الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث -مثلاً- مشتملاً على وصفٍ ليس مقصوداً لذاته، فعند سماع الحديث أو قراءته، ومعرفةِ ما فيه من ثواب أو مدْحٍ -للعامل الذي ذَكَرَ الحديث، عَرَضاً، ذلك الوصف له- يظن السامع أو القارئ أن الثواب والمدح له إنما هو من أجل ذلك الوصف العَرَضيّ. في حين أن الأمر ليس كذلك.
أمثلةٌ للأوصاف العارضة في الأحاديث:
قد جاءت الأوصاف المذكورة عَرَضاً في عدّة أحاديث، ومن الأمثلة لذلك الأحاديث التالية:
الحديث الأول:
ما يمكن أن يُفهم عليه حديث: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ""1"؛ فَيُظن أن هذه المنزلة بسبب الشعث والدفع بالأبواب، في حين أنّ الأمر ليس كذلك.
الحديث الثاني:
الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ
(1) مسلم، 2622، البر والصلة والآداب، و2854، الجنة وصفة نعيمها وأهلها. عن أبي هريرة.
يُشَفَّعْ" "1". فَيُظن أن هذا المدح له إنما هو بسبب شَعَث واغبرار القدمين، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، وإنما جاء هذا وصفاً عارضاً.
الحديث الثالث:
حديث: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَيُبَاهِي الْمَلائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثاً غُبْراً""2". فيُظن أن الشعث والغبرة أيضاً هما السبب في هذه المغفرة!.
لكن الأمر ليس على هذا المعنى في جميع هذه الأحاديث. ومن ثم لم يطّرد هذا الفضل والثواب في حديث: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ! ""3".
(1) البخاري، ح2673، الجهاد والسير.
(2)
أحمد، 7986. وأخرجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، برقم 7049.
(3)
مسلم، ح1686، الزكاة.
الحديث الرابع:
2-
ما فُهِم عليه حديث: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا""1".
فقد ظن كثير من الناس أن هذا في الدنيا، وأن معناه أن الله تعالى يحب هذه الرائحة الكريهة، تقدَّس ربنا.
وقد فهموا هذا الفهم من الحديث على الرغم من أن الحديث ليس فيه ذكرٌ لمحبة الله لها، بل إنني لم أقف على شيءٍ مِن هذا، إلا ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:"خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ، أَوْ قَالَ: أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ""2".
لكن هذه الرواية فيها ما يأتي:
- ليس فيها التصريح بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
- جاءت بالشك في لفظة: "أحب إلى الله".
والقاعدة أنه إذا جاءتنا روايةٌ على الشك، وجاءتنا روايات بالجزم، رَدَدْنا
(1) البخاري، الجامع الصحيح
…
، نسخة "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، لابن حجر: ح1894. وأخرجه مسلم في صحيحه، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: ح1151، والترمذي في سننه، بترقيم أحمد شاكر ومن معه: 764، والنسائي في سننه، بترقيم عبد الفتاح أبو غدة: ح2211، و2212،و2213، 2215، و2216، و22172234، وابن ماجة في سننه بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: ح1638، وأحمد في مسنده، في عدة مواضع.
(2)
أخرجه أحمد في المسند، 8366.
التي على الشك إلى التي لا شكّ فيها. وكذلك إذا جاءتنا رواية موقوفة مخالفة للمرفوع حَكَمْنا بالمرفوعة على الموقوفة.
فليس في الحديث نصٌ على أن هذا الخلوف أطيب عن الله في الدنيا، بل ذلك قد فُهِمَ منه خطأً، ويدل على الصواب الرواية الأخرى:"أطيب عند الله يوم القيامة""1"، ويَدُل عليه كذلك الحديث عن دم الشهيد:"الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ""2"، وكذلك النصوص الأخرى في المعنى.
وإنما ذُكِرَ الشعث والغبرة، وخلوف فم الصائم، للإشارة إلى علامةٍ
من علامات الصدق، وذلك بتحمّل الأذى، والمشاق، والمكاره، في سبيل
مرضاة الله تعالى.
فليس المقصود في هذه الأحاديث: مدْح تلك المكروهات لذاتها.
أو الحث عليها، أو الدعوة إليها.
أو الدعوة لاتخاذها بمفردها علامة على إخلاص الإنسان وصدقه.
كيف وقد جاءت الشريعة بالنظافة بمعانيها المتعددة الحسيّة والمعنوية، والدعوة إليها، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله جميل يحب الجمال""3".
ولقد أراد بعض الصحابة أن يتأكد مِن النبي صلى الله عليه وسلم مِن مفهوم الكِبْر؛ خوفاً مِن
(1) مسلم، 1151، الصيام، وأخرجه غيره.
(2)
البخاري، 2803، الجهاد والسير.
(3)
مسلم، 91، الإيمان.