الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَارَقُوا دِينَهُمْ بِأَلِفٍ
بَعْدَ الْفَاءِ فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَى مُفَارَقَتِهِمْ إِيَّاهُ ابْتِعَادُهُمْ مِنْهُ، فَاسْتُعِيرَتِ الْمُفَارَقَةُ لِلنَّبْذِ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَلَمَّا لَمْ يَتْبَعُوهُ جَعَلَ إِعْرَاضَهَمْ عَنْهُ كَالْمُفَارَقَةِ لِشَيْءٍ كَانَ مُجْتَمِعًا مَعَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَالشِّيَعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُشَايِعُ، أَيْ تُوَافِقُ رَأْيًا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [69] .
وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ رَأْيُهُمْ ونزعتهم وَاحِدَة. وبِما لَدَيْهِمْ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
وَالْفَرَحُ: الرِّضَا وَالِابْتِهَاجُ. وَهَذِهِ حَالَةٌ ذَمِيمَةٌ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ يُرَادُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي أُمُورِ الدِّينِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ الِاجْتِهَادِ أَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْآرَاءِ وَالسِّيَاسَاتِ لِاخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يَجُرَّهُمْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ إِلَى أَنْ يَكُونُوا شِيَعًا مُتَعَادِينَ مُتَفَرِّقِينَ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. وَتَقَدَّمَ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [53] .
[33- 34]
[سُورَة الرّوم (30) : الْآيَات 33 إِلَى 34]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الرّوم: 32] أَيْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، وَإِذَا مَسَّهُمْ ضُرٌّ فَدَعَوُا اللَّهَ وَحْدَهُ فَرَحِمَهُمْ عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ نِعْمَةَ الَّذِي رَحِمَهُمْ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، فَمَحَلُّ انْتِظَامِهِ فِي مَذَامِّ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم إِذا أَذَاقَهُمُ اللَّهُ رَحْمَةً بَعْدَ ضُرٍّ شَكَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ مِنْ إِنَابَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
وَنُسِجَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ بِمَا فِي لَفْظِ
النَّاسَ مِنَ الْعُمُومِ وَإِدْمَاجًا لِفَضِيلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ نِعْمَةَ الرَّحِيمِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَالضُّرُّ، بِضَمِّ الضَّادِ: سُوءُ الْحَالِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الْعَيْشِ أَوِ الْمَالِ، وَهَذَا نَحْوَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقَحْطِ حَتَّى كَانُوا يُرَوْنَ فِي الْجَوِّ مِثْلَ الدُّخَّانِ مِنْ شِدَّةِ الْجَفَافِ، وَحَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ، وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ مُشْرِكِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَكَانَتْ شِدَّتُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي رَفَاهِيَةٍ، فَالشِّدَّةُ أَقْوَى عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ فَدَعَا فَأُمْطِرُوا فَعَادُوا إِلَى تَرَفِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ
[الدُّخان: 10] الْآيَاتِ، فَدُعَاؤُهُمْ رَبَّهُمْ يَشْمَلُ طَلَبَهُمْ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. ومُنِيبِينَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَيِ اسْتَوُوا فِي الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ بَعْدُ، وَاشْتَغَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُ بِدُعَاءِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: 15] . وَتَقَدَّمَ مُنِيبِينَ آنِفًا.
وَالْمَسُّ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ. وَحَقِيقَةٌ الْمَسُ: أَنَّهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ لِيَعْرِفَ وُجُودَهُ أَوْ يَخْتَبِرَ حَالَهَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الْعُقُود [73] .
واختبر هُنَا لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ خِفَّةِ الْإِصَابَةِ، أَيْ يَدْعُونَ اللَّهَ إِذَا أَصَابَهُمْ خَفِيفُ ضُرٍّ بَلْهَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ.
وَالْإِذَاقَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِصَابَةِ أَيْضًا. وَحَقِيقَتُهَا: إِصَابَةُ الْمَطْعُومِ بِطَرَفِ اللِّسَانِ وَهِيَ أَضْعَفُ إِصَابَاتِ الْأَعْضَاءِ لِلْأَجْسَامِ فَهِيَ أَقَلُّ مِنَ الْمَضْغِ وَالْبَلْعِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [95] ، وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ فِي سُورَة يُونُس [21] . واختبر فِعْلُ الْإِذَاقَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْإِشْرَاكِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ.
وَالرَّحْمَةُ: تَخْلِيصُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ أَعْجَبُ مِنْ إِشْرَاكِهِمُ السَّابِقِ، فَفِي التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَجَدُّدِ إِشْرَاكِهِمْ، وَحَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ إِذا يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ أَسْرَعُوا الْعَوْدَةَ إِلَى الشِّرْكِ بِحِدْثَانِ ذَوْقِ الرَّحْمَةِ لِتَأَصُّلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَكُمُونِهِ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلقَة ب أَذاقَهُمْ.
ورَحْمَةً فَاعل أَذاقَهُمْ وَلَمْ يُؤَنِّثْ لَهَا الْفِعْلُ لِأَنَّ تَأْنِيثَ مُسَمَّى الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِأَجِلِّ الْفَصْلِ بِالْمَجْرُورِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيُظْهِرَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَكْفُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى التَّسَبُّبِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُفَادَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَشْرَكُوا لَمْ يُرِيدُوا بِشِرْكِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ عِلَّةً لِلْكُفْرِ بِالنِّعْمَةِ وَلَكِنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَحَبَّةً لِلشِّرْكِ فَكَانَ الشِّرْكُ مُفْضِيًا إِلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ خَشْيَةَ الْإِفْضَاءِ وَالتَّسَبُّبِ بِالْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] .
وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ.
وَالْإِيتَاءُ: إِعْطَاءُ النَّافِعِ، أَيْ بِمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ فَتَمَتَّعُوا تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا، وَجِيءَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَتَمَتَّعُوا لِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّوْبِيخَ مُفَرَّعَانِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالْأَمْرُ فِي (تَمَتَّعُوا) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمُلَائِمِ وَبِالنِّعْمَةِ مُدَّةً تَنْقَضِي.
وَالْفَاءُ فِي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَفْرِيعٌ لِلْإِنْذَارِ عَلَى التَّوْبِيخِ، وَهُوَ رَشِيقٌ. وَ (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا عَظِيمًا، وَالْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْأَمْرِ الَّذِي يُعْلَمُ، أَيْ عَنْ حُلُولِ مَصَائِبَ بِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَهَا الْآنَ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى عَظَمَتِهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَرَقَّبَةٍ لَهُمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيُصَابُونَ بِهِ