الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الرواية في موضعين من صحيحه"1". فهذا هو الميزان: الإخلاص، أي إرادة وجْه الله وحده، والفقه في الدين، أيْ إصابة الحكم الشرعيّ.
(1) في البيوع، باب النجش
…
، وفي الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم.
ثانياً: تعريف الإخلاص لله تعالى
ليس المقصود بالتعريف هنا مجرّد التعريف الاصطلاحي واللغويّ، وإنما المقصود تناول هذا الجانب بالإيضاح لمفهوم الإخلاص، والتفصيل فيه بما يكفي لتحقيق الهدف من التعرض له هنا.
الإخلاص: مَصْدرٌ مِن "أَخْلَصَ"، ومثله خَلُصَ الشيء، إذا صفا وتمحّض عن غيره. والمقصود به هنا: إخلاص الاعتقاد والتوجه والقول والعمل لله تعالى وحده؛ وذلك بتمحيص النيات والأقوال والأعمال لله تعالى؛ بأنْ تكون صادرةً عن نِيّةٍ يُراد بها وجه الله تعالى.
وواضحٌ، مِن هذا، أنه بحَسبِ إضافة هذا المَصْدر يتحدد المُخْلَصُ له ويتحدد معنى الإخلاص، ويتبين كذلك مدى أهميته.
حقيقة الإخلاص:
وحقيقة الإخلاص صدقٌ في النيَّة والقول والعمل، فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، وفيما يتعلق بحقوق المخلوقين
حقيقته، أيضاً، جمْع الهم نحو عبادة الله، ونحو الدار الآخرة مع الصدق في ذلك، فإن القلب لا يملك أن يكون مملوءاً بحب الدنيا وهمّها والتوجه إليها ومملوءاً بحب الله والإقبال عليه وعلى إرادة الدار الآخرة والهم بذلك في آنٍ واحد.
وليس معنى هذا تحريم التفكير في الدنيا وأعمالها، فإن ذلك واجب شرعيّ، ولكنَّ شرطه أن لا يكون على حساب الإقبال على الله والدار الآخرة، بحيث يقطعه عن هذا التوجه. ولا يتم هذا للمرء إلا إذا كانت عمارته للدنيا، وتفكيره فيها، واشتغاله بها، إنما هو مِن أجْل عمارةِ الآخرة وعبادةِ الله تعالى، وفي الحدود الشرعية أيضاً.
وهذا المقياس، من مقاييس الإخلاص، جدُّ مُهِمٌّ وحسّاس، والمرء مفتقر لاستخدامه بصفة مستمرة طوال حياته بحيث يراقب نفسه على مقتضاه، فمتى ما رأى همّه وهواه وشغله بالدنيا على حساب عبادة الله وحبّ الله تعالى عَلِمَ أن إخلاصه لله قد اختلّ أو فُقِدَ، وقد قال الله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} "1"، فليس للإنسان قلبان، ولا يمكن أن تكون زوجته التي يظاهر منها أُمّاً له، ولا يمكن أن يكون الابن الدّعيّ ابناً في الحقيقة.
فاعلم يا أخي أن لك قلباً واحداً فمتى رأيته مال مع الدنيا وانشغل بها، فاعلم أنه لا يسعه أن ينشغل أيضاً في الوقت نفسه بعبادة الله تعالى وبحبه
(1) 4: الأحزاب: 33.
وبهمّ الآخرة، وليس لك قلب آخر يتوجه بك إلى عبادة الله وإلى الدار الآخرة، فانتبه يا أخي، وكنْ بصيراً بنفسك ناصحاً لها"1".
غاية الإخلاص:
إنّ غاية الإخلاص:
*أن تُخْلِصَ لله أعمالك على مقتضى ما ادّعيتَه بلسانك بمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أي: أن تشهد بأعمالك بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما شهدتَ ذلك في اعتقادك وكما نطقتَ به بلسانك.
*وأن تُخْلِص لله الأعمال لتتطابق أحوالك كلها على الإخلاص والصدق في القول وفي القصد وفي العمل.
والقَدْر المطلوب مِن الإخلاص هو: ما تَبْلُغُ به رضا الله تعالى، وتجتنب به سخط الله تعالى.
مقتضيات الإخلاص:
إنّ مِن مقتضيات الإخلاص أن يَتحقق في حياة الإنسان ما يلي:
*أن يكون الإخلاص رقيباً على الإنسان، وهو خير شرطيّ -من داخل الإنسان- يمنعه من المخالفات، ويدفعه إلى فعل الطاعات.
*وأن يراقب الإنسان نفسه، ويُحاسبها في الغيب والشهادة، أي عندما
(1) سيأتي موضوعٌ عن: مقاييس الإخلاص. قريباً.
يكون مع الناس وعندما يكون خالياً، ويُحاكمَها في ضوء حقائق الإيمان ومقتضياته.
*وأن يستجيب العبد لداعي الإيمان بالغيب، كاستجابته لداعي الإيمان بالشهادة " أي المشاهد المحسوس "، أو أشد، ويَستجيب لحقائق الإيمان بالغيب، ويُقدِّمَ مقتضيات الإيمان به على المصالح المادية، أو الصوارف المادية الأخرى.
ومِن الأمثلة لتطبيقات هذا المعنى ما يلي:
-إن من مقتضى الإخلاص أن يكون حديث المتحدّث عن الإخلاص بإخلاص، وإلا فما قيمة الحديث عن الإخلاص بغير إخلاص؟!.
وماذا يُجْدي في تحصيل الإخلاص الكلامُ عنه على غير إخلاص؟!.
-كما أن من مقتضيات الفقه أن يكون الحديث عن موضوع الفقه بفقه، أو عن فقهٍ، وإلا فما قيمة كلام المتكلم عن الفقه بغير فقه؟!.
وماذا يُجْدي في تحصيل الفقه الكلام عنه على غير فقه؟!.
وهل قَتَلَ الإخلاصَ شيء كما قتله الكلام عنه على غير إخلاص؟!.
وهل قَتَلَ الفقه شيء كما قتله الكلام عنه على غير فقه؟!.
ولهذا ربما كان حديثُ غير المُخْلِص عن الإخلاص نفاقاً ورياء!.
ولهذا ربما كان حديثُ غير الفقيه عن الفقه نوعاً من البَلَهِ!.
-وهل يستقيم أن يُمْدَحَ الإخلاص رياءً؟!.
-وأن يُمْدح الصدق كذباً؟!
-أو أن ندعو إلى اللغة العربية بالعامية، أو بكلام خارجٍ عن الالتزام
باللغة العربية؟!.
-إنّ مِن مقتضيات الإخلاص، ومفهومه، مراعاة التعامل مع المقاصد والغايات، والنظر في التعامل إلى حقائق الأشياء.
-ومِن ذلك أن يكون تَوَجُّهُ المعلِّم والمتعلِّم في علمهما-مثلاً- إلى حقائق العلم وليس إلى صُوَرِهْ فقط.
قال الإمام أحمد بن محمد المقدسيّ رحمه الله: ""فأمّا عِلْم المعاملة، وهو علم أحوال القلب: كالخوف، والرجاء، والرضا، والصدق، والإخلاص وغير ذلك، فهذا العلم به ارتفع العلماء، وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم، كسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وإنما انحطت رتبة المسمَّين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات، لتشاغلهم بصُوَرِ العلم من غير أخذٍ على النفس أنْ تَبْلُغَ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه. وأنت تجد الفقيه يتكلم في الظهار، واللعان، والسبق، والرمي، ويفرِّع التفريعات التي تمضي الدهور فيها ولا يحتاج إلى مسألة منها؛ ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين؛ لأن في إهماله هلاكَهُ، والأول فرض كفاية.
ولو أنه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن
له جواب.
ولو سئل عن علة تشاغله بمسائل اللعان والرمي، لقال: هذا فرضُ كفاية.
ولقد صدق، ولكن خفي عليه أن الحساب فرض كفاية أيضاً، فهلاّ تشاغل به. وإنما تُبَهْرِجُ عليه النفسُ؛ لأن مقصودها من الرياء والسمعة يحصل
بالمناظرة، لا بالحساب"""1".
وقال أيضاً:
"فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك. وإياك أن تشتغل بما يُصْلِح غيرَك قبل إصلاح نفسك"2"، واشتغلْ بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة: كالحرص، والحسد، والرياء، والعُجْب، قبل إصلاح ظاهرك
…
، فإنْ لم تفرغ من ذلك فلا تشتغل بفروض الكفايات؛ فإن في الخلق كثيراً يقومون بذلك، فإنّ مُهْلِكَ نفسه في طلب إصلاح غيره سفيهٌ، ومَثَلُه مثل من دخلت العقاربُ تحت ثيابه، وهو يَذُبُّ الذباب عن غيره.
فإن تفرغتَ من نفسك وتطهيرها -وما أبعد ذلك- فاشتغل بفروض الكفايات، وراعِ التدريج في ذلك.
فابتدئ بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعلوم القرآن: من التفسير، ومن ناسخ ومنسوخ، ومحكَمٍ ومتشابه، إلى غير ذلك.
وكذلك في السنّة، ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه، وهكذا بقية العلوم، على ما يتسع له العمر، ويساعِد فيه الوقت.
ولا تستغرق عُمُرَك في فَنٍّ واحدٍ منها؛ طلباً للاستقصاء؛ فإن العلم كثير،
(1)"مختصر منهاج القاصدين"، أحمد بن محمد المقدسيّ، ص20. ولا يَخفى أنّ كلام الإمام المقدسيّ-رحمه الله-إنما هو عن تريبب الاشتغال بهذه العلوم، لا عن مبدأِ الاشتغال بها من حيث هو، وقد كان هو من الأئمة الذين اشتغلوا بهذا الواجب على أكمل وجهٍ.
(2)
هذا ليس على إطلاقه، كما سيأتي بعد قليل.