الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: 21] . وَقَدَّمَ بِهِ على يُشْرِكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ إِشْرَاكِهِمُ الدَّاخِلِ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[36- 37]
[سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 36 إِلَى 37]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ زِيَادَةً فِي بَسْطِ الْحَالَةِ الَّتِي يَتَلَقَّوْنَ بِهَا الرَّحْمَةَ وَضِدَّهَا تَلَقِّيًا يَسْتَوُونَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ مُيِّزَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالُ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلرَّحْمَةِ بِالْكُفْرَانِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَلَقُّونَهَا بِالْكُفْرَانِ. فَأُرِيدَ تَنْبِيهُهُمْ هُنَا إِلَى حَالَةِ تَلَقِّيهِمْ ضِدَّ الرَّحْمَةِ بِالْقُنُوطِ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ وَيَرْتَاضُوا بِرَجَاءِ الْفَرَجِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَالْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ انْكِشَافِهَا. وَالرَّحْمَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى أَثَرِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ وَالْأَحْوَالُ الْحَسَنَةُ الملائمة كَمَا يَنْبَنِي عَنْهُ مُقَابَلَتُهَا بِالسَّيِّئَةِ وَهِيَ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَيُحْزِنُهُ فَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَخَلُّقُ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُلِقِ الْكَامِلِ، فَ النَّاسَ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْآيَةَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وَقُدِّمَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِصَابَةُ الرَّحْمَةِ عَلَى إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ عَكْسَ الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْحَالَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مَبْدَأَ الْعِبْرَةِ وَأَصْلَ الِاسْتِدْلَالِ، فَقَوْلُهُ فَرِحُوا بِها وَصْفٌ لحَال النَّاس عِنْد مَا تُصِيبُهُمُ الرَّحْمَةُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ ضِدُّهُ فِي قَوْلِهِ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْقُنُوطُ مِنَ التَّذَمُّرِ وَالْغَضَبِ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِإِنْكَارِ الْفَرَحِ حَتَّى نَضْطَرَّ إِلَى تَفْسِيرِ الْفَرَحِ بِالْبَطَرِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا دَاعٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَمَا يَفْرَحُونَ عِنْدَ الرَّحْمَةِ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ زَوَالُهَا وَلَا يَحْزَنُونَ مِنْ خَشْيَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَن يصبروا عِنْد مَا يَمَسُّهُمُ الضُّرُّ وَلَا يَقْنَطُوا مِنْ زَوَالِهِ لِأَنَّ قُنُوطَهُمْ مِنْ زَوَالِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاس حَالهم عِنْد مَا تُصِيبُهُمْ رَحْمَةٌ حِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ زَوَالَهَا، فَالْقُنُوطُ هُوَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ [فصلت: 49] فِي أَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ هُوَ
الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِذَاقَةِ آنِفًا. وَالْقُنُوطُ: الْيَأْسُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [55]
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ.
وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ حَالَةٍ سَيِّئَةٍ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا سَبَّبُهَا أَفْعَالُهُمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لِمُسَبِّبَاتٍ مُؤَثِّرَةٍ لَا يُحِيطُ بِأَسْرَارِهَا وَدَقَائِقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُجْرُوا أَسْبَابَ إِصَابَةِ السَّيِّئَاتِ، وَيَتَدَارَكُوا مَا فَاتَ، فَذَلِكَ أَنْجَى لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَأَجْدَرُ مِنَ الْقُنُوطِ.
وَهَذَا أَدَبٌ جَلِيلٌ مِنْ آدَابِ التَّنْزِيلِ قَالَ تَعَالَى مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: 79] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَقْنَطُونَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ قَنِطَ مِنْ بَابِ حَسِبَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو الْكسَائي بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ قَنَطَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إِهْمَالَ التَّأَمُّلِ فِي سُنَّةِ اللَّهِ الشَّائِعَةِ فِي النَّاسِ: مِنْ لَحَاقِ الضُّرِّ وَانْفِرَاجِهِ، وَمِنْ قِسْمَةِ الْحُظُوظِ فِي الرِّزْقِ بَيْنَ بَسْطٍ وَتَقْتِيرٍ فَإِنَّهُ كَثِيرُ الْوُقُوعِ كُلَّ حِينٍ فَكَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْنَطُوا مِنْ بَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ فِي حِينِ تَقْتِيرِهِ فَكَدَحُوا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ بِالْأَسْبَابِ وَالدُّعَاءِ فَكَذَلِكَ كَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَتَلَقَّوُا السُّوءَ النَّادِرَ بِمِثْلِ مَا يَتَلَقَّوْنَ بِهِ ضِيقَ الرِّزْقِ، فَيَسْعَوْا فِي كَشْفِ السَّيِّئَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ وَبِتَعَاطِي أَسْبَابِ زَوَالِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ تَنْزِيلًا لِرُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِإِهْمَالِ آثَارِهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَا. فَالتَّقْدِيرُ: إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ كَيْفَ لَمْ يَرَوْا بَسْطَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَتَقْتِيرَهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ حَاصِلَةٌ كَثْرَتُهَا مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ حَالَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَلَى أَسْبَابٍ