المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العز يقتضي كمال القدرة - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه]

- ‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب

- ‌[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي

- ‌فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]

- ‌عبوديته باسمه "الأوَّل

- ‌[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]

- ‌الفقر والتجريد والفناء من واد واحد

- ‌ تجريد الحنيفية

- ‌فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]

- ‌فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

- ‌فصل

- ‌[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]

- ‌فصل

- ‌العز يقتضي كمال القدرة

- ‌ معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما

- ‌الحمد أوسع الصفات وأعم المدائح

- ‌ الثاني: حمد النعم والآلاء

- ‌قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب

- ‌قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]

- ‌قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل(1)إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.وهي شيئان:

- ‌الثاني(5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل

- ‌قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]

- ‌قاعدة(1)[السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]

- ‌قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]

- ‌ متاجر الأقسام الثلاثة

- ‌ الظالم لنفسه

- ‌ الأشقياء

- ‌ الأبرار المقتصدون

- ‌ السابقون المقرَّبون

- ‌إذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه

- ‌المثال الأوَّل: الإرادة

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌ الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

الفصل: ‌العز يقتضي كمال القدرة

مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل/ 6]، فإنَّ العزَّة تتضمَّن القوَّة، وللَّه القوَّة جميعًا.

يقال: عزَّ يعَزّ -بفتح العين- إذا اشتدَّ وقوي، ومنه الأرض العَزاز للصلبة

(1)

الشديدة؛ وعزَّ يعِزّ -بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه، وعزَّ يعُز -بضم العين- إذا غلب وقهر. فأعطوا أقوى الحركات -وهي الضمة- لأقوى المعاني وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفَها -وهي الفتحة- لأضعف هذه المعاني وهو كون الشيء في نفسه صلبًا، ولا يلزمُ من ذلك أن يمتنع عمَّن يرومه؛ والحركة المتوسطة -وهي الكسرة- للمعنى المتوسط وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزمُ منه أن يقهر غيرَه ويغلبه. فأعطوا الأقوى للأقوى، والأضعف للأضعف، والمتوسط للمتوسط

(2)

.

ولا ريبَ أنَّ قهر المريد

(3)

عمَّا يريده من أقوى أوصاف القادر، فإنَّ قهرَه عن إرادته وجعله غيرَ مريد كان أقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، ف‌

‌العز يقتضي كمال القدرة

والعزَّة

(4)

، ولهذا يوصف به المؤمن، ولا يكون ذمًّا له، بخلاف الكبر. قال رجلٌ للحسن البصري: إنَّك متكبر. فقال: "لستُ بمتكبر، ولكنِّي عزيز".

(1)

"ك، ط": "الصلبة".

(2)

انظر نحو هذا الكلام على "عز" في جلاء الأفهام: (147) ومدارج السالكين (3/ 238) ويظهر من سياقه في جلاء الأفهام أنَّه أفاد ذلك من شيخ الإسلام وانظر: منهاج السنة (3/ 325) والفتاوى (14/ 180).

(3)

"ط": "المربوب"، تحريف.

(4)

"العزّة" ساقطة من "ك، ط".

ص: 231

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون/ 8].

وقال ابن مسعود: "ما زلنا أعزَّةً منذ أسلم عمر"

(1)

. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم أعِزَّ الإسلامَ بأحد هذين الرجلين: عمرَ بن الخطاب، أو أبي جهل ابن هشام"

(2)

.

وفي بعض الآثار: إنَّ النَّاس يطلبون العزَّة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة اللَّه

(3)

.

وفي الحديث: "اللَّهم أعِزَّنا بطاعتك ولا تذلّنا بمعصيتك"

(4)

.

وقال بعضهم: من أراد عزًّا بلا سلطان، وكثرةً بلا عشيرة، وغنًى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة.

فالعزَّة من جنس القدرة والقوَّة. وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّه من المؤمن الضعيف؛ وفي

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عمر بن الخطاب (3884).

(2)

أخرجه الترمذي (3681) وأحمد (5696) وابن حبان (6881) وابن عدي في الكامل (3/ 51) وغيرهم من طريق خارجة بن عبد اللَّه الأنصاري عن نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: "حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر". قلت: خارجة الأنصاري فيه ضعف، وقد تفرد بهذا عن نافع. (ز).

(3)

ذكره المؤلف في إغاثة اللهفان (106).

(4)

ذكره المؤلف في الداء والدواء: (94)"من دعاء بعض السلف". وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 228) من دعاء جعفر الصادق. وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: "اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عزّ طاعتك"، انظر: الحلية (8/ 32).

ص: 232

كلٍّ خير"

(1)

.

فالقدرةُ إن لم تكن معها حكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده، بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان فعله

(2)

فسادًا، كصاحب شهوات الغي والظلم، الَّذي يفعل بقوّته ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإنَّ هذا وإن كان له قوَّة وعزَّة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونةً على شرِّه وفساده.

وكذلك العلمُ كمالُه أن يقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الَّذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه = سفيهٌ غاوٍ، وعلمه عون له على الشرِّ والفساد.

هذا إذا كان عالمًا قادرًا مريدًا له إرادة من غير حكمة. وإن قدَّر أنَّه لا إرادة له بحال فهذا أوَّلًا ممتنع من الحي، فإنَّ وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنعٌ كوجود إرادةٍ بدون الشعور. وأمَّا القدرة والقوَّة إذا قدّر وجودها بدون إرادة فهي كقوة الجماد، فإنَّ القوَّة الطبيعية: التي هي مبدأ الفعل والحركة

(3)

، وقد قال بعض النَّاس: إنَّ لمحلِّها

(4)

شعورًا يليق به، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا

(1)

سبق تخريجه في ص (147).

(2)

"ك، ط": "فعلها".

(3)

زاد هنا في "ط" بين حاصرتين: "لا إرادة لها" ليكون خبرًا لإنّ، وقال في الحاشية إن في الأصل بياضًا! ولا بياض في أصولنا.

(4)

في "ط": "إن [للجماد] " وذكر في الحاشية أن في الأصل (تحملها) وهو تحريف". والصواب ما أثبتنا.

ص: 233

يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}

(1)

[البقرة/ 74]، وبقوله تعالى:{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف/ 77]. وهذه مسألة كبيرة تحتاج إلى كلامٍ لا يليق بهذا الوضع.

والمقصود أنَّ العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالحكمة معهما. واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كلِّ ما خلقه، حكيمٌ في كلِّ ما

(2)

أمر به.

والنَّاس في هذا المقام أربع طوائف:

الطائفة الأُولى: الجاحدة لقدرته وحكمته، فلا يثبتون له تعالى قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفي كونه تعالى فاعلًا مختارًا، وأن صدور العالم عنه بالإيجاب الذاتي لا بالقدرة والاختيار. وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها "عناية إلهية". وهم من أشد النَّاس تناقضًا، إذْ لا يُعقَل حكيمٌ لا قدرة له ولا اختيار، وإنَّما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع "عناية إلهية" من غير أن يرجع منها إلى الرب تعالى إرادة ولا حكمة.

وهؤلاءِ كما أنَّهم مكذبون لجميع الرسل والكتب، فهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب تعالى إلى أعظم

(3)

النقص،

(1)

وردت الآية في الأصل هكذا: "وإنّ من الحجارة لما يشقق. . . " فسقط جزء منها، وكذا في "ف، ن".

(2)

"ك": "خلقه وما أمر به". "ط": "خلقه وأمر به".

(3)

"ط": "للربّ سبحانه أعظم"، وصحّح في القطرية.

ص: 234

وجعلوا كل قادر مريد مختار أكمكَ منه، وإن كان من كان. بل سلبُهم القدرةَ والاختيارَ والفعلَ عن رب العالمين شرٌّ من شرك عبَّاد الأصنام به بكثير، وشرٌّ من قول النصارى إنَّه -تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وإن له صاحبةً وولدًا، فإنَّ هؤلاء أثبتوا له قدرةً وإرادةً وفعلًا اختياريًّا

(1)

وحكمةً، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به، وأمَّا أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية، وأثبتوا له أسماءً لا حقائق لها ولا معنى.

والطائفة الثانية: أقرَّت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات، وجحدت حكمته وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة. وهؤلاء هم النفاة للتعليل والأسباب والقوى والطبائع في المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء. وليس في القرآن عندهم لام تعليل ولا باء تسبيب

(2)

، وكلُّ لامٍ تُوهِم التعليل فهي عندهم لام العاقبة، وكلُّ باءٍ تُشعِر بالتسبيب

(3)

فهي عندهم باء المصاحبة

(4)

.

وهؤلاء سلَّطوا نُفاة القدر عليهم بما نفَوه من الحكمة والتعليل والأسباب، فاستطالوا عليهم بذلك، ووجدوا

(5)

مقالًا واسعًا بالشناعة، فقالوا، وشنعوا. ولعمر اللَّه إنَّهم لمحقّون في أكثر ما شنّعوا عليهم به، إذ نفيُ الحكمة والتعليل والأسباب له لوازم في غاية الشناعة،

(1)

"ك، ط": "إرادة واختيارًا وحكمة".

(2)

"ك، ط": "تسبّب".

(3)

"ك، ط": "بالتسبّب".

(4)

وانظر: مفتاح دار السعادة (2: 256) وشفاء العليل: (298).

(5)

"ط": "فوجدوا"، وأصلح في القطرية.

ص: 235

والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامَّة العقلاءِ.

والطائفة الثالثة: أقرَّت بحكمته، وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه، وجحدت بكمال

(1)

قدرته، فنفت قدرتَه على شطر العالم، وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة والجن والإنس وطاعاتهم. بل عندهم هذه

(2)

كلها لا تدخل تحت مقدوره تعالى، ولا يوصف بالقدرة عليها، ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه. وليس في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنًا والمصلي مصليا والموفق موفقًا، بل هو الَّذي جعل نفسه كذلك. وعندهم أنَّ أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس كانت بغير مشيئته واختياره، تعالى

(3)

اللَّه عن قولهم.

وهؤلاء سلَّطوا عليهم نفاةَ الحكمة والتعليل والأسباب، فمزقوهم كلَّ ممزَّق، ووجدوا طريقًا مَهْيعًا

(4)

إلى الشناعة عليهم، وإبداء

(5)

تناقضهم، فقالوا، وشنَّعوا، ورموهم بكلِّ داهية. إذ نفيُ

(6)

قدرة الربِّ تعالى على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء، ونفيُ التزامها تناقضٌ بيِّن. فصاروا مذبذين

(7)

بين التناقض -وهو أحسن

(1)

ما عدا الأصل: "كمال".

(2)

"هذه" سقطت من القطرية.

(3)

"ك، ط": "فتعالى".

(4)

طريق مهيَع: واضح واسع بين. وقد أشكلت الكلمة على ناسخ "ف"، فحاكى رسمها في الأصل، وأثبت فوقها:"ظ". وتحرفت في "ك، ط" إلى "وسيعًا".

(5)

"ك، ط": "وأبدوا".

(6)

"ك، ط": "ونفي"، وصحح بعضهم في متن "ك".

(7)

"ك، ط": "فصاروا بذلك بين"، تحريف.

ص: 236

حاليهم-

(1)

وبين التزام تلك العظائم التي تُخرِج عن الإيمان، كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك.

فهدى اللَّه الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة/ 213]، فآمنوا بالكتاب كلُّه، وأقرّوا بالحق جميعه، ووافقوا كلَّ واحدة من الطائفتين على ما معها من الحقِّ، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل. فآمنوا بخلق اللَّه وأمره بقدره وشرعه، وأنَّه سبحانه المحمود على خلقه وأمره، وأنَّ

(2)

له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنَّه على كلِّ شيء قدير. فلا يخرج عن مقدوره

(3)

شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالِها وصفاتِها، كما لا يخرج عن علمه؛ فكل ما تعلَّق به علمُه من العالم تعلَّقت به قدرته ومشيئته.

وآمنوا

(4)

مع ذلك بأنَّ له الحجة على خلقه، وأنَّه لا حجَّة لأحدٍ عليه بل للَّه الحجة البالغة، وأنَّه لو عذب أهل سماواته وأهلَ أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم

(5)

عدلًا منه وحكمة، لا بمحض المشيئة المجرَّدة عن السبب والحكمة، كما يقوله الجبرية.

ولا يجعلون القدرَ حجَّةً لأنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به، ويعلمون أن اللَّه سبحانه أنعم عليهم بالطاعات وأنَّها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأنَّ المعاصي من نفوسهم الظالمة

(1)

"ك، ط": "حالهم".

(2)

"ك، ط": "وأنَّه".

(3)

"ن": "قدرته".

(4)

"ك": "فآمنوا".

(5)

"ف": "يعذبهم"، أخطأ في قراءة الأصل. وفي "ك، ط": "تعذيبهم منه".

ص: 237

الجاهلة، وأنَّهم هم جُناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاءِ والقدر، مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خيرٍ وشرٍّ وطاعة وعصيان وكفر وإيمان؛ وأنَّ مشيئة اللَّه سبحانه محيطةٌ بذلك كإحاطة علمه به، وأنَّهُ لو شاءَ أَلَّا يُعصى لما عُصِيَ، وأنَّه سبحانه

(1)

أعزّ وأجلّ من أن يعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون؛ وأنَّه ما شاء اللَّه كان، وكلُّ كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وما

(2)

لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله القدرة التامة والحكمة البالغة

(3)

.

فهذه الطائفة هم

(4)

أهل البصر التام، والأُولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة عُورٌ

(5)

، كلُّ طائفة منهما لهم

(6)

عين عين

(7)

، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين الصحيحة فأعماها أو كاد

(8)

. ولا يستنكِر

(9)

تكرارَ هذه الكلمات من يعلم شدَّة الحاجة إليها

(1)

"ف": "واللَّه سبحانه"، خلافًا للأصل.

(2)

"ط": "من"، وأصلح في القطرية.

(3)

"ط": "الحكمة الشاملة البالغة". وقد اضطربت نسخة "ك" لدخول حاشية (كانت في أصلها) في النص.

(4)

وقع في الأصل: "هل" سهوًا، فترك ناسخ "ف" مكانها بياضًا. والصواب ما أثبتنا من "ك، ط".

(5)

"عور" سقط من "ك، ط"، وهو جمع أعوَر وعوراء.

(6)

"ط": "له"، خطأ.

(7)

"ط": "عمياء". ورسم الكلمة في الأصل يشبه "عيره" أو "عائرة". وأثبت ناسخ "ف": "عميى"، ولا يقصد تأنيث أعمى، فإنَّ رسمها المعهود في الأصل:"عميا". والمثبت من "ن، ك" مع شك في صحته.

(8)

"أو كاد" ساقط من "ط".

(9)

"ك، ط": "يستكثر"، تصحيف.

ص: 238

وضرورة النفوس إليها، فلو تكررت ما تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة، واللَّه المستعان.

فصل

ويجمع هذين الأصلين العظيمين أصلٌ ثالثٌ هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإثباته

(1)

على وجهه يتم بناءُ هذين الأصلين، وهو: إثبات الحمد كلُّه للَّه رب العالمين. فإنَّه المحمود على كل

(2)

ما خلقه، وأمر به، ونهى عنه. فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم، وايمانهم وكفرهم. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار، والملائكة والشياطين، وعلى خلق الرسل وأعدائهم. وهو المحمود على عدله في أعدائه، كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه.

فكل ذرّة من ذرَّات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبَّح

(3)

بحمده السماوات السبع والأرض ومن فيهنَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء/ 144]. وكان من

(4)

قول النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع: "ربَّنا ولك الحمد، مِلْءَ السماوات

(5)

وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد"

(6)

. فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاءَ الَّذي بين الأرض والسماوات

(7)

، ويملأ ما يقدَّر بعد ذلك ممَّا

(1)

"ف": "إبانته"، تصحيف.

(2)

"كل" ساقط من "ك، ط".

(3)

"ن": "يسبح".

(4)

"ك، ط": "في".

(5)

"ك، ط": "السماء".

(6)

أخرجه مسلم في الصلاة (476، 477، 478) عن ابن أبي أوفى وغيره.

(7)

"ك، ط": "السماوات والأرض".

ص: 239

يشاء اللَّه أن يملأ بحمده.

وذاك يحتمل أمرين: أحدهما أن يملأ ما يخلقه اللَّه بعد السماوات والأرض، والمعنى: لك الحمد

(1)

ملء ما خلقتَه وملء ما تخلقه بعدَ ذلك. الثاني: أن يكون المعنى: ملء ما شئتَ من شيء

(2)

يملؤه حمدك، أي يقدَّر مملوءًا بحمدك، وإن لم يكن موجودًا.

لكن قد

(3)

يقال: المعنى الأوَّل أقوى، لأنَّ قوله:"ما شئتَ من شيءٍ بعد" يقتضي أنَّه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، فالمشيئة

(4)

متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له، فتأملْه. لكنَّه إذا شاءَ كونَه فله الحمد ملؤه، فالمشيئة راجعة إلى المملوء بالحمد، فلا بدَّ أن يكون شيئًا موجودًا يملؤه حمدُه.

وأيضًا فإنَّ قوله: "من شيء بعد" يقتضي أنَّه شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات، كما يخلقه بعد ذلك من مخلوقاته من القيامة وما بعدها. ولو أريد تقديرُ خلقه لقيل:"وملء ما شئت من شيء مع ذلك"، لأنَّ المقدَّر يكون مع المحقَّق

(5)

.

وأيضًا. فإنَّه لم يقل: "ملء ما شئت أن يملأه الحمد". بل قال: "ما

(1)

"ك، ط": "أنَّ الحمد" تحريف.

(2)

"ك، ط": "شيء بعد".

(3)

"ك، ط": "ولكن يقال". "ف": "يمكن قد" تحريف.

(4)

"ك، ط": "والمشيئة".

(5)

وردت هنا في الأصل عبارة ضرب عليها، أثبتها للفائدة:"هذا تقرير شيخنا. قلت: وفيه نظر، إذ قوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" يحتمل بعدية الزمان، ويحتمل بعدية المكان المغايرة، أي ما شئت غير ذلك. والبعدية مستعملة فيهما".

ص: 240

شئت". والعبد قد حمد حمدًا أخبر به، وأنشأه،

(1)

ووصفه بأنَّه يملأ ما خلقه الربُّ، وما يشاؤه

(2)

بعد ذلك.

وأيضًا فقوله: "وملء ما شئت من شيءٍ بعد" يقتضي إثباتَ مشيئة تتعلَّق بشيءٍ بعد ذلك. وعلى الوجه الثاني قد تتعلَّق المشيئة بملء المقدَّر، وقد لا تتعلَّق.

وأيضًا فإذا قيل: "ما شئتَ من شيء بعد ذلك" كان الحمد مالئًا لما هو موجود يشاؤه الربُّ دائمًا، ولا ريبَ أنَّ له الحمد دائمًا في الأُولى والآخرة. وأمَّا إذا قدّر ما يملؤه الحمد، وهو غير موجود، فالمقدَّرات لا حدَّ لها، وما من شيء منها إلا يمكن تقدير شيء بعده، وتقدير ما لا نهاية له، كتقدير الأعداد. ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل:"ملء ما لا يتناهى". فأَمَّا ما شاءه

(3)

الربّ تعالى فلا يكون إلا موجودًا مقدَّرًا، وإن كان لا آخرَ لنوع الحوادث وبقاءِ

(4)

ما يبقى منها، فهذا كلُّه ممَّا يشاؤه بعد.

وأيضًا فالحمدُ هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له، ومحاسنُ المحمود تعالى إمَّا قائمة بذاته، وإمَّا ظاهرة في مخلوقاته. فأمَّا المعدوم المحض الَّذي لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة. فالحمدُ للَّه الَّذي يملأ المخلوقات ما

(1)

"ط": "وإن ثناءه"، تحريف.

(2)

"ك": "شاءه". "ط": "يشاء".

(3)

"ك، ط": "يشاؤه".

(4)

"ك": "وبقي"."ط": "أو بقاء".

ص: 241