

سئل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29]، فقال: سئل عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين"

(2)

.

وفيه أيضًا من حديث حمّاد بن سلمة، حدثنا الزبير أبو عبد السلام، عن أيوب بن عبد اللَّه بن مكرز، عن أبيه قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: "إنّ ربّكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه، أيّامكم عنده ثنتا عشرةَ ساعةً: تُعرض عليه أعمالُكم بالأمس ثلاثَ ساعاتٍ من أوّل النهار، فيطّلع منها على ما يكره، فيغضب، فيكون أول من يعلم بغضبه حملة العرش، فتسبِّح

(3)

حمَلةُ العرش وسُرادقاتُ العرش والملائكةُ المقرّبون وسائرُ الملائكة، وينفخ جبريل في القَرْن، فلا يبقى خلقٌ للَّه في السماوات ولا في الأرض إلّا سمعه إلّا الثقلين؛ ويسبّحونه ثلاثَ ساعات

(4)

حتى يمتلئ الرحمن رحمةً، فتلك

(1)

"ب": "حديث الحماني أنَّه سئل"، فسقط سند الحديث.

(2)

أخرجه ابن ماجه (202)، وابن حبان (689) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. وقد حسَّنه البوصيري في مصباح الزجاجة. وذكر محقق صحيح ابن حبان شواهد للحديث، على أنَّ الحديث روي موقوفًا. (ز).

(3)

"ب، ك": "فيسبح".

(4)

في "ط": "ويسبحون لذلك" ثمَّ أثبت "ثلاث ساعات" بين حاصرتين.

ص: 262

ستُّ ساعات

(1)

. ثم يدعو بالأرحام، فينظر فيها ثلاثَ ساعات {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران/ 6]{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)} [الشورى/ 49] فتلك تسعُ ساعات. ثم يدعو بالأرزاق، فينظر فيها ثلاث ساعات فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فتلك ثنتا عشرة ساعة. ثم قرأ عبد اللَّه:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29] ثم قال: هذا شأنكم وشأن ربّكم عز وجل"

(2)

.

وذكره الطبراني في المعجم الكبير من وجه آخر

(3)

.

وهذا من تمام تصرّفه في ملكه سبحانه، فلو قصر تصرّفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرّفًا تامًّا.

والمقصود أنّ الملك والحمد في حقّه متلازمان، فكلّ ما شمِله ملكُه وقدرتُه شمِله

(4)

حمدُه، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجُها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسَه عند خلقه وأمره، لينبِّه عبادَه على أنّ مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كلّ ما خلقه وأمر به

(5)

حمدَين

(6)

: حمدَ شكر وعبودية،

(1)

ذكر ناشر ط أن هنا بياضًا في أصله، ولا بياض في أصولنا.

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (8886)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 137). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 85):"فيه أبو عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول". انظر نقض الدارمي على بشر المريسي (266 - 268)(ز).

(3)

انظر: التعليق السابق.

(4)

"ط": "شمل".

(5)

"ف": "وأمره" خلاف الأصل.

(6)

"حمدين" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "أمر به من حمد شكر"، سقط =

ص: 263