الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَالْأُمَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَعْلَقُ بِالْأُمَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِيُفِيدَ مَعَ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِمُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يُبَيِّتُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ، وَكِنَايَةً عَنْ إِطْلَاعِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ كَمَا سَيَجِيءُ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الْأَحْزَاب: 60] ، أَيْ:
لَنُطْلِعَنَّكَ عَلَى مَا يَكِيدُونَ بِهِ وَنَأْذَنُكَ بِافْتِضَاحَ شَأْنِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يَفُوتُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْخِطَابِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَأْخُذُ حَظه مِنْهُ.
[3]
[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 3]
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
زِيَادَةُ تَمْهِيدٍ وَتَوْطِئَةٍ لِتَلَقِّي تَكْلِيفٍ يَتَرَقَّبُ مِنْهُ أَذًى مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا نَهَى عَنْ تَزَوُّجِ نِسَاءِ الْأَبْنَاءِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الْأَحْزَاب: 48] فَأَمَرَهُ بِتَقْوَى رَبِّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ وَحْيِهِ، وَعَزَّزَهُ بِالْأَمْرِ بِمَا فِيهِ تَأْيِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يُفَوِّضَ أُمُورَهُ إِلَى اللَّهِ.
وَالتَّوَكُّلُ: إِسْنَادُ الْمَرْءِ مَهَمَّهُ وَشَأْنَهُ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى عَمَلَهُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] .
وَالْوَكِيلُ: الَّذِي يُسْنِدُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ أَمْرَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [173] .
وَقَوْلُهُ وَكِيلًا تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ، أَيْ: كَفَى اللَّهُ وَكَيْلًا، أَيْ وِكَالَتُهُ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ:
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [81] .
[4]
[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 4]
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ابْتِدَاءَ الْمُقَدِّمَةِ لِلْغَرَضِ بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِمَا قلبه، وَالْمُقَدِّمَةُ أَخَصُّ
مِنَ التَّمْهِيدِ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُوَضِّحُ الْمَقْصِدَ بِخِلَافِ التَّمْهِيدِ، فَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِهِ مِمَّا يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ تَشْرِيعُ الِاعْتِبَارِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَعَانِيهَا، وَأَنَّ مَوَاهِيَ الْأُمُورِ لَا تَتَغَيَّرُ بِمَا يُلْصَقُ بِهَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحَقَائِقِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمُلْصَقَاتِ بِالْحَقَائِقِ هِيَ الَّتِي تَحْجُبُ الْعُقُولَ عَنِ التَّفَهُّمِ فِي الْحَقَائِقِ الْحَقِّ، وَهِيَ الَّتِي تَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ بتلبيس الْأَشْيَاء.
وَذكرهَا هُنَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَقَائِقِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ حَقَائِقِ الْمُعْتَقَدَاتِ لِأَجْلِ إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَنَبْذِ الْحَقَائِقِ الْمَصْنُوعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ هُوَ مِفْتَاحُ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَهَذَا مَا جَعَلَ تَأْصِيلَهُ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَ فِي خَلْقِ بَعْضِ النَّاسِ نِظَامًا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي خَلْقِ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِي النَّوْعَيْنِ: مِنْ حَقَائِقِ الْأَعْمَالِ لِتَقُومَ الشَّرِيعَةُ عَلَى اعْتِبَارِ مَوَاهِي الْأَعْمَالِ بِمَا هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَّا بِالتَّوَهُّمِ وَالِادِّعَاءِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ وَهُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، أَيْ: لَا يَقُولُ
الْبَاطِلَ مِثْلَ بَعْضِ أَقْوَالِكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ إِلَى بُطْلَانِ أُمُورٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ زَعَمُوهَا وَادَّعَوْهَا. وَابْتُدِئَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا دَلِيلُ بُطْلَانِهِ الْحِسُّ وَالِاخْتِبَارُ لِيُعْلَمَ مِنْ ذَلِكَ أَن الَّذين اخْتلفُوا مَزَاعِمَ يَشْهَدُ الْحِسُّ بِكَذِبِهَا يَهُونُ عَلَيْهِمِ اخْتِلَاقُ مَزَاعِمَ فِيهَا شُبَهٌ وَتَلْبِيسٌ لِلْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَيَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ إِلَى أُكْذُوبَةٍ مِنْ تَكَاذِيبِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ جَمِيلَ بْنَ مَعْمَرِ- وَيُقَالُ: ابْنُ أَسَدٍ- بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيَّ الْفِهْرِيَّ- وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيَةً قَوِيَّ الْحِفْظِ- أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ يَعْمَلَانِ وَيَتَعَاوَنَانِ وَكَانُوا يَدْعُونَهُ ذَا الْقَلْبَيْنِ يُرِيدُونَ الْعَقْلَيْنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْقَلْبِ وَأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعَقْلِ. وَقَدْ غَرَّهُ ذَلِك أَو تغارر بِهِ فَكَانَ لِشِدَّةِ كُفْرِهِ يَقُولُ: «إِنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ» . وَسَمَّوْا بِذِي
الْقَلْبَيْنِ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ التَّيْمِيَّ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ الْعُزَّى وَأَسْلَمَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرَ وَقُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ، فَنَفَتِ الْآيَةُ زَعْمَهُمْ نَفْيًا عَامًّا، أَيْ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَيِّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ قَلْبَيْنِ لَا لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ وَلَا لِابْنِ خَطَلٍ، فَوُقُوعُ رَجُلٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَوُقُوعُ فِعْلِ جَعَلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِثْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَدُخُولُ مِنْ عَلَى قَلْبَيْنِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِ رَجُلٍ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْعُمُومَاتُ الثَّلَاثَةُ عَلَى انْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَعْلِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَلْبَانِ، عَنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلَ فِي الْعُمُومِ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ وَغَيْرُهُ بِحَيْثُ لَا يُدَّعَى ذَلِكَ لِأَحَدٍ أَيًّا كَانَ.
وَلَفظ لِرَجُلٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْسَانُ بِنَاءً عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ مِنْ نَوْطِ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالرِّجَالِ جَرْيَا عَلَى الْغَالِبِ فِي الْكَلَامِ مَا عَدَا الْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ بِالنِّسَاءِ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُدَّعَى لِامْرَأَةٍ أَنَّ لَهَا قَلْبَيْنِ بِحُكْمِ فَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ.
وَالْجَعْلُ الْمَنْفِيُّ هُنَا هُوَ الْجَعْلُ الْجِبِلِّيُّ، أَيْ: مَا خَلَقَ الله رجلا قلبين فِي جَوْفِهِ وَقَدْ جَعَلَ إِبْطَالَ هَذَا الزَّعْمِ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ مَا تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ أَحَدٍ ابْنًا لِمَنْ لَيْسَ هُوَ بِابْنِهِ، وَمِنْ جَعْلِ امْرَأَةٍ أُمًّا لِمَنْ هِيَ لَيْسَتْ أُمَّهُ بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِقُونَ مَا لَيْسَ فِي الْخِلْقَةِ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنِ اخْتِلَاقِ مَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ مِنَ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ، وَتَفْرِيعِهِمْ كُلَّ اخْتِلَاقِهِمْ جَمِيعَ آثَارِ الِاخْتِلَاقِ، فَإِنَّ الْبُنُوَّةَ وَالْأُمُومَةَ صِفَتَانِ مِنْ
أَحْوَالِ الْخِلْقَةِ وَلَيْسَتَا مِمَّا يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالتَّعَاقُدِ مِثْلَ الْوَلَاءِ وَالْحِلْفِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: 6] فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي أَحْكَامِ الْبُرُورِ وَحُرْمَةِ التَّزْوِيجِ أَلَا تَرَى مَا جَاءَ
، أَيْ أَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَتَجَاوَزُ حَالَةَ الْمُشَابَهَةِ فِي النَّصِيحَةِ وَحُسْنِ
الْمُعَاشَرَةِ وَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُ الْأُخُوَّةِ الْجِبِلِّيَّةِ لِأَنَّ تِلْكَ آثَارٌ مَرْجِعُهَا إِلَى الْخِلْقَةِ فَذَلِكَ مَعْنَى
قَوْلِهِ «أَنْتَ أَخِي وَهِيَ لِي حَلَالٌ»
. وَالْجَوْفُ: بَاطِنُ الْإِنْسَانِ صَدْرُهُ وَبَطْنُهُ وَهُوَ مَقَرُّ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ عَدَا الدِّمَاغَ.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الظَّرْفِ زِيَادَةُ تَصْوِيرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ وَتَجَلِّيهِ لِلسَّامِعِ فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ كَانَ أَسْرَعَ إِلَى الِاقْتِنَاعِ بِإِنْكَارِ احْتِوَاءِ الْجَوْفِ عَلَى قَلْبَيْنِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَج: 46] وَنَحْوَهُ مِنَ الْقُيُودِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّصْرِيحُ بِهَا تَذْكِيرًا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَتَجْدِيدًا لِتَصَوُّرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [38] .
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ.
عَطْفُ إِبْطَالٍ ثَانٍ لِبَعْضِ مَزَاعِمِهِمْ وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ فِرَاقَ زَوْجِهِ فِرَاقًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بِحَالٍ يَقُولُ لَهَا: «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» هَذِهِ صِيغَتُهُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ وَحُرْمَةَ تَزَوُّجِهَا مِنْ بَعْدُ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا لَهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا تَشْرِيعَ إِبْطَالِ آثَارِ التَّحْرِيمِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أُبْطِلَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ وَهِيَ مِمَّا نَزَلَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كَمَا سَيَأْتِي وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ تَمْهِيدًا لِتَشْرِيعِ إِبْطَالِ التَّبَنِّي تَنْظِيرًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْهَامِ إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّمْهِيدَ الثَّانِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ.
واللَاّءِ: اسْمُ مَوْصُولٍ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَهُوَ اسْمُ جَمْعِ (الَّتِي) ، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ صِيَغِ الْجَمْعِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ: اللَاّءِ- مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ أَبَدًا- بِوَزْنِ الْبَابِ، وَاللَّائِي بِوَزْن الدَّاعِي، واللّاء بِوَزْنِ بَابٍ دَاخِلَةً عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ بِدُونِ يَاءٍ.
وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ اللَاّءِ- بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ- غَيْرِ مُشْبَعَةٍ وَهُوَ لُغَةٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ واللَّائِي- بِيَاءٍ بَعْدَ
الْهَمْزَةِ- بِوَزْنِ الدَّاعِي، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ واللاي بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بَدَلًا عَنِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ بَدَلٌ سَمَاعِيٌّ، قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ وَرْشٌ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ مَعَ الْمَدِّ وَالْقَصْرِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالبَزِّيِّ أَيْضًا.
وَذَكَرَ الظَّهْرَ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، تَخْيِيلٌ لِلتَّشْبِيهِ الْمُضْمَرِ فِي النَّفْسِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ إِذْ شَبَّهَ زَوْجَهُ حِينَ يَغْشَاهَا بِالدَّابَّةِ حِينَ يَرْكَبُهَا راكبها، وَذكر الظّهْر تَخْيِيلًا كَمَا ذُكِرَ أَظْفَارُ الْمَنِيَّةِ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ الْمَعْرُوفِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ.
وَقَوْلُهُمْ: أَنْتِ عَلَيَّ، فِيهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي الْمُخَاطَبَةِ مِنْ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: غِشْيَانُكَ، وَكَلِمَةُ «عَلَيَّ» تُؤْذِنُ بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ، أَيْ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ عَلَامَةً عَلَى مَعْنَى التَّحْرِيمِ الْأَبَدِيِّ. وَيُعَدَّى إِلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ الْمُرَادِ تَحْرِيمُهَا بِحَرْفِ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِانْفِصَالِ مِنْهَا.
فَلَمَّا قَالَ الله تَعَالَى اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَالْمُرَادُ بِالْجَعْلِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ الْجَعْلُ الْخَلْقِيُّ أَيْضًا كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، أَيْ: مَا خَلَقَهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ إِذْ لَسْنَ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الْأَثَرِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْجَعْلِ الْخُلُقِيِّ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّاءِ وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] وَقَدْ بَسَطَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ هِيَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا إِبْطَالُ الظِّهَارِ وَأَحْكَامُ كَفَّارَتِهِ فَنَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَرَدَتْ بَعْدَ تَقْرِيرِ إِبْطَالِ الظِّهَارِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ فِيهَا تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ التَّبَنِّي بِشُبَهِ أَنَّ كِلَيْهِمَا تَرْتِيبُ آثَارٍ تَرْتِيبًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى جَعْلٍ إِلَهِيٍّ. وَهَذَا يُوَقِنُنَا بِأَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ خِلَافًا لِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ الْحَصَّارِ وَمَا أَسْنَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَبْيَضَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي نَوْعِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ فِي نَوْعِ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ مِنْ كِتَابِ «الْإِتْقَانِ» . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ.
وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو تُظْهِرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ مَفْتُوحَةً دُونَ
أَلِفٍ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تُظاهِرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ
وَفَتْحِ الظَّاءِ مُخَفَّفَةً وَأَلِفٍ وَهَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ:
تُظاهِرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَفَتْحِ الظَّاءِ مُخَفَّفَةً بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ الْهَاءِ.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي ووطّئ بِالْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ أُسْهِبُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ بِتَفَاصِيلِ التَّشْرِيعِ فِيهِ. وَعُطِفَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا لِاشْتِرَاكِ ثَلَاثَتُهَا فِي أَنَّهَا نَفَتْ مَزَاعِمَ لَا حَقَائِقَ لَهَا.
وَالْقَوْلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاء تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَنْسِبُونَ الْأَدْعِيَاءَ أَبْنَاءً فَتَقُولُونَ لِلدَّعِيِّ: هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، لِلَّذِي تَبَنَّاهُ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ جَمِيعَ مَا لِلْأَبْنَاءِ.
وَالْأَدْعِيَاءُ: جَمْعُ دَعِيٍّ بِوَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مُشْتَقًّا مِنْ مَادَّةِ الِادِّعَاءِ، وَالِادِّعَاءُ:
زَعْمُ الزَّاعِمِ الشَّيْءَ حَقًّا لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ، وَغَلَبَ وَصْفُ الدَّعِيِّ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ ابْنٌ لِمَنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ أَبًا لَهُ فَمَنِ ادَّعَي أَنَّهُ ابْنٌ لِمَنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبٌ لَهُ فَذَلِكَ هُوَ اللَّحِيقُ أَوِ الْمُسْتَلْحِقُ، فَالدَّعِيُّ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ ابْنًا لِمَنِ ادَّعَاهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَبًا لَهُ، وَأَمَّا الْمُسْتَلْحِقُ فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ ابْنًا لِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ بِحُكْمِ اسْتِلْحَاقِهِ مَعَ إِمْكَانِ أُبُوَّتِهِ لَهُ. وَجُمِعَ عَلَى أَفْعِلَاءَ لِأَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ فَلَا يُجْمَعُ عَلَى فَعْلَى، وَالْأَصَحُّ أَنْ أَفْعِلَاءَ يَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْطَالِ التَّبَنِّي، أَيْ: إِبْطَالِ تَرْتِيبِ آثَار الْبُنُوَّة الْحَقِيقِيَّة مِنَ الْإِرْثِ، وَتَحْرِيمِ الْقَرَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الصِّهْرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ لِلْمُتَبَنَّى أَحْكَامَ الْبُنُوَّةِ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ الْمُتَبَنَّيْنَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ تَبَنَّاهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ تَبَنَّاهُ الْخَطَّابُ أَبُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَسَالِمٌ تَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو تَبَنَّاهُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُدْعَى ابْنًا لِلَّذِي تَبَنَّاهُ.
وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِ كَانَ غَرِيبًا مِنْ بَنِي كَلْبٍ مِنْ وَبَرَةَ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَيْهِ جَبَلَةً وَزَيْدًا فَبَقِيَا فِي حِجْرِ جَدِّهِمَا، ثُمَّ جَاءَ عَمَّاهُمَا فَطَلَبَا مِنَ الْجَدِّ كَفَالَتَهُمَا فَأَعْطَاهُمَا جَبَلَةَ وَبَقِيَ زَيْدٌ عِنْدَهُ فَأَغَارَتْ عَلَى الْحَيِّ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَابَتْ زَيْدًا فَأَخَذَ جَدُّهُ يَبْحَثُ عَنْ مَصِيرِهِ، وَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْهَا:
بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ
…
أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
وَأَنَّهُ عَلِمَ أَنْ زَيْدًا بِمَكَّةَ وَأَنِ الَّذِينَ سَبَوْهُ بَاعُوهُ بِمَكَّةَ فَابْتَاعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ زَوْجِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةُ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فَأَقَامَ عِنْدَهُ زَمَنًا ثُمَّ جَاءَ جَدُّهُ وَعَمُّهُ يَرْغَبَانِ فِي فِدَائِهِ فَأَبَى الْفِدَاءَ وَاخْتَارَ الْبَقَاءَ عَلَى الرِّقِّ عِنْدَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، فَحِينَئِذٍ أَشْهَدَ النَّبِيءُ قُرَيْشًا أَنَّ زَيْدًا ابْنُهُ يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَرَضِيَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ وَانْصَرَفَا فَأَصْبَحَ يُدْعَى: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَقُتِلَ زَيْدٌ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
اسْتِئْنَافٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ التَّمْهِيدِ وَالْمَقْصُودِ مِنَ التَّشْرِيعِ وَهُوَ فَذْلَكَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي نَفَتْ جَعْلَهُمْ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ وَاقِعًا، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ بِالتَّحْصِيلِ لِمَا قَبْلَهَا.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَذْكُورٍ ضِمْنًا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ مَا نُفِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَهُ مِنْ وُجُودِ قَلْبَيْنِ لِرَجُلٍ، وَمَنْ كَوْنَ الزَّوْجَةِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا أُمًّا لِمَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، وَمِنْ كَوْنِ الْأَدْعِيَاءِ أَبْنَاءً لِلَّذِينَ تَبَنَّوْهُمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَنْفِيَّاتُ الثَّلَاثَةُ نَاشِئَةً عَنْ أَقْوَالٍ قَالُوهَا صَحَّ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِأَنَّهَا أَقْوَالٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا أَقْوَالٌ فَحَسْبُ لَيْسَ لِمَدْلُولَاتِهَا حَقَائِقُ خَارِجِيَّةٌ تُطَابِقُهَا كَمَا تُطَابِقُ النِّسَبُ الْكَلَامِيَّةُ الصَّادِقَةُ النِّسَبَ الْخَارِجِيَّةَ، وَإِلَّا فَلَا جَدْوَى فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ بِأَنَّهَا قَوْلٌ بِالْأَفْوَاهِ.
وَلِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى قُيَّدَ بِقَوْلِهِ بِأَفْواهِكُمْ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْوَاهِ فَكَانَ ذِكْرُ بِأَفْواهِكُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا تَتَجَاوَزُ دَلَالَتُهُ الْأَفْوَاهَ إِلَى الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوُجُودِ إِلَّا الْوُجُودُ فِي اللِّسَانِ وَالْوُجُودُ فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْوُجُودِ فِي الْعِيَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الْحَدَّ، أَيْ: لَا يَتَحَقَّقُ مَضْمُونُهَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ الْإِرْجَاعُ إِلَى الدُّنْيَا فِي قَوْلِ الْكَافِرِ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: 99- 100]، فَعُلِمَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَفْواهِكُمْ أَنَّهُ قَوْلٌ كَاذِبٌ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ وَزَادَهُ تَصْرِيحًا بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَوْلٌ كَاذِبٌ. وَلِهَذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ إِلَخْ. فَمَعْنَى كَوْنِهَا أَقْوَالًا: أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: جَمِيلٌ لَهُ قَلْبَانِ، وَنَاسًا يَقُولُونَ لِأَزْوَاجِهِمْ:
أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، وَنَاسًا يَقُولُونَ لِلدَّعِيِّ: فُلَانُ ابْن فُلَانٍ، يُرِيدُونَ مَنْ تَبَنَّاهُ.
وَانْتَصَبَ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَفْعُولٍ بِهِ لِ يَقُولُ. تَقْدِيرُهُ:
الْكَلَامُ الْحَقُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الْقَوْلِ لَا يَنْصِبُ إِلَّا الْجُمَلَ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ نَحْوَ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: 100] ، فَالْهَاءُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (قَائِلُ) عَائِدَةٌ إِلَى كَلِمَةٌ وَهِيَ مَفْعُولٌ أُضِيفَ إِلَيْهَا. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَضَمِيرِهِ بِالْمَسْنَدَيْنِ الْفِعْلِيَّيْنِ إِفَادَةُ قَصْرِ الْقَلْبِ، أَيْ: هُوَ يَقُولُ الْحَقَّ لَا الَّذِينَ وَضَعُوا لَكُمْ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ لَا الَّذِينَ أَضَلُّوا النَّاسَ بِالْأَوْهَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلَانِ مُتَعَدِّيَيْنِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَصْرِهِمَا قَصْرُ مَعْمُولَيْهِمَا بِالْقَرِينَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ قَوْلُ اللَّهِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْحَقُّ وَالسَّبِيلُ كَانَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ ضِدِّهِ بَاطِلًا وَمَجْهَلَةً. فَالْمَعْنَى: وَهُمْ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ وَلَا يَهْدُونَ السَّبِيلَ.
والسَّبِيلَ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ الْوَاضِحَةُ، أَيِ: الْوَاضِحُ أَنَّهَا مَطْرُوقَةٌ فَهِيَ مَأْمُونَةُ الْإِبْلَاغِ إِلَى غَايَةِ السَّائِرِ فِيهَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ الثَّلَاثَةَ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظًا سَاذَجَةً لَا تَحَقُّقَ لِمَدْلُولَاتِهَا فِي الْخَارِجِ اقْتَضَى ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُعِلَا تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا