الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرغم مما في الشريط من اسم الله تعالى والآيات والأحاديث!!.
*أَحد الناس إذا وَجَدَ شريطاً فيه أناشيد إسلامية، فإنه يدوس عليه بقدمه؛ ولا يراعي حتى ما فيه من اسم الله تعالى!!.
*قال بعض الناس لشخصٍ: هل فلان من جماعةِ كذا-وسمّى جماعةً يعاديها-؟. قيل له: ولماذا السؤال؟. قال: لأني رأيته واقفاً يوماً مع فلان، وهو مِن هذه الجماعة!!. وهذا مِن أغرب ما يُمْكِن سماعُهُ مِن المقاييس؛ فهل إذا وقفَ شخصٌ مع يهوديّ يُصْبح يهوديّاً، وهل إذا وقف كافر مع مسلم يصبح مسلماً، وهل إذا وقف إنسانٌ مع سلفيّ يصبح سلفيّاً، وهل إذا وقف إنسان مع شافعيٍّ يصبح شافعيّاً!!.
سابعاً: صفات الفقيه وعلاماته
لعلّ مِن المهمّ التعرّفُ على حالِ الفقيهِ حقاً، وفيما يلي كلامٌ أَنقلُهُ عن الإمام عبيد الله بن محمد ابن بطة العكبري"1"، وذلك بعد حذف الأسانيد، وحذْف التكرار؛"2" للاختصار.
قال ابن بطة العكبريّ، مخاطباً السائل الذي كَتَبَ من أجْله تلك الرسالة النفيسة:
(1) في كتابه: "إبطال الحِيَلِ"، بيروت، المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة، 1409هـ 1988م، 5-29.
(2)
وبعد ضبْطِ ما يحتاج إلى ضبطٍ بالشكل من الكلمات، وتصحيح الأخطاء المطبعيّة، سواء في الضبطِ أو في الحروف والكلمات. وكذلك الشأن في علامات الترقيم التي يترتب عليها وضوح المعنى أو خفاؤه، صحّته أو غلطُه، دون أن أُشير إلى ذلك لكثرته.
"غَيْرَ أني أُقدِّم أمام القول، وأبدأ قبل الجواب عن مسألتك، بذكْر صفة الفقيه الذي يجوز تقليده والفزَعُ إليه عند المشكلات، والانقياد إلى طاعته عند نزول المعضلات وحلول الشبهات، ثم أُتْبِعُ ذلك بالجواب عما سألتَ عنه؛ فإني أَرى هذا الاسم قد كثر المتسمُّون به مِن عامةِ الناس وكافّتِهم، وما ذاك إلا لأن البصائر قد عَشِيَتْ، والأفهامَ قد صَدِئتْ، وأُبهِمَتْ عن معنى الفِقْهِ ما هو، والفقيهِ مَن هو؟ فهم يُعَوِّلون على الاسم دون المعنى، وعلى المَنْظَرِ دون الجوهر.
ولذلك قال علي بن أبي طالبٍ كرَّم اللهُ وجهه"1"، حين وَصَفَ المتجاسر على الفتوى بغير عِلْم: سمّاه أشباهُ الناس عالماً، ولم يُفْنِ في العِلْم يوماً سالماً.
وقال رضي الله عنه: "يوشك أن لا يَبْقى من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرةٌ وهي خَرابٌ من الهُدَى، علماؤهم شرُّ مَن تحت أَديم السماء، مِن عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود" 2""".
"وسأَنعت لك معنى الفِقْهِ والفقيه من العربية والشريعة الإسلامية نعتاً جامعاً من الشهادة المقنعة، والدلالة الشافية، مختصِراً ذلك ومقتصِراً على بعض الرواية دون النهاية، وملَخِّصُهُ من الرواية بما فيه الكفاية، تلخيصاً يأتي على ما وراءه [ويغنى] عما سواه.
(1) لا مَساغ للتفريق-بهذا المصطلح في الدعاء-بين عليّ ?، وبين سائر الأصحاب رضي الله عنهم أجمعين، ولعلّ هذا تصرّفٌ من النسّاخ، أو أَثر انتشار ذلك في تلك الأزمان.
(2)
ولعل الناظر يرى اليوم مصداق هذا الكلام؛ لما يراه من حال بعض الناس في هذا الأمر، للأسف.
فأما الفقيه في اللسان الفصيح [أي: في لغة العرب]، فمعناه: الفَهْم، تقول: فلان لا يَفْقه قولي، أي لا يفهم، قال الله عز وجل:{وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّح بِحَمْدِه وَلكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} "1"، أي لا تفهمون. وقوله
عز وجل: {لِيَتَفَقَّهوا فِي الدِّين} "2". أي لِيَتَفَهَّموه فيكونوا علماء به، ومن ذلك قولهم: فلان لا يَفْقه ولا يَنْقه، معناه لا يفهم ولا يعلم.
ونجد الله عز وجل نَدَبَنا إلى توحيده، والمعرفة بعظيم قُدْرته، بما دلنا عليه من بديع صنعته، وعجيب حكمته، وما أَسبغ علينا من نِعْمته، ثم أخبرنا أنه إنما أظهر هذه المعجزات، وفصَّل هذه الآيات للفقهاء العلماء؛ لأنهم هم الذين فَهِموا عنه، وفَقِهوا معنى مراده، فجاز أن يدلّوا عليه بما دلّهم به على نفسه، وجاز أن يكونوا هم النصحاء لعباده بما نَصَحوا به أنفسهم. فإن الله عز وجل وصَفَ نفسه لعباده، وعرّفهم بربوبيته، ودعاهم إلى توحيده وعبادته بما أظهر لهم من قُدْرته فقال عز وجل:{إنّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرج الحيّ مِنَ الْميت} "3"، إلى آخر الآية، ثم قال عز وجل:{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَر حُسْباناً ذَلكَ تَقْدِير العَزِيزِ الْعَلِيم} "4"، ثم قال عز وجل: {وَهُو الَّذِي جَعَلَ لَكُم النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قد
(1) 44: الإسراء: 17.
(2)
122: التوبة: 9.
(3)
95: الأنعام: 6.
(4)
96: الأنعام: 6.
فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون} "1"، ثم قال عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُستَقرٌّ ومستودَعٌ قَد فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَومٍ يَفْقَهُون} "2".
فلما فقهوا عن الله عز وجل ما عظَّم به نفسه، وأَخبر به من جلاله وهيبته، ونفاذ قدرته، وعظيم سلطانه وسطوته، وما وعد به من ثوابه، وتوعّد به من عقابه، ومُلْكه للأشياء في الضُرّ والنَّفْع، والإعطاء والمنع، والدوام والبقاء، هابوا الله عز وجل وأجَلُّوه، واستحيوا الله وعبدوه، وخافوا الله وراقبوه، وذلك لِمَا فقهوا عنه من عظمته وجلاله، وعظِيم ربوبيّته، وَلِحَقِّ ما فقهوا عن الله عز وجل بقلوبهم فأَزعجها، وعن جميع مكاره الله باعدَها، وعلى ما يرضيه حركها وأذابها، ومن مخالفته أَوْجَلها وأَرْهبها، فعند ذلك أضافهم الله عز وجل إلى نفسه فيمن شهد لها بالإلهية، فقال:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ والْمَلائِكَة وَأُولُوا الْعِلْم قائِماً بِالْقِسْطِ} "3"، ثم رفعهم على جميع خَلْقه فقال:{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَالَّذِينَ أُوْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} "4"، وقال:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَّشَاء} "5" قيل: بالعلم. فَهُمْ صفوةُ الله من عباده، وأهل نوره في بلاده. اصْطَفاهم اللهُ لعِلْمه، واختارهم لنفسه، وعرَّفهم حقه، ودلّهم على نفسه، فأقام بهم حجته، وجعلهم قوّامين بالقسط ذُبّاباً عن
(1) 97: الأنعام: 6.
(2)
98: الأنعام: 6.
(3)
18: آل عمران: 3.
(4)
11: المجادلة: 58.
(5)
76: يوسف: 12.
حُرَمِهِ، نصحاء له في خلقه، فارّين إليه بطاعته؛ فلذلك أمر الله عز وجل بمسألتهم، والنزولِ عند طاعتهم، فقال عز وجل:{فَاسَأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ} "1"، ثم أَلصق طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله، فقال:{وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُم} "2"، قال: الفقهاء"3"[أي: هم الفقهاء] . كذا قال المفسرون".
"فطاعتهم على جميع الخَلْق واجبةٌ، ومعصيتهم محرّمة، من أطاعهم رشد ونجا، ومن خالَفَهم هلك وغوى، هم سُرُجُ العِباد ومَنارُ البلاد، وقوّام الأُمم، وينابيع الحِكم في كل وقت وزَمَن، وصفهم الله عز وجل بالخشية والاعتبار، والزهد في كل ما رَغِب فيه الجهلة الأغمار. فقال عز من قائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ} "4"، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَال نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقلها إلا الْعالِمُون} "5".
ووصَفَ قارون وخروجه في زينته، ومباهاته لأهل عصره بما أُوتيه من حُطام الدنيا وزينتها، وغِبْطة الجاهلين له، المريدين منها مثل إرادته، وتأسفهم على مثل حاله، ثم دَلّ على فضل العلماء وإصابتهم الصواب، بعزوف أنفسهم عن ملكه وزينته، ورضاهم بما فهموا عن الله، وتصديقهم له فيما
(1) 43: النحل: 16.
(2)
59: النساء: 4.
(3)
يَعني تفسير "أُولي الأمر" بالفقهاء.
(4)
28: فاطر: 35.
(5)
43: العنكبوت: 29.
وعد من جزيل ثوابه، وحُسْن مآبه لمن آمن بذلك ورضي به، فقال عز وجل:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوم مُوسَى فَبَغَى عَلَيهم وآتَينَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنّ مَفَاتِحَهُ لتنوء بالعُصْبةِ أُولي القوّة} "1"، ثم قال:{فَخَرَجَ عَلَى قَومِه فِي زِينَته. قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُون الحَيَاة الدُّنْيَا يا ليت لنا مثلَ ما أُوتي قارون، إنه لذو حظٍّ عظيم. وَقَالَ الَّذَينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُم ثَوابُ الله خَيرٌ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صَالحاً} "2".
وقال عز وجل تخصيصاً للعلماء وتفضيلاً للفقهاء: {وَلا يُلَقّاها إلا الصّابِرُون} "3" يعني الصابرين على الدنيا وزينتها، رضاءً بالله وبثوابه، وبما أعاضهم من العلم به والفهم عنه، وبما فَقِهوا عنه ما وَعَدَ به مَنْ صبر عنها - ولذلك يُرْوى والله أعلم- في معنى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من يُرِدِ الله به خيراً يُفَقّهْهُ في الدِّين""4".
"ولهذا الفقيه الذي أراد الله به خيراً صفات وعلامات وصَفَها العلماء، وأبانت عن حقائقها العقلاء" ".
ثم أَخذ الإمام ابن بطة يَذكر صفات الفقيه وعلاماته، فقال:
"عن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل".
"عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ألا أُخبركم بالفقيه كل الفقيه؟ مَن لم
(1) 76: القصص: 28.
(2)
80: القصص: 28.
(3)
80: القصص: 28.
(4)
أخرجه البخاري في مواضع مِن صحيحه، منها: 3-كتاب العلم، باب 10، وباب13، وأخرجه مسلم، وغيرهما.
يُقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤَمِّنْهم من مكْر الله، ولم يُرَخّص لهم في معاصي الله، ولم يَدَعِ القرآن رغبةً عنه إِلى غيره".
"قال عبد الله بن مسعود: كفى بخشية الله عِلماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً".
"عن أبي علقمة الليثي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله إن الفِقْهَ ليس بكثرة السَّرْدِ، وسعةِ الهَدْرِ، وكثرةِ الرواية، وإنما الفِقْه خشية الله عز وجل".
"حدثنا ابن مسعود عن أبيه قال: قلت لسعد بن إبراهيم"1": مَنْ أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم"".
"
…
حدّثني بعض القرشيين قال: إن كمال عِلْم العالم ثلاثةٌ: ترْك طلبِ الدنيا بعلمه، ومحبتُهُ الانتفاع لمن يجلس إليه، ورأفتُهُ بالناس".
"قال أبو حازم: لا يكون العالم عالماً حتى تكون فيه ثلاث خصال، لا يَحْقر مَن دونه في العِلْم، ولا يَحْسد من فوقه، ولا يأخذ على عِلْمه دُنيا".
"مَطَرُ الورّاق قال: سألت الحسن عن مسألةٍ فقال فيها. فقلت: يا أبا سعيد، يأبى عليك الفقهاء. فقال الحسن: ثكلتك أمُّك يا مطر، وهل رأيت بعينك فقيهاً قط؟ وقال: تدري ما الفقيه؟ الفقيه: الوَرِع الزاهدُ المقيم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يسخر بمن أسفل منه، ولا يهزأ بمن فوقه، ولا يأخذ على عِلْمٍ عَلّمه الله إياه حطاماً".
"عن الحسن قال: الفقيه المجتهد في العبادة، الزاهد في الدنيا، والمقيم على
(1) في المطبوع: "لسعد ان إبراهيم:" والصواب ما أثبتُّ.
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
"عن الحسن، وقد أتاه رجل سأله عن مسألة فأفتاه، قال: فقال له الرجل: يا أبا سعيد قال فيها الفقهاء غير ما قلت. قال: فغضب الحسن، وقال: "ثكلتك أُمُّك، وهل رأيتَ فقيهاً قط؟ " قال: فسكت الرجل، قال: فسأله رجل فقال: يا أبا سعيد: مَنِ الفقيه؟ قال: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير في دينه، والمجتهد في العبادة. هذا الفقيه".
"سفيان بن عيينة قال: سمعت أيوب يقول: سمعت الحسن يقول: ما رأيت فقيهاً قط يُدَاري ولا يماري، إنما يُفْشي حِكْمته، فإِن قُبلت حَمِدَ الله، وإن رُدّتْ حَمِد الله. قال: وسمعت الحسن يقول: ما رأيتُ فقيهاً قط. وإنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، الدائب على العبادة، المتمسك بالسنة".
"عن وهب بن منبه قال: الفقيه: العفيف، المتمسك بالسنّة، أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان".
"عن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان الثوري: الفقيه: الذي يَعُدُّ البلاءَ نِعْمة، والرخاءَ مصيبة، وأفقه منه من لم يجترئ على الله عز وجل في شيء لعلمه به".
"عن الحارث بن يعقوب قال: يقال: إن الفقيه كل الفقيه: من فَقِهَ في القرآن، وعَرَفَ مَكِيدة الشيطان".
"عن أبي الدرداء قال: لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمْقت الناسَ في ذات الله، ثم يَرْجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً".
"عن أبي الدرداء، قال: إنّ مِنْ فِقْه المرء: ممشاه ومدخله ومجلسه".
"عن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: إنك لا تَفْقه كل الفِقْه حتى ترى للقرآن وجوهاً، وإنك لا تَفْقه كل الفِقْه حتى تمقُتَ الناس في جَنْب الله عز وجل ثم تَرْجعُ إلى نفسك فتكون لها أشدَّ مقتاً منك للناس".
"إبراهيم بن نصر الصائغ قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إنما الفقيه الذي أَنطقتْهُ الخشية، وأسكتتْهُ الخشية. إنْ قال: قال: بالكتاب والسنة، وإنْ سكتَ سكتَ بالكتاب والسنة، وإن اشتبه عليه شيء وقَفَ عنده وردَّه إلى عالِمِهِ".
"عن الحسن قال: إنا لنجالس الرجلَ فنرى أنّ به عِياً وما به عِيٌّ وإنه لفَقِيهٌ مُسْلم. قال وكيع: أسكتته الخشية".
"عن ليث قال: كنت أسأل الشعبي فيُعْرِض عنّي ويَجْبهني بالمسألة، قال فقلت: يا معشر العلماء؟ تَزْوون عنّا أحاديثكم وتَجْبهوننا بالمسألة؟ " فقال الشعبي: "يا معشر العلماء، يا معشر الفقهاء؟! لسنا بعلماء ولا فقهاء. ولكننا قومٌ قد سمعنا حديثاً فنحن نُحَدثكم بما سمعنا. إنما الفقيه: وَرِعٌ عن محارم الله، والعالِمُ مَن خاف الله عز وجل".
"عن مالك بن مِغْول قال: استفتى رجلٌ الشعبيَّ، فقال: أيها العالم أفتني. فقال: إنما العالِمُ مَن يخاف الله".
"عن عطاء وأبي الزناد عن جابر أنه تلا {وَما يَعْقِلُها إلاّ العَالِمُون} "1"، فقال: العالم الذي عَقَلَ عن الله أمْرَهُ؛ فَعَمِلَ بطاعةِ الله، واجتنب سخطَهُ".
"قال عبد الله بن مسعود: ليس العلم للمرء بكثرة الرواية ولكنّ العلم الخشية".
(1) 43: العنكبوت: 29.
"مقاتل بن محمد قال: خرجنا مع سفيان بن عيينة إلى منى في جماعة، فيهم أبو مسلم المستملي، فقال سفيان في بعض ما يتكلم به: العالِمُ بالله الخائف لله، وإن لم يُحْسِن: "فلان عن فلان"، ومَنْ لم يُحْسِن العِلْمَ والخوفَ من الله فهو جاهل وإن كان يُحْسِن: "فلان عن فلان"، المسلمون شهودُ أنفسهم، عَرَضوا أعمالهم على القرآن، فما وافق القرآن تمسكوا به وإلا استَعْتَبوا مِن قريب. قال أبو مسلم: ما أحسنَ هذا الكلام يا أبا محمد، قال: إنه والله أحسن من الدُّرّ، وهل الدُّرّ إلا صَدَفَةٌ؟ ".
"حبان بن موسى قال: سئل عبد الله بن المبارك: هل للعلماء علامة يعرفون بها؟ قال: علامة العالِمِ: مَن عَمِل بعلمه، واستقل كثيرَ العلم والعمل من نفسه، ورَغِب في علمِ غيره، وقَبِل الحق مِن كلِّ مَن أتاه به، وأَخَذَ العِلْم حيث وَجدَه، فهذه علامة العالِمِ وصِفَتُهُ. قال المروذي: فذكرت ذلك لأبي عبد الله. فقال: هكذا هو".
"حدثنا ابن مخلد، حدثنا المروذيّ، قال: قلتُ لأبي عبد الله: قيل لابن المبارك: كيف يُعْرَف العالِم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا ويَعْقل أمر آخرته فقال: نعم كذا يريد أن يكون".
"مَعْمر، قال: سمعت الزهري يقول: لا تثق للناس بعملِ عامل لا يَعْلم، ولا تَرْضَ لهم بعِلْم عالِمٍ لا يعمل".
"أحمد بن مسروق الطوسي، قال: سمعت إبراهيم بن الجنيد يقول: "عوتب بعض العقلاء على تركه المجالس، وقيل له: ما بالك لا تكتب الحديث؟ فقال: قد سمعت حديثين؛ فأنا محاسِبٌ نفسي بهما، فإذا أنا عَلِمت
أني قد عَمِلت بهما كتبتُ غيرهما. قيل: وما الحديثان؟ قال: "مِنْ حُسْن إسلام المرء تَرْكه ما لا يعنيه"، و"حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة"، وأنا أستغفر الله من اعتذاري إليه، وأشكره على ما قد عرّفني من زللي. فانصرَفوا وهم يَحْلفون بالله: ما رأينا أفقه منه، ولا أشدَّ محاسبةً منه لنفسه. قال: فرجع إليه رجلٌ منهم، فقال: أوصني، قال: عليك بتقوى الله وصِدْق الحديث، وتَرْك ما لا يعنيك ثم قام فدخل إلى منزله".
"عن الحسن قال: الرجل إذا طلب باباً من الِعلْم لم يَلْبث أن يُرى ذلك في تخشّعِهِ وبَصَرِهِ ولسانِهِ ويدِهِ وزهدِهِ وصَلاتِهِ وبدَنِهِ، وإنْ كان الرجلُ ليَطلبُ الباب من العلم فلَهُوَ خيرٌ له من الدنيا وما فيها"".
"عن أيوب قال: ينبغي للعالِمِ أن يَضَع التراب على رأسه تواضعاً لله عز وجل".
"مَعْمر القطيعي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: العِلْم إذا لم ينفع ضَرَّ".
"حدثنا العباس بن الحسين القنطري حدثنا محمد بن الحجاج، قال: كتب أحمد بن حنبل رضي الله عنه عني كلاماً- قال العباس: وأملاه علينا. قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه -يعني للفتوى- حتى يكون فيه خمس خصال:
أما أُولاها: فأن يكون له نيةٌ، فإنه إن لم تكن له فيه نيّةٌ لم يكن عليه نورٌ ولا على كلامه نور.
وأما الثانية: فيكون له خُلُق ووقارٌ وسَكِينةٌ.
وأما الثالثة: فيكون قويّاً على ما هو فيه وعلى معرفته.
وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مضَغَهُ الناس.
وأما الخامسة: فمعرفة الناس".
"قال أبو عبد الله"1" رحمه الله: فأقول -واللهِ العالِمِ- لو أن رجلاً أنعمَ نظره، وميَّز فكْره، وسَمَا بطرْفِهِ، واستقصى بجهده، طالباً خَصلةً واحدةً في أحدٍ مِن فقهاء المدينة والمتصدرين للفتوى فيها"2" لَمَا وجدها. بل لو أراد أضدادها والمكروهَ والمرذولَ مِن سجايا دناءةِ الناس وأفعالِهم فيهم، لوجد ذلك متكاثِفاً متضاعِفاً، واللهَ نسألُ صفحاً جميلاً وعفواً كثيراً".
"ابن أبي أوس، عن أخيه، عن أبيه، قال: أدركتُ الفقهاء بالمدينة يقولون: لا يجوز أن يَنْصب نفسه للفتوى، ولا يجوز أن تَسْتفتي إلا الموثوقَ في: عفافه، وعقله، وصلاحه، ودينه، وورعه، وفقهه، وحِلْمه ورِفْقه، وعِلْمه بأحكام القرآن، والمُحْكَمِ والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، عالِماً بالسنّةِ والآثار، وبمن نَقَلها، والمعمولِ به منها والمتروك، عالماً بوجوهِ الفقه التي فيها الأحكام، عالِماً باختلاف الصحابة والتابعين، فإنه لا يستقيم أن يكون صاحبَ رأي ليس له علم بالكتاب والسنة والأحاديث والاختلاف، ولا صاحِبَ حديثٍ ليس له عِلمٌ بالفقه والاختلاف ووجوه الكلام فيه. وليس يستقيم واحد"3" منهما"4" إلا بصاحبه. قالوا: ومَن كان من أهل العلم والفقه والصلاح بهذه المنزلة، إلا أنّ طُعْمته من الناس وحاجاته مُنْزَلةٌ بهم، وهو محمولٌ عليهم، فليس بموضعِ الفتوى، ولا موثوقٍ به في فتواه، ولا مأمونٍ على
(1) هو ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى.
(2)
يَقْصِد في زَمَنِه.
(3)
أي من هذه الصفات.
(4)
أي: كلٍ من العلم بالكتابِ والسنة، والعلم باختلاف الفقهاء والرأي.
الناس فيما اشتبه عليهم".
"قال الشيخ أبو عبد الله ابن بطة رحمه الله: قد اقتصرتُ يا أخي -صانَكَ اللهُ- من صفة الفقيه على ما أَوردتُ، وكففتُ عن أضعافِ ما أردتُ؛ فإني ما رأيت الإطالة بالرواية في هذا الباب متجاوزةً ما قصدْنا من جواب المسألة، نعم -أيضاً- وتهجينٌ لنا وسبّةٌ علينا، وغضاضةٌ على الموسومين بالعلم، والمتصدرين للفتوى من أهل عصرنا، مع عدم العالِمين لذلك والعاملين به، فأسأل الله أن لا يَمْقتنا، فإنا نَعُدُّ أنفسَنا من العلماء الربانيين، والفقهاء الفهماء العارفين، ونحسِبُ أنا أئمةٌ متصدرون عِلماً وفُتيا، وقادةُ أهل زمانِنَا، ولَعلَّنا عند الله من الفاجرين، ومن شرار الفاسقين!. فقد رُوي عن الفضيل بن عياض رحمه الله، قال: إنا نتكلم بكلامٍ أحسب أن الملائكة تستحسنه، ولعلّها تَلْعن عليه! ".
"وقال عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم: يا معشر الحواريين الحقَّ أَقولُ لكم: إن الدنيا لا تَصْلح إلا بالمِلْحِ، والطعامَ لا يَطِيبُ إلا به، فإذا فَسَدَ المِلْح فَسَدَ الطعامُ وذهبت المنفعةُ به. وكذلك العلماء مِلْح الأرض لا تستقيم الأرض إلا بهم، وإذا فَسَدَ العلماء فَسَدَت الأرض".
"وقال سفيان بن عيينة: قَدِم عبيد الله بن عمر الكوفة فلمّا رأى اجتماعهم عليه، قال: نسيتم العِلْم، وأذهبتم نوره، لو أدركني وإياكم عمر لأوجعَنا ضرباً.
هذا -رحمكم الله- قول عبيد الله بن عمر رحمه الله لِمَن اجتمع عليه من طلبة العلم، وهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، وأبو إدريس الخَوْلاني،
وحَفْص بن غِياث، ونظراؤهم؛ فما ظنُّك بقوله لو رأى أهل عصرنا"1"، فنسأل الله صفحاً جميلاً، وعفواً كبيراً، فيا طوبى لنا إن كانت موجباتُ أفعالنا أن نوجَعَ ضرباً؛ فإني أحسِب كثيراً ممن يتصدر لهذا الشأن يرى نفسه فوقَ الذين قد مضى وصْفُهم، ويرى أنهم لو أدركوه لاحتاجوا إليه وأَمموه. ويرى أن هذه الأفعال منهم والأقوال المأثورة عنهم كانت من عَجْزهم، وقلّةِ عِلْمهم، وضَعْف نحائزهم. الله المستعان! فلقد عشنا لشرِّ زمان. فقد حدّثَنا أبو محمد السكري، حدثنا أبو يعلي الساجي، حدثنا الأصمعي، قال: سمعت سفيان بن عيينة قال: إذا كنتَ في زمانٍ يُرْضى فيه بالقول دون الفعل، والعِلْمِ دون العمل، فاعلم بأنك في شرِّ زمانٍ بَيْن شرِّ الناس.
ولقد رُوي عن حبرٍ من أحبار هذه الأُمّة وسيدٍ من سادات علمائها أنه قال: ما أرى أن يُعَذِّب الله هذا الخَلْق إلا بذنوب العلماء.
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد"2" -ومعنى ذاك، والله أعلم-: أن العالِمَ إذا زلَّ عن المحجة، وعَدَلَ عن الواضحة، وآثر ما يهواه على ما يَعْلمه، وسامحَ نفسه فيما تدعوه إليه، زلَّ الناس بزلَلِهِ، وانهمكوا مُسْرعين في أَثرِهِ، يَقْفون مَسْلَكَه، ويَسْلكون محجته؛ وكان ما يأتونه ويرتكبونه من الذنوب وحَوْبات المأثمِ بحُجّةٍ، وعلى اتّباعِ قدوةٍ؛ فلا تجري مجرى الذنوب التي تُمحى بالاستغفار، ومرتكبها بين الوجل والانكسار، فالمقتدون به فيها كالسفينةِ إذا
(1) وما بالك لو رأى أهلَ عصرنا نحن؟!.
(2)
هو ابن بطة العكبري صاحبُ رسالة: "إبطال الحِيَل".
غَرِقت غَرِق بغرقِها خَلقٌ كثير، وجوهرٌ خطير، أضعافُ ثَمَنِها وقيمتِها وبأضعافٍ مضاعفةٍ. والله أعلم""1".
ولعله، بعد هذا البيان لصفات الفقيه وعلاماته، يتضح للمطلع على هذا أهمية الفقه في حياة الإنسان، ومعرفة جانبٍ من كيفية تحصيل المرء للفقه عن طريق الحرص على التحلي بتلك الصفات النفيسة، فما أجملَ، وما أحسنَ أن يأخذ الإنسان نفسه بهذه الأخلاق والصفات الحسنة؛ حتى يُصْبح من أهلها. والله المستعان.
(1) انتهى ما أردتُ نقْله من كلام الإمام عبيد الله، ابن بطة، رحمه الله تعالى.