الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ تُرَابٍ، فَبِذَلِكَ اسْتَقَامَ جَعْلُ التَّكْوِينِ مِنَ التُّرَابِ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ عَلَامَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مَعَ كَوْنِهِ أَمْرًا خَفِيًّا. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَ الْبَشَرِ أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِ تُرَابٌ حَسْبَمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الْأَدْيَانُ كُلُّهَا. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ، وَأَوَّلُ الْوُجُوهِ أَظْهَرُهَا.
فَالتُّرَابُ مَوَاتٌ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَطَبْعُهُ مُنَافٍ لِطَبْعِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ التُّرَابَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَذَلِكَ طَبْعُ الْمَوْتِ، وَالْحَيَاةُ تَقْتَضِي حَرَارَةً وَرُطُوبَةً فَمِنْ ذَلِكَ الْبَارِدِ الْيَابِسِ يَنْشَأُ الْمَخْلُوقُ الْحَيُّ الْمُدْرِكُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ، وَإِلَى التَّصَرُّفِ وَالْحَرَكَةِ بِقَوْلِهِ تَنْتَشِرُونَ، وَلَمَّا كَانَ تَمَامُ الْبَشَرِيَّةِ يَنْشَأُ عَنْ تَطَوُّرِ التُّرَابِ إِلَى نَبَاتٍ ثُمَّ إِلَى نُطْفَةٍ ثُمَّ إِلَى أَطْوَارِ التَّخَلُّقِ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَتَالِيَةٍ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ الدَّالِّ عَلَى تَرَاخِي الزَّمَنِ
مَعَ تَرَاخِي الرُّتْبَةِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بِحَرْفِ ثُمَّ.
وَصُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِأَنَّ الْكَوْنَ بَشَرًا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَجْأَةً بِوَضْعِ الْأَجِنَّةِ أَوْ خُرُوجِ الْفِرَاخِ مِنَ الْبَيْضِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي اقْتَضَاهَا حَرْفُ الْمُهْلَةِ هِيَ أَطْوَارٌ خَفِيَّةٌ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَرْفِ الْمُهْلَةِ وَحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ التَّطَوُّرِ الْعَجِيبِ. وَحَصَلَ مِنَ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَرْفِ الْمُهْلَةِ وَحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ شِبْهُ الطِّبَاقِ وَإِنْ كَانَ مَرْجِعُ كُلٍّ مِنَ الْحَرْفَيْنِ غَيْرَ مَرْجِعِ الْآخَرِ.
وَالِانْتِشَارُ: الظُّهُورُ عَلَى الْأَرْضِ وَالتَّبَاعُدُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَعْمَالِ قَالَ تَعَالَى فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَة: 10] .
[21]
[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
هَذِهِ آيَةٌ ثَانِيَةٌ فِيهَا عِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ بِنِظَامِ النَّاسِ الْعَامِّ وَهُوَ نِظَامُ الِازْدِوَاجِ وَكَيْنُونَةِ
الْعَائِلَةِ وَأَسَاسِ التَّنَاسُلِ، وَهُوَ نِظَامٌ عَجِيبٌ جَعَلَهُ اللَّهُ مُرْتَكِزًا فِي الْجِبِلَّةِ لَا يَشِذُّ عَنْهُ إِلَّا الشُّذَّاذُ.
وَهِيَ آيَةٌ تَنْطَوِي عَلَى عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْهَا: أَنْ جُعِلَ لِلْإِنْسَانِ نَامُوسُ التَّنَاسُلِ، وَأَنْ جُعِلَ تَنَاسُلُهُ بِالتَّزَاوُجِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ كَتَنَاسُلِ النَّبَاتِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَ الْإِنْسَانِ مِنْ صِنْفِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ صِنْفٍ آخَرَ لِأَنَّ التَّآنُسَ لَا يَحْصُلُ بِصِنْفٍ مُخَالِفٍ، وَأَنْ جَعَلَ فِي ذَلِكَ التَّزَاوُجِ أُنْسًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَزَاوُجًا عَنِيفًا أَوْ مُهْلِكًا كَتَزَاوُجِ الضَّفَادِعِ، وَأَنْ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَمُحَبَّةً فَالزَّوْجَانِ يَكُونَانِ مِنْ قبل التزاوج مُتَجَاهِلَيْنِ فَيُصْبِحَانِ بعد التزاوج مُتَحَابَّيْنِ، وَأَنْ جَعَلَ بَيْنَهُمَا رَحْمَةً فَهُمَا قَبْلَ التِّزَاوُجِ لَا عَاطِفَةَ بَينهمَا فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وَأَن جعل بَينهمَا رَحْمَة فهما قبل التزاوج لَا عاطفة بَيْنَهُمَا فَيُصْبِحَانِ بَعْدَهُ مُتَرَاحِمَيْنِ كَرَحْمَةِ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ، وَلِأَجَلِّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ هَذَا الدَّلِيلُ وَيَتْبَعَهُ مِنَ النِّعَمِ وَالدَّلَائِلِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَاتٍ عِدَّةً فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَائِنَةٌ فِي خَلْقِ جَوْهَرِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ: صِنْفُ الذَّكَرِ، وصنف الْأُنْثَى، وإبداع نِظَامِ الْإِقْبَالِ بَيْنَهُمَا فِي جِبِلَّتِهِمَا. وَذَلِكَ مِنَ الذَّاتِيَّاتِ النِّسْبِيَّةِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ. وَقَدْ أُدْمِجَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ لَكُمْ أَيْ لِأَجْلِ نَفْعِكُمْ.
ولِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُتَعَلق ب لَآياتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الدَّلَالَةِ. وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي يُجَلِّي كُنْهَهَا وَيَزِيدُ النَّاظِرَ بَصَارَةً بِمَنَافِعَ أُخْرَى فِي ضِمْنِهَا.
وَالَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ: الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ لِجَمِيعِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
وَالزَّوْجُ: هُوَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ لِلْوَاحِدِ ثَانٍ فَيُطْلَقُ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَرَجُلِ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ فَرْدِ زَوْجَهُ.