الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعمر قصير. وهذه العلوم آلاتٌ يراد بها غيرها، وكل شيء يُطْلَبُ لغيره فلا ينبغي أن يُنْسى فيه المطلوب"""1".
وينبغي التنبه هنا إلى أن كلام الإمام المقدسي السابق فيما يتعلق بالنُصْحِ بعدم الاشتغال بما يصلح الآخرين، قبل إصلاح النفس، كلامٌ فيه نظرٌ، وذلك أن الإنسان لا يمكن أن يَفْرُغ من إصلاح نفسِه مادامت أنفاسه تتردد، ولو أُخِذَ بهذا الكلام على إطلاقه لبطلت الدعوة والأمر بالخير، والسعي في إصلاح الآخرين. وهذا الظاهر ليس هو مراده-رحمه الله-وإنما أراد التأكيد على إصلاح النفس، والبعد بها عن حال المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون.
ولكن نقول: اعملْ على إصلاح نفسكَ، وإصلاح غيركَ في خطّين متوازيين مع التركيز على نفسك، أكثر.
علماً بأن الاشتغال بإصلاح الآخرين فيه إصلاح للنفس.
(1) مختصر منهاج القاصدين، ص22، أحمد بن محمد المقدسيّ، وهذا، واللهِ، كلامٌ منهجيٌّ نفيس.
مفهوم الإخلاص والتجرد الكامل:
قد يأتي هنا تساؤلٌ مهم، وهو: هل مِن لازِم الإخلاص التجرد الكامل، بمعنى أنه يُشترط لتحقيق الإخلاص أن لا يكون للإنسان مصلحةٌ مادّيّة، أو دنيويّة إطلاقاً؟.
والجواب هو: لا، لا يقتضي تحقيق الإخلاص في واقع حياة الإنسان، هذا التجرد الكامل، إلى الحدّ الذي يَخْرج فيه الإنسان عن منهج الله في جانبٍ
آخر مِن الفهم والسلوك؛ بأنْ يُحَرِّم ما أباحه الله مِن أوجه الانتفاع الدنيويّ، التي يُمْكن له شرعاً أن يجنيها في الدنيا مِن وراء أعماله؛ بأن ينال مكافأةً أو عِوَضاً من الناس مادّيّاً أو معنويّاً- بما فيها بعض أنواعٍ من الطاعات الوارد فيها شرعاً مثل هذه المشروعية-.
أما الفوائد التي ينالها العبد من الله في الدنيا جزاءً لعمله فهذه مِن ثواب الله، والأصل في العبادات أن يَجْني العبد نفْعها من الله في الدنيا وفي الآخرة، وعلى هذا جاءت نصوص الوعد الإلهيّ؛ إذ جاءت أحياناً بالوعد بالثواب في الآخرة، وأحياناً بالثواب في الدنيا والآخرة، ومرّةً مطْلقةً. والله سبحانه قد شرع العِبادةَ لِعِبادِهِ لينتفعوا هم بها في الدنيا وفي الآخرة، والله غنيٌّ عن العالمين.
فالإخلاص لله؛ إذَنْ، لا يوجب، أو لا يُبيح لصاحبه الخروج عن منهج الله وشرعه. والمقياس في مفهوم التجرد لله هو مقياس الشرع، وليس مجرد الرغبة الإيمانية في التجرد.
وفي النصوص الشرعيّة أمثلةٌ وأدلةٌ تَدُل على صوابِ هذه الملحوظة في معنى الإخلاص، وتلك النصوص تُعَدُّ ضابطاً يمنع من الشطط والميل عن الصواب، سواء كان هذا الميل إلى الغلوّ أو إلى التقصير. ومِن الأمثلة على ذلك ما يلي:
المثال الأول:
الجهاد في سبيل الله: فهو على الرغم من النصوص المتكاثرة المؤكِّدة على اشتراط الإخلاص لله فيه، وعلى خطورة خلوّه من هذا الشرط وعاقبةِ ذلك؛
إلا أن الله أباح للمجاهد الغنائم، وهي أمرٌ دنيويّ.
لكن نلاحظ أن هذه الغنائم التي أباحها الله للمجاهد، هي الأمر ذاته الذي نهى الله المجاهدين عن أن يكون جهادهم من أجله، وأحبطَ به جهاد من قَصَده منهم لذاته.
فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلا عِقَالاً فَلَهُ مَا نَوَى""1".
وقد وردت نصوص تدل على عدم المنع من إرادة الغنائم، طالما أن الجهاد إنما هو لتكون كلمة الله هي العليا. ومن هذه النصوص:
- عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ؛ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟. قال:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ""2".
قال ابن حجر:
"وفي الحديث شاهدٌ لحديثِ: "الأعمال بالنيات"
…
وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإعلاء دين الله
…
" "3".
وأشار ابن حجر إلى أنّ الحالات المسؤول عنها هي:
(1) النسائي، 3138، 3139، الجهاد، وأحمد، 22184، 22221، 22282، والدارمي، 2416، الجهاد.
(2)
البخاري، 2810، في الجهاد والسير، والعلم، 123 وأخرجه في مواضع بألفاظ متقاربة، ومسلم، 1904، في الإمارة، وغيرهما.
(3)
الفتح: 1/222.
- الرجل يقاتل للمغنم.
- الرجل يقاتل للذكر.
- الرجل يقاتل لِيُرَى مكانه.
- الرجل يقاتل رياء.
- الرجل يقاتل غضباً.
قال ابن حجر: "فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمِيّة، والغضب، وكلٌّ منها يتناوله المدح والذم [يَقْصد أنّ حكمه يختلف باختلاف النية والباعث] ؛ فلهذا لم يَحْصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي.
قوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، المراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام.
ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سبباً من الأسباب المذكورة أَخلَّ بذلك.
ويحتمل أن لا يُخِلّ إذا حَصَل ضِمناً، لا أصلاً ومقصوداً.
وبذلك صَرّح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عَرَض له بعد ذلك.
وبذلك قال الجمهور.
لكن روى أبو داود والنسائي، من حديث أبي أمامة، بإسنادٍ جيدٍ، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله؛ أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما
له؟. قال: "لا شيء له"، فأعادها ثلاثاً، كلُّ ذلك يقول:"لا شيء له"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتُغي به وجهه".
ويمكن أن يُحمل هذا على من قصد الأمرين معاً، على حدٍ واحد؛ فلا يخالف المرجَّح أوّلاً.
فتصير المراتب خمساً:
1 -
أن يقصد الشيئين معاً.
2 و3 - أو يقصد أحدهما صِرفاً.
4 و5 - أو يقصد أحدهما ويَحْصل الآخرُ ضِمناً.
فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمناً، وقد لا يحصل، ويدخل تحته مرتبتان"1".
وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى.
ودونه أن يقصدهما معاً فهو محذور أيضاً، على ما دل عليه حديث أبي أُمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل؛ ففيه مرتبتان أيضاً، قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعثُ الأولُ قصْدَ إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه. اهـ.
ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء، إذا كان
(1) وهما:1- أن يقصد غير الإعلاء، ولا يَحْصل الإعلاء.
2-
أن يقصد غير الإعلاء، ويحصل الإعلاء ضِمْناً.
الإعلاء هو الباعث الأصلي، ما رواه أبو داود، بإسنادٍ حسنٍ، عن عبد الله
ابن حوالة قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا؛ فَرَجَعْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئاً وَعَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا؛ فَقَامَ فِينَا، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ لا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ""1"
…
""2".
المثال الثاني:
فِعْل المعروف المتبادَل بين المسلم وأخيه المسلم: فهو أمرٌ مباح، بل هو مما أمر الله به المسلمين. فلو أهدى إنسان إلى آخر شيئاً مادّيّاً ثميناً طمعاً في ثواب الله، ثم كافأه صاحبه بهديّةٍ مادّيّة مثلها، أو أحسن، فإنه يباح له أخذها، بل هذا هو الأَولى-ما لم يَمْنع منه مانعٌ شرعيّ آخر-على الرغم مِن أنه قد كانت هديته لوجه الله، لا يريد من ورائها جزاءً من المخلوق. والنصوص معلومة في الأمر بالتهادي، ونحو ذلك من أفعال البر التي مِن هذا القبيل.
والمؤكَّد أنه يَحبطُ العملُ بإرادة الدنيا في الحالات التالية:
- أن يكون العمل طاعة ليست قابلةً لأخْذِ شيءٍ من الدنيا، عليها أو معها، كأن يُصلي الإنسان، الصلاة المأمور بها، لشيءٍ من الدنيا، أياً كان، وكأن يقرأ القرآن ويتقاضى على قراءته مكسباً مادّيّاً يقرأ من أجله-وهذا بخلاف الأجرة على تعليم القرآن-.
(1) أبو داود، 2535، الجهاد، وأحمد، 21981.
(2)
ابن حجر، الفتح، 13/442.