الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك المسلك-وذلك لأن هذه الأحاديث قد جاءت في دائرة مقامَيِ التصريح السابق ذكرهما اللذين يُصَرّح فيهما بمثل هذا. على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس في كلامه هنا شيءٍ مِن التصريح الذي يَستدل له أصحاب هذا المسلك. وأما السائلة، فإنها تسألُ عن حكمٍ مِن أحكام الله لا يمكن لها أن تَعْرفه إلا بالتصريح بتلك العبارات، على أنها قد تأدبت في سؤالها، وقدّمتْ بين يدي سؤالها تلك العبارة المؤدّبة.
فلا حجةَ على ذلك المسلك.
فإلى الفقه والحكمة أيها الخطباء، ويا أيّها المعلمون والمدرسون، حَفِظَكم الله ورعاكم، وإلى الاقتداء بسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتربية والتعليم.
المثال الثالث: مناقشةُ مسألة الاجتهاد في وسائل الدعوة
قد ذهب ببعضِ الناسِ الفهمُ إلى أنّ وسائل الدعوة توقيفية؛ مستدلين بأنّ الدعوة عبادةٌ، والعبادة توقيفية، وأن الدِّين قد كَمُل، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّنَ البيان المبين"1".
لكن هذا الفهم يحتاج إلى مناقشةٍ، وبيانٍ للصواب الذي تَدُلُّ عليه النصوص الشرعية ومقاصدها معاً. وفيما يلي وقفاتٌ مختصرة عند هذا الرأي:
- قد يَختلط أمران على القائلين بأنّ وسائل الدعوة توقيفية، هما:
الأول: كون المنهج في الدعوة توقيفياً.
(1) قد أوْضح حكم الوسائل "، إيضاحاً شافياً د. مصطفى مخدوم في: "قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية في الشريعة الإسلامية"، الرياض، دار إشبيليا،1420هـ-1999م.
الثاني: القول بأن وسائل الدعوة توقيفية-بمعنى اشتراط الدليل الخاص لكل وسيلة، وعدم الاكتفاء بدلالة عموم النصوص الشرعية، وسائر الأدلة-!.
وشتان بين الأمرين؛ فالقول الأول معناه الاتّباع في الدعوة وعدم الابتداع. والقول الثاني معناه قفْلُ باب الاجتهاد في أمْرٍ شَرَع الله فيه الاجتهاد، وهو وسائل الدعوة؛ ولا يَصِحّ أن يُقْفل باب الاجتهاد الذي شَرَعه الله تعالى بحجة الاتّباع، كما لا يَصِح إلغاء الاتّباع بحجة القول بالاجتهاد.
- مما يُرَدُّ به على القول بأن وسائل الدعوة توقيفية، المطالبة بالدليل في موضعِ البحث والنظر؛ فهل مِن دليلٍ يَنُصُّ على هذا الفهم؟ أو هو فهم يَدَّعي صاحبه أنه حُكْم الشرع فقط؟.
إنه ليس مِن دليلٍ سوى نصوصٍ عامّة قد يستدل صاحب هذا القول بعمومها، نَعَمْ عمومها فقط، العموم الذي لا يتعارض مع القول بالإطلاق في وسائل الدعوة- في دائرة الضوابط الشرعية- وذلك لقيام الدليل على تخصيص هذا العموم في هذه الناحية من الموضوع.
- إننا قد نَعْجب من الاتجاه إلى القول بأن وسائل الدعوة توقيفية، في حين أننا لم نر دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة يأمر بأن ندعو إلى الله تعالى بوسيلة محدّدة، وإنما جاءت الأدلة بالأمر بالدعوة مطلقاً، أو الأمر بالدعوة مقروناً بالنصِّ على منهج الدعوة المطلوب، أو أسلوبها المطلوب، أو غايتها.
وأما ما سوى ذلك فلم نَرَ دليلاً واحداً يأمر به، أو يحدده، أو ينص أن الدعوة فيه توقيفية؛ فلماذا نذهب إلى هذا التوقيف في غير موضعه الشرعي؟! لماذا ندّعي أن الحكم الشرعيّ هنا توقيفيٌّ مع عدم قيام الدليل الشرعيّ؟! بل إنّه يعارض الدليل الشرعيّ!.
إن الذين يريدون أن يجعلوا وسائل الدعوة توقيفة يريدون -من حيث يشعرون أو لا يشعرون- أن تتوقف الدعوة!.
إنهم بهذا الفهم يعارضون دليل الشرع!.
كما أنهم يعارضون سنة الله الكونيّة، فيُعارضون سنة الله المتجددة المطّردة في الخَلْق.
إنهم يعارضون الفطرة التي فطر الله عليها عباده، من الرغبة في مواكبة الجديد والتطور، حتى إن النفوس تميل مع الجديد غالباً، فتحب أن تطّلع عليه، وأن تجارِيَهُ في كثيرٍ مِن الأحيان، ولو كان مُضِرّاً أو مشتملاً على شيء من الضرر. لكن الشرع جاء بالميزان الصحيح؛ فلم يُحَرِّم هذه الفطرة، ولم يُلْغها، كما أنه لم يَنْسَقْ معها، ولم يجعلها وحدها هي الدليل على حكم الشرع.
- إن الذين يزعمون بأن وسائل الدعوة توقيفية، يُشارِكون، مِن حيث لا يشعرون، في هزيمة الدعوة، وفي القعود بها عن التأثير المطلوب أن يكون على مستوى العصر، وعلى مستوى إمكانات العصر، وعلى مستوى ما جعله الله تعالى مِن جديدٍ مفيدٍ في باب الوسائل يُسْرِع بالداعية إلى التأثير السريع والفعال في المدعوّ، فيوفّر عليه في الوقت والجهد، وبه يتحقق له الهدف والنتيجة المطلوبة.
- إن هؤلاء الذين يزعمون بأن وسائل الدعوة توقيفية يُضْعِفون الدعوة أمام الدعوات إلى الأديان والمبادئ الأخرى، التي اسْتَخْدَمَتْ مستجداتِ العصر في عالم الاتصال؛ فَنَفَذَتْ بباطلها إلى القلوب والعقول.
وهذه الملاحظات، كلها، تجتمع في هذا الرأي المُحَجِّرِ واسعاً، ومع ذلك يَتَّجه إليه البعض، بدعوى تحكيم الكتاب والسنّة، على الرغم مِن أنه تَبيّن أنه