الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتوكل عليه، والإنابة إليه، والسكون
(1)
إليه، والتذلّل والانكسار بين يديه؛ عن تعلّق ذلك منهم بغيره.
ف
إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه
صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همُّه عليه
(2)
، متذكِّرًا صفاته العلى وأسماءَه الحسنى، مشاهدًا له في أسمائه وصفاته، قد تجلَّت على قلبه أنوارها، فانصبغ قلبُه بمعرفته ومحبّته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبُه قد أوى إلى مولاه وحبيبه، فآواه إليه، وأسجدَه بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلًا منكسرًا من كلِّ جهة من جهاته. فيا لها سجدةً ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاءِ!
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربِّه؟ فقال
(3)
: "إي واللَّه، سجدةً
(4)
لا يرفع رأسه منها إلى القيامة! "
(5)
.
فشتّان بين قلبٍ يبيت عند ربِّه، قد قطع في سفره إليه بيداءَ الأكوان وخرق حُجُبَ الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علَم، حتَّى دخلَ على ربِّه في داره، فشاهد
(6)
عزَّ سلطانه، وعظمة جلاله، وعلوَّ
(1)
"ف": "الشكوى"، تحريف.
(2)
"ك": "إليه".
(3)
"ط": "قال"
(4)
"ك، ط": "بسجدة".
(5)
"ب، ك، ط": "يوم القيامة". وقد نقل المؤلف هذا القول في مدارج السالكين (1/ 509). وسيأتي مرة أخرى في هذا الكتاب ص (662). وهو من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري كما في مجموع الفتاوى (21/ 287 و 23/ 138).
(6)
"ف": "مشاهدًا"، تحريف.
شأنه، وبهاءَ كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبِّر أمر
(1)
عباده، وتصعد إليه شؤونُ العباد، وتُعْرَض عليه حوائجُهم وأعمالُهم، فيأمر فيها بما يشاءُ، فينزل الأمر من عنده نافذًا كما أمر. فيشاهد الملك الحقَّ قيّومًا بنفسه، مقيمًا لكل ما سواهِ، غنيًّا عن كلِّ من سواه
(2)
، وكلُّ من سواه فقيرٌ إليه. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن/ 29]: يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويفكّ عانيًا، وينصر ضعيفًا، ويجبُر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويميت ويحيي، ويُسعد ويشقي، ويُضِلّ ويهدي، ويُنعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويُعزّ أقوامًا ويذلُّ آخرين، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين.
ويَشهده كما أخبر عنه أعلمُ الخلق به وأصدقهم في خبره، حيث يقول في الحديث الصحيح:"يمين اللَّه ملأى، لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الّليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلقَ الخلقَ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يمينه. وبيده الأخرى الميزانُ يخفِضُ ويرفَعُ"
(3)
. فيشاهده
(4)
كذلك يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمنّ بفضله على من يشاء من عباده بيمينه. وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاءُ، ويرفع به من يشاء، عدلًا منه وحكمةً، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
فيَشهده وحده القيّوم بأمر السماوات والأرضِ ومن فيهنَّ، ليس له
(1)
"ف": "يدنو من "، تحريف.
(2)
"ب": "ما سواه" هنا وفي الجملة التالية.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4684) وغيره، ومسلم في كتاب الزكاة (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
"ب": "ويشاهده".
بوَّاب فيستأْذَن، ولا حاجب فيُدخَل عليه به
(1)
، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا وليّ من دونه فيتشفّع
(2)
به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفَه حوائجَ عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها. بل قد
(3)
أحاط سبحانه بها علمًا، ووَسِعها قدرةً ورحمةً، فلا تزيده كثرةُ الحاجات إلا جودًا وكرمًا. فلا
(4)
يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلّطه كثرةُ المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملحّين.
لو اجتمع أوَّلُ خلقه وآخرُهم، وإنسُهم وجنّهم، وقاموا في صعيدٍ واحدٍ، ثمَّ سألوه، فأعطى كلًّا منهم مسألتَه، ما نقص ذلك ممَّا عنده ذرَّةً واحدةً إلا كما ينقص المِخْيَطُ البحرَ إذا غُمِسَ فيه. ولو أنَّ أوَّلهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا
(5)
. ولو أنَّ أوَّلهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منهم ما نقصَ ذلك من ملكه شيئًا
(6)
. ذلك بأنَّه الغنيّ الجواد الماجد، فعطاؤه كلام، وعذابه كلام
(7)
. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس/ 82].
ويَشهده كما أخبر عنه أيضًا الصادق المصدوق حيث يقول: "إنَّ اللَّه لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ. يخفضُ القسطَ، ويرفعُه. يُرْفَعُ إليهِ عملُ
(1)
"به" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ب": "فيستشفع". "ف، ط": "فيشفع".
(3)
"بل قد" ساقط من "ك، ط". و"قد" ساقط من "ب".
(4)
"ط": "ولا يشغله".
(5)
بعد هذا إلى قوله: "من ملكه شيئًا" ساقط من "ك، ط".
(6)
يشير إلى حديث أبي ذر الذي أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2577).
(7)
"ط": "من كلام وعذابه من كلام". وصحح في القطرية.
الليلِ قبل النَّهارِ
(1)
، وعملُ النَّهارِ قبلَ الليل
(2)
. حِجَابُه النُّور، لَوْ كَشَفَه لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجهِهِ ما أدركه بصرُه من خلقِهِ"
(3)
.
وبالجملة فيَشهده في كلامه، فقد تجلَّى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرَّف إليهم فيه. فبعدًا وتبًّا للجاحدين والظالمين {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم/ 10] لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
فإذا صارت صفاتُ ربِّه
(4)
وأسماؤه مشهدًا لقلبه أنْسَتْه ذكرَ غيره، وشغلته عن حبِّ سواه
(5)
، وجذبت
(6)
دواعي قلبه إلى حبِّه تعالى بكلِّ جزءٍ من أجزاءِ قلبه وروحه وجسمه. فحينئذٍ يكون الربُّ تعالى سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبه يسمع. وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي. كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
(7)
.
ومن غلُظ حجابُه، وكثُف طبعُه، وصلُب عوده؛ فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعلَّه أن يفهمَ منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أو يفهم منه غيرَ المراد منه، فيحرّف معناه ولفظه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا
(1)
"ب، ك، ط": "عمل النهار".
(2)
"ب، ك، ط": "عمل الليل".
(3)
تقدّم تخريجه في ص (158).
(4)
"ب": "صفاته".
(5)
"ك، ط": "من سواه".
(6)
"ط": "حديث"، تصحيف.
(7)
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور/ 40]. وقد ذكرتُ معنى الحديث، والردّ على من حرَّفه وغلِط فيه في كتاب "التحفة المكّية"
(1)
.
وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشًا للمثل الأعلى، أي عرشًا
(2)
لمعرفة محبوبه ومحبّته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه! فيا له من قلب، من ربّه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه! فهو ينزّه قلبَه أن يساكنِ سواه، أو يطمئنّ بغيره. فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرشِ، وأبدانُهم في فُرُشهم؛ كما قال أبو الدرداءِ: "إذا نام العبد المؤمن عُرِجَ بروحه حتّى تسجدَ تحت العرشِ، فإن كان طاهرًا أذِن لها بالسجود
(3)
، وإنْ كان جنُبًا لم يؤذَن لها
(4)
"
(5)
.
وهذا -واللَّه أعلم- هو السرّ الذي لأجله أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجُنُبَ إذا أرادَ النوم أن يتوضّأ
(6)
، وهو إمَّا واجب على أحد القولين، أو مؤكد الاستحباب
(7)
على القول الآخر. فإنَّ الوضوء يخفّف حدثَ الجنابة، ويجعله طاهرًا من بعض الوجوه. ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن
(1)
انظر ما سبق من التعليق في ص (425).
(2)
وقع في الأصل: "عرش" كذا في الموضعين. ولعله سهو. وكذا في "ف" وكذا في الموضع الثاني في "ب".
(3)
"ك، ط": "في السجود".
(4)
"ك، ط": "لها بالسجود".
(5)
أخرجه عبد اللَّه بن المبارك في الزهد (1245) وسنده ضعيف. "ز".
(6)
نصّه عند البخاري (287، 289) ومسلم (306) من حديث عمر بن الخطاب. رضي الله عنه (ز).
(7)
"ف": "للاستحباب".
منصور وغيرهما عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهم إذا كان أحدُهم جنُبًا ثمَّ أراد أن يجلس في المسجد توضَّأ ثمَّ جلس فيه
(1)
. وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أنَّ المساجد لا تحلّ لجنب
(2)
. فدلَّ
(3)
على أنَّ وضوءَه رفع حكمَ الجنابة المطلقة الكاملة التي تمنع الجسد
(4)
من الجلوس في بيت اللَّه، وتمنع الروح من السجود بين يدي اللَّه.
فتأمَّلْ هذه المسألةَ وفقهَها
(5)
، واعرف بها مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم. فهل ترى أحدًا من المتأخّرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذي خصَّ اللَّه به خيارَ عباده، وهم أصحاب نبيّه؟ وذلك فضل اللَّه، يؤتيه من يشاءُ، واللَّه ذو الفضل العظيم.
فإذا استيقظ هذا
(6)
القلب من منامه صعد إلى اللَّه بهمّه وحبّه وأشواقه
(7)
مشتاقًا إليه، طالبًا له، محبًّا له
(8)
، عاكفًا عليه. فحاله كحال المحبّ الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، وضرورتُه إليه أعظم من ضرورته إلى التنفّس
(9)
والطعام والشراب. فإذا نامَ غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (646) عن عطاء بن يسار (ز).
(2)
انظر مجموع الفتاوى (21/ 344).
(3)
"فدلّ" ساقط من "ك، ط".
(4)
"ب، ك، ط": "الجنب"، تحريف.
(5)
"ب": "تفهمها"، تحريف.
(6)
"هذا" ساقط من "ب".
(7)
"ب": "شوقه".
(8)
"ط": "محتاجًا إليه" مكان "محبًّا له".
(9)
"ك، ط": "النفس".
والحب المقلق، فحبيبُه آخرُ خطراته عند منامه، وأوّلُها عند استيقاظه، كما قال بعض المحبّين لمحبوبته
(1)
:
أآخرُ شيءٍ أنتِ في كلِّ هَجْعةٍ
…
وأوَّلُ شيءٍ أنتِ عندَ هُبوبي؟
(2)
فقد أفصح هذا المحبُّ عن حقيقة المحبّة وشروطها. فإذا كان هذا في محبّة مخلوقٍ، فما الظنّ بمحبّة
(3)
المحبوب الأعلى؟ فأُفِّ لِقلبٍ لا يصلح لهذا ولا يصدّق به، لقد صُرِفَ عنه خيرُ الدنيا والآخرة!
فصل
فإذا استيقظ أحدهم، وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأوَّلُ ما يجري على لسانه ذكرُ محبوبه، والتوجّه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن يخلّي بينه وبين نفسه، وأن لا يكِلَه إليها، فيكلَه إلى ضَيْعةٍ
(4)
وعجز وذنب وخطيئة، بل يكلأَه كلاءَة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
فأوَّل ما يبدأ به قول
(5)
: "الحمد للَّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشورُ"
(6)
، متدبِّرَا لمعناها من ذكرِ نعمةِ اللَّه عليه بأن أحياه بعد نومه
(1)
"ب، ك، ط": "لمحبوبه".
(2)
ذكره المؤلف في روضة المحبّين (387). وهو من بيتين في حماسة أبي تمام (2/ 75). وقد نسبا في بلاغات النساء (119) وذيل الأمالي (70) إلى امرأة. وأنشده الراغب في محاضراته (2/ 55) لعليّ بن الجهم.
(3)
"ك، ط": "في محبة".
(4)
"ك، ط": "ضعة"، تحريف.
(5)
"قول" ساقط من "ب، ك، ط".
(6)
أخرجه البخاري في الدعوات (6312) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سويًّا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات التي هو غرض وهدف لسهامها، كلُّها تقصده بالهلاك أو الأذى، والتي
(1)
من بعضها أرواح
(2)
شياطين الإنس والجنّ، فإنَّها تلتقي بروحه إذا نام، فتقصد إهلاكه وأذاه؛ فلولا أنَّ اللَّه سبحانه يدفع عنه لما سلم.
هذا، وكم يلقى
(3)
الروح في تلك الغَيبة من أنواع الأذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداء والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأرواح. فمن الناس من يشعر بذلك لرقة روحه ولطافتها، ويجد آثار ذلك فيها إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحي الذي ربما غلب حتَّى سرى إلى البدن. ومن النَّاس من تكون روحه أغلظ وأكثف
(4)
وأقسى من أن تشعر بذلك، فهي مثخَنةٌ بالجراح، مزمَنة بالأمراض، ولكن لموتها
(5)
لا تحسّ بذلك.
هذا، وكم من مريدٍ لإهلاك جسمه من الهوامّ وغيرها قد حفظه منه، فهي في أجحارها محبوسة عنه، لو خُلِّيتْ وطبعَها لأهلكته. فمن ذا الذي كلأَه وحرَسه، وقد غاب عنه حسُّه وعلمُه وسمعُه وبصرُه؛ فلو جاءَه البلاءُ من أي مكان جاءَ لم يشعر به. ولهذا ذكَّر سبحانه عبادَه هذه النعمة، واعتدّها
(6)
عليهم من جملة نعمه، فقال: {مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
(1)
كذا في الأصل و"ط" مع واو العطف، وفي "ف" وغيرها دونها.
(2)
"أرواح" ساقط من "ط".
(3)
"كم" ساقط من "ط". وفي "ب": " تلقى". وفي "ط": "تلتقي".
(4)
"ب": "أكثف وأغلظ".
(5)
"ط": "لنومها".
(6)
"ك": "أعدّها"، "ط":"عدِّها".
وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء/ 42].
فإذا تصوَّر العبدُ ذلك فقال: "للَّه" كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك. ثمَّ يُفكِّر
(1)
في أنَّ الذي أعاده بعد هذه الإماتة حيًّا سليمًا قادرُ
(2)
على أن يعيده بعد موتته الكبرى حيًّا كما كان، ولهذا يقول بعدها:"وإليه النشور".
ثمَّ يقول: "لا إله إلا اللَّه وحدَه لا شريك له، له الملك، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءِ قدير. الحمد للَّه، وسبحان اللَّه
(3)
، واللَّه أكبر، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه"
(4)
. ثمَّ يدعو ويتضرّع.
ثمَّ يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحِب لما فيه
(5)
.
ثمَّ يصلّي ما كتب اللَّه له صلاةَ محبٍّ ناصحٍ لمحبوبه متذللٍ منكسرٍ بين يديه، لا صلاةَ مُدِلٍّ بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيرَه، واستزاره وطرد غيرَه، وأهَّله وحرَم غيره، فهو يزداد بذلك محبَّةً إلى محبته. يرى
(6)
أنَّ قرَّة عينه وحياةَ قلبه وجنَّة روحه
(1)
"ك، ط": "تفكر".
(2)
"ط": "قادرًا"، خطأ.
(3)
"ك، ط": "سبحان اللَّه والحمد للَّه". وكذلك ورد فيها بعده "ولا إله إلا اللَّه" ولم ترد هذه الزيادة في صحيح البخاري إلّا في رواية كريمة، وكذا عند الإسماعيلي والنسائي والترمذي وابن ماجه. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 40). وانظر: الوابل الصيب (254).
(4)
أخرجه البخاري في التهجد (1154) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(5)
ما بعد "حاضر" ساقط من "ب".
(6)
"ط": "ويرى".
ونعيمَه ولذَّته وسرورَه في تلك الصلاة، فهو يتمنَّى طولَ ليله، ويهتمّ بطلوع الفجر، كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك. فهو كما قيل:
يودُّ أنَّ ظلامَ اللَّيل دامَ له
(1)
…
وزِيدَ فيه سوادُ القلبِ والبصَرِ
(2)
فهو يتملَّق فيها مولاه تملَّقَ المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًا لكلِّ آية حظّها من العبوديّة. فتجذب قلبَه وروحَه إليه آياتُ المحبّة والوداد، والآياتُ التي فيها الأسماءُ والصفات، والآياتُ التي تعرّفَ
(3)
بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم. وتطيِّبُ له السيرَ آياتُ الرجاء والرحمة وسعة البرّ والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيّب له السيرَ ويهوّنه عليه
(4)
. وتُقلِقُه آياتُ الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه، العادلين به غيرَه، المائلين إلى سواه؛ فتجمعه عليه وتمنعه
(5)
أن يشرد قلبه عنه. فتأمَّلْ هذه النكتةَ
(6)
، وتفقَّهْ فيها، واللَّه المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلا به
(7)
.
وبالجملة فيشاهد المتكلّمَ سبحانه، وقد تجلَّى في كلامه، ويعطي كلَّ آية حظَّها من عبودية قلبه الخاصَّة الزائدة على مجرَّد تلاوتها
(1)
"ب": "طوّله".
(2)
البيت لأبي العلاء المعرّي في سقط الزند (56).
(3)
"ب": "يتعرف".
(4)
"عليه" ساقط من "ط".
(5)
"ك، ط": "فيجمعه عليه ويمنعه".
(6)
"ب، ط": "هذه الثلاثة"، وهو تحريف طريف. وكذا كان في "ك"، ثم عدّل فيها.
(7)
"ب، ك، ط": "إلّا باللَّه".
والتصديق بأنَّها كلام اللَّه، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها. بلَ
(1)
ثَمَّ شأن آخر لو فطن له العبد لعلِمَ أنَّه كان قبلُ يلعب، كما قيل:
وكنتُ أرى أن قد تناهَى بيَ الهوى
…
إلى غايةٍ ما بعدَها ليَ مذهبُ
فلَمَّا تلاقَينا وعايَنْتُ حسنَها
…
تيفَّنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ
(2)
فواأسفاه! وواحسرتاه! كيف ينقضي الزمان، وينفد العمر، والقلب محجوب ما شمّ لهذا رائحة! خرج
(3)
من الدنيا كما دخل إليها
(4)
، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا، وموته كمدًا، ومعاده حسرةً وأسفًا!
اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بك.
فصل
فإذا صلَّى ما كتب اللَّه
(5)
جلس مطرقًا بين يدي ربِّه تعالى هيبةً له وإجلالًا، واستغفره استغفارَ من قد تيقن أنَّه هالك إن لم يغفر له
(1)
"بل" ساقط من "ب، ك، ط".
(2)
"ب": "علمت يقينًا أنني كنت ألعب". وقد ذكر المصنف البيتين في مفتاح دار السعادة (1/ 363) ومدارج السالكين (1/ 592). وأنشدهما مع بيت ثالث أبو بكر محمد بن داود الظاهري في كتاب الزهرة (274)"لبعض أهل هذا العصر".
(3)
"ب، ك، ط": "وخرج".
(4)
"ب": "فيها".
(5)
زاد في "ب": "له".
ويرحمه. فإذا قضى من الاستغفار وطرًا، وكان عليه بعدُ ليلٌ اضطجع على شقّه الأيمن مُجِمًّا نفسَه، مريحًا لها، مقوِّيًا لها
(1)
على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطًا بجده وهمته كأنِّه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا. فهو يريد أن يستدرك ما فاته في صلاة الفجر، فيصلِّي السنة، ويبتهل بينها وبين الفريضة، فإنَّ لذلك الوقت شأنًا
(2)
يعرفه من عرفه. ويكثر فيه من قول "يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت"، فلهذا الذكر في هذا الموطن تأثيرٌ عجيب
(3)
.
ثمَّ ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصفَّ الأوَّل عن يمين الإمام أو خلف قفاه. فإن فاته ذلك قصدَ القربَ منه مهما أمكن، فإنَّ للقربِ من الإمام تأثيرًا
(4)
في سرّ الصلاة. ولهذا القرب تأثيرٌ في صلاة الفجر خاصَّةً يعرفه من عرف قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء/ 78]. قيل: يشهده اللَّه عز وجل وملائكته. وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون في صلاة الفجر، وذلك لأنَّها في
(5)
أوَّل ديوان النهار وآخر ديوان الليل فيشهدها ملائكة الليل والنهار. واحتجَّ لهذا القول بما في الصحيح من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ صلاة الجميع على صلاة الواحد
(1)
"ب": "متقويًّا بها".
(2)
في الأصل: "شأن" بالرفع. والمثبت من "ف" وغيرها.
(3)
انظر: ما نقله في ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مدارج السالكين (1/ 529 و 3/ 246).
(4)
هنا أيضًا في الأصل: "تأثير" بالرفع. والمثبت من "ف" وغيرها.
(5)
"ط": "هي".
خمسٌ وعشرون درجة، وتجتمع ملائكةُ الليل وملائكةُ النّهار في صلاة الفجر" يقول أبو هريرة
(1)
: واقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} رواه البخاري في الصحيح
(2)
.
قال أصحاب القول الأوَّل: وهذا لا ينافي قولنا، وهو أن يكون اللَّه سبحانه وملائكة الليل والنهار يشهدون قرآن الفجر، وليس المراد الشهادة العامَّة، فإنَّ اللَّه على كلِّ شيءٍ شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنوّ متصل بدنوّ الربّ تعالى ونزوله إلى سماءِ الدنيا في الشطر الأخير من الليل.
وقد روى الليث بن سعد، حدّثني زياد
(3)
بن محمد، عن محمد بن كعب القُرَظي
(4)
، عن فضالة بن عبيد الأنصاري، عن أبي الدرداء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّهَ عز وجل ينزلُ في ثلاثِ ساعاتٍ يَبقينَ من اللَّيلِ، فيَفْتَحُ الذِّكْرَ في السَّاعةِ الأولى الذي لم يرَه غيرُه، فيمحو اللَّه ما يَشَاءُ ويُثْبِتُ. ثُمَّ يَنْزِلُ في السَّاعَةِ الثانية إلى جنَّةِ عَدْن، وهي دارُه التي لم تَرَهَا عيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وهِيَ مَسْكَنُه لا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاث، وهم النبيّون والصدِّيقون والشهداءُ، ثم يقول: طُوبى لمن دَخَلَكِ، ثمَّ ينزلُ في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا بِرُوحه وملائكته
(1)
"ط": "لقول أبي هريرة"، تحريف.
(2)
في كتاب الأذان (648). وانظر: صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (649).
(3)
"زياد" كذا في الأصل و"ف"، وهو تحريف، والصواب:"زيادة" كما في الإكمال لابن ماكولا (4/ 196) والمؤتلف والمختلف للدارقطني (1151). وكذا في "ك، ط".
(4)
"ك، ط": "زيادة بن محمد بن كعب القرظي"، تحريف.
فتنتفضُ فيقول: قومي بعزَّتي. ثمَّ يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأغفرَ له؟ ألا مِن سائلٍ يسألني فأعطيَه؟ ألا من
(1)
داع يدعوني فأجيبَه؟ حتّى تكونَ صلاةُ الفجر. ولذلك يقول اللَّه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} يشهدُه اللَّه عز وجل وملائكتُه ملائكةُ الليل والنهار"
(2)
.
ففي هذا الحديث أنَّ النزول يدوم إلى صلاة الفجر. وعلى هذا فيكون شهود اللَّه سبحانه لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له، وهذه خاصَّة لصلاة
(3)
الصبح ليست لغيرها من الصلوات
(4)
. وهذا لا ينافي دوام النزول في سائر الأحاديث إلى طلوع الفجر، ولا سيّما وهو معلّق في بعضها على انفجار الصبح، وهو اتساع ضوئه. وفي لفظ:"حتَّى يُضِيءَ الفَجْرُ"
(5)
وفي لفظ: "حَتَّى يسْطَع الفجر"
(6)
، وذلك هو وقت قراءة الفجر. وهذا دليل على استحباب تقديمها مع مواظبة
(1)
"من" ساقط من "ط".
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (15548) والعقيلي في الضعفاء (2/ 93) وقال: "والحديث في نزول اللَّه عز وجل إلى السماء الدنيا ثابت، فيه أحاديث صحاح، إلّا أن زيادة هذا جاء في حديثه بألفاظ لم يأت بها الناس، ولا يتابعه عليها أحد" وزيادة بن محمد الأنصاري منكر الحديث، قاله البخاري والنسائي وغيرهما. (ز).
(3)
"ط": "بصلاة"، تحريف.
(4)
"ط": "الصلاة"، تحريف.
(5)
أخرجه مسلم (758) - (169، 172). (ز).
(6)
أخرجه أحمد (4268) مرفوعًا، والدارقطني في النزول (10) موقوفًا من حديث ابن مسعود. ومداره على إبراهيم الهجري وفيه ضعف. وهذا الاضطراب في رفعه ووقفه منه. (ز).
النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين على تقديمها في أوَّل وقتها، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالستّين إلى المائة، ويطيل ركوعها وسجودها، وينصرف منها والنساءُ لا يُعْرَفْنَ من الغلَس
(1)
. وهذا لا يكون إلا مع شدَّة التقديم في أوَّل الوقت، لتقع القراءَهُ في وقت النزول، فيحصل الشهود المخصوص.
هذا
(2)
مع أنَّه قد جاءَ في بعض الأحاديث مصرَّحًا به دوامُ ذلك
(3)
إلى الانصراف من صلاة الصبح، رواه الدارقطنيّ في "كتاب نزول الربّ كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا"
(4)
من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ينزلُ اللَّهُ عز وجل كلَّ ليلةٍ
(5)
إلى السماءِ الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول: مَن ذا الذي
يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن ذا الذي يسألني فأعطيَه؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له؟ حتى يطلعَ الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح". رواه عن محمد جماعة: منهم سليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، والدراوردي، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون،
وعبد الوهاب بن عطاء، ومحمد بن جعفر، والنضر بن شميل، كلّهم قال:"أو ينصرف القارئ من صلاة الفجر".
(1)
كما في حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (578) وغيره.
(2)
"هذا" ساقط من "ك، ط".
(3)
"دوام ذلك" ساقط من "ب".
(4)
برقم (13 - 21)
(5)
"كل ليلة" ساقط من "ب، ك، ط". ثم استدرك في حاشية "ك". وفيها جميعا: "سماء الدنيا".
فإنْ كانت هذه اللفظة محفوظةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي صريحة في المعنى كاشفة للمراد. وإن لم تكن محفوظة، وكانت من شكِّ الراوي هل قال هذا أو هذا، فقد قدَّمنا أنَّه لا منافاة بين اللفظين، وأنَّ حديث الليث بن سعد عن محمد بن زياد
(1)
يدلُّ على دوام النزول إلى وقت صلاة الفجر، وأنَّ تعليقه بالطلوع لكونه أوَّل الوقت الذي يكون فيه الصعود. كما رواه يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن الأغرّ أبي مسلم قال: شهِدَ لي
(2)
على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنَّهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ اللَّهَ عز وجل يُمْهِلُ حَتَّى إذا ذهبَ
(3)
ثلث الليل هَبَط إلى هذهِ السَّماءِ، ثمَّ أمرَ بأبواب السَّماء ففتحت، ثمَّ قال: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من داعٍ فأجيبَه؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من مستغيث أغيثه؟
(4)
هل من مضطرٍّ أكشفُ
(5)
عنه؟ فلا يزالُ ذلك
(6)
مكانه حتى يطلع الفجر في كلِّ ليلة من الدنيا، ثمَّ يصعد إلى السماء". قال الدارقطني
(7)
: فزاد فيه يونس بن أبي إسحاق زيادةً حسنةً.
والمقصود ذكر القرب من الإمام في صلاة الفجر وتقديمها في
(1)
كذا وقع في الأصل وغيره، وهو خطأ فقد مرّ آنفًا أنّ صوابه: زيادة بن محمد.
(2)
كذا في الأصل و"ف". فإنْ لم يكن خطأ فالمقصود أنَّ إسحاق قال: شهد لي أبو مسلم، وفي "ب، ك، ط": "شهدتُ".
(3)
"ط": "كان".
(4)
"ف": "فأغيثه"، خلاف الأصل. وكذا في "ب، ط".
(5)
"ب": "فأكشف".
(6)
"ب": "كذلك".
(7)
النزول (55)، ولفظة:"ثمَّ يصعد إلى السماء" غريبة غير محفوظة لم يروها الثقات من أصحاب أبي إسحاق، ولا أحد من أصحاب الأغر أبي مسلم. راجع صحيح مسلم (758)، والنزول للدارقطني (52 - 64). (ز).
أوَّل وقتها
(1)
.
فصل
فإذا فرغَ من صلاة الصبح أقبل بكلّيّته على ذكر اللَّه والتوجّه إليه بالأذكارِ التي شُرِعَت أوَّل النَّهارِ، فيجعلها وِردًا له لا يُخِلُّ به
(2)
أبدًا، ثمَّ يزيد عليها ما شاءَ
(3)
من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتّى تطلع الشمس حسنًا
(4)
. فإذا طلعت فإن شاء ركع ركعتي الضّحى وزاد ما شاء، وإن شاء قام من غير ركوع.
ثمَّ يذهب متضرّعًا إلى ربِّه، سائلًا له أن يكون ضامنًا عليه، متصرِّفًا في مرضاته بقيّة يومه. فلا يتقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاةُ ربه، وإن كان من الأفعال العاديّة الطبيعيّة قَلَبه عبادةً بالنية، وقصَدَ الاستعانة به على مرضاة الربّ. وبالجملة فيقف عند أوَّل الداعي إلى فعله
(5)
، فيفتّش ويستخرج منه منفذًا ومسلكًا يسلك به إلى ربّه. فينقلب في حقّه عبادة وقربة. وشتَّان كم
(6)
بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الربّ لا بدّ له من فعلِه، وفتَّش فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعله
(7)
لأجل ذلك، وجعل الأمر طريقًا له ومنفذًا لمقصده. فسبحان من فاوت
(1)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(2)
"به" يعني: بالورد. وفي "ط": "بها".
(3)
وقع "ما شاء" في "ب" بعد "الفاضلة".
(4)
"ف، ب": "حسناء". والكلمة ساقطة من "ط".
(5)
"إلى فعله" ساقط من "ب".
(6)
كذا وقع في الأصل وغيره، وهو أسلوب غريب.
(7)
"ط": "ففعل".
بين النفوس إلى هذا الحد والغاية! فهذا عباداته عادات، والأوَّل عاداته عبادات!
فإذا جاءَ فرضُ الظهر بادرَ إليه كذلك
(1)
مكمِّلًا له، ناصحًا فيه لمعبوده كنصح المحبّ الصادق المحبّة لمحبوبه الذي قد طلب منه أن يعمل له شيئًا ما، فهو لا يُبقي مجهودًا، بل يبذل مقدوره كلَّه في تحسينه وتزيينه
(2)
وإصلاحه وإكماله، ليقع موقعًا من محبوبه، فينال به رضاه عنه وقربه منه. أفلا يستحيي العبد من ربِّه ومولاه ومعبوده أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبّين في أشغال محبوبيهم من الخلقِ كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله، بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبّه من الخلق، فلا أقلَّ من أن يكون مع ربِّه بهذه المنزلة. ومن أنصف نفسه وعرف أعمالَه استحيا من اللَّه أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه، وهو يعلم من نفسه أنَّه لو عمل لمحبوب له من النَّاس لبذل فيه نُصْحَه، ولم يَدَعْ من حسنه شيئًا إلا فعَلَه.
وبالجملةِ، فهذا حال هذا العبد مع ربِّه في جميع أعماله، فهو يعلم أنَّه لا يوفي هذا المقام حقَّه، فهو أبدًا يستغفر اللَّه عقيب كلّ عمل. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة استغفر ثلاثًا
(3)
، وقال تعالى:{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات/ 18]. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى السحر، ثمَّ
(1)
"كذلك" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ب": "ترتيبه"، تصحيف، فإنه ضبط في الأصل بالنون.
(3)
"ط": "استغفر اللَّه. . . "، وقد أخرجه مسلم في كتاب المساجد (591) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
جلسوا يستغفرون ربّهم
(1)
، وقال تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة/ 199] فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وشرع للمتوضئ أن يقول بعد وضوئه:"اللّهُمّ اجْعَلْنِي من التَّوّابينَ واجْعَلْنِي من المتطهرين"
(2)
. فهذه توبة بعد الوضوء، وتوبة بعد الحجِّ، وتوبة بعد الصلاة، وتوبة بعد قيام الليل. فصاحب هذا المقام مضطرٌّ إلى التوبة والاستغفار كما تبيّن، فهو لا يزال مستغفرًا تائبًا، وكلَّما كثرت طاعاتُه كثرت توبتُه واستغفارُه.
فصل
وجماع الأمر في ذلك إنَّما هو بتكميل عبوديّة اللَّه عز وجل في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلّها في محبوبات اللَّه، فكمالُ
(3)
عبوديّة العبد موافقتُه لربِّه في محبَّه
(4)
ما أحبَّه، وبذلُ الجهدِ في فعله؛ وموافقتُه في كراهة ما كرهه، وبذلُ الجهد في تركه. وهذا إنَّما يكون للنفس المطمئنّة، لا للأمَّارة ولا للّوَّامة. فهذا كمال من جهة الإرادة
(1)
تفسير الطبري (26/ 198).
(2)
أخرجه الترمذي (55) من حديث عمر بن الخطاب وقال: "حديث عمر قد خولف زيد بن الحباب في هذا الحديث. وروى عبد اللَّه بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عمر؛ وعن ربيعة عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عمر. وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير شيء"(ز).
(3)
"ك، ط": "وكمال". وقد سقط ما بعد "عبودية" إلى هنا في "ف" لنزول البصر إلى السطر الثاني.
(4)
"ك، ط": "محبّته".
والعمل.
وأمَّا من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرتُه منفتحةً في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاصّ فيها مطابقٌ لما جاء به الرسول لا مخالفٌ له، فإنّ بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف. ويكون مع ذلك قائمًا بأحكام العبوديّة الخاصَّة التي تقتضيها كلُّ صفة بخصوصها.
وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم. وهو
(1)
طريق سهل قريب مُوصِل، طريق
(2)
آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه. ولكن يستدعي رسوخًا في هذا
(3)
العلم، ومعرفةً تامَّةً به، وإقدامًا على ردِّ الباطل المخالف له ولو قاله من قاله. وليس عند أكثر النَّاس سوى رسومٍ تلقَّوها عن قومٍ معظَّمين عندهم، فهم
(4)
لإحسان ظنِّهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم، ولم يتجاوزوها إلى غيرها
(5)
، فصارت حجابًا لهم وأيَّ حجاب!
فمن فتح اللَّه بصيرةَ
(6)
قلبه وإيمانه حتَّى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل، فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ولا يُخاف عليه إلا مِن ضعفِ همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همَّة عالية فذاك السابق حقًّا،
(1)
"وهو" ساقط من "ك، ط".
(2)
"طريق" ساقط من "ب".
(3)
"هذا" ساقط من "ب، ك، ط".
(4)
"ب، ك، ط": "ثمّ"، تحريف.
(5)
"إلى غيرها" ساقط من "ك، ط".
(6)
"ك": "على بصيرة". "ط": "عليه بصيرة".
واحدُ النَّاس في زمانه
(1)
، لا يُلحَق شأْوُه، ولا يشقُّ غبارُه. فشتَّان ما بين من يتلقَّى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات، وبين من يتلقَّاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرّد ذوقه ووجده، إذا استحسن شيئًا قال: هذا هو الحقّ.
فالسيرُ إلى اللَّه
(2)
من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب، وفتحُه عجب
(3)
. صاحبه قد سبق السُّعاة
(4)
، وهو مستلقٍ على فراشه، غيرُ تعب ولا مكدود، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه. {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل/ 88]. وليس العجب من سائر في ليله ونهاره، وهو في السُّرى
(5)
لم يبرح من مكانه. وإنَّما العجب من ساكنٍ لا يُرى عليه أثرُ السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز! فسائرٌ قد ركبتْه نفسُه، فهو حاملها سائرٌ بها، ملبوك بها
(6)
، يعاقبها وتعاقبه، ويجرّها وتهرب منه، ويخطو بها خطوةً إلى أمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه؛ فهو معها في جهد وهي معه كذلك. وسائرٌ قد ركب نفسَه، وملك عِنانَها، فهو يسوقها كيف شاءَ وأين شاءَ، لا تلتوي عليه، ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف في يد مالكه
(1)
"ط": "بزمانه".
(2)
"إلى اللَّه" ساقط من "ب".
(3)
"ب": "شأنه عجيب وفتحه غريب".
(4)
"ب": "سيق للسعادة"، "ط":"سيقت له السعادة"، تحريف وتغيير. وانظر نحوه في مدارج السالكين (2/ 585).
(5)
"ب": "السير". "ط": "الثرى"، تحريف.
(6)
"بها" ساقط من "ب، ك، ط". وفي "ب": "مكبول"، تحريف. ويقصد المؤلف أن هذا السائر قد نشب بنفسه وتورّط بها، فيجذبها وتجذبه.
وآسِره، وكالدابّة الريّضة
(1)
المنقادة في يد سائسها وراكبها، فهي منقادة معه حيث قادها، فإذا رام التقدّم جمَزَتْ
(2)
به وأسرعت، فإذا
(3)
أرسلها سارت به وجرت في الحَلْبة إلى الغاية ولا يردّها شيء، فتسير به وهو ساكن على ظهرها؛ ليس كالذي نزل عنها فهو يجرّها بلجامها، ويشحَطها ولا تنشحط
(4)
. فشتَّان ما بين المسافرين! فتأمَّل هذا المثل، فإنَّه مطابق لحال السائرين
(5)
المذكورين، واللَّه يختصّ برحمته من يشاء.
فصل
ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبير ربّهم
(6)
تعالى واختياره، بل قد سلَّموا إليه سبحانه التدبيرَ كلَّه، فلم يزاحم
(7)
تدبيرُهم تدبيرَه ولا اختيارُهم اختيارَه، لتيقنهم أنَّه الملك القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولِّي لتدبير
(8)
أمر العالم كلِّه، وتيقّنِهم مع ذلك أنَّه الحكيم في أفعاله الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة. فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفِه
(1)
"ب": "الرضيّة"، تحريف.
(2)
أي: وثبت وأسرعت. والجمزى: ضرب من السير سريع.
(3)
"ب": "وإذا".
(4)
أي: يسحبها ويمرّغها، فلا تنسحب. من كلام العامّة انظر: متن اللغة "شحط"(3: 83). وفي "ك": "يتشحّط".
(5)
"ف": "السالكين"، سهو.
(6)
"ب، ك، ط": "تدبيره".
(7)
"ط": "فلا يزاحم".
(8)
"ط": "تدبير".
أمورَ عباده بـ "لو كان كذا وكذا"، ولا بـ "عسى ولعلَّ"، ولا بـ "ليتَ"؛ بل ربُّهم تعالى أجل وأعظم في قلوبهم من أن يعترضوا عليه، أو يسخطوا
(1)
تدبيرَه، أو يتمنّوا سواه. وهم أعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتّهموه في تدبيره أو يظنّوا به الإخلالَ بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظرٌ بعين قلبه إلى بارئ الأشياء وفاطرها ناظرًا
(2)
إلى إتقان صنعه، مشاهدًا
(3)
لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر
(4)
وعوائدهم ومألوفاتهم.
قال بعض السلف: "لو قُرِضَ جسمي بالمقاريض كان
(5)
أحبَّ إليَّ من أن أقولَ لشيء قضاه اللَّهُ: ليتَه لم يقضِه"
(6)
.
وقال آخر: "أذنبتُ ذنبًا أبكي عليه منذ ثلاثين سنة" -وكان قد اجتهد في العبادة- فقيل
(7)
له: وما هو؟ قال: "قلتُ مرَّةً لشيءٍ كان: ليته لم يكن"
(8)
.
وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنَّها صُنْعُه وأثرُ حكمته. وهو سبحانه أحسن كلَّ
(1)
"ك، ط": "يتسخطوا".
(2)
"ف": "ناظر"، خلاف الأصل، وكذا في "ب، ك، ط".
(3)
"ب، ط": "مشاهد".
(4)
"عقول البشر" ساقط من "ب".
(5)
"كان" ساقط من "ط".
(6)
نقله المصنف في مدارج السالكين (2/ 259). وانظر ما سبق من أثر ابن مسعود رضي الله عنه في ص (172).
(7)
"ك، ط": "قيل".
(8)
نقله في مدارج السالكين (2/ 258).
شيءٍ خلقه، وأتقن كلَّ شيءٍ، فهو
(1)
أحكمُ الحاكمين وأحسن الخالقين، له في كلِّ شيءِ حكمةٌ بالغة، وفي كلِّ مصنوعٍ صُنْعٌ متقَن. والرجلُ إذا عابَ صنعة رجل آخر وذمّها سرى ذاك
(2)
إلى الصانع، لأنَّه كذلك صنعَها، وعن حكمته أظهرَها، إذ كانت الصنعة مجبولةً
(3)
لم تصنع نفسها، ولا صنع لها في خلقها. فالعارفُ لا يعيب إلا ما عابه اللَّه، ولا يذمّ إلا ما ذمَّه.
وإذا سبقَ إلى قلبه ولسانه عيبُ ما لم يعِبْه اللَّه وذمُّ ما لم يذمّه
(4)
، تاب إلى اللَّه منه كما يتوب صاحبُ الذنبِ من ذنبه، فإنَّه يستحيي من اللَّه أن يكون في داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها. فهو يرى نفسه بمنزلة رجلٍ دخل إلى دار ملِك من الملوك، ورأى ما فيها من الآلات والبناءِ والترتيب، فأقبل يعيب منها بعضها ويذمّه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيرًا، ولو كان هذا في مكان هذا لكان أولى. وشاهدَ الملِك يولِّي ويعزل، ويعطي ويحرِم
(5)
، فجعل يقول: لو وُلِّيَ هذا مكان فلان كان خيرًا، ولو عُزِلَ هذا المتولِّي لكان أولى، ولو عوفي
(6)
هذا، ولو أُغني هذا! فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحبٌ له فقدَّم إليه طعامًا فجعل
(1)
"ك، ط": "وهو".
(2)
وردت هنا في "ك، ط" زيادة: "إلى صانعها، فمن عاب صنعة الربّ سبحانه بلا إذنه سرى ذلك".
(3)
"ب": "مجبورة".
(4)
"ك، ط": "يذمه اللَّه".
(5)
"ك، ط": "يحرم ويعطي".
(6)
"ب": "عافى".
يعيب صنعته
(1)
ويذمّه، أكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة
(2)
: "ما عابَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم طعامًا قطّ، إن اشتهى شيئًا أكله وإلا تركه".
والمقصود أنَّ من شأن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همّهم كلّه في إقامة حقّه عليهم. وأمّا التدبير العام والخاصّ فقد سلَّموه لوليّ الأمر كلّه ومالكه الفعَّال لما يريد.
ولعلَّك تقول: ومن
(3)
الذي ينازع اللَّهَ في تدبيره؟ فانظر إلى نفسك -في عجزها وضعفها وجهلها- كيف هي عُرْضةٌ
(4)
للمنازعة، لكن
(5)
منازعةَ جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب! فسبحان من أذلَّه بعجزه وضعفه وجهله، وأراه العبر في نفسه لو كان ذا بصر! كيف هو عاجز القدرة، جبان الإرادة
(6)
، عبد مربوب مدين
(7)
مملوك، ليس له من الأمرِ شيء، وهو مع ذلك ينازع اللَّهَ ربوبيّتَه وحكمتَه وتدبيرَه، لا يرضى بما رضي اللَّه به، ولا يسكن عند مجاري أقداره. بل هو عبد
(1)
"ط": "صفته"، تحريف.
(2)
كذا في الأصل وغيره. والحديث معروف عن أبي هريرة رضي الله عنه كما ذكر المؤلف في الوابل الصيب (339). أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة (3563)، ومسلم في الأشربة (2064).
(3)
"ب، ك": "ومن ذا". "ط": "من ذا".
(4)
أي: تتعرَّض وتتصدَّى للمنازعة. وفي "ط": "عرضت" بالتاء المفتوحة، تحريف.
(5)
"لكن" ساقط من "ط".
(6)
في "ف" وغيرها: "جبَّار الإرادة"، ولعلَّ قراءتنا هي المناسبة للسياق.
(7)
من دانه: أخضعه وساسه، وحاسبه. وفي "ب، ك، ط": "مدبر"، تحريف.
ضعيف مسكين يتعاطى الربوبيّة، فقير مسكين
(1)
في مجموع حالاته يرى
(2)
نفسه غنيًّا، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفًا محسنًا، فما أجهله بنفسه وبربِّه! وما أتركه لحقِّه، وأشده إضاعهً
(3)
لحظه!
ولو أُحْضِرَ رشدَه لرأى ناصيته ونواصي الخلائق بيد اللَّه يخفضها ويرفعها كيف شاء
(4)
، وقلوبهم بيده سبحانه وفي قبضته يقلِّبها كيف يشاءُ، يُزيغ
(5)
منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ
(6)
، ولكان هذا غالبًا على شهود قلبه، فيغيب به عن مشيئاته وإراداته
(7)
واختياره، ولعرف أنَّ التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربّه؛ فينفي العلمُ باللَّه الجهلَ عن قلبه، فتمّحي منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوِّضها إلى مالك القلوب والنواصي، فيصير بذلك عبدًا لربّه تقلّبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتًا آخر يدبر نفسه فيه؛ لأنَّ ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت في قبره ينتظر ما يُفعل به، مستسلمًا
(8)
للَّه، منقطعَ المشيئة والاختيار.
هذا فيما
(9)
يجري على أحدهم من فعل اللَّه وحكمه وقضائه الكوني.
(1)
"ب": "ذليل".
(2)
"ط": "ويرى".
(3)
"ط": "وأشدّ إضاعته".
(4)
"ب، ك، ط": "يشاء".
(5)
"ف": "يرفع"، تحريف.
(6)
"ويقيم من يشاء" ساقط من "ف".
(7)
"ك، ط": "إرادته".
(8)
"ط": "مستسلم".
(9)
"ط": "ما".
فإذا جاءَ الأمر جاءت الإرادة والاختيار، والسعي والجِدّ
(1)
واستفراغ الفكر وبذل الجهدِ. فهو قويّ حيّ فعَّال، يشاهد عبودية مولاه في أمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه، قد أخرج مقدوره من القوَّة إلى الفعل. وهو مع ذلك مستعين بربِّه، قائمٌ بحوله وقوته، ملاحظ لضعفه وعجزه، قد تحقَّق بمعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]، فهو ناظرٌ بقلبه إلى مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفّقه لما يحبّه ويرضاه، عينُه في كلِّ لحظة شاخصةٌ إلى حقّه المتوجّه عليه لربِّه، ليؤديه في وقته على أكمل أحواله.
فإذا وردت عليهم أقدارُه التي تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة:
أحدها
(2)
: الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. وهذا ينشأ
(3)
من مشاهدتهم للطفه فيها وبرّه وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم
(4)
حكمتَه فيها ونصبَها سببًا لمصالحهم، وسَوقهم
(5)
بها إلى حبّه
(6)
ورضوانه. ولهم في ذلك
(7)
مشاهد أُخر لا تسعها العبارة، وهي فتح من اللَّه على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله.
(1)
"ط": "الجدّ والسعي".
(2)
كذا في الأصل وغيره. وانظر ما سبق في ص (79) وفي "ط": "إحداها".
(3)
"ط": "نشأ".
(4)
"للطفه فيها. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(5)
"ب، ك، ط": "شوقهم".
(6)
"ب": "فيها إلى جنته".
(7)
"ط": "من ذلك".
المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها. ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأهل هذا الشأن.
والثالثة
(1)
: للمقتصدين وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته، من التسخّط والتشكّي، واستبطاء الفرج، واليأس من الرَّوح، والجزَع الذي لا يفيد إلا فواتَ الأجر وتضاعُف المصيبة. فالصبر أوَّل منازل الإيمان ودرجاته، وأوسطها، وآخرها؛ فإنَّ صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبرَ في مرتبته، بل الصبر معه، وبه يتحقّق الرضا والشكر، لا تصوُّرَ
(2)
ولا تحقّقَ لهما دونه.
وهكذا كلّ مقام مع الذي فوقه، كالتوكّل مع الرضا، وكالخوف والرجاءِ مع الحبِّ، فإنَّ المقام الأوَّل لا ينعدم بالترقّي إلى الآخر -ولو عُدِم لخلفه ضدُّه، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة- وإنَّما يندرج حكمُه في المقام الذي هو
(3)
أعلى منه، فيصير الحكم له، كما يندرج مقام التوكّل في مقام المحبّة والرضا. وليس هذا كمنازل سير الأبدان الذي إذا قطع منها منزلًا خلَّفه وراءَ ظهره، واستقبل المنزل الآخر معرضًا عن الأوَّل تاركًا له
(4)
. بل هذا بمنزلة
(5)
التَّاجر الذي كلَّما باع شيئًا من ماله وربح فيه، ثمَّ باع الثاني وربح، فقد ربح بهما معًا، وهكذا أبدًا يكون ربحُه في كلِّ صفقة متضاعفًا بانضمامه إلى
(1)
"ب": "المرتبة الثالثة".
(2)
"ب": "ولا يتصوّر".
(3)
"هو" ساقط من "ب، ك، ط".
(4)
"ك، ط": "بارتحاله"، تحريف.
(5)
"ك، ط": "كمنزلة"، تحريف.
ما قبله، فالربح الأوَّل اندرج في الثاني ولم يُعْدَم.
فتأمَّل هذا الموضع وأعطه حقَّه يزُلْ عنك ما يعرض من الغلط في علل المقامات، وتعلمْ
(1)
أنَّ دعوى المدّعي أنَّها من منازل العوامّ ودعوى أنَّها معلولة غلط من وجهين:
أحدهما: أنَّ أعلى المقامات مقرون بأدناها مصاحب له كما تقدم، متضمّن له تضمُّن الكلّ لجزئه، أو مستلزم له استلزامَ الملزوم للازمه لا ينفكّ عنه أبدًا، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالي.
الوجه الثاني: أنَّ تلك المقامات والمنازل إنَّما تكون من
(2)
منازل العوامّ وتعرض لها العلل بحسب متعلّقاتها وغاياتها. فإن كان متعلّقها وغاياتها
(3)
بريئًا من شوائب العلل -وهو أجلُّ متعلَّق وأعظمه- فلا علَّة فيها بحال، وهي من منازل الخواصّ حينئذٍ، وإن كان متعلّقها حظًّا للعبد أو أمرًا مشوبًا بحظّه فهي معلولة من جهة تعلّقها بحظّه. ولنذكر لذلك أمثلة
(4)
:
(1)
قراءة "ف": "يعلم".
(2)
"ب": "إنما هي من منازل". "ك، ط": "إنَّما هي منازل"، وقد صحح في حاشية "ك" بخط مختلف.
(3)
"ف": "غايتها"، خلاف الأصل.
(4)
نقل المصنف هذه الأمثلة من كتاب محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، وقد وصفه الذهبي بالأمام الزاهد العارف، صاحب المقامات والإشارات، ولد سنة 481 هـ، وتوفي بمراكش سنة 536 هـ. سير أعلام النبلاء (20/ 111). نقلها المصنف من كتابه ثمَّ عقب عليها بالنقد وبيان الغلط فيها. وقد اعتمد ابن =